تعافى القاصّ السُّوري فريد مراد بعدَ صراعٍ طويلٍ معَ آلامِ مرضٍ خبيثٍ على مدى سنواتٍ، بقدرةٍ ربّانيّة وطبّيّة، فأبهجَ شفاؤهُ قلوبَ الأحبّة، وظلَّت هذه التَّجربة معشَّشة في ذهنِهِ ولا تبارحُ خياله، فما وجدَ نفسه إلّا وهو يُمسكُ قلمه، ويكتبُ مقتطفات ممَّا صادفَه من عذاباتٍ خلال رحلةِ العلاج، وفيما كانَ يراجعُ أوراقه المخطوطة، وتفاصيل زياراته للمشافي والعمليّات الجراحيّة الّتي خاضها بأملٍ كبير، راودَهُ أن يضعَ لمساته المنبعثة من هذه التّجربة المريرة، تاركاً خياله الجامح يغوصُ عميقاً فيما يناسبُ فضاءات هذ العوالم الأليمة، كي ينسجَ روايتَهُ الأولى من وحي هذه التّجربة الّتي خاضها بجرأةٍ وإيمانٍ منقطعَي النّظير، وقد أمسكَ خيوطَ الرّواية برهافةٍ عالية، وأدخلَ في فضاءاتها الكثير من تجاربه في الحياة، مستوحياً مع عوالم تجربته وجموحاتِ الخيال الشّيء الكثير، فولدَتِ الرِّوايةُ بطريقةٍ خلّاقة، وكأنَّنا نقرأ بعضاً من مذكّراتِ إنسانِ متفائل للغاية، مجنّحٍ نحوَ رحابِ الطّفولةِ والصَّفاءِ والأملِ، وتمكَّنَ من أن يتفادى معالمَ المللِ في معالجة هذا العمل الرِّوائي المرتكز على مساراتِ الأنين، وكأنّه أرادَ أن يقول لنا عبر سردِهِ الشَّيِّق، علينا نحنُ البشر أن نتحلَّى بالصّبرِ والأملِ والإيمانِ لأيّةِ صعوبةٍ من صعوباتِ الحياة، كي نصلَ إلى برِّ الأمانِ بسلام. وبعدَ أن أصدرَ مجموعتَين قصصيَّتَين، أرادَ أن يخوض فضاءات السّرد الرِّوائي، التقينا مراراً، واطلعتُ على مخطوطِهِ، ووجدتُ في تجلّيات بوحِهِ، وَهَجاً روائيّاً فسيحاً، رغم المرارات المكتنفة في فضاءاتِ الرّواية، لكنّه عرفَ كيفَ يخفِّفُ من هذهِ المرارات، مركّزاً على خصوبةِ الحرفِ، ومحاولاً أن يخفِّفَ من عذاباته ويزرعَ الأملَ والبسمةَ في نفوسِ أسرتِهِ وأهلِهِ وأصدقائِهِ ومحبِّيه، كي يوضّحَ لنا كيفَ "كان على وشكِ الرّحيل"، لكنّه واجه واقع الحال بإيمانٍ وصبرٍ كبيرَين، إلى أن زرعَ الأطبَّاءُ بهاءَ البسمةِ على شفتيه من جديد، وبعد اطلاعي على مخطوطه مرّات عديدة، أمسكتُ قلمي وكتبتُ ما يلي، كي يكونَ استهلالاً لفضاءاتِ روايته.
استوحى الرّوائي فريد مراد روايته: "كنتُ على وشكِ الرَّحيل"، من فضاءاتِ تجربةٍ مريرةٍ مرَّ فيها على مدى أربعِ سنوات، ولكنّه عَرَفَ كيفَ يسردُها بإيقاعٍ روائيٍّ، ممسكاً بتفرُّعاتِ خيوطِ السَّردِ المتناغمِ معَ رشاقةِ اللّغةِ عبرَ مساراتِ سيرِ الأحداثِ بمهارةٍ عاليةٍ، ومعَ أنّه دوَّنَ في متونِ روايتِهِ أسماءَ الأطبّاءِ والطَّبيباتِ والممرِّضينَ والممرّضاتِ وأسماءَ المستشفياتِ والأمكنةِ، وأسماءَ الكثيرِ من شخصيّاتِ الرِّوايةِ بأسمائِها الصَّريحةِ، معَ كلِّ هذا استطاعَ عبرَ لغةٍ سلسةٍ هادئةٍ أنْ ينسجَ فصولَ روايتِهِ من وحي وقائعِ ما مرَّ بها من تجربتِهِ المريرةِ بمرضِ السَّرطانِ، هذا المرض المخيف والمرعب لمجرّدِ أن نلفظَ اسمَهُ، ولكنّه استطاعَ بحنكتِهِ السَّرديّة أن يحبكَ الكثيرَ مِنَ التَّفاصيلِ والحكاياتِ والمواقفِ من وحي خيالِهِ ويصيغَها في سياقِ الكثيرِ من أحداثِ وقائع تجربتِهِ المرضيّة، فأضفى على وقائعِ السَّردِ ما يجنِّبُ حالةَ المللِ الّتي يمكنُ أن تُصاحبَ القارئ فيما إذا ركَّزَ عبرَ متونِ السَّردِ على حالاتِ مراحلِ المرضِ، والعمليّاتِ الجراحيّةِ الّتي أجراها في المستشيفاتِ أثناءَ فترةِ المعالجة بكلِّ ما فيها من أنينٍ وعذابٍ وألمٍ غيرَ قابلٍ للاحتمالِ، إلّا عبرَ أجنحةِ الصَّبرِ الّتي تحلَّى بها منذُ أن تبلّغَ بهذا المرض حتَّى آخر يومٍ من شفائِهِ، لأنّهُ أرادَ أن يجسِّدَ فترةً عصيبةً من حياتِهِ، ويكتُبَ من وحيها نصّاً روائيّاً يحملُ الكثيرَ من العِبَرِ والأفكارِ ووجهاتِ النّظرِ المكلَّلةِ بالأملِ والتّفاؤلِ والنّجاحِ، حيثُ وجدَ أنَّ هذه التّجربةَ، إضافةً إلى تجاربِهِ وخبراتِهِ في الحياةِ، تناسبُ أن يستوحي منها نصَّاً روائيَّاً باذخاً، كي يقدِّمَ هذه التَّجربة للقارئ على طبقٍ من حكمةٍ وصبرٍ وتفاؤلٍ، غيرَ المتوقِّعةِ للكثيرين ممَّن مرّوا في هكذا تجارب أو يمكنُ أن يمرّوا في مستقبلِ الأيامِ.
قرأتُ روايةَ: "كنتُ على وشكِ الرَّحيل" ثلاثَ مرّاتٍ، وفي كلِّ مرّةٍ كنتُ أكتشفُ الكثيرَ ممّا تركَهُ لنا الكاتبُ بينَ حنايا السُّطورِ، مع أنَّ لغتَهُ بسيطة وسهلة ولا تحتاجُ لأيَّةِ تأويلاتٍ وشروحاتٍ، فهو معروفٌ بسلاسةِ ووضوحِ أعمالِهِ القصصيّة والسَّرديّة، فقد أصدرَ مجموعتَين قصصيتَين، الأولى في عامِ 2018 بعنوان: "عندما كنتُ أراها مُقبلة"، والثّانية في العام 2019 بعنوان: "الدُّنيا كما كنَّا نراها"، ونلمسُ في كلتا المجموعتَين وفي هذهِ الرّواية أيّضاً، كيفَ بنى فضاءاته الفنّيّة بعفويّة وانسيابيّة سلسة، متميِّزاً بحبكتِهِ وسردِهِ الشّيّقِ في بناءِ قصصِهِ، وهذا ما نجدُهُ في بناءِ فصولِهِ الّتي أخذَتْ واحداً وعشرين فصلاً من العملِ الرّوائي، وقد اتَّبعَ أحياناً أسلوبَ عرض وقائع وحكايات الرِّواية بطريقةٍ تسلسليّةٍ ثمّ الانتقال المفاجئ من حدثٍ إلى حدثٍ آخر لا يرتبطُ بما سبقه من أحداثٍ، لكنّهُ تمكَّنَ أن ينسجَ هذه الأحداث المتداخلة في متونِ السَّردِ بطريقةٍ ناجعةٍ، وهي أشبهُ ما تكونُ طريقةَ القطْعِ، والانتقالِ إلى "الفلاش باك"، أي العودة إلى أحداثٍ وقصصٍ وأفكارٍ ترتبطُ بفضاءِ الرِّوايةِ بطريقةٍ أو بأخرى، وأحياناً يلمسُ القارئُ وكأنَّ الرِّوائي خرجَ عن سياقِ خيوطِ السّردِ، لكنّهُ سرعانَ ما يعودُ ثانيةً إلى وقائعِ السَّردِ ويحبكُ متفرِّعاتِ الأحداثِ مع بعضِها بطريقةٍ رشيقة، تضعُ القارئَ أمامَ تساؤلاتٍ عميقةٍ، وكأنّهُ يحاورُ القارئَ/ القارئةَ عبرَ ما يقدِّمُ لنا من حكاياتٍ وأمثالٍ وأحداثٍ تحملُ الكثيرَ من الأفكارِ والآمالِ والطُّموحاتِ، وقد نجحَ في أسلوبِهِ هذا، من خلالِ قدرتِهِ على استيلادِ لغةٍ مطواعةٍ ومنسابةٍ في ديناميّةِ خيوطِ السَّردِ والحوارِ بأسلوبٍ شيّقٍ، وتمكّنَ من أن يكبحَ الأسى والحزنَ المخيَّمَ عليهِ، من خلالِ بحثِهِ الدّائمِ على كلِّ ما يمنحُهُ التّفاؤلُ والأملُ والطّمأنينةُ، منطلقاً من إيمانِهِ العميقِ ونقاوةِ روحِهِ، معتبراً أنَّ الحياةَ هي رحلةُ خيرٍ ومحبّةٍ وعطاءاتٍ خلّاقةٍ حتّى آخر لحظة يعيشُها الإنسانُ في الحياةِ!
استخدمَ الكاتبُ عبرَ متونِ بعضِ فصولِهِ، أسلوبَ المناجاةِ، ومحاورةَ الطَّبيعةِ بكلِّ ما فيها من عطاءاتٍ خيِّرةٍ، فقد تطرّقَ عبرَ فصلٍ كاملٍ إلى مناجاةِ ومحاورةِ الدَّاليةِ، فقد أنسنَ الطّبيعةَ وكأنّهُ يقولُ للقارئِ لِمَ لا نكونُ معطائين وخيِّرين، ونثمرُ ثماراً طيّبةً مثلَ الدّالياتِ وبقيّةِ الأشجارِ الّتي تغدقُ علينا أشهى الثّمارِ، ولِمَ لا نكونُ نحنُ البشر معطائين بكلِّ ما لدينا من خير ٍووئامٍ وعطاءاتٍ خلّاقةٍ لبني جنسنا وللحياةِ من حولِنا؟ وقد رأينا كيفَ تعاطفَ مع ذبابةٍ عالقةٍ بين درفتي نافذة المشفى وراحَ يحاورُها ويتعاطفُ معها، رغبةً منهُ أن ينقذَهَا من الفخِّ الّذي وقعَتْ فيهِ، واقترحَ على الممرّضةِ أن تفتحَ درفتَي الشّبّاكِ كي تحرّرَ الذّبابةَ من أسرِهَا، وكلُّ هذا يقودُنا إلى أنّ الرّوائي عندما يكونُ بهذهِ الحساسيّةِ وهذا التَّواصل الرّهيف معَ الكائناتِ الحيّةِ والطّبيعةِ، وكأنّهُ يريدُ أن يطرحَ عبرَ روايتِه، ضرورةَ توازن الكائنات معَ بعضِها بعضاً وضرورةَ تآخي الإنسان معَ أخيهِ الإنسان كي نحقِّقَ كلَّ ما هو مفيدٌ للإنسانِ والطّبيعةِ والحياةِ، بطريقةٍ إنسانيّةٍ سلسةٍ، بعيداً عن لغةِ الإقصاءِ والتّعدِّي على حقوقِ أيِّ كائنٍ حي، ابتداءً من الإنسانِ ومروراً بالطّبيعةِ وجميعِ الكائناتِ.
وقد أشارَ في أكثرِ من موضعٍ عبرَ فضاءاتِ الرِّوايةِ، إلى انتقادِ بعضِ العاداتِ والتّقاليد، غيرِ المناسبةِ لعصرِنا، وكأنّهُ يدعو إلى ضرورةِ مواكبةِ العصرِ ومجاراةِ أفضلَ ما هو سائد في المجتمعِ، كما رأينا كيفَ كانت أسرتُه متماسكةً ومتعاونةً معه ابتداءً من زوجتِهِ وأولادِهِ ومروراً بأحفادِهِ ومعارفِهِ وأصدقائِهِ، واتّخذَ من أولادِهِ أصدقاءً لهُ، كما اعتبرَ أحفادَهُ بمثابةِ أصدقائهُ الصِّغارِ، يقضي معهم أجملَ لحظاتِ عمرِهِ، وابتعدَ عبرَ متونِ سردِهِ عن اللُّغةِ الغامضةِ المطلسمةِ الَّتي تقودُنا إلى الضَّبابيّةِ والابتعادِ عن مضمونِ وجوهرِ الرّواية، لهذا استخدمَ الرّوائي فريد مراد أسلوباً واضحاً سهلاً رشيقاً، كي تصلَ أفكارُ روايته إلى كلِّ القرَّاءِ والقارئات، واضعاً في الاعتبارِ تحقيقَ الغايةِ المرجوّةِ من روايتِهِ، مستخدماً ترميزاتٍ وصورَ هادفةً ضمنَ سياقٍ مفهومٍ وسلسٍ، معتمداً على جملةٍ قصيرة مكثّفة ومختزلة، ومعبِّرة بأقلِّ الكلماتِ، بعيداً عن الاسترسالِ الفضفاضِ، فجاءتِ الرّوايةُ في إيقاعٍ سرديٍّ شيّقٍ، يُمسكُ القارئ بخيوطِها بمتعةٍ غامرةٍ إلى أن يصلَ النّقطةَ الأخيرة!
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق