«الإنسان أغلى ما نملك» هذا هو شعارنا في الأردن، يتناقله ساسة البلاد وتعرضه الشاشات والصحف الرسمية وغيرها ظاهرها حُرّ وباطنها صوت حكومي متعب من حجم الخداع الذي يسوّقه للشعب في الصبيحة مع صوت فيروز والعشيّة في السمر وقبل النوم مع المعوّذات، حتى أنّ بعض الشارع الساذج آمن بالشعارات من كثرة سماعها، أو علّه ردّدها كصوفي بجلسة ذكر مع الأموات.
في ظهيرة يوم السبت 13 مارس/آذار تلقينا خبر الفاجعة التي ألمّت بنا، جريمة لا تغتفر بحق الأردن وكلّ أردني، وليس المغبونُونَ أهل ضحايا الإهمال فحسب، لا بل هو تعدّي مع سبق الإصرار؛ وفاة تسعة أشخاص في مستشفى السّلط الحكومي، لم يكن السبب مرض عضال أو ندرة أدوية شحيحة أو كوادر طبية تشبهها ندرة، بل جرّاء إهمال حكومي بأقل مسلّمات المستلزمات الصّحّيّة لأي مركز؛ عبوات أكسجين لتزويد المرضى المحتاجين.
ما يبعث على الغضب والسخط وما هو أكثر منهما تصريحات الحكومة ممثّلة بوزارة الصّحّة عن أعداد وفيات فيروس كورونا والإصابات، بينما لا أحد منهم معني بالنهوض بالمنظومة الصّحّيّة المتهالكة، وخاصّة بظلّ الظروف الحالية من تفاقم انتشار الفيروس بشكل لافت للنظر.
تعديل وزاري يتبعه تعديل وزاري آخر، حلّ برلمان وتشكيل غيره حتى آلت مخصّصات الوطن إلى مِنح على شكل حقب دبلوماسية وعلى حساب من لا يجد الدواء والسرير في مستشفى حكومي، ناهيك عن رواتب ومخصّصات تصل أو تزيد عن راتب وزير في إحدى الدول العظمى.
حكمت محكمة ألمانية قبل أيام على وزير مالية أسبق «أنجولف دويبل» بالسجن عامين لإساءة الأمانة في مشروع حلبة سباق السيارات فورمل 1 «نوربورغرينغ»، وحرمانه من تقاعده كوزير البالغ 6700 يورو؛ نحن نتحدّث هنا عن راتب وزير مالية ألماني، بينما يصل متوسط دخل الفرد إلى 2000 يورو. وآخرون من الحكومة الإتحادية بعضهم من الحزب الحاكم ثبت تنفّعهم من خلال شراء كمامات بمبلغ 250.000 يورو وتهرّب ضريبي؛ الحقيقة مبالغ تعتبر فتات ولا تقارن بالتي تخرج على حسابات خاصّة خارج الأردن. إذن، أين هي معضلة مكافحة الفساد في بلادنا، عدم تقديمهم للقضاء أم إخفاق القضاء وتواطئه؟ أم علّ الآلية الحكومية تنتهج الضعف والمحاصصة كنظام دولة!
وما هو قياس الدولة بحجم بلادنا الذي تتّكئ عليه في رفع راتب المسؤول ليصل إلى راتب وزير في ألمانيا أو حتى نصفه؟ بينما يصل معدل دخل المواطن الأردني إلى 300 دينار، وقد يقلّ أو يزيد. هذا في ذات الوقت الذي تتراجع به المنظومة الصّحّيّة الحكومية ومعها التعليم. أيهم الأولى تقاضي رواتب ومستحقات لا تتناسب أبداً وميزانية الدولة المتهالكة بمديونية تتجاوز كمّها وعدد السكان؟ أم تقنين فجوة الدخل بين الحاكم والمحكوم؟ بحيث نخلق توازن من شأنه استثمار ما لا يستحقّه مدير المؤسّسة وتوظيفه للأخيرة حتى يعود النفع للمواطن وإنجاز العمل المؤسّسي وتطوّره.
الفساد قائم في كلّ الدنيا، حتى في أكثر الدول حقوقية في العالم، العبرة بكم التنفّع وقضايا الفساد التي لا تصل لسلامة الإنسان وأرواح البشر، علّ المنظومة الصّحّيّة ومعها نظام الدولة، ثوابتها وضوابط ومسلّمات لا يمكن المساس بها، وهي صحّة الإنسان وحياته، ما دون ذلك فالفساد موجود منذ الأزل ولن ينتهِ. وجزئية بذات الأهميّة وهي قِوام الدولة والحساب والعقاب، فهل قِوام الدولة قائم على العدل والإنصاف؟ فإذا كان الأمر كذلك سهلت المساءلة والحساب، أمّا إذا كانت الهيكلة برمّتها مبنية على تقسيم الحصص وتقديم الودّ على الاستحقاق، فمحاسبة رئيس الدولة أو وزرائه ومدراء المؤسّسات الذين قبلوا بالمشاركة بنظام متهالك ليست حلاً، وهذا لا يعني عدم المحاسبة بما يتناسب وحجم الكارثة.
كنّا نعيب على دول الجوار وإذا بنا يعاب علينا أكثر، حكومة ليست أهلاً لما أنيط إليها من مسؤولية، فإذا كان مستشفى السّلط لا يملك أكسجين كفاية أو أجهزة تنفّس فلماذا يستقبل مرضى من الأصل؟ الإغلاق وتحويله لكراج سيارات مسؤولي السّلط وعمّان والأردن عامّة أولى، غير ذلك فإستقبال المريض من البداية انتهاك، وحال مستشفى السّلط الحكومي نستطيع قياسه على جميع مستشفيات المملكة بالمطلق، فلو تحدّثنا مثلاً عن مستشفى الأميرة بسمة، وهي أكثر بعداً عن مؤسّسة صحّيّة بالمعنى الحقيقي لمدينة عدد سكانها أقل من مليوني نسمة لاعتبرناه رمزاً لتهالك وزارة الصحّة ومن ورائها الحكومة.
نحن الآن بأمسّ الحاجة لأجهزة تنفّس وأقلّها الأكسجين، فلماذا لا تكثّف الدولة جهودها لتأمين هذا الإحتياج الملحّ؟ وخاصّة ممّا نعانية جرّاء كورونا وازدياد الاحتياج لأجهزة تنفّس وأسرّة العناية الحثيثة.
المشكلة الحقيقة التي تعانيها الأردن ليست نهج رئيس حكومة فحسب، فقد تعاقبت الحكومات واحدة وراء الأخرى مخلّفة وراءها كمّ من المديونية والمصائب على عاتق الإنسان البسيط، نحن بحاجة إلى إعادة بناء المنظومة الحكومية برمّتها، وهذا يحتاج في بلادنا إلى قرار سيادي لتفعيل دور البرلمان المعطّل ومعه الأحزاب وفتح الباب لأصحاب الفكر والسياسين المهمّشين المبعدين عن المشاركة في القرار السياسي وإشراك المجتمع المدني، ما دون ذلك لن يغيّر إقالة رئيس الوزراء الحالي بشر الخصاونة أو مساءلته، ولا الحكم على وزير الصّحّة ومدير مستشفى السّلط شيء، وإلّا ترتب علينا منذ اللحظة إقالة جميع مدراء المستشفيات الحكومية، كونها فاقدة مواصفات المؤسّسة العلاجية بدءاً من نقص الكوادر الطبية مروراً بنقص الأدوية أو عدم تواجدها حيناً كثيرة والمستلزمات الضرورية كأنابيب الأكسجين، وهي بديهيات في المراكز الصّحّيّة والمستشفيات، وانتهاءً بأجهزة التنفّس ومعدات الإسعافات الأولية وأصغر جزئية لمؤسّسة صحّيّة.
الآن هي فرصة البرلمان للوقوف على هذه الحادثة البشعة ومحاسبة المسؤول وتفعيل دوره التشريعي لإعادة ثقة المواطن به وترميم إنهيار النهج الحكومي أو استبداله كلّه، وتخلّصه من سيطرة السلطة التفيذية، ما دون ذلك علينا الإستعداد لإستقبال فواجع كالتي نعيشها الآن ونتألمّها مع ذوي الضحايا في السّلط.
وبظلّ الظروف الحالية المحبطة وترابط الإخفاق الحكومي في جميع الأصعدة وتحديداً الصّحّيّة وتفاقم الإصابات والوفيات من وراء الفيروس علينا - نحن المواطنون - واجب كبير، وأكبر من الشعوب الأخرى التي تؤمّن لها حكوماتها كلّ الوسائل وإتاحة السبل للخروج من هذه الأزمة، ممثّلة بنشر الوعي الفكري والصحّي بما يتناسب والوضع الراهن الحرج حتى نتجاوز هذه الجائحة السياسية والفيروسية في آن لتقصير المؤسّسة الحكومية المُعيب في تأمين أدنى حقوق المواطنة.
المثير للإستهجان والإستياء هي المساعدات الخارجية الهائلة التي تدخل الأردن دون أن تترك أثر إيجابي وتطوّري، فقد بلغت المنح الألمانية وحدها بين عام 2012م و 2018م 1.9 مليار يورو، كما وأبلغت الحكومة عن حاجتها إلى 7.7 مليار دولار أمريكي للأعوام بين 2017م و 2019م حسب تصريح الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية.
ولعام 2020م تصدّرت الولايات المتحدة الأميركية المركز الأول في قائمة الجهات المانحة، تلاها الإتحاد الأوروبي وألمانيا، إضافة إلى الدول العربية وغيرها من الدول وصناديق متعددة التمويل، حيث بلغ إجمالي المنح والمساعدات الخارجية المتعاقد عليها والملتزم بها للأردن حتى نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي 3.7 مليار دولار حسب وزارة التخطيط والتعاون الدولي.
الخطوة الأهم والضرورة الملحّة الآن، بالتزامن مع محاسبة كلّ مسؤول عن فاجعة الأردن في مستشفى السّلط هي مسؤولية العمل الحكومي الفوري على تفقّد المستشفيات الأخرى والمراكز الصّحّيّة وتأمينها بما يكفي من الأكسجين - وهي من مسلّمات المؤسّسات الصّحّيّة - والمستلزمات الطبية وأجهزة التنفّس لتفادي كارثة أخرى.
احتفلنا منذ أيام بذكرى معركة الكرامة؛ انتصر الفلسطيني والأردني ببندقية ومِعول أمام دبابات العدو، والعرب اليوم لديهم ترسانات أسلحة فتّاكة يغزلون بها قصائد مجد كرتونية ويخوضون بها معارك إلكترونية وبأحسن حال بلاستيكية. نحن الآن بأمسّ الحاجة إلى كرامة كي نعيد أيام معركة الكرامة.
وتناقلنا إبرام «الاتفاقية الدفاعية» المُهينة المُعيبة بين الأردن والولايات المتحدة، التي لم يوقّع عليها مجلس الأمّة والبرلمان.
إذن هل انتهت قضية مستشفى السّلط بتغطيات إعلامية بشجب وغضب وتارة ذكرى وأخرى استنكار وتمهيش كما تلاشت غيرها من المآسي الأردنية من وراء إهمال حكومي وانهيار منظومة صحّيّة دون إعادة هيكلتها وبدل ذلك تقديم خطوات لا تصل حد مستوى الترميم لبيت متهالك؛ فليكن إنصافاً شعارنا في الأردن الإنسان أرخص ما نملك.
عظّم الله أجرك يا أردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق