جدل في الهند حول بناء مقر جديد للبرلمان/ د. عبدالله المدني



يتكون البرلمان الهندي من مجلسين: "لوك سابها" أي مجلس الشعب الذي ينتخب أعضاؤه الـ 545 مباشرة من قبل الشعب في انتخابات عامة كل خمس سنوات، و"راجيا سابها" أي مجلس الشيوخ أو الغرفة العليا للبرلمان الذي ينتخب أعضاؤه الـ 245 من قبل الهيئات التشريعية للولايات، بما فيهم 12 عضوا يعينهم رئيس الجمهورية من ذوي الكفاءة والخبرة في مجالات العلوم والثقافة والفن والتاريخ.

ومنذ ما قبل استقلال الهند اتخذ البرلمان الهندي (كان يسمى وقتها المجلس التشريعي الإمبراطوري) من منطقة سانزاد بهافان بوسط نيودلهي مكانا لإجتماعاته وإقامة أعضائه، ومقرا لمكاتبهم ومكاتب موظفي البرلمان وسكن وزير الشؤون البرلمانية، حيث قام البريطانيان "إدوين لوتينز"، و"هربرت بيكر" اللذين كانا مسؤولين عن تخطيد وبناء نيودلهي بتصميم المبنى والإشراف على تشييده على مدى ست سنوات ليفتتح رسميا في 18 يناير 1927 من قبل الحاكم البريطاني العام في الهند آنذاك سير "إيروين"، علما بأن التكلفة الإجمالية للمشروع لم يتجاوز وقتها 130 ألف دولار أمريكي. وهذا المبلغ كان متواضعا قياسا بالعمل العظيم الذي تم إنجازه والمتمثل في مبنى دائري رائع من أربعة طوابق تزينه 144 عمودا اسطواني الشكل على مساحة ستة فدان وملحقة بالعديد من القاعات والمساكن والمكاتب.

استوحى المصممان البريطانيان تصميم المبنى من معبد "شيف" الذي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر وكان موجودا في مورينا بالقرب من غواليور بوسط الهند قبل إختفائه لعدة قرون بسبب تمدد الأحراش وانطماره تحتها إلى أن تم إكتشافه لاحقا.

في هذا المبنى، الذي يعد أيقونة المباني القديمة في العاصمة بأحجاره الحمراء الصلبة، انعقدت الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الهندي في أواخر الحكم البريطاني سنة 1947، ثم شهد كافة الإجتماعات البرلمانية منذ إعلان الجمهورية في البلاد في 26 يناير 1950.

أما مناسبة الحديث عنه فهو الجدل الدائر حاليا في الهند حوله. إذ يعتزم رئيس الحكومة الحالي "ناريندرا مودي"، المغرم بإنشاء المباني والجسور والطرق والميادين الحديثة لتخليد إسمه في تاريخ بلاده المعاصر، إنشاء مبنى جديد للبرلمان وفق تصاميم حديثة على مساحة 6000 آلاف متر مربع بتكلفة 117 مليون دولار (فازت شركة تاتا الهندية للمشاريع بمناقصة بنائه في سبتمبر 2020). 

وحجة مودي الأولى أن المبنى الكلاسيكي الحالي لم يعد يفي باحتياجات مجلسي النواب والشيوخ في ظل تزايد أعبائهما وتضاعف عدد السكان وما يشكله العامل الأخير من إزدحام مروري وسكاني في محيطه. أما حجته الثانية فهي أمنية مستمدة من مخاوفه باحتمال حدوث عمل إرهابي جديد ضد البرلمان على غرار ما قامت به مجموعة إرهابية مقرها باكستان (جيش محمد ولاكشار طيبة) في 13 ديسمبر 2001. وهو العمل الإرهابي الذي أدى إلى زيادة التوتر بين الجارتين النوويتين وحدوث مواجهة مسلحة بين الجيشين الهندي والباكستاني في أواخر 2001 وأوائل 2002، كما أدت الواقعة إلى نقاش موسع داخل الهند حول مبنى جديد للبرلمان يتمتع بأمن وتكنولوجيا أفضل. لكن على الرغم من ذلك النقاش فإن المشرعين الهنود لم يشكلوا لجنة لدراسة الفكرة وتقديم تقرير عنه.

ومن هنا فإن الجدل الدائر اليوم والانتقادات التي توجه إلى مودي محورها أن الأخير يخطط وينفذ لإقامة المبنى البديل دون إستشارة عامة أو مشاركة أو مناقشة برلمانية مسبقة. ولهذا السبب لجأ المعارضون إلى المحكمة العليا لإيقاف مخططات رئيس الوزراء. وبالفعل أوقفت المحكمة ــ مؤقتا على الأقل ــ مشروع مودي المثير للجدل، ومنعته من القيام بأي أعمال بناء أو هدم أو قطع للأشجار أو تغييرات هيكلية، وإنْ لم تمنعه من أعمال رمزية مثل وضع حجر الأساس. علما بأن مودي بدأ منذ مارس المنصرم بتغيير قواعد استخدام الأراضي الخلاء في منطقة مبنى البرلمان الحالي وحولها استعدادا لتنفيذ مشروعه الذي لم يقاوم بالإعتراض من قبل حزب المؤتمر المعارض وإنما أيضا من قبل العديد من مخططي المدن والمهندسين المعماريين ممن يخشون ان يكون مشروع المبنى الجديد للبرلمان مقدمة لإحداث تغيير معماري أساسي في قلب العاصمة، وإزالة مبان تاريخية رائعة وفريدة لها من العمر ما يقارب القرن. والملاحظ أنه كان من ضمن المعترضين زعيم سياسي سابق من حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الحاكم هو "ياشوانت سينها" الذي كان وزيرا مسؤولا عن الشؤون المالية والخارجية وترك الحزب لإختلافه مع مودي حول إدارة البلاد، حيث أعرب الرجل عن رفضه لأي مساس بصورة العاصمة قائلا أن مشروع مودي لا علاقة له باحتياجات الناس أو البرلمان.

والحال، أن ما يجري في الهند على هذا الصعيد، ليس سوى تكرار لما حدث في أماكن أخرى من سجالات وانتقادات ما بين جهة تطمح للتطوير دون المساس بالمواقع والانشاءات الأثرية، وجهة أخرى تقاوم التغيير والتطوير خوفا من احتمال سلخها عن ذكريات المكان. وإذا كان مودي يسعى إلى بناء مجرد مبنى جديد للبرلمان أكثر تحصينا واستيعابا، فإن آخرين نقلوا كامل مباني عواصمهم إلى أماكن جديدة تتلاءم مع الإحتياجات والمستجدات.

د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

تاريخ المادة: مارس 2021م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق