تمرّس البروفسور فيليب سالم في حياته بتجربتين هما إبداع العقل وإشراقة القلب، العقل يبدع بالمعرفة والمثابرة والابتكار، والقلب يشرق بالمحبة والرحمة والتفهم، ومزج الاثنين معاً يولّد طاقة ايجابية تجعل قدرة سالم معطاءة ومحققة. بالقلب المحب يفتت صلب المعاناة وبالعقل يسبر أغوار المعرفة والابتكار.
توّج سالم العلم بالانسانية فكان حكيماً - كما نسمي الطبيب في لبنان – وأضفى المحبة والرحمة على المعاناة فكان رسولاً، وبذلك نجح حيث أخفق آخرون. لايطبّب سالم، بل "يحكّم"، لأنه يبني مهنته على فلسفة حياتية، وهو متخصص في الفلسفة الى جانب الطب، فيضع العظائم فتتضع ويرفع البسيط فيرتفع، بناء على قاعدة في معتقدات الشعوب القديمة أنّ "كل شيء باطل تحت الشمس "، وهي توصلت الى هذه القاعدة بحكمتها، فالسلطة والمال والجاه والجمال، ما هي إلا قشور زائلة، " ولايبقى إلا وجه ربك"، كما تكمل مقولتها، ونحن نقول: وليس للانسان بقاء على الأرض إلا بالصحة والعافية، ولا يبقى من ذكراه إلا الانجازات المحققة والسمعة العطرة الطيبة. التاريخ لا يذكر إلا من كتب على صفحته بماء الذهب أو ماء النار.
" المرأة التي ركضت ضد الموت "،هو كتاب جديد لكوليت صليبا ( 288 صفحة، دار مكتبة التراث الأدبي ) قصة من قصص نجاحات سالم الكثيرة ترويها الكاتبة بتفاصيلها عن امرأة ايطالية هي غابرييلا بانتوني من باليرمو (عاصمة صقلية- ايطاليا)، وفدت الى مركز سان لوك الطبي في هيوستن حيث لسالم كرسي للأبحاث السرطانية، ودخلته في الخامس من شباط عام 2014 " كمحاولة منها للتعلق بقشة أخيرة للنجاة قبل الاستسلام النهائي"، بعدما نفض الأطباء في ايطاليا يدهم منها، وأبلغوا اليها نفاد فرصها في النجاة بعدما تفشى مرض السرطان في جسمها، بدءاً بثديها، حتى صارت مقعدة، وهي صبية في الثانية والثلاثين من عمرها، تمارس رياضة الركض الى درجة الاحتراف.
إذاً هي قصة إمرأة عانت الألم واليأس واستشعرت الموت قبل أن تأتي الى هيوستن، وخلال ستة أشهر من العلاج تقاذفتها أمواج القلق والخوف واعتصرتها الآلام والأوجاع واثبطت عزيمتها مرات ومرات، وتأرجحت بين الأمل مراهنة على الحياة وبين اليأس في أنها قابي قوس من الموت أو أدنى، وهي تستشعر قلق الطبيب وإن كان يطمئنها بأن العلاج تحت السيطرة وأنه يحسب خطواته جيداً وأنها ستتحسن تدريجاً. مع تقدم العلاج والدفع المستمر من الطاقم الطبي بمجمله لرفع معنويات المريضة، أخذت غابرييلا تشعر بالتحسن، وهي على اعتقادها أنّ سالم لن يألو جهداً لتحقيق كلامه الذي قاله حين التقاها أول مرة في ايطاليا " أشعر أنك زرعت في داخلي رغبة عارمة في التمكن من شفائك"، وأضاف" ساعديني لأساعدك فبمفردي لن أتمكن من ذلك". منذ قوله هذا يحدوها الأمل والتصميم على اختزان القوة والمثابرة كي تلاقي الطبيب في منتصف الطريق الى الانتصار.
يعتقد سالم، وهذا ما يمارسه أنّ مرضى السرطان لا يشفون إلا بتضافر قوتي الطبيب والمريض معاً، الطبيب بعلمه وخبرته والمريض برغبته وصبره، وإذ يتساعدان معاً يستحيل المستحيل ممكناً، وليس في قاموس سالم مكان للمستحيل إنما للأقدار.
تقص الكاتبة انفعالات المريضة وعلاقتها بالمكان، المستشفى حيث تعالج، وبالزمن البطيء الذي يتكّ على ساعة الفحوص وصور الأشعة والعلاج الكيميائي وما الى ذلك، فتعكس صورق واقعية مفصّلة عما يعانيه مريض السرطان جسدياً، وما يشعر به من وحدة وخوف وقلق وما ينتابه من هواجس واضطرابات وكوابيس. في هذه الحالة يضفي سالم من روحية فلسفته وشخصيته على مريضته التي تحتاج الى العاطفة فوق العلاج، ويقول إنّ للمريض دوراً في شفاء نفسه، لا يقل أهمية عن دور الطبيب أو عن العلاج.
قصة واقعية تدخلك عالم الصراع بين الحياة والموت بإحدى صوره البشعة التي "خربش" عليها الألم والعذاب ببراثنهما.وليس عبثاً أن يردد سالم على مسمع مرضاه أنّ شجاعتهم ذات الدور الأول والأهم في شفائهم، فيضع نفسه وعلمه خلف مرضاه، فكأنه يقول لهم أنتم تواجهون المرض وأنا أمدكم بالمدد، فقوتكم هي التي تنتصر، فيما يرى مرضاه أنّ الانتصار يتحقق بكفاءته العلمية وتجربته العلاجية وحسه الانساني، والنتيجة هي ثمرة التعاون وتبادل القوة والمثابرة والصبر بين الطرفين.
لم يبخل سالم على مريضته بأن يطلعها على تقنية العلاج التي يعتمدها لشفاء مرضاه، وهي منهم، قال إنّ التقنية تستهدف بروتيناً معيناً موجوداً في الغلاف الخارجي للخلية السرطانية يدعى ( HER-2) بغية عزله ثم تطلق أجسام مضادة تحاصر الخلايا المصابة وحدها وتقضي عليها دون أن تمس بغيرها من الخلايا السليمة.
يعرف سالم أنّ قدراته محدودة، ككل البشر وككل شيء في هذه الحياة،فهو وإن قدّم وعوداً بنجاح علاجه يبقى قلقاً ومتوجساً، فالاجسام تستجيب للعلاج بطرق يختلف بعضها عن بعض في القبول أو الرفض، فضلاً عن القدرات النفسية والاحتمالية، وهو يعوّل عليها كثيراً. لذلك يشدّدعلى أنه باحث وطبيب، وليس خالقاً، وهو يستعمل ما أوصله اليه عقله من قدرات بغية الانتصار على المحن. ويقول: " اؤمن بالمعرفة، ولم أرى مريضاً واحداً شفي خارج الوسائل العلمية، لكنني أشعر بقلق شديد ازاء افتقار بعض العاملين في مجال الطب الى العاطفة الصادقة والدفء الانساني. إنّ المعرفة التقنية وحدها لا تكفي، فالمريض يحتاج الى محبة الطبيب وحنانه بقدر حاجته الى كفاءته ومهاراته ".
" الله هو الشافي "، بهذه الروحية يعالج سالم مرضاه، لايعني ذلك اتكالية، إنما استناداً الى القاعدة " إعقل وتوكل"، فالعلاج يعطى بكل الجوارح الاخلاقية وبالخبرة والعلم والمثابرة، لكن كل ذلك يترصده القدر. فالطبيب يفعل ما عليه حتى النزع الأخير، لكن الكلمة الفصل تبقى للأقدار. وتبقى الحقائق أبلغ تعبيراً عن الوقائع، ومن ذلك أنّ غابرييلا انتوني عاشت وغابرييلا ألفو ماتت. إنها لعبة القدر، وهل للحظ، كما نسميه، دور؟ فضلاً عن قدرة المرء على الاستجابة الشخصية.
لعبة الأقدار لا تنتقص من علم سالم ومهاراته وقدراته، ولا تبخسه حقه في رفع مستوى معالجة السرطان الى درجات عالية من العلم والتقنية، وما زال يسعى الى الأفضل وينقذ حياة المرضى، بدليل عشرات الصور المعلقة على جدران المستشفى في هيوستن لناجين من كل الجنسيات وا؟لأعراق والاتنيات، استناداً الى قاعدته " في الطب ليس عليك أن تعطي معرفتك فقط، بل أن تعطي نفسك أيضاً".
يحق لسالم أن يفرح إذ انتصرت مريضته على الموت، كما فرحت أختا لعازر بإقامته من الموت. الفوز بحد ذاته مدعاة للفخر فكيف بالانتصار النهائي، وعلى الموت الذي لم يقهره إلا المسيح. لا يشككن أحد بكلامي أو يذهب في التشبيه الى اللامتناهي، فالكلام ضمن نصابه، يدّه الايمان بأنّ لا معجزات إلا بمشيئة الله، وهذا إيمان سالم.
المعجزات لا تصدّق حتى في زمن المسيح، كانوا يرون ويكذّبون اعينهم " طوبى للذين آمنوا ولم يروا "،(الانجيل) نحن اناس أقمنا على الشك منذ ابتلتنا الخطيئة الأصلية، وصار الشك هو اليقين باسم العقل والمنطق، وصار اليقين متأرجحاً بين المعرفة والمعجزة.
في 5 تموز بعد ستة أشهر أعلن سالم انتصاره على السرطان وأعلم غابرييلا بالأمر، فاستحقا معاً الانتصار، ولاحقاً في باليرمو قال" لا أصدق ما أراه"، وهو صنع يديه وبمشيئة الله، حين رأها " تقود دراجتها بأقصى سرعة ممكنة بحثاً عن موطىء ملائم لطموحها اللامحدود وأحلامهاالتي لا تنفد ".
ابتهاج سالم انعكاس لفرح غابرييلا بانتصارها، لأنه في قرارة نفسه يؤمن بالقيامة ايمانه بالموت، وهو حق، لكن من حقّ الانسان أن يصارعه ويغالبه، فالصراع بين الحياة والموت من عمر البشرية وحتى نهايتها، فالمسيح صارع الموت الذي غلبه، لكنه عاد فقهرهبالقيامة وبالايمان، في اليوم الثالث. وأدونيس الذي من بلاد سالم قتله الخنزير البري، لكنه انبعث حياً بقوة المعتقد الاسطوري، ونجاة غابرييلا من الموت وعودة الحياة اليها حدثت في السياق ذاته، ولكن تحت عنوان آخر هو قوة العلم ومعجزته الجديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق