في باكستان يقال أن "من يسيطر على البنجاب يحكم البلاد". وهو قول صائب ليس فقط لأن هذا الإقليم هو الأكثر اكتظاظا بالسكان، ولا لأنه يضم لاهور ثانية أكبر المدن، وليس بسبب موقعه الاستراتيجي المتاخم لحدود الهند وكشمير الباكستانية، وليس بسبب رمزيته من حيث تحولها إلى إقليم ذي أغلبية مسلمة من بعد أن كان زمن البريطانيين ذي أغلبية سيخية وهندوسية، وإنما أيضا بسبب كونه المخزن الكبير الذي يغذي المؤسسة العسكرية بعناصرها من الجنود والضباط من مختلف الرتب. وتتضح الصورة أكثر إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن الجيش الباكستاني كان ولا يزال هو الفاعل الأول في تقرير مصير البلاد وشؤونها منذ نشوء الكيان الباكستاني كدولة مستقلة عام 1947، حتى في حالات وجود المدنيين في قمة السلطة.
تفصيلا، تبلغ مساحة البنجاب الباكستانية 205.344 ألف كم مربع، ويسكنها نحو 45 بالمائة من إجمالي عدد سكان البلاد البالغ تعدادهم 216.6 مليون نسمة بحسب احصائيات عام 2019، وتعد من أخصب الأقاليم الباكستانية الأربعة بسبب أنهارها الخمسة (لهذا سميت بالبنجاب التي تعني أرض المياه الخمسة). وانحدر منها العديد من الساسة الذين لعبوا أدوارا سياسية خطيرة في تاريخ البلاد لعل ابرزهم رئيس الوزراء السابق نواز شريف الذي تولى قيادة البلاد ثلاث مرات غير متتالية الى ان حكمت عليه محكمة خاصة في عام 2017 بالسجن بتهمة الخيانة العظمى وهي تهمة شكلت سابقة تاريخية.
اليوم تواجه المؤسسة العسكرية الباكستانية تحديا كبيرا من قبل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز) الذي يحظى بنفوذ وشعبية كبيرة في البنجاب، بحيث باتت تشكل مركزا للصراع الوطني على السلطة، وبالتالي بؤرة صداع للنظام المختلط الحالي الذي يتزعمه رئيس الوزراء عمران خان وحزبه (حزب تحريك انصاف) بدعم مستتر من جنرالات الجيش، خصوصا وأن باكستان خاضعة منذ انتخابات عام 2018 لما يمكن تسميته بـ "نظام الأحكام العرفية الهجين"، ناهيك عن أن نواز شريف صار في نظر الكثيرين الوجه الأبرز المقاوم لسلطة الجيش بعد أن أفلت الوجوه السياسية التابعة لحزب الشعب الباكستاني (حزب أسسه رئيس الوزراء الأسبق ذوالفقار علي بوتو في عام 1967 في معقله بإقليم السند لإرساء نظام مدني ديمقراطي غير خاضع للعسكر) وضعف نفوذ الأخير وتأثيره الشعبي، لاسيما بعد انهيار تحالفه مع حزب الحركة الديمقراطية الشعبية (تحالف جبهوي غير مسبوق من 11 حزبا من احزاب المعارضة التي كانت في السابق مفككة هدفه إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة بأسرع وقت) بسبب خلافات حول تقديم الإستقالات من البرلمان والمجالس التشريعية المحلية.
ولعل ما يقلق المؤسسة العسكرية أن البنجاب كانت تاريخيا منشأ للعديد من الحركات السياسية والاجتماعية المناهضة لها، لكن لم تكن تلك الحركات يوما بقيادة أكبر الأحزاب السياسية المعارضة على الساحة مثل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز)، على نحو ما هو حاصل اليوم. صحيح أن نواز شريف ومحازبيه كانوا من أوثق حلفاء المؤسسة العسكرية زمن الرئيس الأسبق الجنرال ضياء الحق في ثمانينات القرن العشرين، لكنه اليوم يعد من أبرز خصومها وتسيطر عليه نزعة الانتقام منها بسبب ما تعرض له من مهانة ونفي وإقصاء من السلطة ثلاث مرات (الأولى في عام 1993 حينما أجبر على الإستقالة قبل اكمال فترته الدستورية بسبب اتهام العسكر ورئيس الجمهورية آنذاك غلام اسحاق له بالمحسوبية والفساد، والثانية في عام 1999 بُعيد الانقلاب الذي قاده الجنرال برويز مشرف ضد حكومته المنتخبة ديمقراطيا، والثالثة في عام 2013 حينما أبعد من الحكم بقرار قضائي باركته المؤسسة العسكرية على خلفية ما عرف بـ "فضيحة أوراق بنما".
ومن أسباب حنق شريف أيضا أنه مقتنع بأن المؤسسة العسكرية وراء مساءلة ولديه حسن وحسين وابنته مريم لتشويه سمعتهم ومنعهم من البروز سياسيا كخلفاء له، وتقويض شعبيته في معلقه الرئيسي في البنجاب. هذا ناهيك عن قناعته بأن الجيش دعم حزب "تحريك إنصاف" الحاكم لجهة سحب منصب كبير وزراء اقليم البنجاب، من شقيقه "شهباز شريف" واسناده إلى "سردار عثمان بوز دار" المنتمي للحزب الحاكم. والجدير بالذكر أن تقارير حول فساد الأخير تسببت في قلق المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم إلى درجة الاتفاق على حجب الثقة عنه في المجلس التشريعي للبنجاب، لكن حجب الثقة كان بحاجة لإتفاق النواب الممثلين لحزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز) والنواب الممثلين للفصيل المنشق عن الأخير تحت إسم الرابطة الاسلامية (جناح قائد أعظم)، وهو ما رفضه شريف بسبب موالاة جناح قائد أعظم للجيش.
جملة القول أن شريف الذي كان يوما ما يتعاون مع الجيش لإسقاط وإيذاء خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم الراحلة بي نظير بوتو، صار اليوم يسعى لوضع حد نهائي لتدخل العسكر في إدارة باكستان لصالح الرموز المدنية. والخطوة الأولى تتمثل في عودة سيطرته السياسية الكاملة على إقليم البنجاب، مثلما كان حاله في الثمانينات، حينما انتخب رئيسا لحكومة الإقليم ومنها صعد إلى حكم باكستان.
فهل ينجح الرجل، الذي انتخب وحكم وخلع وأدين ونفي مرات عدة، في العودة إلى السلطة مجددا وقد تجاوز السابعة والستين من العمر، أم أنه سيكتفي بتعبيد الطريق للجيل الجديد من عائلته؟
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أبريل 2021م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق