لا أدري لماذا تصرّ دولتنا على وضع العراقيل أمام انتخاب المغترب؟ وآخرها التسجيل للانتخاب في الخارج. هل يتسجَّل المقيم ليحق له الانتخاب؟ والجواب طبعاً لا. إذن لماذا الكيل بمكيالين؟ واحد للمقيم وآخر للمغترب. المغترب، في هذا الحق، كالمقيم. اذا كان يحمل بطاقة هوية صالحة أو جواز سفر صالح فلماذا عليه أن يعلن، قبل أشهر عن نيته بالاقتراع؟ ان في هذا التدبير الكثير من الصعوبات التي تُرمى في وجه المغترب وتدفع بكثيرين منهم الى العزوف عن العملية بكاملها. وربما هنا بيت القصيد، بالاذن من الشاعر والاعلامي زاهي وهبه. بعض هذه الصعوبات تتلخص كالتالي:
أولاً: مبدأ الكيل بمكيالين. ولا أعرف ان كان الأمر دستورياً؟ ناخب لا يُطلب منه شيء مسبقاً، وآخر يُطلب منه قبل أشهر كثيرة، أن يُعلن عن رغبته في ممارسة حقٍ من حقوقه الديموقراطية.
ثانياً: إعادة التسجيل: الذين تسجلوا لانتخابات 2018 عليهم أن يتسجلوا مجدداً، ثمَّ يعيدوا الكرّة في كل عملية انتخابية لاحقة. فلماذا لاتحتفظ الوزارتين المعنيتين، الخارجية والداخلية، بالسجلات السابقة؟ ولماذا لا تعدّلها في كل انتخابات وتضيف اليها الطلبات الجديدة؟ في الدورة الماضية تسجَّل أكثر من 82 ألفاً. ومعظمهم لم يتغيَّر وضعهم. ولنفترض ان ألفاً أو ألفين أو أكثر قد تغيَّر وضعهم. أليس من الأسهل ادخال تعديلات قليلة على اللوائح بدل البداية من الصفر وكأن شيئا لم يكن؟
ثالثاً: المتطلبات: هناك متطلبات للتسجيل لا يُقبل بعضها للتصويت. يمكنك أن تتسجَّل باخراج قيد مثلاً ولكن عند الانتخاب عليك أن تبرز بطاقة الهوية أو جواز السفر اللبناني. والذي لا يملك بطاقة هوية عليه ان يستخرج جواز سفر تنتهي صلاحيته بعد عام. وعليه ان يعيد الكرّة كل انتخابات. وهنا تنشط أحزاب السلطة لتجهِّز الوثائق المطلوبة، وعادة على نفقتها، بعد أن تحصل على تسهيلات قنصلية، أي عملية رشوة مقنّعة.
رابعاً: التسجيل الالكتروني: وما أدراك ما التسجيل الالكتروني؟ أمضيتُ أكثر من أسبوع احاول أن أتسجّل. يُطلب مني ادخال معلومات معينة. أدخلها. يُطلب تسجيل الدخول. أسجِّل. تُرسل لي رسالة الكترونية يطلبون فيها المعلومات السابقة نفسها. وأدور في حلقة مفرغة. أتصل بصديق وبآخر وندور وندور. هذا مع العلم ان معلوماتي التكنولوجية لا بأس بها بهذا المجال. فكيف من لا يمتلك أية خبرة ؟ أما التسجيل الحضوري في البعثات الدبلوماسية فيرافقه الكثير من الصعوبات خاصة عندما يكون المغترب مقيماً في قرية نائية أو مزرعة أو مدينة لا يوجد فيها بعثة دبلوماسية. أو اذا كانت أقرب بعثة تبعد أكثر من 300 أو 400 كلم.
خامساً: عدم وضوح الصورة: الشك يحيط بالعملية الانتخابية بكاملها. فأتباع الأحزاب حسموا أمرهم قبل أن تُفتح أبواب التسجيل. لوائحهم جاهزة. أوراقهم الثبوتية جاهزة. أما القوى التغييرية فهي في فضاء آخر. لا قيادة. لا برنامج موحّد. لا نعرف من هو المرشّح أو هل سيكون هناك مرشّح لقوى التغيير في الدائرة التي سيصوِّت فيها المغترب؟ اختلافات وتفرّق صفوف القوى المنبثقة من 17 تشرين. لا من يلاحق الأصدقاء ليتسجلوا. لا مَن يأخذ الأمر على عاتقه كما تفعل الأحزاب. ومئة لا ولا تدفعهم الى الاعتكاف عن التسجيل. هذا غير الأخبار المشكِّكة أصلاً بحصول العملية الانتخابية بكاملها.
سادساً: اذا وقعت الانتخابات في فصل الربيع أو الصيف فالكثير من المغتربين يترددون في التسجيل لأنهم يفكرون بزيارة الأهل والأقارب في ذلك الوقت. فاذا تسجلوا في الخارج وزاروا لبنان في وقت الانتخابات لا يحق لهم الاقتراع في مناطقهم. واذا لم يتسجلوا وتغيَّرت الظروف وألغوا زيارتهم خسروا أيضاً حقّهم بالاقتراع.
سابعاً: الانطباع السائد انه مهما فعلتم فهذه القوى المسيطِرة، بقوة المال والسلاح والمذهبية والفساد ومخابرات الخارج ومصالحه والأتباع المدججين بالجهل والتعصّب والمصلحة، عصية على الاقتلاع.
ثامناً: يوم الانتخابات لا تغطي مراكز الاقتراع الا المدن والتجمعات السكنية التي تضم عددا كبيراً من المقترعين. أما المقترعون الذين يسكنون في مناطق بعيدة أو في تجمعات صغيرة فعليهم الانتقال الى أقرب مركز اقتراع والذي يبعد، في حالات كثيرة، عدّة مئات من الكيلومترات. هذا يفرض على الدولة اللبنانية أن تعتمد التصويت الالكتروني. فلماذا يُقبل التسجيل الالكتروني ولا يُقبل التصويت الالكتروني؟
تاسعاً: مئات الالاف من اللبنانيين اقتلعوا حديثاً من لبنان وقُذفوا الى المجهول خاصة في الأشهر الأخيرة. فهل رتّبوا امورهم من عمل ومسكن ومدرسة ووو... في مجتمعاتهم الجديدة، لنضع عليهم أعباء التسجيل الكثيرة خاصة أنهم لن يجدوا أمامهم الا امكانية إعادة انتاج السلطة نفسها التي كانت سبباً في هجرة لم تكن خيارهم في الأساس؟
في استراليا شاركنا بكل انتخابات: انتخابات بلدية كل أربع سنوات، انتخابات الولاية كل ثلاث سنوات، والانتخابات الفدرالية كل ثلاث سنوات أيضاً. وفي كل منها الانتخابات الزامية. والمواطن الذي يتخلّف عن أيٍ منها يجب أن يقدِّم عذراً شرعياً أو يواجه غرامة مالية. من النادر أن تُبرز أي مستند أو بطاقة تعريفية خلال الاقتراع. تذهب الى المركز. تجد أكثر من عشر موظفين كل منهم يجلس وراء طاولة تحمل حرفين من حروف الأبجدية أو أكثر. يتوجه المقترع الى الطاولة التي تحمل الحرف الأول من اسم عائلته. يذكر للموظف اسمه واسم عائلته كاملاً، ومكان سكنه. يشطب الموظف اسم المقترع عن اللائحة ويعطيه ورقة الانتخاب الممهورة بتوقيعه. وهكذا. لا تسجيل مسبق. لا أحد يحاول الغش أو ينتخب أكثر من مرة. (في كل منطقة انتخابية هناك عدّة مراكز ويمكنك ان تقترع في أي واحد منها). بعد أن تنتهي العملية الانتخابية وبعد ادخال كل المعلومات يتبيّن بسرعة كل من لم ينتخب فيلاحق. كما تظهر أية عملية غش أو تزوير فتخضع فوراً للتحقيق ولأقصى العقوبات التي تردع أياً كان عن أية محاولة مماثلة.
لذلك نكرر السؤال الأساسي: مع كل الصعوبات أعلاه، لماذا على المغترب أن يتسجّل اذا كان يحمل بطاقة هوية صالحة أو جواز سفر صالح؟ وعندما يتوضّح المشهد الانتخابي يُصبح للانتخاب معنى لا تجده قبل ستة أشهر أو أكثر. ولكن الاجابة واضحة وصريحة: الطبقة التي هجّرتنا واقتلعتنا من جذورنا ليست مهتمة أصلاً بتسهيل عملية اقتراعنا التي تجد فيها، لو تنظَّمت، امكانية خلخلة سلطتها رغم ان المغترب، الذي يتوق للتغيير، لم يجد الطريقة الفعّالة بعد لترجمة هذه الرغبة في صناديق الاقتراع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق