كفى سوداوية، مجتمعنا بخير رغم الاوجاع/ د. رائف حسين

 


في السنوات الاخيرة تركز الكلام وكثر حول الآفات الاجتماعيه الموجعه في مجتمعنا الفلسطيني بالداخل. آفات هزت وما زالت تهز اركان المجتمع الفلسطيني ومركباته. الاجرام المنظم وارهاصاته من سلاح وقتل وارهاب وخوف وسوق سوداء ورشاوى، انتشار تعاطي المخدرات والمتاجرة بها، الفوضى وانعدام النظام والنظافه،  سوء الادارة المحلية وهشاشة البنية التحتية، الشرخ الاجتماعي الطولي والعرضي بين النخب والجماهير وبين السياسة والمجتمع وخلط الحابل بالنابل بين الدين والمجتمع والسياسة والحياة اليومية الخاصه… الخ . كل هذه وامور اخرى عديدة نقرأها ونسمعها يوميا في الاعلام بانواعه وفي الشوارع والمجالس، في الحديث العام والكلام الخاص… باختصار الآفات الاجتماعية تخيم على واقعنا وتكاد تكون موضوعنا اليومي والوحيد. 

نعم انه مهم جداً ان نعطي هذه المصائب الاجتماعيه المدمره حيز كبير من تفكيرنا ومن عملنا … لكن اذا اقتصر الكلام والنقاش على هذه المصائب وارهاصاتها فقط، فنحن نكون اولا غير منصفين بحقنا وثانيا سوداويين في تصوير واقعنا. 

المجتمع، اي مجتمع، كقطعة النقد، العمله، له وجهان… لا تكتمل صورته ولا قيمة له الى بالوجهين … كالعمله النقديه تماماً. 

انا لا احاول هنا ان اقلل من اثار الآفات الاجتماعية على واقعنا الفلسطيني بالداخل ولا ادعوا الى اهمال متابعتها اليوميه وبإصرار … ابدا . انا احاول هنا، وهذا هو عنوان المقال، ان اكون واقعي ومنصف في حق مجتمعي. 

انا اعرف يقيناً اننا لسنا بشعب الله المختار… نحن الفلسطينيون في الاراضي المحتلة عام ٤٨، شعب عادي ككل شعوب المعموره… وعلينا جميعاً نخباً وجماهير، ان نتعاطى مع كل ما يحيط بمجتمعنا ويدور بداخله على اساس هذه القاعده؛ نحن شعب عادي.

التركيز اليومي والكثيف واحيانا، الوحيد، على وجه العملة القبيح فقط وتناسي الوجه الاخر، المشرف،  لا يخدم المجتمع ولا يغير من الواقع … بل يزيده تعقيداً ويدفع عجلة اليأس وفقدان الامل، خصوصاً بين الشباب، الى الامام وبتسارع. بهذا التصرف التلقائي ندفع بمجتمعنا الى الهاويه دون ان ندرك. 

كفى سوداويه ! دعونا نرى، ولو احيانا، الشموع المضيئة … قليلاً من الامل يفرح قلب الانسان.

مجتمعنا الفلسطيني في الداخل تطور وتقدم بقدراته الذاتيه رغم كل الآفات ورغم كل التضييق والتفرقه المبرمجين من السلطة العنصريه ورغم قلة المصادر والدعم المادي والمعنوي … في مجتمعنا امور ايجابية قيمة ومشرفه عديدة… ليس فقط من المهم ان نذكرها ونتداولها في حديثنا ونتذكرها، بل برأيي المتواضع، ذكر هذه الايجابيات  ونشرها هو واجب وطني في هذه المرحلة العصيبة المظلمة. علينا ان نروج لهذه الايجابيات ونظهرها في حياتنا اليوميه وفي تصوير مجتمعنا للخارج والداخل… نعم هذا هو الوجه الاخر للعمله … هذه هي الصوره الاخرى لمجتمعنا. 

في هذا المقال، ومقالات لاحقة، سوف اركز على هذا الوجه الاخر اللامع لمجتمعنا … الوجه الايجابي … سوف احاول ان اظهر الواقع المضيء دون ان انكر وجود الظلام.

يعتقد البعض ان هذا الكم من الاكاديميين وخريجي الجامعات في مجتمعنا الفلسطيني بالداخل، وبغض النظر عن الخلفية الاجتماعيه لهؤلاء، امر عادي وطبيعي جداً !  

هنا اقصد التحصيل العلمي الجامعي لبنات وابناء مجتمعنا. هذا التحصيل الغير مرتبط بالخلفية الاجتماعية والاقتصاديه لهؤلاء. كل واحد منا يعرف من محيطه القريب العديد من الشابات والشباب الذين التحقو بالجامعات ودرسوا وتخرجوا، بعضهم بامتياز،  رغم ان اهلهم، اي خلفيتهم الاجتماعيه، ليسو باكاديميين… او حتى ان اهلهم، الاب والام، من ذوي التحصيل المدرسي المتواضع… في الواقع يثير هذا الامر وتثير هذه الحقيقه الاعجاب من قبل المستمعين لها من شعوب اخرى وهي دون ادنى شك مصدر للفخر والاعتزاز لعموم الاقلية الفلسطينيه في اسرائيل ... 

هذا اللغز او هذا الجدل، العلاقه بين الخلفية الاجتماعيه والتحصيل الاكاديمي، تبحث عن حله مجتمعات وشعوب عديدة بعلمائها وخبراءها واستراتيجييها وسياسييها  منذ سنين طويله،  وترصد لايجاد الحل وتجاوز هذا الجدل ميزانيات طائلة… دون تحقيق نتائج مرضيه …  ولو استطاع احداً ان يحل هذا اللغز وهذا الجدل لفُتِحَت امامه ابواب المؤتمرات العلميه والاستراتيجيه في دول الغرب على مصراعيها واحتضنته دولها وحكوماتها واستنجدت به لاخراجها من دوامة تدور بها منذ عشرات السنين .  

نعم هنالك مجتمعات غربيه ، اغنى بكثير واقوى بكثير من مجتمعنا الفلسطيني لكنها ورغم هذا التفوق عجزت حتى اليوم عن مثل هذا الانجاز العظيم. 

الحكومه الالمانيهً، على سبيل المثال لا الحصر، صرفت وتصرف منذ اكثر من ثلاثين عام مليارات الدولارات سنويًا لايجاد حل للمعضلة المبنيه على ان التحصيل الاكاديمي الجامعي مرتبط بالخلفيه الاجتماعيه للشباب والشابات الالمان. بكلمات اخرى؛ امكانية ان يصبح طفل الماني اكاديمي ويتخرج من الجامعه دون ان يكون ابويه او احد الابوين حاصلين على شهادة جامعيه، لا تتعدى ال 15%، كما تظهر الاحصائيات الرسميه الالمانيه… بالمقابل نرى في مجتمعنا الفلسطيني بالداخل ان اكثرية مريحه لخريجي الجامعات والمعاهد العليا منحدرين من عائلات كادحة  الاب والام بهذه العائلات لا يحملون شهادات جامعيه او بالكاد انهوا الدراسه الثانويه .

هذا الواقع الذي نتعامل معه وكأنه امر عادي وطبيعي، هو بالحقيقه انجاز يستحق تسليط الاضواء عليه… وهو امر يحب ان نفتخر به ويجب ان نتبين به مجتمعاً وافراد دون ان نغلق اعيننا عن الآفات الاجتماعيه التي تعكر صفوة الفرح بهذا الانجاز. 

السوداوية احباط ونصف الحقيقه … ليس كل ما يقال ويروج يوصف الواقع بوجهيه. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق