انا...التروبادور ... همس سيميولوجي إلى ... قصيدة الزجال المغربي محمد عزيز بنسعد من خلال ديوانه الأخير .. التروبادور([1]) / محمد مهيم محمد

 


في  ظل الانفتاح اللغوي على أدبيات الإنتاج الحديثة ، أصبحت الكتابة الإبداعية ، إضافة إلى الحس الجمالي ، تعبيرا بالعلاقات ، لا بكلمات أو الأشياء ، فتعمل على أنتاج قوانين خطابها الخاص التي تتحكم فيه شروط إنتاجها الجمالي ، انطلاقا ، طبعا ، من نسيج البنية الفنية التي ساهم المبدع في إنتاجها ، ثم لإن القصد الشعري ، متأثرا بزخم التجربة ، يُعد ، سيميوزيسا ([2])، سيرورة في التعبير عن علاقة خاصة بين اللغة ومحافلها ، ثم بينها وبين العالم / الحياة  التي تعد مصدرا يمتح  منها كل مبدع رؤاه المجسدة لفكره ووجدانه ، وهو يحيا تجربته ذاتيا أو موضوعيا أو هما معا ، متوسلا في ذلك أحد الأشكال التعبيرية . ومن ذلك أبعاد اللغة وصورها وإيقاعاتها ، في تلاحم ، طبعا ، مع الحساسية الشعرية...وهذا ما لامست آثاره في هذه القصيدة الزجلية ، لأحد نجوم الزجل المغربي محمد عزيز بنسعد... التي مهرها عنوانا :  " التروبادور" وجعله علامة دالة  على تجارب ديوانه الأخير ...

لكن كيف تم امتصاص أبعاد هذه الشخصية ، سواء على مستوى التجربة الصغرى / القصيدة  ، أو على مستوى التجربة الكبرى /الديوان ؟؟ بل كيف جسدت هذه القصيدة ، في بنيتها التركيبية والدلالية والإيقاعية والتصويرية ، مسارات الرؤية الزجلية كما عاشتها ذات الحالة ، وهي تحيا مخاض  الولادة  الزجلية ذاتيا وإنسانيا  ؟؟؟...

فالتروبادور ، بوصفه وسما للديوان و للقصيدة التي سأركز عليها ــ وقد تتاح لي فرصة التهامس مع الديوان ـــ يعد المحرك الأساس ، لنمو الدلالة بحكم هوية " أناه " الخطابية التي خولته الانفلات من قبضة الزمن الكرونولوجي ، وانسلاخه عن صورته الثقافية ، مانحة إياه الانفتاح على زمن الإبداع ... زمن التجربة الذاتية، حين راق لذات الحالة / الزجال " لمزاج " مصدر التداعي الوجداني والمعرفي .... ونشوء البواعث الذاتية والموضوعية ، لولوج عالم الإبداع ،... حيث سيتحرر وعي الذات من إكراهات الفضاء الواقعي([3]) ... للسياحة والتجوال في فضاءات الزمن الشعري / الفجر/الظهر/ العصر/المغرب ....  ولا أقول هنا ، الزمن الزجلي لأن الإحساس الجمالي واحد وإن اختلفت وسيلة التعبير أو التركيب التي يتم ، من خلالها ، تسريب الأبعاد الرؤياوية  ...

ففي هذه التجربة الزجلية التي ، " تقوم على الفرادة الذاتية التي تتيح للشاعر أن يقول أريد أن أبدع شيئا لم يبدعه غيري " ([4]) تشكلت الأنا ، بوصفها علامة دالة على هوية التروبادور ، لحمة النمو الدلالي ٍ، على المستوى المقطعي للقصيدة ، ثم خلقت انسجاما على مستوى الرؤية ، و بناء الصورة الكلية  للتجربة ، التي يمكن تأؤيلها مقطعيا كما يلي :

المقطع الأول : من " باش نقطع ( أنايا) ..... إلى : شاهد قبر ....

المقطع الثاني : من منين نجيب ( أنا ).... إلى : آخر التجربة .

ونلاحظ بأن الصورة السيميائية ([5]) ، لهذه ( الأنا ) قد تشكلت حسب تحولات الأبعاد الرؤيوية من مقطع لآخر ، لأن هويتها تنمو ، وتتشكل عبر مسار سياقها التداولي الداخلي للتجربة ، لا سياقها اللغوي الخارجي ، الذي قد تتلبس فيه هويةَ أية ذات تتلفظها...ففي المقطع الأول ، كما سنرى ، مثلت أنا العبور  ، من فضاء " الإكراهات "إلى فضاء وزمن الإبداع .. ، أما في المقطع الثاني ، فقد استحالت أنا سائحة في عوالم هذه التجربة ...

المقطع الأول :

ــ انفتاح الذات على أناها :...

فمنذ الاستهلال ، ستعمل ذات الحالة متوسلة "الأنا " التروبادورية ٍ، على تسريب مؤولات الإدراك والوعي لديها التي ستدشن بها طقوس ترحالها في المكان  :

 .... أمواج لبحر/ بنيت قصيدة  ..

ثم في الزمان :

ــ زمن الحاضر( نقطع )..فيه ستتوجه الذات إلى متلق مفترض .

ــ ثم الزمن الماضي .( يامس ).... زمن التجربة بامتياز ، عبره سيتجلى لنا إدراك  الذات الواعي لهويتها من جهة ٍ، ولهوية مسارات التجربة من جهة ثانية ..ومن ثمة ستتوزع المشهد عناصر توصيفية ، لبنيتي المكان والزمان ، ولأليات اشتغال العلامات التالية : البحر ...الكلام ....المداد الحر ...قصيدة ... حصيدة .. التي ستؤثث فضاءاتِه الدلالية  عبر الترابط العلائقي ، تارة من خلال بنية التجاور المكاني والزماني ، لتتخلق أبعادا تصويرية ... لا كينونة ولا رابط لها خارج سياق الرؤية الكلية أو المقطعية . فذات الحالة ، إذن تحاول الانفلات من واقع يهيمن عليه الاضطراب والقلق وتنوع الإكراهات ، نحو الاحتماء بمزاجها  الإبداعى في عالم السكينة / بنيت قصيدة / عالمها الجديد الذي سيتشكل من العناصر التالية : الكلام / المداد الحر تقول :

صام لكلام وبمداد الحر تسحر

حيث سينمو التعبير في فضاء نقي  ، عبر طقوس وشعائر النقاء والصفاء ، من خلال التشاكل الدلالي ([6]) للعلامات / صام / تسحر / فطر ، ليمتد زمن التجربة ، بين الماضي والحاضر ، عبر نسيج الذاكرة  . فالذات تحيا حالة استرجاع  للعبور ،  ( باش نقطع ) نحو عالم التخييل ، لتتخلص من قبضة الحاضر المشوش ، نحو حضن الماضي الهادئ { يامس كان } ... ولتتحرك الحواس وباوادر التأمل الهادئ ، لاستكشاف مسارات الرؤى الشعرية.. في إصرار من الذات على استكمال التجربة الشعرية ، حتى تنعم بوضوح رؤاها .... فالإمساك يعد لحظة للتأمل .. توقيفا للتواصل الخارجي . ، وهو شرط اجتيازها إلى فضاء التجرية الإبداعية . مؤول ذلك قول الزجال :

ما فطر حتى سلمت لينا لحصيدة

 شهدت  بلسان الحق الله أكبر

وإذا كان الكلام  (Parole  ) عرضا بوصفه تنويعا في التعبير أو هو أداة للتوصيف فإن اللسان (La langue) يعد جوهره ٍ،  بوصفه بنية مجردة... يتلاءم وفضاء التجربة اللازمني  .. ، ليؤشر على الرؤية الداخلية اليقينية لذات الحالة لأنها لم تقل " شهدت بالكلام الحق" ...لكنها حين ستلجأ إلى الكلام أداة ً للتعبير في المقطع الثاني ‘ كما سنرى ، ستجد نفسها عاجزة عن ذلك ... ومؤول هذا المسار الدلالي هو التركيبة الديناميكية :  / الله أكبر .. بوصفها ، علامة اندهاش وذهول من تأثر الأنا بكنه الحقيقة الإبداعية التي عبر عنها لسان الحق( اللسان كلغة للحالِ) ، وذلك حين أحست الذات آثارها ....

تلك كانت بعض مؤشرات الصدق الفني في تأويل طقوس العبور إلى فضاء التجربة الزجلية خلافا لما نلمسه لدى الكثيرين ممن يدعون انتماءهم إلى حضرة الزجل ...فلكي تلج هذا الفضاء عليك  أن تكون تروبادورا ... طائرا حرا ..بوصفه ، أيقونة الحرية والتحرر ... رمز القيم النبيلة سواء على مستوى الانتشار القيمي للقضايا الإنسانية لأن " الشعر لا يمكن أن يكون عظيما إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم " ([7]) أو على مستوى الإنتاج الجمالي لقيم الإبداع... شرط ألا يفسح المجال لكل من هب ودب ويتم إقصاء حركات التروبادور الحر منها.. إنها مؤشرات تمييز هوية ، الانتماء الحق لحضرة الزجل  عن هوبة الانتماء لباطل لها .. تقول ذات الحالة :

وكون ما قناو للطير الحر مصيدة

كان ما يكون الشاهد فينا شاهد قبر

وهكذا ينتهي المقطع الأول ، ببوح الذات بآثار العبور إلى حضيرة الرؤية الشعرية ، وانعكاس ذلك على أفقها الوجداني والمعرفي .. ، مما جعل المقطع يتسم بإيقاع هادئ ، من خلال التصادي الموسيقي البطئ ، بين التشكيل العلاماتي انسجاما مع الرؤية المتأملة لواقع الحياة ، ولعملية بناء القصيدة ، التي بدورها تعتمد على الحس " المعقلن " ــ البحر / تسحر / قصيد / حصيدة ....غير أنها ستعيش محنة عجزها عن إيجاد أبعاد تصويرية تتوسط عالم التجربة وعالم التلقي ، فسيتغير نمط الإيقاع تبعا لتحولات الرؤية الشعرية ، كما سنرى ، في المقطع الثاني ....

المقطع الثاني :

اتحاد الذات بأناها "

" إن الشاعر ، في لحظات إبداعه،  يكون في حال تشبه حال الفناء عند الصوفي ، إذ هو في حال انسحاب عن عالمه إلى عالم آخر ، يكاد لا يحس فيه ، إلا ذاته عبر اتحاده بها " ([8]) (أنايا / أنا )  ذلك ما جسدته حال الزجال حين استذاقت فضاء التجربة الطاهر.... لكنها ستواجه ، بعد ذلك ، إكراهات التعبير عنها والنقل الأمين لما حدث  ، حتى يستطيع كل متلق مشاركتها تلك المتعة الجمالية للتجربة ... فأي وسيلة تعبير ، إذن ، تستطيع التكفل بذلك ؟ وأي صورة أو إيقاع أو تركيب بمقدوره محاكاة هذا العالم ؟ فهل تنقل التجربة أو آثارها فقط ؟ إنها الخيانة اللغوية التي ستجعل ذات الجربة عاجزة على تصوير طقوس هذا الفضاء الطاهر وإيجاد معادل موضوعي لما عاشته وجدانيا ومعرفيا ...وهذا الاحتيار والقلق الذي انتاب الزجال يؤشر وعيه برسالة الشعر والحر وبصدق التجربة التي تحتاج إلى الأمانة التعبيرية .... وهذا ما لانجده لدى الكثيرين من شهداء القبور ، ممن يكتفون بالسطحية والتصنع في التعامل مع عالم الزجل ... فالإبداع ضرب من الإحساس ونمط من التشكيل والتصوير الجمالي الخالص.... تقول ذات الحالة متأثرة بلحظات الرؤية الشعرية :

منين نجيب أنا لفجر

تشامير على كد النور..؟

منين نجيب للظهر

فرجية باش يخرج يدور ..؟

...)

 

إنها مؤشرات تنبئ عن افتتان الزجال ، بهذه اللحظات الإبداعية ، في حضرة  جمالية الزمن الشعري ، صورة لمن أحس فعلا ، وتذوق لذة الاستمتاع بهذا الفضاء .. فقلق الإبداع يعد إبداعا ، بوصفه قلقا وجوديا خلاقا ومنتجا على مستوى الرؤية والثقافة ...ولأن الثقافة الزجلية والرؤية الشعرية تعتبر مصدر تموين للخطاب الزجلي بالمقومات الفنية والمعرفية والحضارية ...

إنها حالة الإبداع التي تنتاب الزجال حين يشتد عليه وطء الرؤيا ، وضغط الواقع ، وفيض اللاوعي حيث يتحول الزجل موضوع قيمة..يكشف عن معاناته مع الإبداع التي لا تقل عن معاناته مع القضايا الإنسانية عامة .... فالذات ، هما ، تحيا زمن الوعي الزجلي زمن الاندهاش والذهول الذي جعل الذات تعجز عن توصيف ما تحسه أو تتأمله فكل لحظة من لحظات التجربة لها طقوسها التعبيرية الخاصة ، بل كل قصيدة تفرض على الزجال نسيج ثوبها / تشامير/ فرجية / جبدور ... ، وأزمنة منتوعة للسياحة التربادورية ، تنطلق من نور الفجر... نور انبثاق التجربة الشعرية ، الذي يمتد عبر زماني الظهر والعصر بوصفها مؤولات ديناميكية لمسارات التجارب الإبداعية ...حيث تتنوع الموقف ، وتفتح آفاق الرؤى ، وتتعدد مسارب التخييل ... إنها زمن السياحة الروحية وانبعاث للدلالة الإشراقية ... تلك التي تمحو  ظلمة " المغرب " ، بوصفه هذه الأخيرة مؤولا نهائي لزمن التجربة ، ومؤشرا على العودة المحتومة للذات إلى زمن الإكراهات ..فحين تترك الذات /الأنا التروبادورية هذا الفضاء النوراني فما السبيل إلى استرجاعه  سوى إيجاد تعابير نورانية تتلون بالمداد الحر .. لتُبقيَ على امتداد التجربة الإبداعية ، ومن ثمة ، تؤجل عودة الذات إلى واقع المحن عالم الأموج المتلاطمة ... تقول ...:

منين نجيب للعصر

جبدور على كد السطور

يشرب من مدادو ويعصر

في فم المغرب الديجور

ونلاحظ ، بأنه ، كما أطرت تيمة الحق مقابل الباطل ، مسارَ العبور في المقطع الأول ، فإن تيمة النور مقابل الظلام ، قد نسجت مسارات السيميوزيس في هذا المقطع الثاني ومن ثمة تكون الرؤية الكلية للقصيدة قد نمت بين هذا التعالق العلاماتي المنتمي لفضاءين متناقضين..:

الحق...................... الباطل

النور.......................الظلمة

وكذلك ، خلافا للمقطع الأول فإن تسريع الإيقاع ، قد كثف من دلالة التوتر والانفعال الذي أحسته الذات وهي تحاول تصوير فضائي النور والظلمة عبر توالي الاستفهام مع حالة العجز التعبيري التي ألمت بها .. " منين نجيب ...."

تلكم بعض مؤشرات  رؤية الأنا التروبادورية لطبيعة الإنتماء الحق إلى فضاء الزجل الملتزم بالدفاع عن القضايا الإنسانية  لكن دون إسفاف في التعبير أو تصنع في  دقة التصوير للرؤى الإبداعية ...لأن التجربة الشعرية الصادقة هي " التي فيها يرجع الشاعر إلى اقتناع ذاتي ــ بمواقفه في الحياة ــ وإخلاص فني لا إلى مجرد مهارته في صياغة القول ــ الكلام ــ للعبث بالحقائق أو يجاري شعور الآخرين لينال رضاهم " ([9]).....

. الدرالبيضاء / المغرب .



[1]( د .عبد الواحد لؤلؤة : دور العرب في تطور الشعر الأوروبي . الناشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر   2013 . ص : 209 وما بعدها .....

[2] )  Eliseo Veron : La sémiosis et son monde[article] Langages, 14ᵉ année, n°58, 1980. P : 71

[3] )Magdalena,Nowotna :Lafigure semiotiquedel’etrangre … https://ler.letras.up.pt/uploads/ficheiros/14483.pdf

غنيم هلال : النقد الأدبي الحديث ، بيروت ، دار العودة ، 1987 ، ص : 363 .  محمد([4]

[6] ــA .J.Greimas,J.courtes : semiotique ,dictionnaire raisonné de la théorie du langage.p ,197 .

 [7]) أدونيس : زمن الشعر . الطبعة الخامسة . بيروت . دار الفكر , 1986 . ص : 11

[8] ) عبد الرحمان محمد العقود  افبهام في شعر الحداثة \ز عالم المعفة , المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب , الكويت , 2002, ص : 38 .

[9] ) عبد المجيد زراقط : الحداثة في النفد الأدبي المعاصر . بيروت , دار الحرف العربي . 1999 . ص : 152 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق