نُصوصٌ تُغَرِّدٌ خَارِجَ سِرْبِهَا!/ الأب يوسف جزراوي



خلَجاتُ الُروحِ


كُلّمَا تَزَاحَمَ حَوْلَكَ الضَّيْقُ

وَضَاقَ صَدْرُكَ بِالهُمُومِ..

تَذَكَّرْ أَنَّ الصَّلاَةَ مِفْتَاحٌ

يُفَتَّحُ كُلّ بَابٍ مُقْفَلٍ.

———————————

وَمْضةٌ 


فِي لَيَالِي الغُرْبَةِ

نُوقِدُ قِنْدَيلًا...

لَيلَةً بَعدَ لَيلَةٍ..

كُتِبَ عَلَيْهِ:

صُنَّعَ فِي العِراق!

——————-

يَا أعزُ مِنْي عَلَيَّ


أمُّي

يَا قُرَّة العَينِ

وَمَلَكُوت الأرْضِ...

لَكِ مَحَبَّةٌ فِيَ القَلْبِ 

كَمَوَدّةِ النَّدَى للوَردِ...

فكَيْفَ لَا أَغَارُ عَلَيْكِ

مِنْ فَمِ عَاذِلٍ..؟!

أوْ أَخْشَى مِنْ تَحَاسُدِ العُيُونِ؟!

فَأنَا بِدَمِ القَلْبِ

وَدَمْعِ العَيْنِ...

لَضمَتُ لَكِ النُّجومَ

فِي خَيِطِ غُربتي

وَقَلَّدَتُها قِلاَدَةً فِي عُنُقِكِ!!

—————————-

لَا يضُوعَنَّك نَّبَّاحَتهُم


عَيْنٌ مَُؤَرَّقَةٌ

وَوَجْهٌ  يَكْسُوهُ الكَرْب...

لَيْسَ لَهُ مِنْ وِجْهَةٍ سِواي!!

 هَمَستُ فِي سِرِّي:

حَتْمًا ستُمْطِرُ عَينَاهُ

وَيَجْهَشُ بِالبُكَاءِ..!!

وَعَلى الفَوْرِ

 اِستَوقَفتُ مَدَامِعه...

فعَقَّبَ:

وَكَيْفَ لَا انهارُ

وَلَا تَحْزَنُ نَفْسِي وَأَبْكِي؟!

قُلْتُ:

لَا تَحزَن 

ضَّعْ كَلامُهُمْ فِي قَوَالِبِ الثَّلجِ....

فَالعَاصِفَةُ هِي إعْتِرَافٌ 

بِقيمتكَ عِنْدَهُمْ..

وَإقْرَارٌ بِعُلُوّكَ عَلَيْهِمْ.

فهَلاَّ تُكَفُّفُ سَّوَاقِي الدَّمِع

فِي عَيْنَيْكَ وَتُغْبَطُ...

فَالشَّجَرُ تَتَفَاضَلُ بِالثَّمَرِ...

وَأمَا سَمِعْتَ يَوْمًا:

كَيفَ الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ

 يُرَمَى بِالحِجارَةِ...؟!

فيَا صَاحِبِيّ...طُوبَاكَ طُوبَى.

———————-

خَلْجَةٌ


فَتَحَ النَّهَارُ عَينيّهِ

بوجهٍ وَجمٍ...

وَبَاحَ بِحَسْرَتهِ للغَيْمِ...

فجأةً...

سَقَطَ المَطَرُ أَرْضًا 

وَسَقى اليُبس

فَتَفَتَّحَتِ الأزهارُ...

"فَرُبَّ ضارَّةٍ نافِعَةٌ"..!

—————————

جِنَازةٌ مَنْسِيّة


يَا هَذَا 

سَمَرَّتُ آخرَ المَسَامِير

 فِي نَعْشِكَ...

ومِنْ دُونِ تجنيزٍ

شيَّعتُكَ بِطِّوَافٍ مِنَ السُّرورِ...

إِلَى مَدافِن النِّسْيَانِ!! 

وَلَمَّا تَزَاحَمْت البَسْمَات

فِي الوَجْنَةِ...

اِرتَشَفتُ عنَْ رُوحكَ

قَهوة بِالعَسَلِ!

دُونَ أن اتَكَلَّفَ عزاءً وَرِثَاءً...

أوْ حَتَّى  لُقْمَة الرَّحْمَةِ!

فَمَنْ مِثلُكَ

لَا يَسْتَحِقُّ الترحَّم!!

وَمَا شَيَّدتُ لَكَ

شَاهِدَة قَبْرٍ...

 لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ مَزارًا

لِغَرْسِ وُرْدَةٍ

أوْ لإيقاد شَمعة...

 يَكْفِيكَ أنّني القيتُ يَوْمًا 

وَمْضة مِنْ ضَوئيِّ السَّاطِعِ

عَلَى عَتَمةِ وَجْهُكَ

المَسْكُون بِالقُبْحِ...!

لِذَا اِرقَدّ بِجَحيمٍ

فأنْتَ فِي ذَاكِرَتي

مجرَّد جِنازةٍ مَنْسِيّةٍ!

—————

خَلْجَةٌ


بِلادِي  نَخلةٌ

قبَّلتهَا غُيومٌ

وَجْهُها يَعُجُّ بِالهَمُومِ...

فَأَشْقَت مُقْلتَيها بِالْبُكَاءِ!!

———————

الصُّحْبَةُ


ذَات لَيْلَةٍ

شدَّدتُ العَزْم

عَلَى مُصَاحَبَةِ ظِلّي

فَتَمَنَّيْتُ لَهُ

 مَا أَتَمَنَّاهُ لِنَفْسِي..

لَكِنَّهُ تَطَاوَلَ وَسَبَقَنِي.. 

وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّي!!

إذْ لَمْ أرَ ظِلّاً  

يَسِيُر قَبْلَ صَاحِبِهِ!!

—————-

وَمْضةٌ 


يَوْمٌ غَيُومٌ

وَلَكِنَّ الغَيْمَ عَاقِرٌ...

لَا يُمْطِر..

وَلَا نَدّىَ بِشَيْءٍ!

بيَنَمَا النَّخْلُ

مَا فَتِئَ يَئِنُّ مِنْ الْعَطَشِ وَيَلْهَثُ!

—————-

خَلْجَةٌ


إِيَّتُهَا الغُربةُ

مَّرَضٌ أنْتِ...!

ففِي خَرَائِطِ القَلْبِ

 وَجَدُوا تجلُّطًا يُدعى النّوى!.

———————-

وَمْضةٌ


  السَّعادَةُ لاَ تَهبُطُ عَلَيْكَ

مِنْ العُلا بِمَظَلّةٍ...

إنَّمَا بِذْرَتُهَا مُتعشَّشةٌ

فِي أعماقكَ الْجَوْفِيَّةِ...

فَبَهْجَةُ حَيَاتِكَ

مِنْ دَاخِلِكَ تَنبُعُ

 لَا مِنْ خَارِجِكَ!

آمَن بِذَلِكَ..

وَسَتَحظَى بِمُبَارَكَةِ السَّماءِ.

——————

هَارِبونَ مِنْ ذَوَاتِهِمْ


 لِأَنَّهُمْ لَيْسُواْ سَوايا

وَمُتَسَاوُونَ فِي المَسَاوِي....

فَيُرِيدُونَ مِنْكَ 

مَا لاَ يُرِيدُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ!!

وَلِأَنَّهُمْ هَارِبونَ مِنْ ذَوَاتِهِمْ

وَلاَ يُجِيدُونَ بِسَوْطِ النَّقْدِ جْلِدْهَا...

تَرَاهُمْ بِاِنْتِقادٍ شَديدٍ

 فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ

 يُصفِّونَ الْحِسَابَ 

مَع الذَّاتِ مِنْ خِلالِكَ!!

فَلاَ مُشَاحَّةَ...

أَنَّ أحْكَامَهم المَعْكوسة

هِي اِنْعِكَاسٌ لَهُمْ

وَلَيْسَتْ كاشِفة لَكَ!.

————————-

نَجاحٌ بِالتًّقْسِيطِ


لاَ تَكُنْ رَقْمًا عَابِرًا

فِي مُعَادَلَةِ الْحَيَاةِ..

لَا بَلْ اِحلم... وَتَمَكَّنَ مِنْ إِيلاءِ

 القِيمَة الْحَقِيقِيَّةِ لِذاَتِكَ..

 لِذَا صمَّم عَلى ذَلِكَ 

وَحَدَّد هَدَفًا وَثَابَر عَلَيْهِ...

ثُمَّ تَقَدَّمَ بِطَلَبِ صَداقةٍ مِنْ النَّجَاح...

ولَكِنْ ...

إياكَ أن تَنَجحَ عَلَى دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ

بَلْ بِالتًّقْسِيطِ..!

فَيَوْمًا حَذّرَنِيّ التَّمْيِّزُ قَائِلاً:

إِيَّاكَ مِنْ حِزبِ أعْدَاء النَّجَاحِ..

ولَم أُصِغِ لَهُ!!

 رَغِمْ هَذَا تَشَجَّعْ 

وَأقْدَمْ عَلَى هَدَفَكَ..

وَحَقّقَ البَدائِعَ عَلَى أَجْزاءٍ..

فَيالَيْتكَ وأنْتَ تُخَاطِرُ

 وَتُنْجِزُ مُهِمَّتكَ

أنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ...

 مِنْ دُونِ لَفْتِ اِنْتِباهٍ...!!

 جَرِّب النَصيحَة....

وَحَتمًا سَتَقُول شُكْرًا أبَانا.

———————————

كُنْ أنْتَ 


لاَ تُغَالط نَفْسِكَ

وَتَرْضَى بِأقَلِّ مِنْ ذَاتِكَ الفَرِيدةِ..

فإنَّكَ أنْتَ 

صانعُ نفسَكَ بِنفسِكَ...

بِالفِكْرِ وَالْإِيمَانِ ...

ضَفَّ لهُمَا عُلُوّ الهِمَّةِ...

وَالتَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ.

 لِذَا لاَ تَبْخَل بِتَثقّيِفِ ذَاتِكَ...

وَالتْأنسَن بِالرُّوحانيّاتِ

وَالتََرَوَّض مِنْ يَنَابِيعِ طَبِيعَةٍ خَلَّابَةٍ.

فَلِكَيْ تَكْشِف أَغْوَارَ فرَادَتكَ

 وَتَقِيس حَجْم خُصُوصيّتكَ

وَمُعَدَّل اِختِلافكَ عَنِ الْآخَرِينَ....

عَلَيْكَ الفَتَّن بِالْمُوسِيقَى

وَالْاِسْتِثْمَار فِي مناجِمِ نَفْسَكَ...

لِئَلاّ تَكُونَ شَبِيهًا

أوْ نُسْخَةً طِبْقَ الأَصْلِ مِنْهمْ.

كُنْ مُخْتَلِفًا..مُتميَّزًا 

لِتَتَمَيَّزَ...

 فَلَا تُضَيِّعْ وَقْتَكَ

وَتُضَيِّق مَدَارِكِكَ..

بَلْ تَرَفَّعْ 

عَنِ الصَّغَائِرِ بِالدَّهاءِ...

لِتُوَسَّعُ دَوْحَة فِكْرَكَ...

وَتُفَلْتَر ُ قلَبكَ بِالطَّيِّبةِ...

فَمَا الْمَطْلُوبُ مِنْكَ 

إلاَّ أنْ تَكُونَ أنْتَ 

لِتَنسَجِم مَعَ نَفْسِكَ

فَكْرًا .. 

قَوْلًا وَعَمَلًا!

وَالأهَمُّ تَصَّالح مَعَ الذَّاتِ 

وَحَقّقهَا...

لَكِي تَترُك أَثِرًا نَبِيلاً

فِي نُفوسِ النَّاسِ ...

وَتَطْبَع بَصْمةً عَلَى 

جَبِينِ الْحَيَاةِ...

حِينَهَا سَتَتَّسِعُ ذَاتِكَ للكَثِيرينَ...

وَبِقَدْرِ حَجْمِ وَعُمْقِ الأثر

بِقَدْرِ ذَلِكَ سيَكُونُ حَجِم خُلُودكَ!

لَكِنَّهُمْ سَيَخْدَعُونكَ بِالظُّروفِ...

لِبَثِّ اليَأْس فِيْكَ 

وَنَشِرِ الإِحْبَاطِ...

كِي تَغْدُو عَلَى شَاكِلتهمْ!!

وَرُبَّما سَيُحاوِلُونَ غَسْل دِمَاغكَ 

وَتَعبِئته بِمَفَاهِيمٍ مَغْلُوطةٍ...خَاطِئةٍ..

فَيَالحَمَاقَتُكَ لَوْ صَدِّقَتَهم!!

———————

طُوبَاكَ طُوبَى 


يَوْمًا سيُصِيبُهُمْ  إِبْدَاعكَ

بِالدَّورانِ وَالغَثَيَانِ 

 وَتَتَلَبَّسهُم عُقدة الدُّونيّةِ...

فَتَهُبُّ عَلَيْكَ رِيَاحُ سَمُومُهم

مِنْ جَمِيعِ الْجِهاتِ

تُنْذِرُ بِالعَوَاصفِ وَالمَكائِدِ...

فَتَغدو طَعامًا

تَلُوكُهُ الكَثِير مِنْ الأفواهِ!

وَلَكِنْ لاَ بَأسَ..

فَطُوبَى لِمَنْ يُطْعِم الجِيَّاع..

لَا سِيَّمَا الجَائِعِينَ إِلَى المعْنَى!

—————————

سِيمْفُونِيَّة فَرْحَةٍ


مَا لَا أطيقُهُ فِي الْحَيَاةِ

هُمْ أبُوم الشُّؤْم...

أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّظِرَةِ السّوداويّةِ....

الَّذِينَ يُلَبَّدُنَ سَمَاء التَّفَاؤُل بِاليَأْسِ!!

فيَا عَجَبي مِنْهُمْ

لَا يَنظُرُونَ إِلاَّ

إِلَى النُّقْطَةِ السوداءِ

فِيَ البيَاضِ!

فَكُنْ بَشيرُ الخَيْرِ..

وَوَمِيضُ النُّورِ

وَلَا تَقْبَلُ إِلَّا بِذاَتِكَ المُنْشَرِحةِ

لِيَغدُو قَلْبِكَ دَوحةً 

تتراقصُ بِهَا عَصَافِير الْفَرَح...

حِينَها ستَشرُقُ إِنْسانِيًّا...!

الرسالة السابعة والأربعون: نحاربهم أيضاً بالأغاني والهاشتاج/ فراس حج محمد



الأربعاء: 26/5/2021

أسعدتِ أوقاتاً سيدتي الجميلة، أرجو أن تكوني بخير، وآمل أن تكون رسائل ما بعد الحرب قد وصلتك وقرأتها، وأن تكون قد أعجبتك. لا شيء جديد على صعيد الكتابة والقراءة غير هذه الرسالة. في ظل هذا الوضع أجمع كتباً إلكترونية. أقرأ فيها، ولم أجد فيها ما يشجعني على إنهاء أي كتاب منها. القراءة مملة بعد الحرب أيضاً. أخبرك أن كتابي "استعادة غسان كنفاني" قد دفعت به إلى دار النشر، لعله يكون جاهزا مطبوعاً بين يديك في ذكرى استشهاد غسان كنفاني التاسعة والأربعون. كم متلهّف على طباعة هذا الكتاب! لم يصلني إلى الآن شيء من "البروفات" للكتاب أو الغلاف.

لعلك لاحظت كما لاحظت أن للحرب تأثيرا فنياً جميلا، عدة أغنيات كانت رداً فنياً منظما على الحرب العشوائية، سمعت "ناي البرغوثي" و"فراس البوريني" و"محمد عساف" و"أحمد الكردي"، وعادت فرقة العاشقين في أغنية جديدة. لقد أثبتت هذه الأعمال الفنية كم كان للأثر الحربي من أهمية في عودة الفنّ إلى الحياة. تاريخ طويل من الأغنية الفلسطينية صنعته الثورة الفلسطينية في أوج تألقها ومدها الشعبي. ها هي بشائرها تطلّ من جديد. الثورة تصنع مزاجتتها الشعبية في أغاني الحب والحرب والحرية.

هذه ظاهرة جديرة بالملاحظة، وبعيداً عن تأمل الكلمات والمشاهد المصاحبة من صور، إلا أنها اتفقت جميعها على أن هناك أملاً، وأن هناك قوةً، وأن ثمة حياة بدت تدبّ في أوصال الشعب، على الرغم من الدمار.

ما زلت أتذكر قبل سنوات، عندما فاجأتني أنك قد كتبت كلمات أغنية، لقد أعجبتني تلك الكلمات وذاك الأداء أيضاً، والمشاهد المصاحبة لتلك الأغنية. الشعب الحيّ هو الشعب الذي يرى الأمل وسط غابة كثيفة من الحزن والألم. أليس كذلك؟

ظاهرة أخرى من ظواهر حرب غزة لهذا العام، لقد قصف الاحتلال المكتبات، أهم مكتبة في غزة، مكتبة سمير منصور، ليس هذه المكتبة فقط، إنما هناك مكتبات أخرى قصفت، وأحرقت، مشهد عظيم، لا أدري هل هو عفوي أم لا، عندما عرضت صورة لتلك المكتبات المدمرة، ليظهر فوق الركام كتاب غسان كنفاني "عائد إلى حيفا". هل تظنين أن المشهد عفويّ؟ ربما رتبته يد ما قبل التصوير، وبث التقرير على قناة الجزيرة. حتى لو كان مرتباً. إنه مشهد عظيم، يعيد إلى الأذهان سيرة غسان كنفاني هذا الكاتب الفلسطيني العظيم الذي راح ضحية العنجهية الصهيونية. إنها استعادة محمودة ولو كانت مرتبة، وذات دلالات قوية.

لا أعرف صاحب المكتبة، لكنه له فضل عليّ، لقد احتضن بعض كتبي، واستطاع القراء في غزة الحصول عليها من هناك: ديوان "وأنت وحدك أغنية"، وديوان "مزاج غزة العاصف"، وربما كتب أخرى. أليس من واجبنا إعادة إعمار المكتبة، بناء وكتباً؟ 

كل الغزاة الطغاة سيئون ويكرهون الكتب، وكثير منهم أحرق مكتبات ضخمة، إنهم يدمرون التاريخ والحضارة والذاكرة، منذ التاريخ الموغل في القدم والغزاة أعداء للكتب، قبل هولاكو وبعد نتنياهو سيظل الطغاة أعداء للكتب، لأن الكتب وحدها بمفهومها الشامل هي التي تحارب التطرف والتقوقع في "غيتوات" قاتلة، وترصد حركة الغزاة الوحشيين وتحاصرهم في إبراز وحشيتهم ليعرفها الأجيال ويلعنوهم. 

على ما يبدو- يا عزيزتي- أن الحرب لم تكن حربا ذات شكل واحد، ثمة حرب إلكترونية علينا، ها هو موقع يوتيوب يحذف الكثير من المحتوى الفلسطيني، ليرد عليه الفنان محمد عساف، ويمتنع عن نشر أغنيته الجديدة في اليوتيوب. كانت الحرب الإلكترونية أيضاً حرب "هاشتاجات"، وانضم موقع "جوجل" إلى الحرب وصنفت "الكوفية" رمزا من رموز الإرهاب كعلم داعش والحجاب. يا لهم من عُمْي، ومتطرفين وعنجهيين وعنصريين ودكتاتوريين! أي عالم سيئ هذا الذي صنعوه؟ إنهم شركاء على الدرجة نفسها بما صنعه القصف الوحشي من قتل الأطفال والنساء والمدنيين وأحرقوا الكتب. 

ما أشبه اليوم بالبارحة، قبل سنتين كتبت على الفيسبوك هذا المنشور الصغير: "تخيلوا العالم العربي والإسلامي والدولي مجمع على قهر الشعب الفلسطيني". نعم إنه الإجماع نفسه الذي يريد للفلسطيني أن ينكسر في حرب 2021، ولولا الهبات الجماهيرية العربية والدولية لرأيت أنّ "ألسنتهم وخناجرهم علينا". يبدو أن لا حل للفلسطيني ولا نصير له إلا هو نفسه.

لا تظني أن الحرب قد انتهت، فقط الصواريخ هي التي قد توقفت، لكن الحرب ما زالت مشتعلة، وها هي كل يومٍ تستعرُ أكثر من اليوم الذي قبله. عاد الإسرائيليون الصهاينة إلى ديدنهم، إلى عنجهيتهم، إلى القتل والاعتقال والمصادرة. تمنيت أن لو لم يتوقف ضرب الصواريخ، يا ليتهم كانوا حطام تلك الصواريخ. إنهم لا يعرفون معنى الراحة ولا معنى السلام. ولا يريدون لأحد أن يرتاح، إنهم يسعون إلى تدمير العالم، بالفعل إنهم يسعون إلى تدمير العالم.

وأخيراً: لا أريد أن أثقل عليك القراءة والوجع، أتمنى أن أرى منك ما يفاجئني بعد كل هذا الصمت الطويل العمر.

أحبّك. على أمل اللقاء قريباً.

تحياتي الخالصة من قلبيَ المشتاق...

****

الرسالة الثامنة والأربعون

لماذا أنا ضائعٌ إلى هذه الدرجة من البؤس؟


الجمعة: 28/5/2021

صباحكِ الخير، ومساؤك الرضا، وأسعد الله كل أوقاتك، أرجو أن تكوني ذات مزاج جيّد، يسمح أن تحتملي حماقاتي في هذه الرسالة. اليوم ليس يومَ عطلتك، ولكن آمل أن تجدي الوقت لتقرئي، لعلّ قراءتك تبدّد بعضاً من غيومي.

في الحقيقة لا يكفّ عقلي عن التفكير بالأشياء التافهة والسطحية، لا أعرف كيف يفكر العظماء إجمالاً، إنهم بلا شكّ يفكرون على نحو مختلف. عملي أصبح شاقّاً، وصارت قدرتي على احتمال الآخرين وحماقاتهم تتضاءل يوماً بعد يوم. آمل ألا أفقد السيطرة على نفسي يوماً ما. لا أحب أن أكون شرساً وحادّا، أريد أن أقدّم واجبي. كثيرون ممن حولي يعيقني فلا أستطيع أن أودي عملي كما أرى. 

يوم الخميس كان يوماً قلقاً، كل شيء من حولي كان متوجساً، كنت على أهبة الانفجار، لولا رحمة الله التي تداركتني مراراً. العمل مع المعلمين ومديري المدارس والطلاب والمسؤولين "الحمقى" كله مشاكل، بل كل الوقت مفخخ بالمشاكل، وقابل للانفجار في أي لحظة. للمعلمين ومديري المدارس طرائق شتى في إعاقتي عن العمل، إنهم بالفعل لا يعرفون الانتماء، وهم يقصّرون في أداء واجباتهم، ومن يلتزم قليلون جداً. إنهم ندرة هذا العصر، لاسيما بعد غياب الرادع والعقوبات، وكثرة المنافذ، فكورونا وفّرت مساحات شاسعة لخراب الضمائر.

ثمة صورتان تتنازعانني في العمل، وإحداهما تطغى على الأخرى، الكاتب يطغى على المشرف التربوي ويسيطر عليه، هكذا يقول أحدهم، وأتعامل مع المعلمين بخبرة الكاتب والمثقف والعارف. يغرقني هذا الفريق بالذم الشبيه بالمدح، فأنا إذن فاشل في كيفية توجيه المعلمين لما يفيدهم. هذا النوع من المعلمين ومديري المدارس حدد سقفه وجعله واطئاً، هو يزحف على استه، والمعلمون أيضاً معه زاحفون. لا يريدون أن يرتقوا إلى آفاق من المعرفة المتحررة من الوهم. مَنْ المُخوّلُ إذاً برفع المستوى، إذا كلنا سنعمل ضمن هذا السقف الواطئ جداً؟ سيأتي يوم لنجد أن المعلم والطالب والمدير والمشرف التربوي والمسؤول "الأحمق" يزحفون على أُسُتِهم، ولا يعرفون أن لهم أرجلاً خصصتها الطبيعة البشرية للمشي أو القفز أو التمتع بجمال القامة المنتصبة. فأنا كما أرى نفسي لست مجرد "مشرفٍ تربويّ". إن لي أفكاراً تربوية وعقلية تربوية خاصة، أودعتها مقالاتي التربوية التي اطلعتِ على معظمها. فأنا أكاديمي وكاتب تربوي، أدعم المهنة بالتفكير والكتابة ولا أقف عند حدود التعليمات القاصرة، مع أنني لا أخالفها، ولكنني على استعداد دائم لإضاءة ظلمتها، وإكمال قصورها.

عليّ الاعتراف أمامك الآن أنني أعاني من هذه المعضلة، الكلّ يشدك نحو الأدنى والأسخف والأتفه، لن أمدح نفسي، فمادح نفسه كذاب بالتأكيد، ولكن ما حيلة المرء إن لم يجد من يقدّر قدراته حق قدرها، لقد سألت نفسي وأنا أغرق في محاسبتها: متى يضطر الإنسان إلى مدح نفسه؟ لا ريب أنه يلجأ إلى ذلك عندما لا يجد من يقدره بشكل جيد. ها أنا بين يديكِ مفاخر بنفسي وأمدحها. أنت الوحيدة التي لن تقولي: مادح نفسه كذاب، لأنك تعرفينني معرفة أكيدة.

ضاعت مني على ما يبدو صورة المشرف التربوي، وصرت كاتباً متعالياً بالمعرفة على الزملاء، لذلك يطالبونني بأن أنزل إلى مستوى أقلّ خلال المناقشات والتدخلات التربوية التي أقدمها أمام الطلاب والمعلمين. زيارة يوم الخميس كانت محبطة بشكل لا يوصف. هل فعلاً كنتُ بهذا السوء؟ لا أدري. إلى الآن أفكر جيدا بالموقف كله. 

على أيّ حالٍ لو صدق هذا الذي يدعيه المعلمون والمديرون أكون قد شوّهت صورة المشرف التربوي، وصار لا جدوى لي في الميدان، هل أصبحت أنا كذلك، كزميلي المتقاعد "لا حاجة فنية لي". يبدو أن المؤشرات خطيرة. 

لقد أخبرتكِ في إحدى هذه الرسائل، أنّ شخصيتي ككاتب أيضا تسيطر عليها شخصية المشرف التربوي، اللغة القاطعة اليقينية، الرأي الحاد الذي لا يحق لأحد أن يحطمه أو يتجاوزه، لغة الأمر والوجوب في مقالاتي كأن الكاتب أو القارئ الموجهة له تلك الكتابات تلميذ بحضرة أستاذ أو معلم بحضرة مشرف تربوي. هذه ملحوظات الدكتور عادل الأسطة، وصديقي حسن عبادي الذي يُديم تذكيري بها كلّما جرّنا النقاش إلى منطقة الكتابة وأسلوبها.

ها أنا إذن لا كاتب ناجح، ولا مشرف تربويّ ناجح، ضعت بين شخصيتين، كأنني أقع في فخّ "حماقة الغراب"، فلا هو أصبح طاووساً ولا ظل غراباً عندما حاول تقليد الطاووس. مع فارق في الحمق كبير جداً؛ أنني لم أقلد أحداً من الكتّاب أو المشرفين التربويين، دائما أردت أن أصنع لي شخصية مهنية خاصة مدعومة بــ "التفكير المكتوب"، وتعتمد على تطبيق القوانين والتعليمات بطريقة حازمة دون التذرع بذرائع غير مهنية وغير إنسانية، وأردت للمعلمين والطلاب وحتى الزملاء المشرفون أن أقدّم كامل خبرتيّ في الثقافة والتربية دون مَنٍّ أو تبجّح. بل إنني أفرح كلما أسديتُ لأحدهم خبرة أو معروفاً أو خدمة. كذلك كوني كاتباً كنت دائماً على استعداد لمساعدة الكتّاب الأصدقاء، بقراءة مسوّدات كتبهم ومراجعتها وتدقيقها وتحريرها. وأنتِ أعلم الناس بهذا كلّه. ولم أسع يوماً إلى تقليد أحدٍ من الكتّاب، إنهم مدارس في أساليبهم وكتبهم، وأنا أردت أن أكوّن مدرستي وأسلوبي. مخايل الفشل واضحة الآن!

هل تعلمين أنني أغبطك على عملك، إنه مختلف كليّا عن عملي؛ فلا شيء فيه يدعو إلى الانفصام، وأغبطك على كتاباتكِ التي تخلصت من المراوحة بين مكانين يتنازعان الحضور في الكتابة، ليتني لم أكن مشرفاً تربوياً مع أنني أحبّ هذه المهنة حبّا غير عادي، وفخور بكوني مشرفا تربويا، على الدرجة نفسها بكوني كاتباً. يبدو أن من الحبّ ما أهمّ وأغمّ وفضح إن لم يقتل. لا حاجة أن أقول لك: إنني لا أتخيّل نفسي إلا كاتباً، وأيضاً لا أتصور نفسي إلا مشرفاً تربوياً.

أعتقد أن أحدنا على خطأ؛ إما أنا وإما المعلمون، هل علينا أن نفهم بعضنا بشكل أكثر شفافية ومصارحة. المعلمون في المجمل لا يحبّون أن أزورهم، وحتى مديرو المدارس، أجد نفسي ضيفاً ثقيل الظل، أو الدم. وكل يوم تزداد المسافة بيني وبين المعلمين والمديرين، مساحة الود والاحترام تتقلص يومياً وبعد كل زيارة. "كأنّ الودّ ظل في صباحٍ يزيد تقلصاً حيناً فحيناً"، مع الاحترام للشاعر، وليعذرني على التغيير لدواعي الكتابة!

لا شيء يعجبني فلا أسكت. هذا يزعج الآخرين، لذلك سأجد نفسي على القارعة وحيد وحدي، نبياً مكروها ملفوظاً، وأسفاري العبثية الأفكار ملقاة في سلة المهملات؛ فالمعلمون والمديرون لا يقرأون أفكاري ولا مقالاتي، ولا يعملون بالتوصيات، ويلقون التقارير في الملفات دون أي اعتبار، لأنه لا مآل لتلك التقارير سوى أنها علامة على زيارة كان فيها الكثير من القلق والتوجس وشد الأعصاب وضبط النفس، وقد أَمِن المعلمون والمديرون العقاب، فمهما كتبت، لا أحد سيعاقبهم لأنهم محميون بسلطاتهم التنظيمية الفاشلة التي خربت البلاد والعباد، أو يتمترسون خلف غوغائيتهم الفيسبوكية التي تشجع الآخرين على الرجم والسباب واللطم وفتح المناحات، أو يلجأون إلى أركانهم الشديدة التي تخلصهم من العقاب والمساءلة. ولا تجد من المسؤولين "الحمقى" أي تقدير لأي جهد بعد ذلك. في ظل هذا الجو القاتم لا أحد يستطيع أن يعمل بحب وإخلاص، فالأعداء كثرٌ، ولا أصدقاء.

هذه يا عزيزتي عناصر محبطة، فكم أستطيع أن أصمد، وأقاوم، وأنا أخسر يوميا من عمري يوما أقضيه مهموما مغموماً. لا يومَ عندي أسعد من مساء يوم الخميس، عندما أغادر مكتبي الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر، فعندي يومان كاملان ومساء طويل لأتخلص من هذا الانفصام المرضي الذي حشرتني فيه مهنتي الجائرة.

أرجو أن تحتملي هذه الحماقات الباعثة على تعكير المزاج، فلا أحد أشكو له وأفضفض غيرك، لا أحد يفهمني من المحيطين بي، في الأسرة، إنهم محبطِون، ولا يفكرون بغير أنفسهم، طالت المسافة بيننا أيضاً. العلاقة بيننا قائمة على المصلحة التي تسيّر أمر استقامة الحياة بعشوائية خالية من الروح، مُلَخّصة في كلمتين: "هاتِ، واشترِ" لا شيء غير ذلك. لا أحد يريد أن يسمعك، بل لا أحد عنده وقت لك. الكل مشغول بعالمه الذي وضعته فيه الحياة، فلو تكرمتِ عليّ بوقت قصير لقراءة هذه الحماقات بالفعل سأكون لك من الممتنين. لأن لك أيضاً عالمك المعقّد أيضاً.

لا وقت على المدى المنظور لنلتقيَ، لعلي أثرثر بحضرتك أكثر. آمل أن تتاح لنا الفرصة؛ فيصلح الحال بيني وبينك، فيا "ليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ"؛ لنقول أكثر مما نكتب. على ما يبدو لي الآن بعد هذا الفائض الهشّ من اللغة واللامنطق أنك لو كنت معي لكنت أكثر اتزاناً. ربما، لست أيضاً على يقين.

مهما يكن من أمر نفسي. أتمنى لك عمرا ملئيا بالفرح والخير والسعادة. 

وإلى لقاء...



لبنان الوعد/ عباس علي مراد



عرفتك لبنان

إسماً صورة وبنيان

تتبدل الأيام والأزمان

وما عرفتك الا لبنان

عصياً على الهوان

وإن غدر بك الجاحدون

ستبقى للنفوس محجاً

ترقد في ظلال حبك بأمان

ما عرفتك الا لبنان

دعهم في بهتانهم يعمهون

انت للعروبة عنوان

ترفض الذل

وتذل العدوان

ما عرفتك الا لبنان

تشرق شمس الحرية

من فوق رباك

تتلألأ نجوم سمائك

تضيء دروب الحرية

ما عرفتك الا لبنان

ماضٍ ،حاضراً ومستقبلاً

يتردد اسمك

في قم الأعالي

وأحضان الوديان

ما عرفتك الا لبنان

تسكن قلوبنا

ودماؤنا في شرايين محبتك

تسري

وجباهنا تعلو وتزدان

ما عرفتك الا لبنان

للحق راية خفاقة

وبالجمال ليس لك من صنوان

ستبقى عشقنا

في السراء والضراء

نستمد منك الإباء

على ايقاع اسمك

تتوالى أيامنا وليالينا

وتتحقق امانينا

هكذا عرفتك

وشاحاً للنصر

ووعدا صادقا

وما عرفتك الا لبنان


Email:abbasmorad@hotmail.com


الثورة الرقمية هل تؤدي إلى ثورة في الأدب؟/ عبده حقي



الثورة الرقمية هي ثورة عصرنا الراهن . فهل نحن على دراية  بذلك؟


مما لاشك فيه أن سقراط قد طرح العديد من الانتقادات ليس على اختراع الكتابة بل بما يتعلق ببعض ممارساتها المتهورة : الكتابة هي في الأصل تقنية يدوية وذهنية يجب أن يتقنها الإنسان . في الواقع يكمن الخطر في أن الإنسان ، باعتماده على أداة الكتابة لحفظ المعرفة ، قد ينسى ما تعلمه "من الداخل" ويضطر دائمًا إلى اللجوء إلى "العلامات الخارجية" الموجودة خارج نطاقه.


منذ ما يقرب من ألفين وأربعمائة عام ، أصبح هذا الانعكاس واضحًا وحادًا في وضعنا الراهن : إنه أمر يلامس ويؤذي موضع الجرح الأكثر ألما . ولنحاول اليوم استبدال كلمة "كتابة" بكلمة "إنترنت" في المقطع السالف الذكر أو لكي تكون أكثر واقعية باستخدام "ويكيبيديا " أو "خرائط مابس " وغوغل . لقد تكون  لدينا وهم بأننا صرنا حكماء ، لكن بدون ويكيبيديا وخرائط جوجل ربما اليوم الكثير منا سيواجه صعوبة حتى في التنقل في أنحاء مدينته .


من الحكمة إذن أن ندبر للمتعلمين المظهر وليس الحقيقة: عن طريق أن يصبح بفضلنا هناك مستمعون لأشياء كثيرة دون تعليم ، سوف يؤمنون بأنهم يعرفون أشياء كثيرة ، بينما هم لن يعرفونها ؛ وسيكون الحديث معهم صعبًا جدًا ، لأنهم أصبحوا خبراء في الآراء بدلًا من الحكمة  .


ومن الجدير بالذكر ربط هذا المشهد بعالمنا الذي يبدو أنه بات كله مكتوبا اليوم: العلاقة بين المظهر والحقيقة، والفرقعات وعرض المعلومات والتعليقات والآراء التي نشهدها كل يوم وعدم القدرة على التواصل و التعرف على وجهة نظر الآخرين ( انظر كتاب توم نيكولز ، المعرفة وأعداؤها: عصر عدم الكفاءة ومخاطر الديمقراطية ): هذه هي مشاكل عصرنا التي نحن مدعوون بإلحاح لحلها ، ولدينا جميعًا العديد من الطرق للقيام بذلك (.


ما هي الطرق العملية على الأقل لتحديد حل المشكلة ؟ بالتأكيد المشكلة ليست في هذه الآلات التي تحاصرنا، بل إنها في مستوى انتباهنا ووعينا. ومن وجهات النظر البارزة في هذا الصدد وجهة نظر أولئك الذين يتساءلون من منظور العلوم الإنسانية . إن إدارة التقدم التكنولوجي ، ولا سيما الرقمي ، لها علاقة كبيرة بالأدب وبعض التخصصات التي تتفرع عنه بطرق مختلفة.


لقد أدت الثورة الرقمية إلى تغيير طريقة معرفتنا وإدراكنا للعالم من خلال اللغة ، ووفقًا لعالم اللغة والفيلسوف رافاييل سيمون الذي يقول بأن الموقف العقلي الذي نشأ عن اختراع الطباعة أصبح يختفي تدريجياً ، أي ظهور عقلية افتراضية ، تقوم على التعبير عن الأفكار بالكلمات والعبارات (الافتراضية) ؛ تقسيم المواقف والمشكلات المعقدة إلى مكونات أبسط (التحليل) ؛ هيكلة الكلام بطريقة هرمية ؛ إعطاء أسماء للأشياء ، بحيث يمكن استرجاعها بسهولة (المرجعية).


إن الموقف العقلي الذي تفرضه الشبكة العنكبوتية ، بفضل النص الأكثر مرونة والكم الهائل للصور ، هو عكس ذلك تمامًا : إنه عام ، لأنه لا يقسم الخطاب إلى عناصر مميزة وليس بنيوية بطريقة هرمية ؛ إنه غامض لأنه لا يعطي أسماء للأشياء ولكنه يلمح فقط من خلال المفاهيم العامة.


إن العقلية المقترحة مناسبة للموقف العلمي ؛ العقلية غير الافتراضية هي نموذجية للموقف الصوفي ، الذي يهدف إلى دمج الذات مع الموضوع : يعتبرها سيمون خروجًا حاسمًا عن الواقع ، وبالتالي تفقيرا جذريًا لقدرتنا على التفكير .


من وجهة نظر أخرى مختلفة ، وجهة نظر العلوم المعرفية ، تطرح ماريان وولف السؤال من حيث مهارات القراءة. ما نقرأه رقميًا هو نسيج متحرك باستمرار من الكلمات والأصوات والصور ومقاطع الفيديو وهو يفعل كل شيء لجذب انتباه القارئ بشكل عام . لذلك سيجد القارئ نفسه شديد الإثارة ومندفعًا للتحرك بسرعة كبيرة نحو مصادر جديدة إرضاء لانتباهه. إن هذا الموقف يمكن أن يجعل قراءة رواية أقل إرضاءً بكثير ، نظرًا لطول الفترات الزمنية التي تستغرقها ومشاركة القارئ التي تتطلبها. إن الخطر الذي يخشاه وولف يكمن في أن تصبح طريقتنا في القراءة أسرع وأكثر سطحية: وهذا يعني أن الأدب سيحتل في المستقبل مكانة متضائلة في عالمنا.


سيكون لهامش الأدب آثار مدمرة على ذكائنا العاطفي ، حيث توجد "علاقة قوية بين قراءة الروايات ومشاركة العمليات المعرفية والتفاعل معها ". في الواقع ، يلعب التعاطف هنا دورًا مهمًا في بنية  الفكر:


عندما نقرأ بعض الروايات ، فالدماغ يحاكي بدينامية وعي شخص آخر . يتيح لنا ذلك للحظات قليلة ، تجربة حقيقة ما يعنيه أن تكون شخصًا آخر. التعاطف يتضمن المعرفة والعواطف. يوضح هذا الخط الناشئ من البحث حول التعاطف في دماغ القراءة مدى أهمية الارتباط بين العاطفة والفكر في دائرة قراءة الدماغ لكل فرد. تعتمد جودة تفكيرنا على المعرفة والعواطف الأساسية التي يضعها كل منا في لعبة القراءة .


بالإضافة إلى ذلك فإن القدرة على القراءة ، مثلها مثل الكتابة ، ليست فطرية ولكنها مكتسبة : وهذا يعني أنه يمكن تعلمها ولكن يمكن نسيانها أيضًا. فوفقًا لوولف ، يمكن إعادة ضبط دوائر الدماغ التي يتم تنشيطها عند ممارسة القراءة العميقة على وظائف أخرى إذا لم يتم استخدامها مع استمرارية معينة: هذا يعني أن دماغنا ، يتم حثه باستمرار على القراءة السريعة ومعالجة الإشارات البصرية المنبهة غير اللفظية ، وقد يصبح غير قادر (ما لم يكن تدريبًا جديدًا محددًا) على العمل بشكل هادف على نص مكتوب .


لذلك يبدو أن الأدب هو أكثر ما نحتاجه اليوم ولكنه أيضًا في المقابل إنه أكثر ما يواجه خطر التقهقر والتراجع في مشهد تلقينا اليومي ، إن لم يكن الانقراض . في مواجهة قصص أنستغرام من أجل مواصلة التفكير بعمق ، نحتاج إلى قصص حقًا ، قصص الروايات : إنها تبقينا بشرًا. يمكن للأدب أن يلعب دور الترياق المضاد لتواصلنا المسموم في العالم الافتراضي: يمكن أن يساعدنا في التعرف على الاستخدامات المتلاعبة للغة ، وقبل كل شيء ، يمكنه أن يعلمنا احتراما وتعاطفًا مع وجهة نظر الآخرين.


لذلك يقدم الأدب رؤية عميقة للواقع . ولكن ماذا يعني إغناء الثورة الرقمية بهذه الحساسية؟ إذا وصلت أيها القارئ إلى هذا الحد ، فهذا يعني أنك الشخص المناسب لطرح هذا السؤال.


ترجمة عن مقال للكاتب أدريانو سيكوني

كيف يكون التفلسف مع العدمية وضدها؟/ د زهير الخويلدي



مقدمة:

" يجب أن تبدأ العدمية بواسطة الذات في حد ذاتها"


العدمية هي الاعتقاد بأن جميع القيم لا أساس لها من الصحة وأنه لا يمكن معرفة أو توصيل أي شيء. غالبًا ما يرتبط بالتشاؤم الشديد والشك الراديكالي الذي يدين الوجود. لن يؤمن العدمي الحقيقي بأي شيء، وليس لديه ولاءات، ولا غرض سوى، ربما، دافع للتدمير. في حين أن قلة من الفلاسفة يدعون أنهم من العدميين، فإن العدمية غالبًا ما ترتبط بفريدريك نيتشه الذي جادل بأن آثارها المدمرة ستدمر في النهاية جميع المعتقدات الأخلاقية والدينية والميتافيزيقية وتسبب في حدوث أكبر أزمة في تاريخ البشرية. في القرن العشرين، شغلت موضوعات العدمية - الفشل المعرفي، وتدمير القيمة، والافتقار إلى الهدف الكوني - الفنانين والنقاد الاجتماعيين والفلاسفة. في منتصف القرن، على سبيل المثال، ساعد الوجوديون في نشر مبادئ العدمية في محاولاتهم لإضعاف إمكاناتها المدمرة. بحلول نهاية القرن، أفسح اليأس الوجودي كرد فعل على العدمية الطريق لموقف من اللامبالاة، غالبًا ما يرتبط بمناهضة التأسيس. لقد مر أكثر من قرن منذ أن اكتشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة. كما تنبأ، كان تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين منتشرًا، ومضمونها المروع يولد مزاجًا من الكآبة وقدرًا كبيرًا من القلق والغضب والرعب. ومن المثير للاهتمام أن نيتشه نفسه، وهو متشكك جذري منشغل باللغة والمعرفة والحقيقة، توقع العديد من موضوعات ما بعد الحداثة. من المفيد أن نلاحظ، إذن، أنه يعتقد أنه يمكننا - بسعر رهيب - العمل في النهاية من خلال العدمية. إذا نجونا من عملية تدمير جميع تفسيرات العالم، فربما يمكننا حينئذٍ اكتشاف المسار الصحيح للبشرية. لكن كيف نشأت العدمية؟ وماهي مصادرها؟ وهل تمارس تأثيرات سلبية ام إيجابية على الحياة الإنسانية؟ ولماذا ارتبطت بالفلسفة التأسيسية في الحضارة الغربية؟ وهل ظهورها دليل استكمال وانتهاء أم دليل أفول وانحطاط؟ ومن هم أعلامها من الفلاسفة والدباء والفنانين؟ وبأي معنى يجدر بناء فلسفة مضادة للعدمية؟


1.     أصول العدمية

" مع العدمية، لا توجد مناقشة ممكنة؛ لأن العدمي المنطقي يشك في وجود محاوره، وهو غير متأكد تمامًا من وجوده." فيكتور هوجو، البؤساء


تأتي "العدمية" من الكلمة اللاتينية nihil ، أو لا شيء ، والتي تعني عدم وجود أي شيء. يظهر في الفعل "إبادة"، بمعنى عدم تقديم أي شيء، تدمير تمامًا. في أوائل القرن التاسع عشر، استخدم فريدريش جاكوبي الكلمة لوصف سلبًا المثالية المتعالية. إلا أنه لم ينتشر إلا بعد ظهوره في رواية إيفان تورجينيف الآباء والأبناء (1862) حيث استخدم "العدمية" لوصف العلموية الفجة التي تبناها شخصيته بازاروف الذي يدعو إلى عقيدة الإنكار التام. مع حركة ثورية غير محكمة التنظيم (1860-1917) رفضت سلطة الدولة والكنيسة والأسرة. في كتاباته المبكرة، كتب القائد الأناركي ميخائيل باكونين (1814-1876) التماسًا سيئ السمعة لا يزال مرتبطًا بالعدمية: "دعونا نضع ثقتنا في الروح الأبدية التي تدمر وتفنى فقط لأنها المصدر الخلاق الأبدي الذي لا يمكن البحث فيه عن الحياة". - شغف التدمير هو أيضًا شغف إبداعي! " (رد فعل في ألمانيا، 1842). دعت الحركة إلى ترتيب اجتماعي قائم على العقلانية والمادية كمصدر وحيد للمعرفة والحرية الفردية كهدف أعلى. من خلال رفض الجوهر الروحي للإنسان لصالح جوهر مادي فقط، استنكر العدميون الله والسلطة الدينية على أنهما يتناقضان مع الحرية. تدهورت الحركة في نهاية المطاف إلى روح التخريب والدمار والفوضى، وبحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، كان العدمي هو أي شخص مرتبط بجماعات سياسية سرية تدعو إلى الإرهاب والاغتيال. هؤلاء من المشككين. لأنهم أنكروا إمكانية اليقين، يمكن للمشككين أن يشجبوا الحقائق التقليدية باعتبارها آراء غير مبررة. عندما لاحظ ديموسثينيس (حوالي 371-322 قبل الميلاد)، على سبيل المثال، أن "ما أراد أن يؤمن به، هذا ما يؤمن به كل رجل" (أولينثياك)، فإنه يفترض الطبيعة العلائقية للمعرفة. الشكوكية المتطرفة إذن مرتبطة بالعدمية المعرفية التي تنكر إمكانية المعرفة والحقيقة. يتم تحديد هذا الشكل من العدمية حاليًا مع مناهضة التأسيس ما بعد الحداثة. في الواقع، يمكن فهم العدمية بعدة طرق مختلفة. العدمية السياسية، كما لوحظ، مرتبطة بالاعتقاد بأن تدمير كل النظام السياسي والاجتماعي والديني الحالي هو شرط أساسي لأي تحسين في المستقبل. العدمية الأخلاقية أو العدمية الأخلاقية ترفض إمكانية القيم الأخلاقية أو الأخلاقية المطلقة. بدلاً من ذلك، فإن الخير والشر غامضان، والقيم التي تتناول هذا الأمر هي نتاج لا شيء أكثر من الضغوط الاجتماعية والعاطفية. العدمية الوجودية هي الفكرة القائلة بأن الحياة ليس لها معنى أو قيمة جوهرية ، وهي بلا شك المعنى الأكثر استخدامًا وفهمًا للكلمة اليوم. هاجم ماكس شتيرنر (1806-1856) الفلسفة المنهجية، وإنكر للمطلقات، وغالبًا ما وضعه رفضه للمفاهيم المجردة من أي نوع بين أوائل الفلسفيين العدميين. بالنسبة لشتيرنر ، فإن تحقيق الحرية الفردية هو القانون الوحيد. ويجب تدمير الدولة التي تعرض الحرية للخطر بالضرورة. حتى فيما وراء اضطهاد الدولة، توجد القيود التي يفرضها الآخرون لأن وجودهم بحد ذاته يشكل عقبة تهدد الحرية الفردية. وهكذا يجادل شتيرنر في أن الوجود هو "حرب لا نهاية لها من كل واحد ضد الجميع" (الأنا وخاصتها، 1907).


2. فريدريك نيتشه والعدمية

"الرحمة هي الممارسة العملية للعدمية. دعونا نكرر: هذه الغريزة الكئيبة والمعدية تحبط الغرائز التي تهدف إلى الحفاظ على الحياة وتعزيزها: باعتبارها مضاعفًا للبؤس وحارسًا لكل بؤس ، فهي الأداة الرئيسية لتفاقم الانحطاط." فريدريك نيتشه، المسيح المضاد


من بين الفلاسفة، غالبًا ما يرتبط فريدريك نيتشه بالعدمية. شخَّص نيتشه جوهر الأزمة المميتة في عصرنا: لقد وصفها بخصائصها الرئيسية وبطريقة إكلينيكية تقريبًا. لقد درسها على مستويات مختلفة، وأثناء قيامه بذلك، أعلن في كثير من الأحيان بأكبر قدر من الدقة عما كان يظهر فقط في نهاية القرن التاسع عشر. هذا المرض المميت في العصر الحديث، مرضنا، هو العدمية، عهد العبث، لا شيء ("العدم"، كما يخبرنا أصل الكلمة).  ان العدمية أو غياب المعنى ... كما يصبح عندئذٍ بلا هدف وكل المُثل التقليدية تفقد قيمتها. ولكن ما هو جوهر هذا "لا شيء" وما هو منبعه؟ لقد تميزت ظاهرة العدمية بشكل أساسي بموت الله، وهو الحدث الأهم في الآونة الأخيرة. لقد غربت للتو شمس الإيمان المسيحي. الظلام الآن هو الكثير من عالمنا. لقد تركنا الإله الفائق: لقد قتلناه، كما يخبرنا نيتشه أحيانًا. إن موت الإله المسيحي هذا، إذا كان أيضًا، ربما، علامة وإعلان فجر جديد، هو علامة، في عصرنا، بمجيء الإنسان الأخير، اكتمال العدمية. يشير "الانسان الأخير" إلى أكثر الأشياء حقيرًا في هذا العالم: الشخص العاجز عن الخلق والحب، والفرد المستعبد تمامًا، والتمتع "بسعادة" مبرمجة تافهة. هكذا يقفز على سطح الأرض.  بالنسبة لنيتشه، لا يوجد نظام موضوعي أو هيكل في العالم باستثناء ما نعطيه. من خلال اختراق الواجهات الداعمة للقناعات، يكتشف العدمي أن جميع القيم لا أساس لها وأن السبب عاجز. كتب نيتشه: "كل معتقد، كل شيء يعتبر شيئًا صحيحًا"، "خاطئ بالضرورة لأنه ببساطة لا يوجد عالم حقيقي" [ملاحظات من 1883 إلى 1888). بالنسبة له، تتطلب العدمية نبذًا جذريًا لكل القيم والمعاني المفروضة: "العدمية هي. . . ليس فقط الاعتقاد بأن كل شيء يستحق الهلاك؛ ولكن في الواقع يضع المرء كتفه في المحراث؛ واحد يدمر” ("(إرادة الاقتدار). يجادل نيتشه بأن القوة اللاذعة للعدمية مطلقة، وتحت تدقيقها الشديد “القيم العليا تقلل من قيمتها. الهدف مفقود، و "لماذا" لا تجد إجابة "(إرادة الاقتدار). حتما، ستفضح العدمية كل المعتقدات العزيزة والحقائق المقدسة كأعراض لأساطير غربية معيبة. سيكون هذا الانهيار في المعنى والأهمية والهدف القوة الأكثر تدميراً في التاريخ، وسيشكل هجوماً شاملاً على الواقع وليس أقل من أكبر أزمة للبشرية: ما أعنيه هو تاريخ القرنين المقبلين. أصف ما سيأتي، وما لم يعد يمكن أن يأتي بشكل مختلف: ظهور العدمية. . . . لبعض الوقت الآن، كانت ثقافتنا الأوروبية بأكملها تتجه نحو كارثة، مع توتر معذب يتزايد من عقد إلى عقد: بلا كلل، بعنف، متهور، مثل النهر الذي يريد الوصول إلى النهاية. . . . (إرادة الاقتدار). منذ نقد نيتشه المقنع، شغلت موضوعات العدمية - الفشل المعرفي، وتدمير القيمة، وانعدام الهدف الكوني - الفنانين والنقاد الاجتماعيين والفلاسفة. مقتنعًا بأن تحليل نيتشه كان دقيقًا، على سبيل المثال ، درس أوزوالد شبنجلر في كتابه أفول الغرب (1926) عدة ثقافات لتأكيد أن أنماط العدمية كانت بالفعل سمة بارزة لانهيار الحضارات. في كل من الثقافات الفاشلة التي درسها، لاحظ شبنجلر أن التقاليد الدينية والفنية والسياسية التي تعود إلى قرون قد أضعفت وأطيح بها أخيرًا بسبب الأعمال الخبيثة للعديد من المواقف العدمية المتميزة: العدم الفاوست "يحطم المثل العليا". العدمي الأبوليني "يشاهدها تنهار أمام عينيه"؛ والعدمي الهندي "ينسحب من وجودهم إلى نفسه". الانسحاب، على سبيل المثال، غالبًا ما يتم تحديده بنفي الواقع والاستسلام الذي تنادي به الديانات الشرقية، ويرتبط في الغرب بنسخ مختلفة من الأبيقورية والرواقية. خلص شبنجلر في دراسته إلى أن الحضارة الغربية هي بالفعل في مراحل متقدمة من الاضمحلال حيث تعمل الأشكال الثلاثة للعدمية على تقويض السلطة المعرفية والأسس الأنطولوجية. في عام 1927، لاحظ مارتن هيدجر، على سبيل المثال لا الحصر، أن العدمية في أشكال مختلفة وخفية كانت بالفعل "الحالة الطبيعية للإنسان" (مسألة الوجود). كانت تنبؤات الفلاسفة الآخرين حول تأثير العدمية رهيبة. كتب هيلموت ثيليك، في عرض موجز لأعراض العدمية في القرن العشرين، أن "العدمية حرفياً لديها حقيقة واحدة فقط تعلنها، وهي أن العدم يسود في النهاية والعالم بلا معنى" (العدمية: أصلها وطبيعتها، مع إجابة مسيحية، 1969). من منظور العدمي، يمكن للمرء أن يستنتج أن الحياة غير أخلاقية تمامًا، وهو استنتاج، كما يعتقد تيليك، يحفز مثل هذه الفظائع مثل عهد الإرهاب النازي. تم رسم التنبؤات القاتمة لتأثير العدمية أيضًا في كتاب عدمية يوجين روز: أصل ثورة العصر الحديث (1994). إذا أثبتت العدمية أنها منتصرة - وهي في طريقها جيدًا، كما يجادل - فسوف يصبح عالمنا "عالمًا باردًا وغير إنساني" حيث سينتصر "العدم وعدم الاتساق والسخافة".


 3. العدمية الوجودية

"العدمية ليست فقط اليأس والنفي، ولكن قبل كل شيء الرغبة في اليأس والإنكار".

 ألبرت كامي، الانسان المتمرد


تُناقش العدمية غالبًا من منظور الشك الشديد والنسبية، فقد ارتبطت في معظم القرن العشرين بالاعتقاد بأن الحياة لا معنى لها. تبدأ العدمية الوجودية بفكرة أن العالم بلا معنى أو هدف. بالنظر إلى هذا الظرف، فإن الوجود نفسه - كل فعل ومعاناة وشعور - هو في النهاية بلا معنى وفارغ. في الجانب المظلم: أفكار حول عبث الحياة (1994)، يوضح آلان برات أن العدمية الوجودية، بشكل أو بآخر، كانت جزءًا من التقليد الفكري الغربي منذ البداية. إن ملاحظة المتشكك إمبيدوكليس أن "حياة البشر تعني شيئًا إلى حد أن تكون غير حياة فعليًا"، على سبيل المثال، تجسد نفس النوع من التشاؤم الشديد المرتبط بالعدمية الوجودية. في العصور القديمة، قد يكون هذا التشاؤم العميق قد بلغ ذروته مع هجسياس القيرواني. يجادل الفيلسوف بأن السعادة مستحيلة لأن البؤس يفوق عدد الملذات، وبالتالي يدعو إلى الانتحار. بعد قرون خلال عصر النهضة، لخص ويليام شكسبير ببلاغة وجهة نظر العدمي الوجودي عندما جعل ماكبث، في هذا المقطع الشهير قرب نهاية ماكبث، يبدي اشمئزازه من الحياة:


خارج، خارج، شمعة قصيرة!

الحياة سوى ظل يمشي، لاعب فقير

هذا يتبختر ويقلق ساعته على المسرح

وعندها لم يسمع مرة أخرى؛ إنها حكاية

قالها أحمق، مليء بالصوت والغضب، لا يدل على شيء.


في القرن العشرين، كانت الحركة الوجودية الإلحادية، التي انتشرت في فرنسا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، هي المسؤولة عن عملة العدمية الوجودية في الوعي الشعبي. جان بول سارتر (1905-1980) يحدد حرف الجر للحركة، "الوجود يسبق الجوهر" ، يستبعد أي أساس أو أساس لتأسيس الذات الأساسية أو الطبيعة البشرية. عندما نتخلى عن الأوهام، تنكشف الحياة على أنها لا شيء؛ وبالنسبة للوجوديين، فإن العدم ليس مصدر الحرية المطلقة فحسب، بل هو أيضًا مصدر الرعب الوجودي والألم العاطفي. يكشف العدم عن كل فرد على أنه كائن معزول "يُلقى" في عالم غريب وغير مستجيب، ممنوع إلى الأبد من معرفة السبب الذي يتطلبه اختراع المعنى. إنها حالة لا تقل عن كونها سخيفة. كتب ألبير كامو (1913-1960) من المنظور المستنير للعبثية أن محنة سيزيف، المحكوم عليها بالنضال الأبدي غير المجدي، كانت استعارة رائعة للوجود البشري (أسطورة سيزيف، 1942). القاسم المشترك في أدب الوجوديين هو التعامل مع الألم العاطفي الناشئ عن مواجهتنا مع العدم، وقد بذلوا طاقة كبيرة في الرد على السؤال حول ما إذا كان البقاء على قيد الحياة ممكنًا. كانت إجابتهم "نعم" مؤهلة، وتدعو إلى صيغة من الالتزام العاطفي والرواقية الجامدة. عند العودة إلى الماضي، كانت حكاية مليئة باليأس لأنه في عالم عبثي لا توجد أي إرشادات على الإطلاق، وأي مسار عمل يمثل مشكلة. الالتزام العاطفي، سواء كان غزوًا أو خلقًا أو أيًا كان، لا معنى له في حد ذاته. أدخل العدمية. لقد كان كامو، مثله مثل الوجوديين الآخرين ، مقتنعًا بأن العدمية كانت المشكلة الأكثر إزعاجًا في القرن العشرين. على الرغم من أنه يجادل بشغف بأن الأفراد يمكن أن يتحملوا آثاره المدمرة، إلا أن أشهر أعماله تخون الصعوبة غير العادية التي واجهها في بناء قضية مقنعة. في كتابه الغريب (1942)، على سبيل المثال، رفض مورسو الافتراضات الوجودية التي يعتمد عليها غير المبتدئين والضعفاء. قبل لحظات فقط من إعدامه لارتكاب جريمة قتل بدون مبرر، اكتشف أن الحياة وحدها هي سبب كافٍ للعيش، ومع ذلك، فإن ذلك في السياق يبدو مقنعًا بالكاد. في كاليجولا (1944)، يحاول الإمبراطور المجنون الهروب من المأزق الإنساني عن طريق تجريد نفسه من إنسانيته بأعمال عنف لا معنى لها، ويفشل، ويرتب خلسة لاغتياله. يُظهر الطاعون (1947) عدم جدوى القيام بأفضل ما يمكن في عالم سخيف. وفي روايته الأخيرة، القصيرة والساخرة، السقوط (1956)، يفترض كامو أن كل شخص لديه أيادي ملطخة بالدماء لأننا جميعًا مسؤولون عن جعل الحالة المؤسفة أسوأ من خلال أفعالنا الباطلة وتقاعسنا على حد سواء. في هذه الأعمال وغيرها من أعمال الوجوديين، غالبًا ما يترك المرء انطباعًا بأن العيش بأصالة مع عدم معنى الحياة أمر مستحيل. كان كامو مدركًا تمامًا لمخاطر تعريف الوجود بلا معنى، وفي مقالته الفلسفية المتمرد (1951) يواجه مشكلة العدمية وجهاً لوجه. يصف فيه بإسهاب كيف ينتهي الانهيار الميتافيزيقي في كثير بالنفي التام وانتصار العدمية، التي تتميز بالكراهية العميقة والدمار المرضي والعنف والموت الذي لا يحصى.


4. مناهضة التأسيس والعدمية

"أنا أرفض العدمية، لكني أعبر عنها من أجل البدء من جديد." - مانو سولو


بحلول أواخر القرن العشرين، اتخذت "العدمية" طبقتين مختلفتين. في أحد الأشكال، يتم استخدام مصطلح "العدمي" لوصف شخص ما بعد الحداثة، وهو شخص ملتزم غير إنساني، ومبعثر، وغير مبال ، ومربك ، ويوجه الطاقة النفسية إلى النرجسية المتعالية أو إلى مشاعر عميقة تنفجر غالبًا في العنف. هذا المنظور مستمد من تأملات الوجوديين حول العدمية التي جردت من أي توقعات مفعمة بالأمل، ولم يتبق سوى تجربة المرض والانحلال والتفكك. كتب دونالد كروسبي في دراسته عن اللامعنى أن مصدر العدمية الحديثة ينبع بشكل متناقض من الالتزام بالانفتاح الفكري الصادق. "بمجرد أن تبدأ عملية التساؤل، يمكن أن تنتهي فقط إلى نهاية واحدة، تآكل القناعة واليقين والانهيار إلى اليأس" (شبح العبث، 1988). عندما يمتد البحث الصادق إلى المعتقدات الأخلاقية والإجماع الاجتماعي، يمكن أن يكون مميتًا، كما يواصل كروسبي، ويعزز القوى التي تدمر الحضارات في نهاية المطاف. يروي مايكل نوفاك، الذي تمت مراجعته مؤخرًا بعنوان تجربة العدم (1968 ، 1998) قصة مماثلة. كلتا الدراستين هي ردود على النتائج القاتمة للوجوديين من وقت سابق من هذا القرن. وكلاهما يناقش بتفاؤل طرق الخروج من الهاوية من خلال التركيز على الآثار الإيجابية التي يكشف عنها العدم، مثل الحرية والحرية والإمكانيات الإبداعية. نوفاك، على سبيل المثال، يصف كيف كنا نعمل منذ الحرب العالمية الثانية على "الخروج من العدمية" في طريقنا لبناء حضارة جديدة. على النقيض من الجهود المبذولة للتغلب على العدمية المذكورة أعلاه، فإن الاستجابة ما بعد الحداثة الفريدة المرتبطة بمناهضي التأسيس الحاليين. الأزمة الفلسفية والأخلاقية والفكرية للعدمية التي أزعجت الفلاسفة المعاصرين لأكثر من قرن أفسحت المجال للانزعاج المعتدل أو، وهو الأمر الأكثر إثارة للاهتمام، القبول المتفائل لللا معنى. كما يصف الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار ما بعد الحداثة بأنها "شكوك تجاه ما وراء السرد"، تلك الأسس الشاملة التي اعتمدنا عليها لفهم العالم. لقد قوض هذا الشك الشديد التسلسل الهرمي الفكري والأخلاقي وجعل مزاعم "الحقيقة"، متجاوزة أو عابرة للثقافات، إشكالية. المناهضون للقومية ما بعد الحداثة، الراسخون على نحو متناقض في النسبية، يرفضون المعرفة باعتبارها علائقية و "الحقيقة" باعتبارها عابرة، وحقيقية فقط حتى يحل محلها شيء أكثر استساغة (يذكرنا بمفهوم ويليام جيمس عن "القيمة النقدية"). الناقد جاك دريدا، على سبيل المثال، يؤكد أنه لا يمكن للمرء أبدًا التأكد من أن ما يعرفه يتوافق مع ما هو موجود. نظرًا لأن البشر يشاركون فقط في جزء متناهي الصغر من الكل، فإنهم غير قادرين على فهم أي شيء على وجه اليقين، والمطلقات مجرد "أشكال خيالية". يطرح ريتشارد رورتي المناهض للقومية الأمريكية نقطة مماثلة: "لا شيء يؤسس لممارساتنا، ولا شيء يضفي الشرعية عليها، ولا شيء يظهر أنهم على اتصال بالطريقة التي تسير بها الأمور" ("من المنطق إلى اللغة إلى اللعب،" 1986). ويخلص رورتي إلى أن هذا الطريق المسدود المعرفي يؤدي حتما إلى العدمية. "في مواجهة اللاإنساني وغير اللغوي، لم نعد لدينا القدرة على التغلب على الاحتمالات والألم من خلال التخصيص والتحول، ولكن فقط القدرة على التعرف على المصادفة والألم" (الطوارئ، المفارقة، والتضامن، 1989). على النقيض من مخاوف نيتشه وقلق الوجوديين، تصبح العدمية بالنسبة للمعارضين للقومية مجرد جانب آخر من بيئتنا المعاصرة، أفضل ما يمكن تحمله مع الغناء. تناقش كارين كار في كتابها تفاهة العدمية (1992) الاستجابة المناهضة للقومية للعدمية. على الرغم من أنها لا تزال تؤجج النسبية المشلولة وتدمر الأدوات النقدية، فإن "العدمية المبهجة" تحمل اليوم والتي تتميز بقبول سهل لللامعنى. ويخلص كار إلى أن مثل هذا التطور ينذر بالخطر. إذا قبلنا أن جميع وجهات النظر غير ملزمة على قدم المساواة، فإن الغطرسة الفكرية أو الأخلاقية ستحدد المنظور الذي له الأسبقية. والأسوأ من ذلك، أن تبذير العدمية يخلق بيئة يمكن فيها فرض الأفكار بالقوة مع القليل من المقاومة، والقوة الخام وحدها هي التي تحدد التسلسل الهرمي الفكري والأخلاقي. إنها استنتاج يتوافق بشكل جيد مع استنتاج نيتشه، الذي أشار إلى أن جميع تفسيرات العالم هي ببساطة مظاهر إرادة الاقتدار.


خاتمة

" يعلم الجميع أن الحزن يمنح الأسلوب. العدمية أيضًا." بيير موستييرز


تفاؤلنا هو العدمية: إنها تنص على أن هذا العالم لا يساوي شيئًا، لأن أي عالم آخر سيكون أفضل. لا يوجد أي تردد، أي شك محتمل حول معنى القصة: عليك أن تختار التغيير بدافع التحيز، لأنه سيحدث ولأنه يجب أن يحدث. يرفض مثل هذا المنظور اعتبار أن لدينا سلعًا يجب أخذها في الاعتبار عند الاختيار، والتمييز الذي يتعين القيام به؛ لذلك، من المفترض أن نفترض أنه ليس لدينا ما نخسره - وهو الافتراض بأنه ليس لدينا أي شيء على الإطلاق، في الواقع. إنه جعل الوجود كله في العدم، من خلال منح الفضل فقط لما لم يحدث بعد.


يمكن فهم العدمية، المعروفة أيضًا باسم "النسبية"، على أنها ظاهرة خاصة بالعصر الحديث. العدمي هو الذي يعمل على الفصل بين القيم والحقائق، الذي يعلن استحالة تراتبية القيم. انها عقيدة لا يوجد بموجبها أي شيء بالمعنى المطلق؛ إنكار أي حقيقة جوهرية، لأي عقيدة. شاع مصطلح العدمية من قبل الكاتب الروسي إيفان تورجينيف في روايته الآباء والأبناء (1862) ليصف من خلال بطله، بازاروف، آراء المثقفين الراديكاليين الروس. كما يعرّفها تورغينيف ، العدمية تتوافق مع الوضعية الراديكالية. لقد مر أكثر من قرن منذ أن اكتشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة. كما تنبأ، كان تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين منتشرًا، ومضمونها المروع يولد مزاجًا من الكآبة وقدرًا كبيرًا من القلق والغضب والرعب. العدمية هي الاعتراف الواضح بأن الأساس الميتافيزيقي القديم للقيم، عند التماثل مع الله، هو مجرد تخليق حول العدم: "إذا كان فيلسوفًا يمكن أن يكون عدميًا، يستنتج نيتشه، فسيكون كذلك لأنه" لا يجد شيئًا وراء كل المُثل العليا “. ومن المثير للاهتمام أن نيتشه نفسه، وهو متشكك جذري منشغل باللغة والمعرفة والحقيقة، توقع العديد من موضوعات ما بعد الحداثة. من المفيد أن نلاحظ، إذن، أنه يعتقد أنه يمكننا - بسعر رهيب - العمل في النهاية من خلال العدمية. إذا نجونا من عملية تدمير جميع تفسيرات العالم، فربما يمكننا حينئذٍ اكتشاف المسار الصحيح للبشرية: أنا أمدح، ولا ألوم، وصول العدمية. أعتقد أنها واحدة من أكبر الأزمات، لحظة أعمق انعكاس للذات للإنسانية. وسواء كان الإنسان يتعافى منها، سواء كان سيدًا لهذه الأزمة، فهذه مسألة تتعلق بقوته. إنه ممكن. لكن كيف نحارب العدمية؟


إذا كان كل شيء على ما يرام، فلا شيء جيد. هذه العدمية مميتة. من ناحية أخرى، يجب أن نقبل النسبية، التي هي الأفق الفكري الذي لا يمكن التغلب عليه في عصرنا: كل قيمة مرتبطة بمجتمع معين، إلى حضارة معينة. كما تحدد العدمية أصل التكوين المعاصر في القوة المتنامية للفراغ. ونتيجة لذلك، فإن هذا يتفق مع عصرنا الذي، أحيانًا للأسوأ، يكرس انهيار معايير اليقين. لمحاربة العدمية، عليك أن تتبع المسار الذي أوصلك إلى هناك، وعلى هذا النحو، فهو تيار عميق أثر على البشرية منذ عدة قرون؛ سواء أعجبك ذلك أم لا ، فقد ولدت في عالم قام فيه العديد من الفنانين بالإشارة إليه وطُبع خطبهم ... فماهي الفلسفة التي انتصرت على العدمية؟ وأليس الخلق الإبداعي والالتزام العملي بالثورة والتغيير هو التفلسف المضاد للعدمية؟

رسالة إلى رئيس وقادة جهاز المخابرات العامة، "الشاباك"/ جواد بولس

 


قد يبدو غريبًا أن أقوم بنشر هذه الرسالة وبتوجيهها إلى قادة جهاز "الشاباك" الاسرائيلي؛ إذ ليس مرغوبًا ولا مقبولًا أن يخاطب مواطن عربي، مثلي، جهازًا أمنيًا؛ وإن فعل فلا يجوز أن تكون لغته طبيعية ومحترمة، لا سيما في هذه الأوقات التي تشهد فيها مجتمعاتنا العربية، في معظم المدن والقرى، هجمة اعتقالات وملاحقات خطيرة، تنفذها، بأساليب قمعية مرفوضة، عناصر الشرطة بدعم من جهاز المخابرات نفسه، وبالتعاون الكامل معه. 


لست ساذجًا كما قد يتهمني البعض ولا حالِمًا كما سيظن آخرون؛ لكنني سأحاول، من خلال هذه الرسالة، أن أحكّ مرآة النهايات قبل رحلة التفتيش عن بدايات جديدة تتعلق بمضمون سؤالي الواضح والبسيط الذي أوجهه بصيغة الاستنكار ولا أنتظر الاجابة، فهي، على، ما أظن، واضحة كالعتمة:


من برأيكم يشكل الخطر الأكبر على مصير دولتكم اسرائيل، التي تأسس جهازكم، في حينه، من أجل حماية أمنها وتأمين السلامة لمواطنيها، وضمان مستقبلها واستقرارها؟ أهم قادة واعضاء المجموعات اليهودية الدموية التي تطارد العرب في الحارات وفي الشوارع  وتحرّض على قتلهم علنًا من دون رادع ولا ملاحقة؛ وتعلن ، كذلك، عن نيتها بالقضاء على النظام السياسي القائم من أجل اقامة المملكة اليهودية الجديدة؟ أم هم مواطنو الدولة العرب ومن يمثلهم من أعضاء الكنيست وقيادات المجتمعات المدنية المحلية ؟  


وبعد،   


وإن لم يكن هذا هدف رسالتي الأساسي، ولكن كما يُتوقع مني، سأبدأ بالتأكيد على أنّ حملات الترهيب والملاحقات والاعتقالات لهذه الاعداد الكبيرة من الشباب لن تحقق أهدافها المرجوّة، ولن تثبّط من عزائمهم ، بل أنها ستزيد من اصرار  أغلبية المواطنين العرب ومن قناعاتهم بضرورة عدم الخوف ورفض الاستسلام والركوع؛ خاصة بعد اتضاح هويات معظم المجموعات اليهودية اليمينية المتطرفة التي وقفت وراء غزو الأحياء العربية في المدن المختلطة، وبعد انكشاف أهدافها الرامية الى تهجير المواطنين، أو، على الأقل، الى دبّ الذعر في صدورهم  وتدجينهم.


واعلموا، انني لن أتطرق إلى تفاصيل أحداث الشهر الفائت، رغم أهميتها، ولن أراجع تداعياتها ولا ما أفضت اليه من نتائج أولية على جميع الجبهات؛ لكنني سأذكّركم بمن عادوكم وهاجموكم علنًا قبل بضعة أعوام، وبالتحديد بعد الجريمة التي وقعت في القرية الفلسطينية "دوما"; وما كان يقضّ، في ذات الوقت، مضاجع مجتمعاتنا العربية، التي كان أهلها ينامون على أصوات الرصاص ويفيقون كي يحصوا خسائرهم في الأرواح وفي الأموال.


لقد عشنا، قبل اندلاع المواجهات الأخيرة، حالة عبثية من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فقدت في أعقابها  أكثرية المواطنين العرب العاديين الثقة في مؤسسات الدولة، وفي طليعتها جهاز الشرطة الاسرائيلية، التي باتت متهمة بالشراكة مع مفاعيل العنف الناشطة في مواقعنا، أو المتغاضية عنها أو المتواطئة، في بعض المواقع والحالات، مع عصابات الاجرام المنظم، التي أخذ دورها المهيمن يتعاظم باسم الدولة وبالنيابة عنها. كانت مشاعر الذل واليأس مسيطرة، لكنها، أدت، في نفس الوقت، الى زيادة في درجات الغليان الباطني، الذي صار جاهزًا للانفجار في أي لحظة مواتية.


وكانت اللحظة وكان الانفجار .


لم تغب عنكم، في جهاز المخابرات العامة، حقيقة التفاعلات التي كانت جارية داخل المجتمع العربي؛ واعتقد أنكم توصلتم، بحسّ أمني صادق، إلى أنّ الاوضاع الحالية آيلة للانهيار التام، الذي قد يبدأ داخل القرى والمدن العربية، لكنه سيتعداها، حتمًا، ليصل الى جميع أنحاء الدولة.


لقد استفاق عدد كبير من المتخصصين والخبراء في الشؤون الأمنية والناشطين حاليًا في معاهد الدراسات الأمنية الكثيرة في الدولة، واستشعروا فداحة الخطر القائم؛ فكتبوا جهارًا ودعوا ساسة الدولة الى ضرورة تعريف حالة العنف المستشرية داخل المجتمع العربي، على أنها آفة دولة وانها تشكل حالة خطر وجودي على الأمن وعلى سلامة جميع مواطنيها، وليس على العرب فحسب. بينما ذهب بعضهم الى أبعد من ذلك وطالبوا بتغير جذري في السياسات الرسمية وبالتوقف عن تعريف العرب كطوابير خامسة وكأعداء الدولة ومعاملتهم كمواطنين شرعيين ومتساويين.  


لم يقتصر نداء هؤلاء الخبراء على تلك الدعوة الموجهة لصانعي القرار السياسيين، بل سنجد بينهم من دعا جهازكم، جهاز "الشاباك"، الى تولي مهمة محاربة الجريمة المستفحلة داخل المجتمعات العربية، وذلك وفق سياسات ومسارات مهنية محددة المهام والمعالم، ومسقوفة من ناحية زمنية؛ كما فعل، مثلًا ، الدكتور أفنر بارنيع - وهو خبير أمني وأكاديمي كان قد خدم في السابق كمسؤول كبير في جهاز الشاباك - حين كتب مقالًا تحت عنوان: " انها خطوة متطرفة، لكن هكذا تقتلع الجريمة من المجتمع العربي" ، نشره، في موقع واي-نيت، يوم 2021/1/19 ، ودعا فيه جهاز الشاباك الى تولي مهمة محاربة الجريمة في المجتمع العربي، لأن جهاز شرطة اسرائيل، حسب رأيه، قاصر عن اداء هذه المهمة، وغير مهيّأ، في هذه الظروف، من الناحيتين، المهنية والميدانية، لتوفير الحماية الكافية للمواطنين العرب. 


أعرف أن الكثيرين من بين المواطنين العرب واليهود، سيعترضون لأسباب وجيهة على هذا المقترح، وهذا موضوع يستحق المتابعة والنقاش طبعًا في ظروف أخرى؛ ولكن ما همّني في هذا السياق كان، أولًا: حقيقة اعتراف الكثيرين من أصحاب الخبرة الأمنية بان قضية استفحال الجريمة بين المواطنين العرب لم تعد مسألة تخص العرب وحدهم، بل هي قضية أمن الدولة. وثانيًا: اقرار هؤلاء الخبراء بأن جهاز شرطة اسرائيل لم يعد هو الجهة المناسبة القادرة والمؤهلة للقيام  بمهمة محاربة الجريمة وحماية المجتمع.


لم يكن التوصل إلى هاتين النتيجتين اللافتتين، بعد هذه السنوات الطويلة من معاناة المواطنين العرب، مفهومًا بشكل ضمني؛ لكنه قد يكون مؤشرًا، أو هكذا تمنيت، على حدوث بعض المتغيرات في عدد من المفاهيم العنصرية الرسمية المؤسسة، وفي تفكير خبراء الأمن وبين بعض النخب القيادية المؤثرة.   


لقد تدخل جهازكم وقاد في العام 2015 عملية التحقيق مع المشتبهين في تنفيذ عملية "دوما" الارهابية؛ ونجحتم بالكشف عن القتلة المستوطنين المتورطين في جريمة حرق وقتل أفراد عائلة "الدوابشة". ومع نشر نتائج التحقيق انقضت عليكم قوى اليمين المتطرفة ووصفتكم بالارهابيين؛ مما اضطركم، للمرة الاولى على ما أذكر، الى نشر بيان صارم قمتم من خلاله بتفنيد الادعاءات ضدكم، ووصفتم الارهابيين اليهود ومن وراءهم بمجموعات يهودية خطيرة تعمل من أجل تدمير النظام السياسي القائم وبناء مملكة اليهود الجديدة. 


لم يهتم الرأي العام العربي المحلي لتفاصيل تلك المعركة التي دارت رحاها على المكشوف؛ فكتبتُ عن ذلك واعتبرتها جولة حاسمة في حرب تشكيل موازين القوى داخل المؤسسة الاسرائيلية المستمرة حتى أيامنا هذه.


لقد مضت السنون وما زالت المعارك على تلك الجبهة محتدمة، الا ان القوى اليمينية الفاشية والعنصرية المتطرفة أصبحت أقوى وسجلت مزيدًا من النقاط والتقدم في سعيها للإجهاز على جهازكم، بصيغته الحالية القائمة، وبكونه آخر عناصر النظام السياسي الاسرائيلي القديم. 


 قد يكون التذكير ببعض ما  كتبتُ بعد عملية "دوما" الارهابية، مفيدًا في هذه المرحلة الحساسة، فحينها خاطبت أبناء شعبي بعتب، وقلت أن الساحة الاسرائيلية "قد شهدت في الأسابيع الماضية واحدة من أبرز المعارك الشرسة المكشوفة، والتي سيكون لنهايتها، برأيي، تأثير مصيري على وجه نظام الحكم في اسرائيل. فالهجوم السافر والشرس الذي جاهرت به قوى اليمين على جهاز المخابرات الاسرائيلي وانفلات بعض فئات المستعمرين ووصفهم غير المسبوق، للوحدة الخاصة بمتابعة المواطنين اليهود في الشاباك، بأنها وحدة إرهابية، يدلل بشكل لا يقبل التشكيك أو التأويل، أن تلك القوى اليمينية، ماضية في حملاتها للتحكم في أكثر ما يمكن من المواقع واحتلال ما يمكن احتلاله على مستوى السلطات الأربع في الدولة"،  وأضفت: "إنها مرحلة تستوجب منا، نحن العرب، التوقف واعادة النظر حتى في بعض المسلمات؛ فلا يعقل أن تهبّ هذه العواصف والنيران بيننا ولا يلتفت اليها أحد.. " 


ما زالت تلك التساؤلات والأسئلة صحيحة في أيامنا، لا بل قد تكون الحاجة لمواجهتها وللإجابة عليها ملحّة أكثر من أي وقت مضى؛ فنحن ما زلنا بحاجة إلى وجبات من الجرأة والمبادرة أو إلى صحوة، لنقوم، كل من موقعه، بفحص وتقييم ما يجري بيننا وبينهم بشكل مسؤول وواضح، والتحقق فيما اذا ما كان هو ما سيكون، وهل ما زلنا، كمواطنين عرب، هاجس جهاز الشاباك الأول، وعدو الدولة الاخطر والأكيد في نظرهم؟


هكذا كتبت لأبناء شعبي قبل ستة أعوام؛ وحتى لو كنا مقتنعين بأن الجواب على ذلك هو بنعم، لا يعقل أن نستمر بطيّ نهاراتنا بالتمنّي، وبتوسّد ذراعات الهمّ في الأماسي.


أمّا اليوم، ماذا عساني أن أقول وعن أي حلم سأتحدث، وقد قرأنا عن شراكة جهازكم في عمليات جهاز الشرطة وبتنفيذ سياساتها ، علمًا بانكم  وصفتموها ، قبل رمشة، بالقاصرة وغير المؤهلة ؟ أو ليست هي الشرطة ذاتها التي ستذود عناصرها عن مملكة اسرائيل القادمة، وستدوس، بضراوة وبعدائية سافرة، على شبابنا في جميع القرى والمدن، وعلى كل من سيعترض طريقها ؟  


حتى المواجهة القادمة، باحترام، جواد بولس.

سبعة نصوص جديدة/ بن يونس ماجن

     


  

 زوبعة لربيع آخر

1

ما دام هناك فوضى عارمة

فمن الصعب ترويض

المواسم القاحلة

في دنيا تمشي بالمقلوب

2

ماذا يفيد

ترميم كسور

جناحي الفراشة؟

وقد أكلت العنكبوت

أطرافها

3

في حبسه الانفرادي

ثمة شاعر 

لا يجيد ملامحه

سوى في مرآت مشروخة

4

بانتشاء

صفق الباب وراءه

وخرج ليبحث عن وطنه السليب

في جيبه شمعة محتضرة وزيتونة مقتلعة

وخريطة مبتورة الجوانب

5

تحت ابط الحطاب

اغصان يابسة

لاشعال موقد الصيف

على ضوء قنديل الكاز

6

بمجدافين وحفنة من الرمل

يطارد زورقه التائه

على صفحة الماء

7

الطحلب اليتيم

ينام في حضن 

شقوق الصخور

ولا يبالي بحيتان المحيطات

8

يعبر زقاقا موحلا

يضع الزهور على القبور

ويتعوذ بطلاسم سودوية

9

هل سمعتم عن قرارجامعة الدول العربية

الذي أوصى بتحرير

جميع الاوطان العربية

بطائرة ورقية واحدة

وبلا طيار

10

 الاجدر ان نضع

الاسرائيلي الجبان الحقير

في قاعة الشهرة

يا له من اسطورة خالدة

11

الذاكرة المعلقة 

على مسمار صديء

هل ترنحت

بعد ان فقدت قدرتها

على النسيان

12

قال من يأتيني 

برأس الافعى السوداء

المدعوة "اسرائيل"

قال مقاوم فلسطيني

أنا اتيك بكامل جثتها

13

ماذا قالت صواريخ المقاومة

للقبة الورقية

 ان لفلسطين ايضا

حق الدفاع عن نفسها

وحياة الفاسطينيين مهمة جدا


فانتازية عنترية

1

كفى من العنتريات الزائفة

وطبول الحرب المثقوبة

حتى حمامة السلام

اعياها الانتظار

فطارت الى فوهة البركان

فافرخت رصاصة ملطخة بالدم

2

ليذهب الحكام العرب الى الحرب

ولو مرة في العمر

لارجاع البيت الذي طرد منه أهله

3

ايها الاغبياء

لفلسطين ايضا حق

الدفاع عن نفسها

4

لن تتحرر فلسطين

بالادعية الدينية والبكاء على المنابر الخشبية

والاناشيد الحماسية

بل بالكفاح المسلح وحمل البندقية

5

الخنازير المخصية

تفر مذعورة أمام  الثور الفلسطيني الهائج

ما أعذب صافرات الانذار

6

ايها المطبع الحقير

غط الطرف عما يجري

فانت مجرد عبد مكبل

في زريبة الصهاينة

7

من تحت الانقاض

رضيع

وشيخ

ووردة 

وابتسامة

ودمعة

8

الدفاع عن النفس

ماركة اسرائيلية مسجلة

في مكب النفايات للامم المتحدة

ولا يحق لاحد 

استعمال تلك الكلمة العجيبة

الا باذن مرخص 

من امريكا واذنابها

9

خرافة الافران "الهيتليرية"

التي دوخت العالم الغبي

ومعادة السامية

مصطلحان ارهابيان

لتبرير تصرفات 

"اسرائيل" الوحشية


 تحت أي سقف سينامون


عندما يجلس الليل القرفصاء

ترى الخفافيش المطرودة

تحمل الفئران من رقابها باسنانها

كانها خرق بالية


ينامون على الرصيف

يتوسدون بندقية عتيقة وغصن زيتون

وقبل ان يغيب الشهود

يقرعون الاجراس

لا غريب بينهم سوى المطبع الخائن


شمسهم مائلة

وأرضهم مثقلة

من كثرة الثروات المسلوبة

ويصرخون في وجه الغاصب

كفانا جوعا وتشردا

 الا ترون ان جثثنا صارت تجرها الكلاب المسعورة


مساماتهم تنبت كالفطر

كأنها آثار مناجل على راحتهم

يضعون أحلامهم في الاقفاص

على هيئة أعشاش فارغة

وينتظرون تفقيس البيض

وتكديس كتاكيت موشومة


ضفافهم لا تعبأ بالوحل الجارف

ولا بهدير الامواج الغاضبة

يضعون رهن اشارتهم اطواق النجاة

ويضطجعون على موجة مالحة 

لبحر رحلت سفنه مبكرا


اكواخ الصفيح

في العراء القاتل اشلاء وشظايا  تتطاير 

تحت أي سقف سينامون     

في يوم قائظ

العرق والزحام 

يتعفن بملح الاجساد


     فردة مبتورة وكعبان 

1

ما أثقل أزرار المعاطف العسكرية

في الاستعراضات الهيسترية

وما أثقل أقراط الماس في أذني السيدة الاولى

2

القائد الجنرال المحدودب

يتكأ على عكازين

ويتقن دوره بامتياز

ما الجديد في هذا الامر؟

3

شعب غير مرغوب فيه

مربوط الى وتد

في سراديب الاهمال

لقد آن الاوان

ليتخلى الذئب عن رعاية الغنم

4

أعمق من حقل نوار الشمس

في خلوة رومانسية

 تتناسل ازهار النرجس

5

مستلقيا على ظهره

السمك يقاوم سباتا عميقا

ما أصعب الانتظار

6

أعقاب السجائر 

التي يطفئها الجلاد في مقلتي الطفل

ترفض الاشتعال

فيتعفن قلبه الغليظ في فوهة البركان

وينزف رمادا مسموما 

7

خرزة نعل لحفاة

فردة مبتورة وكعبان

 ثمة راحلون وقادمون ومغادرون

 اما العابرون في مستنقعات الالغام

فيتثاءبون كتمساح ضاحك

8

كرسي على باب الدكان

شيخ هرم 

يطيل النظر في النساء البدينات

ويتفحص المؤخرات

سبحة من تسعة وتسعين بالتمام والكمال

9

من تحت المقصلة

الحلاج في نوبة صوفية

لحظة عاصفة تلتهب بداخله 

بمنظاره المقرب يلمح الموت والرحيل

10

كل شيء هين للفزاعة

رغم انف الطيور

تلتقط ما تبقى من حصاد فائض

11

لم يبق لي من العمر ما يكفي

شاهدة قبر 

عليها حجاب يقي العين

كتب على عجالة

12

بعضهم يتحايل على الشيخوخة

بالتثاؤب المزمن

ومراوغة الايام الفالتة

عبر نظارة معلقة حول عنقه

يكاد ان يقع في

واد غير دائم الجريان


الضوء والعتمة

1

منذ ان بدأت الارض 

دورتها الاولى

والشمس والقمر

في عراك دائم

مع الضوء والعتمة

2

يركب اسطوانة

على الغرامفون

يسمع الى سمفونية

العهود الغابرة

ويدخل في هيستيريا

كأن فيه مس من الجنون

3

في مفترق الطرق

جميع جهات الارض

تؤدي الى حرس الحدود

حيرة مهاجر تائه

4

الساحر الذي فشل

في اخراج الارانب 

من قبعته

غرق في غيبوبة سوداء

على صهوة جواد جامح

5

جائحة كورونا

الملغومة بفيروز فتاك

تمتلك اسلحة دمار شامل

اخذت جرعة  من ذاك اللقاح

فخرجت من اتون الجمر

ودخلت مع قطيع تائه في صقيع سبيريا

6

في كرنفال 

شعراء القصائد المحبطة

لا أرى منهم

الا رذاذا موسميا

ومخالب قط عجوز

يتحاشى كوابيس الفئران

7

فنار معلق

بسقف سفينة

مشحونة باجساد 

وجثث الملاحين

وطحالب وأسماك نتنة

8

في طي الكتاب

الذي لم تكتمل صفحاته

يقرأ عن الحروب المدبرة

وعن الاعوام المثقلة

بالحصار والرصاص الطائش

9

البائرة

التي تركض وراء

سراب الظهيرة

وتملأ كأسها

من ندى الحظ  المهدور

ثم تساوم في مهرها

10

وقفت نخلة يتيمة

بين "العرجات و "الكركرات"

تندب حظها البائس

عبثا تحاول فك لغز

عن تماطل الجنرالات


شجرة وظل


شجرة وظل يتعانقان

حتى لا تخدش ارجوحة الطفل

ظل الشجرة

تتوقف اشعة الشمس 

عن الدوران


القمر يتماوج

في حزمة ضوء حزين

على شجرة اليوكالبتوس الوارفة

وبريقه النازف

يتمرغ على صفحة الماء


تفاحة منتحرة

افلتت من يدي نيوتن

حين كان يقيس المسافة

بين ظل وجذر شجرة


المصابيح اليدوية

ترتعش على شرفة الشمس

وتلتهب بانعكاساتها البنفسجية


الظل الناعس

يمتد على اريكة

منتشيا برائحة البساتين


شجرة في غابة

تحتضن طائرا مذعورا

يرفض التغريد

من وراء السياج


في زحمة الموانىء المرتكبة

يتوارى البحر

خلف زبد الموج المنتشي

ويتشبث كغريق بغصن شجرة


ثمة شجرة باسقة

تتحدى الخريف والفؤوس والرياح

وتتعاطف مع الظل


وشم في المنفى

1

كعصفور معزول في جزيرة نائية

اخرج من عشى

في ليلة ممطرة

انشر ريشى على قوس قزح مبتل

انهكني الطيران

في سماء مبلدة

اتسابق مع سحابة حزينة

2

سحبت عضويتي

من نادي المستضعفين

ودخلت بحر التائهين

مستلقيا على مجدافين

صارت الغربة صديقة التسكع

حين توغلت في سراديب الغرباء

3

عملت اجيرا بسيطا

في اراضي الآخرين

وفي معامل ومصانع الآخرين

وفي مطاعم وفنادق الآخرين

وفي مراحيض وحمامات الآخرين

وحفرت قبور الأحياء والأموات الآخرين

4

حتى ياتي دوري في قطف ندف الثلج

انفض يدي من عطر زهرة الصبار

يحط السراب  على حافة النرجسة

يود لمس الندى كي يحلق فوق الغيوم

رأيت الصقيع  العالق في غرغرة نافورة

يمتطي فقاعات الصابون

ويذوب كاحلامي الهشة

5

وشم في المنفى

كنت اسرق المحارات في منامي

ثمة اشرعة ولدت من رحم الزوارق

لا أشتهي تراتيل الغروب

6

ثم اجدني اعبر ظلا  شديد الحر 

تعكسه انكسارات مرآة متشظية

وحيدا على الضفة الاخرى

أبحث عن منفى تحت شجرة سرمدية

7

هذا المنفى الذي يعرفني من سنين طويلة

غير آبه بالارصاد الجوية

فالسحاب يتكاثر حول رأسي

انا لم اعد احتمل نحيب الاشجار

كعصفور مصاب بالزهايمر

نسي على أية شجرة بنى عشه