ما هي القصيدة السرديّة التعبيريّة , ماذا نعني بالسرد , وماذا نعني بالتعبيريّة , ولماذا اعتمدنا على هندستها الأفقية ونكتبها على شكل كتلة واحدة أفقيّة ..؟؟ .
نحن نؤمن بأنّ السرد التعبيري هو شعر ينبعث من تحت شغاف القلب , ومن بين حنايا الروح , ومما وراء الحلم , فهو الشعر العظيم الذي يتجلّى بعظمته من خلال النثر العظيم . أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الممانع للسرد القصصي والحكائي والغنائي , نحن نقصد بهذا السرد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغوية العظيمة وتعمّد الأبهار ونقل الشعور والمشاعر والعواطف والأحاسيس المرهفة , وتعظيم طاقات اللغة . أما التعبيرية فنحن لا نقصد بها التعبير والأنشاء والقصة , ولا حتى الكتابة السطحية . أنّما نقصده بالتعبيريّة هي التعبير عن القيم المعنوية لدى الشاعر بدلا عن محاكاة الواقع , أنّها التعبير عن مشاعر الذات الشاعرة , أنّها الذاتية الأبداعية التي تغور عميقاً في العوالم الدفينة والغامضة لهذه الذات , أنّها التعبير عمّا يدور ويتجلّى في داخل الأنسان , وأنّها الأشراقات عن الحالات الذهنية والنفسية دون اللجوء الى الخيال والرومانسية و وهي أنعكاس لما يحدث في هذا العالم من الخراب ومدى تأثيره في نفس الشاعر , أنّها الرؤية العميقة والـتأمّل في الذات . اما لماذا نحن نكتب هذه القصيدة ( السرديّة التعبيريّة ) بهذا الشكل ..؟ . يقول الشاعر العراقي : سركون بولص ( ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وانا اسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه ( إليوت و أودن ) وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم , وإذا كانت تسميتها قصيدة النثر فانت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها ( بودلير و رامبو و مالارميه , اي قصيدة غير مقطّعة ) , واضافة أخرى فأنّ ملحمة كلكامش هي قصيدة الكتلة الواحدة الأفقية , وهي قصيدة سرديّة تعبيريّة خالصة بمعنى القصيدة السرديّة التعبيريّة وكذلك فانّ شاعرة المعبد السومريّة ( أنخيدوانا ) التي تعتبر اقدم شاعرة في التاريخ كانت جميع قصائدها تُكتب بالطريقة الأفقية ( الكتلة الواحدة ) , من هنا بدأنا وأستلهمنا فكرة القصيدة ( السرديّة التعبيريّة ) بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر , ومن ثمّ الشروع والأستمرار في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وانّما هو عبارة عن ( نصّ حرّ ) يعتمد الشطير والفراغات وترك النقاط الكثيرة بين فقراتها , وهذا كلّه يجب أن لا يكون في قصيدة النثر .
اليوم سنتحدث عن ديوان الشاعرة التونسيّة : هندة السميراني – والمعنون (( أنّاتُ ذاتٍ في يمّ الشتات )) , وسنتحدث عن ملامح اللغة التجريديّة فيه , فماذا نقصد باللغة التجريديّة ..؟؟ .
اللغة التجريديّة :
نحن نستخدم اللغة من اجل إيصال معنى معين ومفهوم الى المتلقي , فهي تعتبر ( الغة ) أداة توصيلية , ولكننا في القصيدة التجريديّة نقوم بتجريدها من هذه الخاصية , لنقوم بشحنها بزخم شعوري عنيف وأحساس عميق وبطاقات تعبيريّة وعمق فكري والنفوذ في الوعي , ففيها لا نرى الشخوص والأشكال , فنحن لا نرى سوى المشاعر والأحاسيس المنقولة لنا عبر هذه اللغة , أنّها تبتعد كثيرا عن خاصيتها التوصيلية ومنطقيتها , أنّ اللغة هنا تكون أشبه ما يكون بالألوان التي تزيّن وتلوّن اللوحة , المقاطع النصّية هنا عبارة عن كتل شعورية حسّية , فكلما يزداد تجريد اللغة كلّما قلّت التوصيلية فيها , مما يؤدي الى حدوث التجريد التامّ , فتكون المفردة عبارة عن وحدة جمالية شعوريّة حسّية تتخلّى عن خاصية التوصيل المعرفي . التجريديّة هي الشعور العميق والنفوذ الى جوهر الأشياء .
فمن خلال عنوان الديوان نتلمّس بوضوح هذه اللغة التجريديّة (( أنّاتُ ذاتٍ في يمّ الشتات )) , فنحن امام لغة تتميّز بعدم التوصيلية وبعدم منطقية الكلمات , أنّها تعتمد على ثُقل الكلمات الشعوري وزخمها الأحساسي وطاقتها التعبريّة , فنحن أمام صوت انسانيّ خااااافت صدر في لحظة التوجّع والآلام , انّه الحزن المنبعث من أعماق الذات الشاعرة نتيجة الجرح الغائر فيها , هذا الصوت الحزين والمتألّم غائر في بحر من الأحزان لا قاع له و أنّه صوت الشتات والتشظّي والغربة والخسارات الكثيرة في زمن الفجيعة والخراب . على مساحة كبيرة ومترمية في النسيج الشعري للذات الشاعرة سنجد بوضوح هذا الأنين ينمو ويكبر ويتشامخ , كلّ هذا في لغة تجريديّة عظيمة مدهشة , فاللغة التجريدية لغة صعبة تتطلب من الشاعر أن يكون رسّاماً يمتلك من الأحاسيس ارهفها وأدراك معرفي بأسرارها , تتطلب شاعر حقيقي يجيد تلّوين لغته بكمّ هائل من المشاعر والعواطف الرهيفة التي ستتغلغل في نفس المتلقي , فيدرك المتلقي النظام الشعوري والأحاسيس قبل التوصيلة , فتتجلّى هذه المشاعر والحاسيس والعواطف دون خاصيتها التوصيلية والمحاكاة والمعنى . ففي قصيدة / انتظار / نقرأ للشاعرة / وجاء من أقصى الغياب، صوت يسعى إليّ يبشّرني أنّ المسافات إليه قريبةأنّ سفن الحنين قد غادرت مرافئها، ترفع أشرعتها وتترك لرياح الشّوق تهبّ هبوب العاصف فتتلاطم أمواج الوله وترتفع.. / , أنّ المفردات هنا لا تحكي عن معاني , وأنّما تحكي عن ثقل شعوري وعاطفي وأحساسي , وفي قصيدة / وكأنّ القلب..زجاج!! / نقرأ .. / أنّى لك أن تبصر ضوئي، وأنت السّائر في عتمة الدّروب النّائية؟! تنتظر الظّلال تتفيّؤها دون التفات إليّ..!!وأنا الحريق، يلتهم بعضه بعضا فيتآكل بنيان عمر سافر إلى الحلم وعاد يحمل خيبة..!! / , حتى العنوان من خلاله استطاعت الشاعرة ان تقتنص اللحظة الشعورية العميقة والقويّة , لترسم لنا هذه اللغة التجريديّة المدهشة , هنا وفي كلّ القصائد نجدّ المقدرة الفائقة لدى الشاعرة أن تجعل من المقطع النصّي عبارة عن كُتل متوهّجة بلغتها التجريدية , وبزخمها الشعوري العنيف . وفي قصيدة / كليم الروح / حيث تتجلّى هذه اللغة التجريديّة واضحة ../ إلى جبل حنوّيلهث خطوي، تشرب الأنفاس الهاربات قطرات حلم اللّقاء فلا يظمأ الحنينولا يوءد شوق مكين، يتسلّق الفؤاد نتوءات الفراغ ، تحاصره أشواك الغياب، يمضي بنبض دافقات منه سيول الأمل.. / , وفي قصيدة / اشواك الخيبة / نقرأ هذه اللغة التجريديّة العظيمة ../ إلى جبل حنوّيلهث خطوي، تشرب الأنفاس الهاربات قطرات حلم اللّقاء فلا يظمأ الحنينولا يوءد شوق مكين، يتسلّق الفؤاد نتوءات الفراغ ، تحاصره أشواك الغياب، يمضي بنبض دافقات منه سيول الأمل.. / , اللغة هنا لا تتحدث عن معاني ولا توصيلية معينة , أنّما هي لغة مجرّدة من كل هذا , لغة تعتمد على ثُقلها الشعوري والعاطفي , ونقرأ في قصيدة../ البوح الصامت / .. هذه اللغة وقد تلوّنت مفرداتها بالشعور وليس التوصيل / في مدائن الصمت ، يسافر إليك حرفي الموؤودة أوجاعه، يخترق حجب البيان تواري سوأة عورات الكلم، تخلع عنها رداء الحياء و تشهر العصيان على خيبات الزّمان ، يجرّ الكتمان أذيال خيبته و يقف على ناصية انتظار البوح غاض في أعماق الانكسار يلملم شظاياه / , لقد أستطاعت الشاعرة أن تدرك وبقوّة البُعد الأحساسي والشعوري للكلمات والمعاني , فها هي تقول في قصيدة / في يمّ اشتياقي / .. / بين مسافات الذّهول والإبحار في لجّ عينيك، يسبح الشّوق ممتطيا أمواج الحنين، يجدّف بأشرعة وجد دفين نحو مرافئ السّكينة يشدّ بنيانها نبض فؤاد بالعشق غير ضنين، يمخر عباب الصّمت ران على جسد وهن منه الحرف والعزم منه لا يلين.. / , أنّ الشاعرة استكاعت أن تقتنص اللحظة الشعورية العنيفة المتدفقة من أعماقها وبأدراك أحساسي كبير للمعاني وبتجلّي تلك اللحظة الشعورية وذلك الثقل الأحساسي , انّ قصائد الديوان لا تتجه بالساس نحو البناء المعرفي والمفاهيم , وأنّما يتجه نحو عالم المعنى والشعور والأحساس وهذا ما نقرأه للشاعرة في قصيدة / دهشة البعث / ها هو الفجر يزيح غطاء الدّجى ، يتعرّى من لحاف تسربلت به السّماء و يتنفّس خيوط النّور تتغلغل في صدر شكا منه الضّيق دهرا و من السّكينة ما ارتوى ، تتزاحم غيمات الفرح توشك أن تدمع لتطهّر روحا ما زال عالقا بها الجرح، من لهيب الضّيم اكتوى ./ . أنّ أغلب قصائد ديوان الشاعرة ما هي إلاّ عبارة عن كُتل تجريديّة شعوريّة حسّية ملوّنة بالتوهّج الذي يجمع ما بين الأبداع والأمتاع والفنية والرسالية , نحن أمام كُتل جماالية حسّية , فكلّ كُتلة تتكون من المفردة ثم الأسناد من بين المفردات ثمّ الجملة فالقصيدة , هذه الوحدات الكتابية كوّنت لنا هذه الكُتل الشعورية الأدباعية في الديوان , كلّ النسيج الشعري في هذا الديوان زاخر بالأنزياحات اللغوية المثيرة للدهشة والـتأمّل وتفتح ابوابا شاسعة لتعدد القراءات والتأويلات , ونقرأ للشاعرة في قصيدة / على كتف الأوجاع.. تربّت يد التحدّي / على كتف الأوجاعتربّت يد التحدّي، يقف جسد الصّبر منتصب القامة يشرئبّ منه العزم إلى سماوات الرّجاء كانت تلتحف غيمات التّيه وتشرب من عين اللّيل الأسى، فيها النّجوم تبكي، سرق منها الضّياء وتتغشّى الفؤاد كآبة تزاحم سيل فرح يتهيّأ أن يفيض، كان غائرا في أرض المشاعر القصيّة تأوي إليه الانكسارات وتعتصم بحبل نجاته أحلام موؤودة سألت ذات وجع عمّا اقترفته من الذّنوب حتّى توارى في رمس النّسيان..!!/ . أنّ الأنطلاق بالكتابة من عوالم النفس العميقة لا يحقق التجريد الكامل , فلابدّ من أن يظهر أثر في اللغة بل لابدّ من أن يكون هناك أشعاعاً وتوهّجاً بدل الحكاية , وهذا ما نتلمسه في هذه الكتلة الشعورية / ربيع..في مهوى سحيق / ذات استفاقة لأوجاع لا تنام، لعيون غشيتها سحابات الدّموع تبشّر بسيل آلام جارف، رأيت ربيعا يهوي في سحيق العدم.. يقطف زهره، أصخت إلى صراخ الكون يدوّي به السّكون فزعا وفرقا، لمحت الحيرة تسبل جناحيها المحلّقين في سماء الأسئلة على عقول أبت أن تصدّق رؤية زحف الظّلام ينتشر دون أن تتزعزع عروش سلاطين الأنام . / .
لقد أستطاعت الشاعرة : هندة السميراني في ديوانها هذا أن تجرّد الأشياء من خصائصها المعروفة وتحويلها الى كيانات وكُتل شعوريّة حسّية متوهجة , مستعينة بخيالها الخصب والمقدرة العالية على الأمساك بكلّ لحظة شعورية ولو كانت بسيطة وتحويلها الى كتلة ضخمة تشعّ اشعاعات مشرقة والوصول الى لحظة الأبهار . لقد تجلّى كلّ هذا الثُقل الأحساسي للكلمات فكانت لغة تجريديّة عميقة وقوية .
لقد قمنا بقراءة تجلّيات اللغة التجريديّة والكتل الشعورية والحسيّة في هذا الديوان المهم والأضافة الجديدة والمهمة أيضا في مسيرة القصيدة السدرية التعبيرية , ونترك للنقّاد قراءة الجوانب الأخرى في هذا الديوان , فهو تجربة جديرة بالأهتمام والقراءة , كونه ديوان ملغوم بالكثير من الأبداع ويستطيع القارىء المبدع والناقد الذكي ان يفكّ الكثير من شيفرات هذا الأبداع الحقيقي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق