في كتاب "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)"* لماهر الشريف بحث مفصل في عشرة فصول حول القضايا التي شغلت المثقف الفلسطيني في الفترة التي حددها الباحث، وما يؤخذ على الكتاب ومنهجيته الاستقصائية أنه تجاهل تماما ذكر الشيخ تقي الدين النبهاني، وقد عاش وتعلّم وعلّم وصار قاضيا في الفترة المشمولة بالبحث، على الرغم من أهمية الكتاب ومباحثه وإحاطته بجوانب شتى من المسألة الثقافية السياسية، ناهلا من مراجع ومصادر متعددة.
إن ما يثير الاستغراب في كتاب ماهر الشريف هذا أن تقي الدين النبهاني لم يكن مجرّد معلم أو قاضٍ بعد ذلك، فهو من بيت علم وأدب، وجدّه من جهة أمه يوسف النبهاني شاعر وصوفي معروف في وقته، وأبوه مدّرس، وأمه لم تكن أميّة، بل كانت ذات مستوى متقدم من العلم والمعرفة الشرعية، أضف إلى كل ذلك أن تقي الدين النبهاني- رحمه الله- كان يحمل "الشهادة العالمية" في الشريعة من الأزهر الشريف عام 1932، وهي أعلى شهادة تمنحها جامعة الأزهر لطلابها في ذلك الوقت.
إضافة إلى هذا وذاك، لم يكن تقي الدين موظفاً، صامتاً، أو مثقفاً مدجنا سلطوياً، تابعاً لسلطة الانتداب البريطاني، بل كان مؤلفاً وكاتباً، ومشاركاً في النقاش المحتدم التي تعرض له بالتفصيل ماهر الشريف عند كثيرين من أبناء جيل النبهاني المولود في قرية إجزم قضاء حيفا عام 1914، وهذا الاشتغال بالثقافة ومسألة فلسطين عبّر عنهما النبهاني بكتابين لهما المسحة القومية (العربية) قبل أن يهاجم القومية، والوطنية على أسس فكرية دينية وفلسفية منطقية وعقدية على جانب كبير من الصحة. وهذان الكتابان هما: "إنقاذ فلسطين" و"رسالة العرب". وكما هو واضح من العنوانين فهما يتصلان جدا بموضوع كتاب ماهر الشريف، إلا أنه لم يلتف إليه ألبتة، وكأن النبهاني ما مرّ في هذه البلاد، ولم يشارك أبناء جيله الحديث والنقاش والرؤى في هذه الموضوعات والقضايا. والجدير بالذكر أيضا أن خلفاء النبهاني ومريديه وأتباعه؛ أبناء حزب التحرير، لا يذكرون له هذين الكتابين إلا على الهامش، وسريعاً في معرض الحديث عن سيرة الشيخ قبل تأسيسه حزب التحرير، ولم يُحفل بهما من غير الحزب أيضاً، ولم تُعَد طباعتهما، وضاعا في خضم إقصاء كل إرث الرجل المختلف فيه والمتفق معه عليه.
صحيح أن النبهاني كفر بالقومية كفرا مطلقاً، وأدى به إلى أن طور فكرته بعد ذلك وأعرب عنها في تأسيسه حزب التحرير، بوصفه حزبا سياسيا إسلامياً، لا كنهوتيا ولا تعبدياً، وإنما كان يؤمن أن المسألة الفلسطينية والقضية الفلسطينية لا يمكن حلها بالطرح الوطني القاصر، ولا بالطرح القومي العقيم، لأنه كان يرى- كما قال في كتبه الحزبية بعد ذلك- أن الأنظمة العربية القائمة في العالم الإسلامي لها يد في ضياع فلسطين، وسكتت عن الحركة الصهيونية وأفعالها، ويحمّلها المسؤولية كاملة وخاصة جيوش الإنقاذ التي سلمت فلسطين للعصابات الصهيونية ولم تنقذها في الحقيقة. ويتشارك في هذه الفكرة- إن جزئيا أو كليا- مع بعض المثقفين الذي أورد الشريف آراءهم في كتابه. وإنما كان يرى النبهاني أن فلسطين قضية إسلامية ولم تضع إلا بعد هدم الخلافة الإسلامية، لذلك فإن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم- كما يرى النبهاني- إلا عن طريق وحدة الأمة الإسلامية تحت ظل خليفة واحد في دولة إسلامية واحدة تجمع المسلمين معا عربا وأعاجم على غير الأسس القومية والوطنية التي يصف الدعوة إليهما أو كليهما بأنها دعوة "مُنْتِنَة".
ينبغي الإشارة أيضا إلى نقطة مهمة جدا أن من يقرأ كتب تقي الدين النبهاني الأولى التي ألفها لتكون أدبيات لحزب التحرير وهي: نظام الإسلام، والتكتل الحزبي، والتفكير، والشخصية الإسلامية وخاصة الجزء الأول، وسرعة البديهة، وغيرها، يدرك تماما أنه كان مشغولا بالناحية التثقيفية للجماهير، وكان معنيا بإحداث ما يطلق عليه في كتبه "الوعي العام" بمقابل "الوعي التفصيلي" المطلوب من المفكرين والمثقفين والسياسيين وأعضاء الحزب، وأنشأ في الحزب جهازا معروفا لدى الحزب بأنه "جهاز التثقيف" الذي يقوم بتثقيف أتباعه ودارسيه في حلقات مركزة، تلك الأفكار التي كان يبغي من ورائها تغيير بنية المجتمع سياسيا وفكريا عبر تثقيف المجتمع من خلال الدروس والندوات والاتصال بالناس ومناقشتهم، فكان النبهاني يؤسس في كتبه تلك صورة للمثقف العضوي والمشتبك على قاعدة إسلامية عقدية، ناهيك عن اطلاعه على آراء الفلاسفة في عصره وما راج من أفكارهم وقتها، وكان يرد عليها ردا فكريا، وليس ردا شرعياً.
لقد بدت أفكار النبهاني في كتبه الفكرية رجع واضح الصوت والصدى لتلك الأفكار التي شغلت المثقف الفلسطيني في فترة ما قبل النكبة، وهي الفترة التي تتبع مثقفيها وآراءهم ماهر الشريف، بل إن النبهاني يستخدمها في كتبه، فيتبنى بعضها ولا يرى غضاضة فيها، وينقض بعضها الآخر، بل ويعاديها ويسفهها إلى أقصى ما يستطيع.
يبدو لي أن التجاوز عن هذا المثقف والمفكر العظيم، تقي الدين النبهاني، في كتاب ماهر الشريف "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة" لهو مثلبة كبيرة، قادحة في نزاهة مؤلفه كباحث يستقصي كل الأراء ويحاورها، مهما اختلف أو اتفق مع أفكاره. فالباحث يجب أن يكون موضوعيا، وألا يكون انتقائيا في الدرس والبحث والتحليل حتى وإن كان يساريّ الفكر قوميّ التوجّه، ربما يصحّ أن نقول: لكل جواد كبوة، أو لعل له عذراً ونحن نلومُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق