يبدو أن خطط الحكومة العسكرية في تايلاند لإستعادة زخم الحياة الطبيعية في البلاد والمتعطلة بسبب جائحة كورونا ستواجهها الكثير من العراقل في الأشهر القادمة. فمن بعد أن كان مقررا العودة إلى إستقبال السياح الملقحين من مختلف دول العالم مع فتح كافة الأنشطة التجارية والسياحية بحلول أكتوبر المقبل، من أجل تنشيط القطاع السياحي الذي يعتمد عليه إقتصاد البلاد بنسبة 25 بالمائة، تفاجأ السكان في الأسبوع الأول من يوليو الجاري بقرار من حكومة رئيس الوزراء الجنرال "برايوت تشان أوتشا" يقضي بفرض حظر التجوال في بانكوك والعديد من المقاطعات من التاسعة مساء إلى الرابعة صباحا، وذلك كإجراء يستهدف التصدي للموجة الثالثة من الفيروس الصيني القاتل والتي رفعت معدل الإصابات اليومية إلى تسعة آلاف إصابة مع معدل وفيات تجاوز الثمانين وفاة. والحقيقة أن تايلاند تواجه وتقاوم منذ أكثر من عام أسوأ كارثة يحل بإقتصادها منذ الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997، مستخدمة إجراءات احترازية متنوعة لم تحقق حتى الآن نجاحات حاسمة.
وإذا ما أردنا تناول قصة هذه البلاد مع الجائحة نجد أنها وصلت إلى تايلاند لأول مرة في 13 يناير 2020 عبر مسافرة قادم من ووهان الصينية، وكانت تلك الحالة هي الحالة المؤكدة الأولى خارج الصين. وخلال ما تبقى من شهر يناير سـُجلت إصابات قليلة كان معظمها لزائرين أو مقيمين عائدين من الصين. وفي شهر فبراير ظلت حالات الإصابة والعدوى منخفضة مع إكتشاف حالة إصابة محلية يتيمة، وهو ما جعل الحكومة تتعامل مع القضية بخفة. وهكذا لم تتحرك الحكومة بجدية إلا في شهر مارس 2020 حينما حدثت زيادة حادة في عدد الإصابات، أرجع معظمها إلى تجمعات حدثت في ملعب لومبيني للملاكمة. ولهذا صدرت أوامر بإغلاق الأماكن العامة والمؤسسات التجارية في العاصمة وغيرها، وتمّّ إعلان حالة الطواريء الذي أعقبه فرض حظر التجول في إبريل 2020. كما قامت الحكومة وقتذاك باتخاذ إجراءات احترازية كالحجر الصحي للقادمين من الخارج من جنسيات معينة، وفحص درجات الحرارة عشوائيا، وإلزام السكان بإرتداء الكمامات والتباعد الإجتماعي وقواعد النظافة، ووضع ضوابط لأسعار الأقنعة خوفا من تكديسها والتلاعب في بيعها. غير أن كل هذه الإجراءات لم تنجح في كبح جماع الوباء لأسباب كثيرة مثل الفساد واختلاس الإمدادات الطبية وتضارب أوامر الفرق الطبية والتردد والتباطيء في العمل وضعف التواصل. وفي محاولة من الحكومة لتفادي الإنتقادات التي وجهت إليها لتعاملها المتخبط مع الجائحة وعدم توفيرها للقاحات بصورة كافية أصدرت قرارا متأخرا بحظر استقبال جميع الأجانب القادمين إلى البلاد، كما قامت بالقبض على بعض معارضيها ممن كانوا يروجون لمعلومات زائفة حول انتشار الجائحة.
ومع انتشار الوباء وتعطل الأعمال واختناق الإقتصاد، اضطرت مؤسسات كثيرة إلى خفض رواتب كوادرها، وتمّ خفض عدد الرحلات الجوية وإلغاء بعض وجهاتها الداخلية والخارجية، وتعليق الفصول الدراسية بجامعات "شولالونغكورن" و"ماهيدول" و"كاسيتسارت" في بانكوك مع اعتماد أسلول الدراسة عن بعد في أعقاب تأكيد حالات إصابة بالوباء بين هيئات التدريس وجموع الطلاب. إلى ذلك تقرر إلغاء الكثير من الفعاليات المقررة مثل معرض تايلاند الوطني الثامن والثلاثين للكتاب ومعرض بانكوك الدولي الثامن عشر للكتاب في إمباكت، وتأجيل فعاليات أخرى إلى أجل غير مسمى شاملة بطولة الملاكمة في "شيانغ راي"، وجميع مباريات دوري كرة القدم، وسباق الجائزة الكبرى التايلاندي للدراجات النارية لعام 2020، ومعرض بانكوك الدولي الحادي والأربعين للسيارات، ومهرجانات "سونغكران" السنوية الجاذبة للسياح في مقاطعة خون كاين ومنتجع باتايا وشاطيء بانغ ساين وباتونغ.
والحقيقة ان مثل هذه القرارات والإجراءات التايلاندية طبقتها دول كثيرة أخرى من تلك التي أبتليت بالجائحة، لكن وقعها في تايلاند كان أكثر وضوحا وتداعياتها على السكان كانت أكثر إيلاما لأسباب كثيرة خاصة بهذه البلاد ومنها اعتماد الدخل القومي ومعيشة نسبة معتبرة من سكان المدن والمنتجعات على السياحة وما يرتبط بها من قطاعات مثل الفندقة والضيافة والترفيه والمواصلات والطعام والتسوق، ناهيك عن أن أحد عوامل جذب السياح هو الفعاليات السنوية التي تم إلغاؤها أو تأجيلها على نحو ما ذكرنا. ولعل ما زاد الوضع سوءا أن الصين منشأ الوباء تمثل أكبر مصدر للسياح الوافدين إلى تايلاند، حيث انخفضت أعدادهم بنسبة 60 بالمائة، علما بأن عدد السياح الأجانب بصفة عامة شهد في مطلع العام الماضي انخفاضا بنسبة 40 بالمائة، قبل أن ينخفض إلى الصفر، مع اغلاق الحدود وإلغاء الرحلات الجوية، متسببا في خسارة إيرادات بمليارات الدولارات. ويكفي لمعرفة ما أصاب تايلاند ان ننظر إلى الإحصائيات الرسمية التي أفادت أن عدد السياح الأجانب انخفض من 40 مليون في عام 2019 إلى 6.7 مليون في عام 2020.
ومما يجدر بنا ذكره في سياق الحديث عن انخفاض أعداد السياح الصينيين القادمين إلى تايلاند قبل قرارات الإغلاق ووقف الرحلات الجوية هو أن نسبة معتبرة من التايلانديين تجنبت التعامل معهم خوفا من انتقال الوباء إليهم، بل شهدت بعض المرافق السياحية في بانكوك و شيانغ ماي وبوكيت حالات تنمر وعنصرية ضدهم مثل رفع لافتات على واجهات المطاعم تقول "نعتذر، لا نستقبل زبائن من الصين". أما أولئك الذين خافوا من المساءلة فقد تحايلوا بوضع ملصقات بالصينية تقول "نعتذر، لقد نفذت جميع الوجبات". ومما لاشك فيه ان هذه الأخبار انتشرت وعبرت الحدود ليتردد سواح كثر من الصين ومن غيرها في القدوم إلى تايلاند.
د.عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يوليو 2021م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق