عذابات الروهينغيا مستمرة وهذا آخر فصولها/ د. عبدالله المدني


ترى الخوف والرعب في مآقيهم، وتشاهد اياديهم ممدودة لقطعة رغيف أو شربة ماء نقي، وتشعر بالأسى والحزن لأحوالهم وظروفهم .. نساء وأطفال وشيوخ مكومين كشحنة بضاعة فاسدة في قوارب بدائية متجهة نحو المجهول وسط أمواج المحيط الهندي العاصفة. أما من قدر الله له أن يصل سالما إلى شواطيء الأمان فأوضاعهم بائسة ومحزنة أيضا بسبب تجميعهم في مخيمات ينقصها الكثير من الخدمات، دعك من مصادرة آمالهم بمستقبل أفضل!

هذه صورة مختزلة جدا لأحوال الروهينغيا المسلمين، تلك العرقية التي سكنت ولاية أركان في غرب ميانمار (بورما سابقا) منذ 300 عام، وتعرضت للإضطهاد والتهجير النسبي منذ الإنقلاب العسكري اليساري في بورما سنة 1962، ثم تعرضت لما هو أسوأ بكثير على يد الزمرة العسكرية التي تولت السلطة في يانغون في الثمانينات، حيث قامت الأخيرة بسن قانون يجردهم من المواطنة من بعد أن كانوا زمن الحكم البريطاني والحكم الديمقراطي القصير في مطلع الستينات مواطنين لهم ممثلين في البرلمان ووزراء في الحكومة، وذلك بزعم أنهم مهاجرون مسلمون جاؤوا من بنغلاديش المجاورة، ولم يدرجوا يوما بصفة رسمية ضمن المائة والثلاثين عرقية التي تتكون منها الأمة الميانمارية. 

 لم يكتف جنرالات ميانمار بما سبق، بل هيجوا شعوبهم وجنودهم ضد الروهينغيا على أساس عرقي/ ديني، وهو ما أدى إلى مذابح وعمليات تهجير وتمييز واضطهاد واغتصاب عنيفة بحقهم، ناهيك عن تدمير ممتلكاتهم ومساجدهم والإستيلاء على أراضيهم وفرض قيود على حركتهم واستخدامهم كعمال سخرة في معسكرات الجيش.

كل هذا وغيره كثير تسبب في بروز "قضية الروهينغيا" على مستوى العالم كواحدة من القضايا الإنسانية الأكثر صدى بحكم أن أصحابها هم أكثر الأقليات إضطهادا في العالم، خصوصا مع هروب مئات الآلاف منهم إلى دول الجوار الآسيوية كلاجئين معدمين ومجردين من كامل حقوقهم وممتلكاتهم.

والمعروف أن دولا مثل مثل المملكة العربية السعودية وبنغلاديش والهند وباكستان والنيبال وتايلاند استقبلت أعدادا كبيرة من هؤلاء من منطلق إنساني واستجابة لنداءات الأمم المتحدة، وهيأت لهم ظروفا معيشية مناسبة. وتعد ماليزيا ــ إلى جانب أندونيسيا ــ إحدى أقل الدول الآسيوية استقبالا لهم، حيث اكتفت أندونيسيا بقبول نحو 11 ألف لاجيء فقط بسبب امكانياتها الاقتصادية الضعيفة، بينما احتضنت ماليزيا نحو أربعين ألف لاجيء فقط، مع السماح لأعداد منهم بالتقاط أرزاقهم من خلال العمل في مهن وضيعة كحال عدة ملايين من الآسيويين الذين يعيشون في البلاد كخدم وعمال بناء وتنظيف بأجور متدنية.

مؤخرا برز على السطح ما يمكن تسميته بـ "قضية الروهينغيا في ماليزيا"، وذلك على خلفية قرار كوالالمبور بترحيل أكثر من ألف لاجيء روهانغي إلى ميانمار على ظهر ثلاث سفن من سفن البحرية الماليزية، وهو ما جعل مفوضية شئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وعدد من الدول الأوروبية تنتقد الخطوة الماليزية، خصوصا وأنها جاءت بعد بضعة أسابيع من عودة العسكر القمعيين إلى السلطة في ميانمار من خلال إنقلابهم المفاجيء في الأول من فبراير المنصرم. وهو الإنقلاب الذي لم تنتقده كوالالمبور عملا بمبدأ عدم التدخل في شئون شريكاتها في رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم "آسيان".

وهكذا يمكن القول أن الإعتراض ليس على القرار كونه حقا سياديا للدولة المستضيفة، وإنما على التوقيت خوفا من تعرضهم للخطر على أيدي السلطات الجديدة في يانغون، وجاء الاعتراض أيضا على المبرر الذي ساقته كوالالمبور وهو مبرر غير مقنع اشتمل على جزئيتين اولاهما أن المرحلين اختاروا العودة إلى ميانمار بكامل حريتهم، وثانيتهما أن التأشيرات الممنوحة لهم للبقاء انقضت مدتها وأن ما فعلته السلطات بحقهم ليس سوى مراجعة دورية لأعداد وأوضاع الآسيويين المقيمين في البلاد بصفة عامة (رحلت السلطات الماليزية نحو 37 ألف أجنبي من أراضيها العام الماضي فقط تحت حجج مختلفة).

وبطبيعة الحال تعرضت كوالالمبور لموجة إنتقادات من جهات محلية مثل الأحزاب الإسلامية ونشطاء حقوق الإنسان، خصوصا وأن السلطات خالفت قرار قضائيا بتجميد عملية طرد تلك المجموعة من الروهينغيا إلى حين الإستماع إلى دفوعات ممثليهم الذين أشاروا إلى أن ماليزيا بقرارها تخالف واجباتها الدولية تجاه بشر لجأووا إلى أراضيها وطلبوا الحماية خوفا من تعرضهم لعمليات الإبادة والتطهير العرقي في بلادهم. وكان الرد الرسمي على تحركات نشطاء حقوق الإنسان النادرة في ماليزيا في مثل هذه الأحوال، هو خلو قائمة المرحلين من أسماء طلبت اللجوء السياسي في ماليزيا أو من أسماء تطاردها حكومة يانغون، ولكأنما جنرالات ميانمار يطاردون أسماء معينة وليس شعبا بأكمله.

د.عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: مارس 2021م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق