لنزار قباني دَينٌ على مدينتي طرابلس الفيحاء، التي تتربَّع على الساحل الشرقي للمتوسِّط، فقد ارتقى بها إلى عليّين ، إذْ رأى أن حدودَها مصنوعةٌ من رائحة الجنة. فلعلّني، بهذه المداخلة المتواضعة، أوفّيه بعضًا من ذلك الدين المستحقّ!
ففي خمسينيات القرن الماضي، كان الشاعر نزار قبّاني، بعد صدور ديوانه السادس “حبيبتي”، مدعوًّا إلى إلقاءِ بعض قصائده في طرابلس(لبنان)، فقدّم لأمسيتِهِ بهذه الكلمة/ التحية، التي تشي بأن نزارًا شاعرٌ إذا نَثَرَ وناثرًا إذا أشعر! : ” حين سُئِلتُ أن أُعطيَ أمسيةَ شعريةً في مدينتكم الحلوة، لم أستطِعْ أن أقاومَ الدعوة المغرية. فطرابلس ، في هذه الأيام الربيعية، هي قارورة طيب. ومن ذا الذي يرفض السكنى في قارورة طيب؟ عند مشارفِ مدينتكم استقبلتني رائحة زاهرات النارنج والليمون، ملأت صدري وملأت ثيابي، حتى خُيِّل إليَّ أنّ حدودَ مدينتكم مصنوعةٌ من رائحة الجنة! هل تريدون لمدينتكم حدودًا أحلى من هذه الحدود، التي لا تُرى ولا تُلمس؟(…) ماذا تستطيعُ قصائدي أن تفعل بمدينةٍ، تتسّلقُ القصائدُ أشجارَها ونوافذَها وسقوفَ منازلها؟ أنا حزينٌ لأنني لا أستطيعُ أن أُضيفَ فِلذة جمالٍ واحدةً على هذا المرفأ، الذي يغزلُ الجمالَ، كما تغزِلُ العيونُ الإسبانيةُ اللؤلؤَ الأسود. حَسْبُ قصائدي إذًا أن تكونَ نغمةً صغيرةً مُتواضعةً في سمفونية النارنج والليمون، التي تعزفها كلُّ شجرةٍ في مدينتكم الحلوة!”.
عَبْرَ تمثُّلي بهذا النص الرائع أصيبُ عُصفورين بحجرٍ واحدٍ- إذا جاز القول- أولُّ العصفورين هذه الآيةُ الرائعة الباقيةُ على الزمن، التي كرَّم بها نزارٌ مدينتي، وثاني العصفورين ما بلغ شاعرُنا من شأوٍ بعيدٍ، في فن الكتابة الإبداعية، فإذا بجدَلِ الشعر/ النثر يبلغُ لديه ذروةَ إشتغاله، وإذا به ذلك الأديبُ المجدِّدُ المتمرِّدُ، وبما يأخذنا بعامةٍ إلى خطاب الكتابة لديه، وفحواهُ أن الكتابة عمليةٌ انقلابيةٌ، بكل ما يختزنُ الإنقلابُ من محمولات التغيير ومن مضامين، تخرجُ على المألوف والمتداول والمكرور، وتُضادُ المنمّط والمتحجِّر!
هكذا، كان لشاعرنا في أحد حواراته الصحفية، أن يذهبَ إلى القول:” كانت لغة الشعر مُتعاليةً، مُتعجرفةً، بيروقراطيةً، بروتوكولية، لا تُصافحُ الناسَ إلاّ بالقفازات البيضاء. ثم رفعتُ الكلفة بيني وبين لغة (لسان العرب) و(محيط المحيط). إنها لغةُ لا تخجلُ من أن تُفسِح في المجال لكلِّ الجزئيات والتفاصيل وأدوات العيش، كالمنفضة والموكيت والجورب والكافيار والدانتيل والتفتا وغير ذلك”.
عَبْرَ هذا الجنوح إلى الإنقلاب على لغة الفصاحة المُتقنة المتأنِّقة، والمصالحة مع لغة المشافهة اليومية الجارية، استطاع نزار قبّاني أن يترجَّحَ بين النيوكلاسيكية وبين تيار الحداثة العربية الثانية. علمًا أن الحداثة الأولى انطلقت مع الأديب اللبناني والعالمي الخالد جبران خليل جبران.
في هذا المجال، إن لمن الظلم بل من الجهل والحماقةِ نفي الحداثة عن نزار قبّاني ومحاولة طردهِ من جنّتها المزعومة.
ولا شك أن الحداثة التي نظَّرَ لها قباني، هي الحداثةُ ذات السِمةِ الإنقلابية، وليست الثورة الساحقة الماحقة، التي ترسّمتها غالبيةُ روّاد الحداثةِ، بدءًا من سبعينيات القرن الماضي، وحاولت ، وفْقَ شاعرنا، الإجهاز على التراث العربي، غثِّه وسمينِهِ، وعلى طريقةِ “أنا أعمى ما بشوف، أنا ضرّابْ السيوف!”.
هذه المسألة، إذْ تحتاجُ إلى نقاشٍ أكثرَ عُمقًا وتعمُّقًا، فقد كان لا بدَّ أن نستدعي نزارًا كي يُدليَ برؤيتِهِ حول أُطروحةِ الحداثة. فمن مقالٍ له، في مؤلَّفِهِ “الكتابةُ عملٌ إنقلابي”، عنوانه “الهيبيون يكتبون شعرًا”، يُحذِّر شاعرُنا من أن الهيبيين- ويعني بهم شعراء الحداثة- ” وصلوا شواطئ الشعر العربي (..) ومثلما حدث هناك- أي في أوروبا- يحدث اليوم هنا، ويبتلينا الله ويبتلي الأدب العربي بطُغمة من الشعراء الهيبيين، أطلقوا على أنفسهم (شعراء السبعينيات) ، يحملون سندويشاتِ شعرهم المقدَّد،ويُلقونَ الموز تحت أرجُلِ القراء!”.
وإذْ يتساءلُ عن أصولهم وخلفياتهم، بمختلف تشعباتها، يرى ” أن هؤلاء جاءوا من العدم، العدم الثقافي، والعدم الجمالي،والعدمِ القومي والعدمِ التاريخي”، وليُضيف “أن اللغة العربية تُضايقهم لأنهم لا يستطيعون قراءتها، والعبارة العربية تُزعجهم، لأنهم لا يستطيعون تركيبَها”.
وعن جهلهم العميم بالتراث العربي، فإنك إذْ تسأل أحدَهم عن المتنبي، “ينظرُ إليكَ باشمئزازٍ، كأنك تحدِّثُهُ عن الزائدة الدودية. وحين تسأله عن (الأغاني) و(العقد الفريد) و(البيان والتبيين) و( نهج البلاغة) و(طوق الحمامة) يردُّ عليك بأنه لا يشتري اسطواناتٍ عربية، ولا يحضر أفلامًا عربية!”.
وفي معاداتِهم للتراث العربي وأعلامه، وتبعيّتهم العمياء للغرب، فإنهم إذا سارتْ مظاهرة في بكين ضد كونفوشيوس، فلا بدّ من تنظيم مظاهرةٍ عربية ضد النابغة الذبياني أو الشريف الرضي، ولا بدّ من إعادة محاكمتهما باسم الحداثةِ وباسم الحرية!”.
وفي توصيف لهؤلاء الحداثيين، يجنح قبّاني إلى بعضٍ من مبالغةٍ، بل تجنٍّ، إذْ يقول:” إنه لمن المفارقات العجيبةِ أن تكون كل الثورات الثقافية في العالم، قد قامت على أكتافِ المثقفين والجامعيين، باستثناء الثورةِ الثقافية العربية، التي يُرادُ لها أن تقومَ على أكتافِ الفوضويين والمشاغبين وأنصافِ الأميين”.
وإذْ ينعتُ ما يأتي به الحداثيون- أوهيبيو الشعر بحسب توصيفه- بالهذيان، فلأنهم يأخذون القارئ إلى “عتمةِ الدهاليز والسراديب”. وإذا سُئلوا:”متى تبدأ القصيدة؟” يجيبونك باحتقار، إن القصيدة بدأت وانتهت. وإذا كنتَ لم تفهمها فلأنك مُتخلِّفٌ عقليًا، ولأن مستواك الثقافي لا يسمح لك بدخولِ عالَم القصيدة الجوّاني”.
ويُنهي نزارٌ مطالعتَهُ، بإزاء شعر الحداثة، مُعْرِبًا عن عدمِ خوفِهِ ” على الكلام العربي من هجمتهم، فللشعر العربي عمقٌ حضاريٌ، يمتد على مدى ألفي سنة”. وإذا كان له أن يخاف، حسبما يقول، ” فعلى نظافةِ شوارع بغداد، ودمشق، والقاهرة، وبيروت”، مما يدعوه إلى مناشدة بلديات هذه العواصم الجميلة كي تكافحهم بخراطيم المياه، كما فعلت بلدية روما مع الهيبيين الذين حوّلوا نافورة (الفونتانا دي تريفي) إلى حمّام عمومي، يغتسلون بمياههِ ، ويغسلون ثيابهم!
إذا كان لنزار قباني أسبابُهُ في رذْلِ الحداثيين، شعراءَ ونقّادًا، فإن لرواد الحداثةِ، ومن باب الإنصاف، وجهةَ نظرهم التي تكتسب الكثير من المشروعية والصُدقية. ويكفينا، تمثيلاً لا حصرًا، ما نُشر على صفحات “مجلة شعر” ليوسف الخال، من مُبدع الشعر، لكوكبةٍ من الشعراء المجدِّدين، من ذوي الثقافة العالية، الذين تركوا بصماتٍ لا تُمحى في مسار الشعر العربي الحديث، وفي مقدمة هؤلاء: يوسف الخال، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وسواهم. ناهيك عن أدونيس، أحد عمالقة الشعر الحداثي، الذي لم يقطع صِلته مع التراث العربي الطاعن في الزمن!
وفي هذا المجال أيضًا، لا يمكن أن نضربَ صفحًا عمن أعْلُوا من شأن الحداثة الثانية، ورفعوا لواءها، وفي عِدادهم بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وآخرون.
وإذْ “نُفوكسُ” أكثر على الحداثةِ النزارية، أو الحداثة كما يفهمها شاعرنا، فهي حداثةٌ انقلابيةٌ لا ثوريةٌ، فالإنقلاب أقرب ما يكون إلى الإصلاح من داخل، في حين أن الثورة هي عمليةُ تغييرٍ جذري، تنسفُ ما هو قائمٌ من الجذور، وغالبًا ما تحملُ في طياتها الكثير من عوامل الفوضى، بداعي الحرية المفرطة، ويدخل على خطها انتهازيون ومخرّبون، يعيثون في رحابها فسادًا، ولتأتي النتائج بعكس ما ابتغى صانعوها ومحرّكوها وقادتُها.
هذا ما شابَ ثورةَ الحداثة لدينا، إذْ انخرط فيها جَهَلةٌ، وتسلَّلَ إلى الصفوف أمّيون ومتشاعرون ومتثاقفون، بتنا اليوم نرى بين ظهرانينا عددًا كبيرًا من أخلافهم،وفّرت لهم وسائل التواصل الاجتماعي منصّاتٍ، تعجُّ بما هبَّ ودبّ من معتدين على كار الشعر،وهاتِ على رُخصٍ وتفاهاتٍ، تحت يافطة الشعر الحر أو قصيدة النثر!
لقد كان الأجدى بشاعرنا أن يتعمَّق مسألة الحداثة، ويكون أكثر إنصافًا، فيدخلَ من البابِ الذي يُفضي إلى روّادها الأُصلاء، وقد أشرنا إلى بعضهم آنفًا، الذين شكّلوا إضافة نوعية متميّزة في مسار الشعر العربي الحديث.
***
(*) مداخلة د. مصطفى الحلوة في مهرجان الشعر الإبداعي الأول حول الشاعر نزار قباني
مارلبورن (أستراليا) 27 و28 و29 آب 2021
بتنظيم من قناة الفجر الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق