خلود اللغة العربيّة ومنطقيّتها/ فراس حج محمد



تتعدّد لغات الناس بتعدّد بيئاتهم وأزمانهم، وثمّة لغات ماتت مع أقوامها، ولم يعد لها وجود إلّا في النقوش التي احتفظت بها الطبيعة، فأين المسماريّة والهيروغليفيّة وكثير من لغات الأقوام التي بادت ولم يبق منها شيء؟


تبقى العربيّة الفصحى خالدة بخلود القرآن الكريم، فله الأثر الكبير في اللغة العربيّة تطوّراً وحفظاً بين عدد هائل من البشر منذ فجر الدعوة الإسلاميّة وحتّى قيام الساعة، والمسلمون مهما كانت جنسيّاتهم ولغاتهم الأصليّة يحتاجون العربيّة لغة للدين وشعائره؛ من صلاة وحجّ وقراءة قرآن. ولذلك كانت اللغة العربيّة من المصادر المهمّة لتكوين شخصيّة الإنسان العربي والمسلم، بل إنّ اللغة العربيّة في تراثها وتعدّد لهجاتها كانت هُوِيّة دالّة على القبائل العربيّة، فهناك كلمات لم تكن مستخدمة إلّا في قبائل معيّنة أو طريقة للنطق لم تكن إلّا محصورة في جماعة خاصّة من بين الجماعة العربيّة العامّة، أو أنّ لبعض الكلمات مدلولاً مختلفاً بين القبائل العربيّة، كما تشير حادثة "أدفئوا الأسارى"، وغيرها ممّا هو معترف به في كتب التراث العربي، واستند عليه في تفسير الشعر والقرآن الكريم.


ولا يعني خلود العربيّة أن تتحول فقط إلى لغة تخاطب بشريّة، وعلى نطاق واسع، بل أيضاً إنّها تعني قدرة اللغة العربيّة على استيعاب متطلّبات الحياة المعاصرة، وقدرة اللغة العربيّة على اشتقاق كلمات وتوليدها لمعان جديدة يحتاجها الناس يوميّاً في شتّى المناحي الاجتماعيّة والثقافيّة والفنّيّة والعلميّة، لتتجاوز واقعها التراثي إلى آفاق أرحب وأوسع، وتتمدّد كلّما دعت الحاجة إلى ذلك.


إنّ اللغة العربيّة لغة حيّة، علميّة، وأدبيّة، فثمّة معاجم كثيرة متخصّصة قديمة وحديثة للمصطلحات العربيّة في العلوم المتعدّدة، تبيّن خلود اللغة العربيّة. ويكفي للتدليل على أهمّيّة العربيّة- عَقَديّاً على الأقلّ لدى المسلمين- أنّها- كما قال الرسول الكريم- "لغة أهل الجنّة في الجنّة". وهي اللغة الوحيدة التي تحسم الانتماء القومي، كما جاء في الأثر "من تكلّم العربيّة فهو عربيّ".


وتنبغي الإشارة إلى أنّه لا يعني أنّ لغة القرآن الكريم هي العربيّة أنّ اللغة العربيّة لغة مقدّسة. بل إنّ النصّ مقدّس واللغة بشريّة، ما يعني حيويّة اللغة وتطوّرها وتبدّل معانيها وحتّى قواعدها وإن بشكل ميسور، وسبق أن تحدّثت عن بعض جوانب اللغة العربيّة وعبقريّتها وشاعريّتها وشعريّتها في كتابي "بلاغة الصنعة الشعريّة" في الفصل الخاص بشعريّة القرآن الكريم. عدا عشرات الكتب إن لم يكن المئات ممّا تحدّث مؤلّفوها عن جوانب عظمة اللغة العربيّة وعبقريّتها المتكوّنة من داخلها ومن قوانينها الذاتيّة.


عدا هذا وذاك، فإنّ هناك جوانب مهمّة كثيرة من عبقريّة اللغة العربيّة، وعبّر عنها الشعراء والنقّاد والدارسون والمعجميّون وعلماء التجويد وعلماء الأصوات والمفسّرون، حتّى أصحاب النكت والطرائف. ومن اللافت للنظر، ويدعو المرء إلى التدبّر أنّ بعض ظواهر اللغة كالجناس والمشترك اللفظي والتورية استخدمت في كثير من المواقف الطريفة، بل وكانت الوسيلة المثلى للخروج من المأزق لدى بعض العلماء أو المتطفّلين، ولعلّ ما اشتُهر من حادثة أبي نواس والجارية "خالصة" دليل على ذلك؛ فلم يخلّصه من الموقف وسوئه إلّا البدهيّة اللغويّة وسرعة الخاطر. وهناك الكثير من الطرائف والنوادر المبثوثة في كتب التراث ذات اتّصال باللغة أو أحد علومها أو ظواهرها الفنّيّة، وربّما يلزم ذلك دراسة خاصّة للكشف عن تلك الجوانب المهمّة ذات البعد الترفيهي في استعمال اللغة، وتوظيفها في كثير من الألغاز التي تدعو إلى التفكير اللغوي من أجل التوصّل إلى الحلّ.


وتتجلّى في علوم العربيّة عبقريّتها وانضباطها واتّساق قواعدها؛ فالأصوات والصرف والنحو علوم تكشف المعنى وتأسّس له على أسس منطقيّة، فهندسة الكلمة في اللغة العربيّة ليست عشوائيّة، بل تحكمها مجموعة قوانين منضبطة صوتيّة ومعنويّة، وبناء الجملة في النحو العربي له ارتباط بكثير من الظواهر الأسلوبيّة المدروسة في أبواب النحو والبلاغة، وذات تأثير وعلاقة بالمعنى، وليس هذا وحسب، بل إنّ ما يميّز الجملة العربيّة أحياناً تعدّد دلالات المفردة أو الجملة تبعاً للتوجيه النحوي، إذ تقبل الكلمة المعيّنة في تلك الجمل توجيهات نحويّة ينتج عنها تأويلات معنويّة، وقد شاعت مثل هذه الظاهرة في كثير من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة الشريفة والشواهد النحويّة الشعريّة، ما منح هذه الجمل انفتاحاً معنويّاً ليرتبط في سياقه التركيبي الذي جاء فيه، وقد انتبه العلماء السابقون إلى هذه الظاهرة فألّفوا فيه الكتب من مثل كتاب "مُشكل إعراب القرآن" و"نكت الأعراب فى غريب الإعراب فى القرآن الكريم"، و"الإنصاف في مسائل الخلاف"، وغيرها الكثير من الملحوظات التي بثّها النحاة والمفسّرون في كتبهم، وكان لهذه الظاهرة ارتباط بشكل أو بآخر بمباحث أخرى كظاهرة التأخير والتقديم والحذف- نحويّاً-، وظاهرة التكثيف- بلاغيّاً، والإيجاز بنوعيه، والإطناب وغيرها، ممّا هو مبسوط في الكتب ذات العلاقة.


وبتاءً عليه، ولد من رحم ذلك نوعان من النحو؛ النحو الوظيفي، إذ يحافظ فيه كاتبه- وظيفيّاً- على سلامة التركيب في الجملة وصحّتها اللغويّة في الكلمات وعلاقاتها معاً، واختصّ هذا النحو بالنصوص ذات الصبغة الرسميّة الوظيفيّة التي تهتمّ بالمعنى الأوّل للجملة كما هي دون إضافات بلاغيّة، كالمراسلات الرسميّة والتقارير الصحفيّة والطبيّة وما شابه ذلك. في حين اهتمّ النوع الثاني من النحو بما يعرف بالنحو الفنّي، حيث ترعرعت "اللغة الفنّيّة الأدبيّة" التي تستند إلى ظواهر بلاغية تهتمّ بزخرفة الجملة؛ معنى وتركيباً حسب علوم البلاغة الثلاثة التي تُعنى بالكشف عن جماليّة هذه اللغة، وتفلسف أو تحاول أن تعلّل فنّيّاً ورود هذه اللغة على ذلك النحو الذي جاءت فيه،  وقد تجلّت هذه اللغة في النصوص الشعريّة عالية المستوى، وفي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وفي لغة النثر الفنّي الصوفي وما هو على شاكلته.


ويلحق بهذه الظاهرة النحويّة البلاغيّة، ظاهرتا الإعراب والضبط الصرفي، وأثر ذلك في علوم البلاغة والتحكّم ببعض مباحثها في علم البديع كالجناس مثلاً، وعلم الدلالة في اختلاف معنى اللفظ باختلاف ضبطه الصرفي، كما هو الحال في الكلمات المثلّثة كلفظ "البرّ"- مثلاً- الذي له ثلاثة معانٍ مختلفة حسب ضبط حركة الباء.


وقد استتبع ظاهرة الجناس في العربيّة، وخاصّة الجناس التامّ أن وجد في الثقافة العربيّة، في الشعر العربيّ الشعبي فنّ العتابا الذي استفاد وبقوّة من ظاهرة الجناس في بناء المقطوعة التي ستكون مثلومة إن لم يكن فيها الجناس تامّاً، سواء أتمّ التلاعب باللفظ ومطّه أم لا. إنّه نوع من العبقريّة المتاحة والممكنة في قوانين اللغة ذاتها.


كما أنّ العروض وعلوم البلاغة تكشف عن موسيقيّة اللغة وشعريّتها وشاعريّتها وتنوّع أساليب التعبير غير المنتهية، وهي علوم غير منبتّة عن الفروع الأولى التي ذكرتُها (الأصوات والصرف والنحو)، فلها الكثير من الارتباطات في مباحث الأصوات والصرف والنحو والبلاغة، فلا شيء في العربيّة وظواهرها وجد وحده، بل لكلّ علم من علومها امتداد في غيره، يؤثّر فيه ويتأثّر به. وهذا مظهر آخر من مظاهر عبقريّتها التي لا بدّ من أن يلتفت إليه المعلّمون عندما يعلّمون اللغة العربيّة وفنونها الأدبيّة ويحلّلون نصوصها الإبداعيّة.


إنّ العروض بوصفه علماً من علوم اللغة العربيّة متّصلاً بالشعر تحكمه قواعد مضبوطة في بناء الوحدة الموسيقيّة، وفي بناء البيت الشعري والقصيدة بشكل عامّ، ولا تكتمل صورة القصيدة الشعريّة على نحو مؤثّر إلّا إذا تمّ الالتزام برياضيّات العروض العربيّ متّصلة أيضاً بجمال التعبير الذي تفرض قوانينه التعبيريّة علوم البلاغة الثلاث: علم البيان وعلم المعاني وعلم البديع. إضافة إلى هذين الأمرين، فإنّ لكلّ عروض عربيّ لحنه الموسيقي الخاصّ به، بحيث يتّحد هذا العروض مع الكلمات وجِرسها وموضوعها في وحدة واحدة من خلال القطعة الموسيقيّة المتكاملة الأركان لتُمْتِع المتلقّي، وتُحْدِث فيه النشوة وتربّي فيه الذائقة الجماليّة، وتُشبع لديه ملكة التخييل والاستحضار والعيش مع الكلمات وبها، علاوة على ما تتمتّع به القصيدة العربيّة من هندسة شكليّة، محكومة بالتناظر بين شقّي القصيدة الكلاسيكية، ومضبوطة بالقافية الموحّدة وحركة الرويّ المتماثلة منذ البيت الأول وحتى آخره. إنّها نوع من الهندسة المتكاملة التي ساهم في إبرازها وتحقّقها عناصر متعدّدة منبثقة من رحم اللغة التي أنشأتها.


وليس القصيدة وحسب ما يلزمه المنطق الرياضي في البناء اللغوي، فالنصوص النثريّة أيضاً يحكمها قانون مشابه، فلا نصّ مترابط ذو إيقاع سلس إلّا وللمنطق الرياضي له تدخّل فيه، من خلال مراعاة  الصحّة اللغويّة في بنائه على مستوى الكلمة، ثمّ على مستوى الجملة، ثمّ الترابط بين الجمل، وصولاً إلى الفقرة المترابطة، والترابط الكلّي بين الفقرات التي يشكّل نصّاً مترابطاً يتمحور حول فكرة أساسيّة لها مجموعة مضامين تدعمها منطقيّاً، لتؤدّي تلك النصوص فاعليّتها في ذهن المتلقّي.


ويتّصل بهذا كلّه- شعراً ونثراً- مفهوم "الإيقاع" الذي لم يكن مقتصراً على الشعر وحده، فللنثر إيقاع، كما للشعر إيقاع، ولعلّ دارسي القرآن الكريم هم أوّل من أشاروا إلى اختلاف الجِرْس الموسيقي لسور القرآن بين السور المكيّة وبين السور المدنيّة، وهذا سرّ دقيق من أسرار النصّ القرآني. وبناء على هذه المنطلقات المهمّة وهذه القوانين الذاتيّة اكتسبت قصيدة النثر شرعيّتها الجماليّة لتكون ضمن نظريّة الشعر العربي المعاصر؛ لاعتمادها على نظريّة الإيقاع من خلال ما في الكلمات من موسيقى داخليّة. فكأنّ قصيدة النثر هي إحدى تجلّيات النصّ القرآني، إن سُمح بهذه المقاربة، بصرف النظر عن منشأ هذا النوع من الكتابة في الغرب.


وأمّا المعاجم وعلم الدلالة فتكشف عن ثراء اللسان العربيّ وقدرته على التوليد والاشتقاق واستيعاب كلّ جديد بطرق ذاتيّة توليديّة في اللغة ذاتها. فتجد تحت الجذر الواحد أحياناً عشرات الكلمات التي يتغيّر معناها بتغيّر الحروف الداخلة على الجذر أو يتغيّر معناها بتغيّر السياق الذي وجدت فيه، أو يتغيّر المعنى بتغيّر الضبط الصرفي للحروف ضمن البنية الصرفيّة الواحدة، كما يتغيّر معنى الفعل أو الاسم المشتقّ بحرف الجرّ المرتبط فيه؛ فرغب فيه، تختلف عن رغبه عنه، أو  رغب به أو رعب إليه، ومثل هذا الفعل كثير في المعجم العربي الذي يستدعي كلّ تركيب معنىً مختلفاً.


وبقي الإملاء والخطّ، فهما حليتان كتابيّتان تقومان على الجمال والمنطق كذلك، وقد دخلت العربيّة بجماليّة الخطوط وتنوّعها إلى كلّيّات الفنّ التشكيلي ومدارسه، وقد مارس الخطّ العربي كثير من الفنّانين حتّى الأجانب منهم المستعربين أو المستشرقين.


وقد أتاحت هذه العبقريّة اللغوية للشعراء- على سبيل المثال- أن يتفنّنوا بالقول، فشاعت ظواهر أدبيّة ذات اتّصال لفظي لغوي نابع من صميم اللغة العربيّة؛ من مثل كتابة الشعر دون استخدام أفعال أو كتابة قصائد شعريّة بكلمات حروفها منقوطة وأخرى غير منقوطة، وتوظيف اللغة وحروفها في حساب الجمّل، وإخضاع ذلك لقوانين الشعر من خلال ما شاع بعمليّة التأريخ الشعري. كلّ تلك العمليّات الفنّيّة تكشف عن إبداعيّة الشاعر العربيّ وعبقريّة اللغة العربيّة وثرائها اللغوي، فلولا ما تتمتّع به اللغة العربيّة من قوانين وقواعد وتعدّد لفظي لما استطاع الشاعر القيام بكلّ تلك التجريبيّات الشعريّة التي توفَّر فيها عاملان مهمّان وهما: التعبير عن المعنى بوضوح، بكيفيّة فنّيّة لافتة للنظر، لا يستطيع القيام بها إلّا من كان مؤهّلاً لها وذا ميّزات خاصّة من سعة الاطّلاع وقوّة الموهبة في توظيف الأساليب المتعدّدة وارتباط كلّ أسلوب بمعنى معيّن، وظواهر التقديم والتأخير والحذف والإطناب والتكثيف والاقتصاد اللغوي. والانتباه إلى ما في اللغة وألفاظها وأصواتها من جرس موسيقي تم توظيفه لمصلحة الشعر والمعنى أيضاً.


لقد استطاع علماء العربيّة القدماء استغلال هذه المنطقيّة اللغويّة في كثير من جوانب الدرس اللغوي، ولعلّ أشهر هؤلاء العلماء الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كشفت عقليّته الاستثنائيّة عمّا في اللغة العربيّة من عبقريّة فوظّفها في نظام اخترعه يسمّى "نظام التقليبات"، فاستفاد منه في دراسته للعروض، فدرس العروض ضمن نظام الدوائر العروضيّة، ووظّفه في بناء معجم العين، أوّل معجم عربي استقصائي لألفاظ اللغة العربيّة، ورتّبه ترتيباً منطقيّاً على أساس صوتي، فرتّب حروف العربيّة حسب مخارجها مبتدئاً بأقصى الحروف، العين، بل ولاحظ الدرس اللغوي العربيّ العلاقة التي تحكم الأصوات معاً، على سبيل المثال العين والهمزة، ولأجل هذا التشابه المنطقيّ بالنطق، ومنطقة إنتاج الصوت كان الصوتان متشابهين في الرسم، هذا التشابه هو ما جعل الخليل بن أحمد ينحاز إلى العين وليس إلى الهمزة فيسمّي معجمه به، على الرغم من أنّه يعي أنّ الهمزة أبعد من العين في النطق، إلّا أنّ ضعفها الفيزيائي عند النطق بها جعله يحيّدها لصالح صوت أو حرف العين، وظلّ متتبّعاً هذه الحروف حتّى وصل إلى آخرها حسب الجهاز النطقي، وهو حرف الباء حيث كان آخر الأصوات في جهاز النطق الذي ابتدأ من الحلق وانتهى إلى الشفتين حيث الواو والميم والباء.


هذه العبقريّة اللغويّة جديرة بأنْ يلاحظها الدارسون والمعلّمون في المدارس، وفي الجامعات، حتّى تتمّ دراسة اللغة العربيّة ونشاطها الذهني؛ شعراً ونثراً، على أسس منطقيّة متّحدة مع منطق التذوّق السليم، فلا يجوز مثلاً الحكم بالسخف والضعف على تجارب شعراء العصر المملوكي، وعلى ما أنتجوه من شعر حافل بالصنعة الأدبيّة والبلاغيّة ووصمه بصفات الرداءة والمحدوديّة، بل لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تلك النماذج التي استثمرت تلك القوانين، شكّل بعضها نماذج أدبيّة عليا، وبعضها لم يحسن الشعراء استخدامها لخلل موجود في تركيبتهم اللغويّة وتواضع مواهبهم وقدراتهم الذهنيّة في التوظيف الأمثل لظواهر اللغة وقوانينها، وقد ركبوا مركباً صعباً لم يحسنوا الإبحار من خلاله في عباب اللغة العربيّة الزاخر، فإذا كان البحّار قليل الموهبة والخبرة، فهل نلوم البحر أم نلوم السالكين فيه بجهالة وهم غير مستعدّين؟


وعطفاً على بدء، فإنّ هذا النشاط الإبداعي البشري الذي يستثمر اللغة وقوانينها ليصنع عبقريّته الخاصّة التي تتوالد فيه ملامح عبقريّة جديدة للغة العربيّة ستكون عاملَ خلود للغة نفسها، إذ يكسبها هذا النشاط التجدّد والاستمرار، لأنّها لغة عصيّة على النسيان والإهمال، عدا ارتباطها بالقرآن الكريم والتراث العربيّ بمجمله الفقهي والفلسفي والتأليفي، فإنّ اللغة العربيّة تمتلك عناصر حيويّتها التي تؤهّلها لتعيش آماداً مديدة غير محصورة بالنصّ الديني وقدسيّته، إنّما للغة العربيّة قدرة على أن تعيش بأقصى حالات تميّزها دون أن تكون بحاجة إلى الاتّكاء على النصّ الديني، فاللغة هي الحاملة للنصّ الديني وتتجلّى النصوص بهذه اللغة، وليس العكس. فاللغة هي الأصل وفهم النصوص- دينيّة ودنيويّة- محكوم بقواعد اللغة وقوانينها المستقرّة قبل ولادة النصّ الديني وتخلّقه في سياقات اللغة المختلفة؛ ثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. وبسبب هذا القانون الذي يحكم النصّ الديني مع اللغة، كان من شروط المفسّر والفقيه والمجتهد أن يكون كلّ واحد منهم عالماً باللغة العربيّة، وليس ملمّاً بها فقط، أيْ أن يكون متبحّراً فيها واسع الاطّلاع على قوانينها وتاريخيّة الألفاظ واستقرارها ورحلتها بين العلوم وبين المعارف المتنوّعة.


ومن هذا المنظور الذي يشير إلى عبقريّة اللغة العربيّة وحيويّتها، فإنّ للغة العربيّة وثقافتها حضورها وتأثيرها في الكتّاب غير العرب من أمثال طاغور وبوشكين ومالارميه وقبلهم دانتي، وشعراء الترابودور في الأندلس وكثيرون غيرهم، إضافة إلى أنّ المعجم العالمي للغات الحيّة عبر العالم يختزن آلافاً، بل ربّما أكثر، من الكلمات ذات الأصول العربيّة، وأشارت إلى ذلك المستشرقة الألمانيّة زيغرد هونكيه ورصدت مجموعة من الكلمات العربيّة التي دخلت إلى معجم اللغة الألمانيّة، كما أنّ المعجم العربي يختزن كمّاً لا بأس به من الكلمات ذات الأصول غير العربيّة، قديماً وحديثاً من فارسيّة وسريانيّة وحبشيّة وإنجليزيّة وفرنسيّة وتركيّة، وتكمن عبقريّة اللغة العربيّة في هذا الجانب في أنّها ذات قدرة على إخضاع تلك المفردات إلى قوانينها بشكل تلقائي، بحيث لا تظهر أنّها غير عربيّة إلّا للباحثين والمدقّقين في علوم اللغة وفقهها. فصارت من اللغة العربيّة المستعملة بأريحيّة ألفاظ مثل كمبيوتر وتلفزيون وتلفون وفاكس وباص وترين وخاشوقة وغيرها، كما تصالحت اللغة في تاريخها القديم مع إستبرق وطازج وسجيل وإبريق والديباج والسجنجل.


وانطلاقاً من هذه العبقريّة المميّزة للغة العربيّة لا أرى حاجة ضرورية لأن نبحث عن بديل عربي لبعض تلك الأشياء وتلك المسمّيات وهاتيك المصطلحات، ألا يسعنا ويسع لغتنا ما وسع أجدادنا من العلماء والأدباء والمتحدّثين بها قديماً؟ فلنظلّ نستعملها كما هي بعد تعريبها وتوقيعها على الإيقاع العربي كالكلاسيكيّة والرومانسيّة والديمقراطيّة والطبوغرافيا والبيولوجيا وما شابهها، كما نستعمل- دون الشعور بالانزعاج- ألفاظاً كالبلوتوث والديسك والبنك، فلا ضير في استعمالها، وإدخالها في دراساتنا ومعاجمنا ولغتنا اليوميّة وحواراتنا ونصوصنا الأدبيّة، بعيداً عن الحذلقة والتمحّل في البحث عن ترجمة عربيّة لهذه الألفاظ، لأنّها أصبحت منّا ومن لغتنا بعد أن أخضعت للنظام العربي، بغضّ النظر عن أصولها في لغاتها الأصليّة. ولا خوف على لغة عريقة كاللغة العربيّة تتمتّع بهذه العبقريّة من أن تنحلّ وتتلاشى في اللغات الأخرى بفعل مجموعة من الكلمات المحدودة مجلوبة بفعل التطوّر من لغات أخرى، مهما كانت تلك اللغات قويّة بقوّة أهلها سياسيّاً واقتصاديّاً وعلميّاً، فاللغة العربيّة لها ما يؤهّلها لتستقبل المفردات اللغويّة المتنوّعة بحفاوة واحتفاء، لتدخلها في معجمها، وتضمّها إلى أحشائها، لأنّ في ذلك ثراء لها، ولأنّه متّسق مع قوانينها العبقريّة، ولا يؤدّي إلى تخريبها أو تشويهها بأيّ حال من الأحوال.


فلنترك اللغة تعيش حياتها كما هو مقدّر لها، فإنّ لديها القدرة الكافية على أنْ تظلّ حيّة وحيويّة إلى ما شاء الله لها أن تعيش. سواء أكانت من اللغات المعترف بها في الأمم المتّحدة أم لا، وسواء أوجد لها يوم عالمي للاحتفاء بها أمْ لم يوجد. فلا شيء في حياة العربي اليوم أقوى من لغته، فقد تسامت فوق الضعف السياسي والتبعيّة العلميّة وانهيار كلّ شيء عربي إلّا اللغة العربيّة التي ظلّت أكبر من كلّ ما عداها، ولعلّ هذا أيضاً سرّ من أسرارها، وجانب مخفيّ من جوانب عبقريّتها التي ربّما غفلنا عنه ولم نلتفت إليه إلّا قليلاً، لاسيّما في تدريس اللغة العربيّة.

إلى العَامِ الجَدِيد/ الدكتور حاتم جوعيه



 ( " بمناسبةِ  عيد  رأس السَّنةِ  الميلاديَّةِ   ")  

  

أيُّهَا   العامُ  الجَديدْ 

أيُّ   بُشْرَى ... أيُّ  خير ٍ وَحُبُور ٍ وَهَناءْ

تحملُ الأنسامُ  من ندٍّ  ومن نفح ِ عبير ٍ  وشَذاءْ  

أيقظِ  الآمالَ   فينا  والرَّجاءْ  

أيُّها   العامُ   الجديدْ  

أعطِنا  حُبًّا  ودِفئًا   وَسُكونا   وسَلامَا   

وحَنانا   وَوئامَا  

كيْ   نُعِيدْ    // 

بسمة َ الأطفالِ  للكونِ  الوَطِيدْ 

فعلى وقع ِ خطاكْ // يرقصُ القلبُ التياعًا وهيامَا 

لنغنِّ   فجْرَنا  المَنَنشُودَ   دومًا  ولِنزدَدْ   التِحَامَا  

أعطِنا  حُبًّا   لنجتازَ  الوهادَ  المُدْلهِمَّهْ 

نرسُمُ الأحلامَ ... ُنعلِي راية الأمجادِ في ذروةِ  قِمَّهْ 

فلنحَلّقْ  ما  وراءَ  المُنتهى  واللاوُجُود

ولنُحَرِّرْ روحَنا من عتمةِ  السِّجنِ  وأعباءِ القيودْ  

فلنُوَدِّعْ  عامَنا الماضي  ونخطُو  لِلقائِكْ  

قادِمٌ  أنتَ  إلينا ... ألفُ  مَرْحًى  لعِناقِكْ  

فعلى أعتابِكَ الوَسْنى شغافُ القلبِ تصبُو لِضِيَائِكْ   

ما الذي تحملهُ من فرح ِ الدنيا وألحانِ السَّعادهْ 

أيُّها المجهولُ فينا لكَ دومًا في حنايا الرُّوح ِ حُبٌّ وعبادَهْ  

هلْ  يعمُّ  السِّلمُ ... يخطو في  رُبَى الشَّرق ِ  الحبيبْ  

تشرقُ الشَّمسُ علينا ... يتهادى النورُ تيهًا ، بعدَ أن حَلَّ المَغيبْ  

سنغنِّي  للسَّلامْ  //  كلَّ  إطلالةِ   صُبْح ٍ  ومساءْ  

إنَّ فجرَ السِّلمِ  يأتي ... سوفَ  يأتي  ،  والضياءْ 

يغمرُ  الدنيا  وأركانَ  الفضاءْ  

 تبسمُ الزهارُ والأطيارُ والأقمارُ ... تزدادُ  سَناءْ  

ندفنُ  الآهاتِ   والحُزنَ   وأهوالَ  الشَّقاءْ 

فلنُغنِّ ولنصَلِّ  مع  خُطى العامِ  الجديدْ 

ولنوَدِّعْ عالمَ الماضي  وأطيافَ الشَّجَنْ    

إنّما  الهمُّ سرابٌ سوفَ يمضي  وَيُولِّي  ...                                                                                          

... يتلاشَى   في   متاهاتِ    الزَّمَنْ  

أترعُوا  الكأسَ   فهذا  اليومُ   عيدْ   //

أيُّ عيدٍ //  إيُّ  بُشرَى  //  إنَّهُ  أروعُ  عيدْ 

واشربُوها ، في سُمُوِّ الروح ِ ، مع عذبِ الأغاني والنشيدْ 

فلنعَلِّ  رايةَ َ الحبِّ  الوَطِيدَهْ  

ولنغنِّ فرحة َ العيدِ  السَّعيدَهْ 

أيُّها   العامُ  الجديدْ  

أيُّ   بُشْرَى  ... أيُّ   حُبٍّ  وحُبور ٍ   وَهَناءْ 

تحملُ الأنسامُ من ندٍّ ومن نفح ِ عبيرٍ وشَذاءْ  

أيقظِ  الآمالَ  فينا  والرَّجَاءْ      

أيُّهَا  العامُ  الحديدْ

أيُّها  العامُ  الجديدْ


المستعمرات الدنماركية/ حسن العاصي



ما هي الأراضي التي كانت مستعمرات؟

بعد أن نظرنا إلى المملكة الدنماركية بأكملها، يصبح من المهم السؤال عن أي من الأقاليم العديدة في الدولة متعددة الجنسيات كانت مستعمرات.

إذا بحثت في الموسوعة الدنماركية الكبرى، فإن المستعمرة بالمعنى الموجود في العمل الحالي هي "مفهوم غامض يغطي المستوطنات أو إنشاء مراكز تجارية خارج حدود الدولة. إذا كانت المستوطنة تقع تحت سلطة الدولة الأم الولاية القضائية على قدم المساواة مع الأجزاء الأخرى من الولاية، لن يكون هناك عادة مستعمرة رسمية ".

بالإضافة إلى ذلك، تشير الموسوعة إلى مفهوم الاستعمار، والذي تم استخدامه فيما يتعلق بتاريخ "ما يسمى بالتوسع الأوروبي". ما هو الاستعمار إذن؟

 تعرفه نفس الموسوعة على أنها "غزو دولة للأراضي خارج أراضيها وامتلاكها لها. غالباً ما يكون الغرض هو الحصول على مزايا سياسية أو اقتصادية للبلد الأم"

بهذا، يصبح الاستعمار مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإمبريالية. ومع ذلك، فإن العامل الحاسم هو الهيمنة الشكلية، في حين أن مسألة الممكن الاستغلال الاقتصادي ثانوي. وأخيراً، تُعرَّف الإمبريالية على أنها "سياسة توسع، تنطوي على هيمنة واستغلال من جانب قوة ما على قوى أو شعوب أو مناطق أخرى. قد تكون النتيجة تشكيل إمبراطوريات منظمة رسمياً، والتي توجد أمثلة عديدة عليها تاريخياً".

حتى الآن، الموسوعة الدنماركية تجعل من الممكن النظر عن كثب في أي من ممالك ودول الملك الدنماركي يمكن اعتبارها مستعمرات، وأيها لا، وماذا كانت بدلاً من ذلك. ربما كانت معظم الأراضي التي كانت تحت حكم الملك الدنماركي خارج مملكة الدنمارك الفعلية، ولكن مع استثناءات قليلة جداً، لم تكن هذه المناطق التي تم غزوها بانتظام، أو التي كانت موضوعاً للمستوطنات من قبل الجانب الدنماركي.

كانت النرويج مملكة منفصلة، حيث تم توريث التاج، لذلك حصلت النرويج والدنمارك في عام 1380 على ملك مشترك، وهو الأصغر أولوف الثاني، ابن مارجريت، الذي حكم نيابة عنها. لكن النرويج والنرويجيين والمجتمع النرويجي كانوا موجودين قبل ذلك بوقت طويل، وعلى الرغم من أن "النرويج" المولودة في الدنمارك، والتي غالباً ما تتحدث الألمانية قد استقرت في النرويج، لا يمكن وصف النرويج بأنها مستعمرة دنماركية.

بالإضافة إلى ذلك، كانت النرويج راسخة جداً ومتماسكة، والنرويجيون أعدادهم كثيرة، وعدد المولودين في الدنمارك صغير جداً، والاختلافات بين الدنماركيين والنرويجيين والمولودين في النرويج كانت واضحة جداً

العنصر الوحيد في الاستعمار هو أن اللغة المكتوبة الأكثر انتشاراً اليوم "Bokmål" هي في الواقع دنماركية مع بعض الانحرافات الإملائية. وذلك لأن طباعة الكتب تركزت في كوبنهاغن لمئات السنين. ومن هناك انتشرت كتب الترانيم والأناجيل، وفي النهاية جميع أنواع الأدب في جميع أنحاء النرويج مما أدى إلى أن حوالي ثمانين بالمائة من النرويجيين اليوم يفضلون هذا النوع من اللغة النرويجية.

في القرن التاسع عشر جرت محاولة لإنشاء لغة وطنية مكتوبة جديدة "نينورسك" على أساس لهجات جنوب غرب النرويج. ولكن لا يستخدمها اليوم سوى أقل من خُمس السكان، على الرغم من الوضع الرسمي في المدرسة والإدارة والصراع اللغوي المرير أحياناً

استحوذ الملك الدنماركي على دوقية "شليسفيغ" و"هولشتاين" من خلال الميراث والاتفاقيات مع النخب النبيلة المحلية، ولكن بصفته دوق "هولشتاين" كان الملك من حيث المبدأ تحت سيادة الإمبراطور الألماني. شكّلت "هولشتاين" مجتمعاً راسخاً، قبل وقت طويل من دخوله النظام الملكي الدنماركي في عملية ربطته بـ "شليسفيغ" أو " الجنوبية" التي كانت في الأصل جزءًا من الدنمارك، ولكن تم فصلها لاحقًا كدوقية.

كانت كلتا المقاطعتين أكثر أجزاء المملكة تطوراً اقتصادياً، مما يعني أن الدوافع الأوروبية في الحرف والزراعة والعلوم والفنون دخلت ملكية "أولدنبورغ" عبر "هولشتاين".

كانت جزر شمال الأطلسي "أيسلندا، وجزر فارو، وجرينلاند" عبارة عن ضرائب نرويجية أو دول خضعت للملك الدنماركي مع النرويج في عام 1380.


وهكذا كانت مجتمعات راسخة أمام الحكومة الدنماركية.

 كان السكان باستثناء "الإنويت" من نسل المستوطنين الاسكندنافيين، لكنهم استقروا في الجزر قبل فترة طويلة من سيطرة الملك الدنماركي. وعلى الرغم من أن الأشخاص المولودين في الدنمارك قد استقروا هناك أيضاً، إلا أنهم انوا أقلية، ومع ذلك وصفت هذه الجزر بأنها مستعمرات استيطانية دنماركية.

في "جرينلاند" تم التخلي عن الاتصال بالنرويج من قبل المستوطنين الشماليين في أواخر العصور الوسطى. حقق سكان "جرينلاند" بنجاح كبير مكانة في الأمم المتحدة على أنهم "شعوب أصلية". هناك جهود في جزر فارو لتحقيق نفس الوضع، لكنها تبدو غير ضرورية تماماً.


المستعمرات الفعلية

بدت مختلفة بالنسبة للممتلكات في الهند وأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي. كانت موجودة في مناطق لم يكن للملك الدنماركي أي انتماء دستوري أو روابط قانونية وثقافية بها. من المنطقي هنا الحديث عن المستوطنات وإنشاء مراكز تجارية. تمت عمليات الاستحواذ جزئياً من خلال اتفاقيات مع ممثلي النخبة المحلية (الهند، إفريقيا) وجزئياً من خلال الاستيلاء على الجزر غير المأهولة (سانت توماس، سانت جان) أو عن طريق الشراء مثل (سانت كروا).

كانت المستعمرات في المناطق الاستوائية تحت سيادة الملك الدنماركي، على الرغم من أنها كانت في كثير من الأحيان بصورة غير مباشرة، حيث كانت المستعمرات تُدار أحياناً من قبل شركة خاصة رسمياً، وعلى الرغم من أن جزءًا كبيراً من سكانها الأوروبيين لم يكونوا من مواليد الدنمارك على الإطلاق.

يمكن القول إن المناطق الأخرى التي كانت تتألف من ممالك ودول الملك كانت تابعة لمملكة الدنمارك - في بعض الأحيان بشكل قانوني، وفي أحيان أخرى عبر واقع الحال أيضاً. ومع ذلك، فإن الخضوع لشخص ما لا يعني بالضرورة التعرض للاضطهاد والاستغلال المالي، على الرغم من حدوث مثل هذه العلاقات بالتأكيد.

من وجهة النظر هذه، يمكن القول إن النرويج وجزر شمال الأطلسي والدوقيات والممتلكات في المناطق الاستوائية كانت جميعها تابعة لملك الدنمارك.

لكن هذا لا يعني أنهم كانوا جميعاً مستعمرات وكان لهم نفس الوضع التبعي، لا من الناحية النظرية ولا في الجانب العملي. فيما يتعلق بالتبعية أو التفوق، كانت الحقيقة هي أن المستعمرات الاستوائية في الهند وإفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي اتخذت مكانة خاصة واضحة لا لبس فيها باعتبارها مرؤوسين وانتماء أكثر مرونة فيما يتعلق بالمناطق الأخرى للملك الدنماركي.

لم يتم تضمين المستعمرات الاستوائية شعار النبالة الكبير، بينما تم تضمين مناطق الشمال في النرويج وأيسلندا وغرينلاند وجزر فارو، حتى "جوتلاند، وأوسيل، وفهمرن، وبورنهولم" كانوا في أوقات مختلفة في شعار النبالة الوطني مع مجالها الخاص.

كان الشيء نفسه مع الكرون السويدي الثلاثة بعد فترة طويلة من تفكك اتحاد كالمار في عام 1523 كتعبير عن استمرار الملك الدنماركي في المطالبة بالعرش السويدي. علاوة على ذلك، تم تمثيل منطقة Venden بشمال ألمانيا بالإضافة إلى مناظر Holstein الطبيعية Stormarn وDitmarsken مع مجالهم الخاص في شعار النبالة الوطني، تماماً كما تم تضمين المناطق في اللقب الرسمي للملك حتى فريدريك التاسع.

لم يكن هذا هو الحال بالنسبة للمستعمرات الاستوائية. إنه يظهر أن لديهم وضعاً دستورياً خاصاً ومرؤوساً مع وضع كونهم مستعمرات فيما يتعلق بالوطن الأم. ولكن كانت هناك أشياء مشتركة مثل القانون، والواقع الاجتماعي.

 ألم يكن لتلك الأجزاء من مملكة الملك الحالية ـ التي لم تكن تشكل مملكة الدنمارك بعد ـ وضعاً وموقعاً تابعين يتوافقان مع وضع المستعمرات؟ غالباً ما تم طرح هذا الرأي في النقاش السياسي في القرنين التاسع عشر والعشرين. لم يتم سؤال السكان المحليين عما إذا كانوا يريدون الانتماء إلى ملك الدنمارك أم لا.

لكن لم يكن هذا هو السبيل للقيام بذلك في المجتمع الذي كان يهيمن عليه الأرستقراطيون في ذلك الوقت، أو في وقت لاحق في ظل الحكم الاستبدادي الملكي. كما لم يتم استجواب سكان مملكة الدنمارك، على وجه التحديد بسبب التقسيم القوي للطبقات، الذي كان يميز المجتمع في ذلك الوقت. غالباً ما يكون من غير المنطقي القول إن السكان في هذه المنطقة أو تلك كانوا تابعين أو مضطهدين، كانت الظروف مختلفة، حسب الحالة المعنية.

وبالتالي يمكن القول إن طبقة النبلاء في "هولشتاين" قبل وبعد إدخال الحكم المطلق في عام 1660 كانت لهم ظروف أكثر حرية وامتيازات أكثر من حلفائهم في مملكة الدنمارك. كان الفلاحون النرويجيون يتمتعون بظروف أكثر حرية من الفلاحين في الدنمارك، في حين أن غالبية الفلاحين في شرق "هولشتاين" كانوا أكثر حرية اجتماعياً وقانوناً من أقرانهم في مملكة الدنمارك. وبالتالي، كانت مجموعات معينة تتمتع بظروف أكثر حرية في إحدى المناطق مقارنة بالمناطق الأخرى.

ومع ذلك، يبقى السؤال هو كيف اختلفت جزر شمال الأطلسي عن المستعمرات الاستوائية وما إذا كان يمكن تسميتها بالمستعمرات. كان لإدارة آيسلندا وجزر فارو وغرينلاند عدد من أوجه التشابه مع الطريقة التي تدار بها المستعمرات.

تم تأجير الروابط بينهم وبين الدولة الأم في أوقات مختلفة من قبل عائلة خاصة، أو نقلها إلى شركة تجارية مقرها الدنمارك، أو إلى تاجر خاص واحد، أو كانت الاتصالات خاضعة لاحتكار تجاري تابع للدولة الدنماركية. وفي حالة "جرينلاند" فإن حقيقة أنه في عام 1721 لم يلتق "هانز إيجي" بشكل غير متوقع بأحفاد "النورسمان" الذين كان من المقرر أن يتحولوا إلى اللوثرية، ولكن "الإنويت" غير المسيحيين الذين استوطنوا جرينلاند كانوا مستهدفين من قبل البعثات والإرساليات الوثنية والثقافية.

مشاعر وأحاسيس في: إمرأة من زمن المجد/ زياد جيوسي



   الشعر مرآة العرب، هكذا وصف قديما وما زلت مقتنعا بهذا الوصف رغم كل التطورات والتحديثات على الشعر، فمن شعر البحور وصولا لشعر التفعيلة فالشعر الحر وصولا لما سمي الشعر النثري والذي أراه نصوص نثرية بروح شعرية حتى وصلنا لما عرف بإسم القصيدة النثرية والتي يفضل بعض النقاد تسميتها "النثيرة" فهي نثيرة أكثر مما هي قصيدة، وحين أهدتني الكاتبة عفاف نصر الحسن كتابها "إمرأة من زمن المجد" من شعر النثيرة خلال حفل اشهار كتبي "أحلام عمَّانية وأطياف متمردة" في معرض عمَّان الدولي للكتاب، شكرتها بقوة لحضورها حفل الإشهار ولإهدائي الكتاب وهو باكورة أعمالها الأدبية، ومباشرة لفتت نظري لوحة الغلاف فهي لوحة للفنانة التشكيلية الألقة كفاح الشبيب من العراق الحبيب، وهي تصور امرأة طاعنة بالسن ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز وتتوكأ على عصا وترافقها طفلة ترتدي الثوب ايضا وتجر حقيبتها متجهتين للأقصى، الطريق مبلط تحيطه الأزهار، وبرمزية عالية توجد اشارتين مروريتين تعني ممنوع الالتفاف للخلف، ولكن بكل أسف لم أجد بالكتاب أية اشارة للتعريف بلوحة الغلاف وذكر الفنانة التي أبدعتها، فهذا حق مقدس لحقوق الفنان صاحب اللوحة لا يجوز اغفاله، ومن المؤسف أن هذا ليس أول كتاب اقرأه وأجد أن دار النشر قد أغفلت الإشارة للوحة الغلاف، بينما الغلاف الأخير احتوى على نص قصير وصورة الكاتبة. 


   الكتاب من منشورات صامد للنشر والتوزيع/ لبنان وقدم له بقراءة طويلة بلغت أحد عشرة صفحة د. سمير أيوب، والعنوان بحد ذاته يحمل هدفا فهو لم يأت عبثا فهي أسمته "إمرأة من زمن المجد" في إشارة واضحة للماضي وليس الحاضر، وهذه الإشارة للماضي ليست غريبة عن مناضلة وزوجة مناضل راحل عاشت الثورة في عنفوانها حتى كانت اتفاقية اوسلو التي قلبت كل المفاهيم والأهداف، ومعظم من خاضوا غمار الثورة في عنفوانها وما زالوا على قيد الحياة يتحسرون على زمن النضال الحقيقي، ولذا أهدت الكتاب لروح زوجها المناضل (محمد أمين) نصر شريم وإلى كل مناضل وشهيد ولأولادها وكل من دعمها بمسيرتها الأدبية، والكتاب مكون من 152 صفحة من القطع المتوسط ويحتوي على ستة وخمسين نصا قسمتها المؤلفة لقسمين: الوطنيات من أربعة وأربعين نصا والوجدنيات من إثني عشر نصا، علما ان يوجد خطأ في وضع تسلسل النصوص فوقها فكانت الأرقام مخالفة للعدد،  وهذا التقسيم المسبق للكتاب يضع القارئ في زاوية محددة لا يخرج منها إلا بالبحث فيما وراء الكلمات من أحاسيس ومشاعر، والكتاب حافل بهذه الأحاسيس والمشاعر ومنها الفراق والوحدة والوفاء إضافة للوطن. 



   الفراق: وهذا يظهر جليا في النصوص منذ النص الأول المعنون "من أنا" حيث تقول: "واللقاء لمحٌ، والعمر كله افتراق"، ونجد الفراق يتجلى في نصها "هجرت أفكاري" حيث تقول: "وقبلت حبيبا، ما غاب عن البال"، وكان الفراق متجليا في نصها "رثاء شهيد" لزوجها المناضل الراحل وقالت فيه: "غابت الدنيا، واختفى القمر، شمسنا لم تعد تشرق"، وهذا النص الطويل من ست صفحات يميل للسرد والخاطرة أكثر من النثيرة وخاصة في الصفحات الثلاثة الأولى منه حين تستعرض شهداء عائلته بالأسماء حيث أن المرحوم شقيق كل من الشهداء أبو علي إياد والشهيد الحاج نصر، وكذلك نراها تشكو من الفراق في نصها "وتغير كل شيء" فتقول: "تباعدت الأرصفة، ولم تعد أرصفة، ولا المدينة مدينة، ولا الزمان زماني"، وفي نصها "أحلام العاشقين" بالقول: "وترحل أمواج العاشقين، فوق غيمة داكنةٍ"، ويظهر الفراق بوضوح في نصها "أشواق وذكريات" بقولها: "لا نوم يزورني، ولا شروق الصباح، طعنتني بخنجر الهجر، فهل من خلاص؟"، وكذلك في نصها "نهر الحب" بقولها: "وتختفي مع الغيوم، وتنتظر غدا، يغيب مع المجهول"، ونرى الاحساس بالفراق في نص "إلى قمري" بالقول: "إعلم يا قمري، أنك في السماء، صعب المنال"، ويظهر الفراق في نصها "قمر" بالقول: "يا سيد الكونِ، يا نجم غائب في سمائي"، وكذلك في نصها الأخير من الكتاب حين تقول: "لا أمل في اللقاء، هناك سراب، أنتَ في السماء". 


   الوحدة: وهذا نراه أيضا في النص الأول "من أنا" حيث تقول: "وحيدة، على رصيف الذكريات"، وفي نصها "أشواق عاصفة" حين تقول: "أعانق الأوجاع بصمت، وأمضي في سكون الليل"، وكذلك تتحدث عن الوحدة في نصها "ذكريات راحلة"حين تقول: "أي حال أنا فيه، والذكريات زنزانة، تأكل بقايا، عيوني الساهرة"، وفي نصها "غفا الليل" تتجلى مشاعرها بالوحدة بقولها: "سأبقى في ظلام الليل، أنادي قمري، عله يلقاني"، ونجد الوحدة في نصها "أشباه رجال" بقولها: "ودارت بي الأرض، وتقلبت أحوالي، وسرت في طرق، رسمها أشباه رجال"، وتتكرر الوحدة في نصها "ذكريات" بالقول: "أحبة ما غردوا، ولا أجابوا الآهات، فأيقنت، ألا مجيب لأشواقي"، وفي نصها "تنهد الورد" بالقول: "فسبحت مع الأحلام، على صهوة جوادي، وغفوت، على الأشواق". 


   وتبرز الوحدة في نصها "أنا والليل" حين تبوح بألم بالقول: "ألا أيها الليل، لم تبق لي شيئا، سوى الظلام والسهد"، وتناشد الليل في نهاية النص بالقول: "فاسرق أقمار غيري، واتركني، لأحلامي وأمالي" وهذا يدلل على حجم الوحدة والرغبة الكامنة في الخروج منها، والليل رفيق وحدة الكاتبة في نصوصها وهذا يتكرر في أكثر من نص فنراها في نصها "ليل حالك" تهمس: يساهرني ليلي، بسواده، بظلمته، أحاكيه، أساهره"، وتظهر الوحدة بألمها في نصها "الشمس أشرقت" بالقول: "ناديت في البيت، بأعلى صوتي، أين فارسي، وأين أحبابي، طال السفر"، كما تبرز الوحدة في نصها "أنتَ الكون" حين تقول: "وحيدة مع قهوتي، هلا شاركتني؟، وأعدت للقلب، روحا أفلت؟". 


   الوفاء: والوفاء بعض من المشاعر السامية في الكتاب، سواء كان الوفاء للوطن أو الحبيب الذي رحل فنجدها تقول في النص الأول "من أنا": "لم تغادرني، فقيودك لا زالت في معصمي"، وفي بداية النص تقول: "أنا عربية من الأردن، أنا فلسطينية من كل فلسطين، وبلاد العرب أوطاني"، وكذلك نجد ذلك الوفاء للشهداء في نص "يا عمر" والتي تحدثت فيه عن الشاب الشهيد البطل عمر، وفي نصها "ذكريات راحلة" وهي تقول لزوجها المناضل الذي رحل: "اهتزت الأبواب، ونادت الأماكن، على فارس الزمان، فمن قال أن الحنين والذكريات، لا تسير للوراء"، وظهر الوفاء في عدة نصوص وجميعها تخاطب أنثى كما في نص "عطركِ" حيث ورد في صيغة مخاطبة لأنثى بدون تحديد الأنثى، وهل هو مخاطبة للذات على لسان ذكر أو مخاطبة من الكاتبة لأنثى غيرها ابنة او أم او أخت أو صديقة، حيث تبدأ النص بالقول: "الذوق أنتِ، ورقة الإحساس، والعطر عطركِ، رائع الأنفاس"، وكذلك في نص "مسافر" ونص "بركان" ونص "برقٌ"  ونص "وريقة الروح" ونص "ثلج خلودي"  وهي جميعا تخاطب أنثى، بينما تعود لمخاطبة الآخر الذكر في نصوصها "خواطر" و "وجدان" و "طيور". 


   الوطن: ومن الضروري الاشارة أن الوطن لم يفارق نصوص الكاتبة، فلذا ركزت الكتابة في مقالي على المشاعر والأحاسيس كون الكتاب وطني بالكامل تقريبا، تاركا للقارئ التجوال بالوطنيات التي باحت بها الكاتبة، فهي كما أشرت قسمت نصوصها الى قسمين الوطنيات وهي غالبية النصوص، والوجدانيات وهي الأقل، ومن نصوص الوطن الحافلة بالمشاعر المختلفة نص "لا ترحل أيها الوطن" ونص "دماء فوق التراب" ونص "مشاعل الثوار" ونص "غزة" ونص "رجال الصمود"، كذلك نص "نحن السنديان"، ومن النصوص البارزة بفكرتها "نداء الوطن" حيث تتحدث عن ضرورة الثورة على من ترى أنهم باعوا الوطن، وتتكرر الفكرة في نصها "أبكيتني يا وطن"، بينما نرى الحنين في "مفتاح الدار" والأمل في "ضحكات" والافتخار في "عزنا قدسنا"، كما نرى الألم في نصها "أوطان على ظهري" وأيضا في نصها "إغتيال وطن" وفي نصها "وطن على الرمال" وفي نص "وطني" وفي نصها "حمامة على غصن زيتون"، والإصرار في "وطن على قلم" وكذلك في نص "فدائي، والرفض في "لا للمؤتمرات" والحلم في نص "فلسطين" وفي نص "طائر من فلسطين"، ونرى الحرقة في المشاعر في نصها "يا قدس" وفي نصها "القدس عروس عروبتنا" وهذا العنوان مقتبس من قصيدة للشاعر مظفر النواب، والإشتياق في نص "مجرد أحلام". 


  ومن الضروري الإشارة أن الكاتبة تميل للمباشرة في نصوصها بشكل عام رغم حجم المشاعر والأحاسيس فيها، ومن الضروري الإشارة أن ما عرف بالقصيدة النثرية "النثيرة" هي شكل من أشكال ماسمي بالحداثة والقائمة على التمرد على كل ما هو موروث بما فيه الشعر من خلال عملية تجريب ما زالت مستمرة، ولذا ظهر ما اصطلح عليه "قصيدة نثرية" وهي لها عناصر مختلفة تأسس لها وأهمها الرمزيات في النصوص، واللوحات بالحروف، والجرس الموسيقي والإيقاع والفكرة التي تثير التساؤل والنص الذي يثير الدهشة، وحين تخرج عن ذلك تكون أقرب للخاطرة المكتوبة منسقة البناء الخارجي على شكل شعر، وهذه مسألة يجب الانتباه لها، فالقصيدة النثرية أجنبية الجذور جرى استخدامها لدى بعض الشعراء العرب في بدايات مرحلة الحداثة، لكن الغالبية ممن يكتبون بدون معرفة قواعد الكتابة الشعرية النثرية وما عرف بإسم قصيدة النثر "النثيرة" يخلطون بين النثر والخاطرة والشعر، فليس كل من جرى خطه قصيدة نثرية،  كما ليس كل كلمات صفت على بحر من بحور الخليل شعرا  كما أشار الجاحظ. 

العقل التواصلي والنقاش الجمهوري عند يورغن هابرماس/ د زهير الخويلدي



استهلال:


"نحن كائنات غير معصومة ، بالتأكيد في العالم الحي ، ليس لدينا في الواقع طريقة أخرى ممكنة للتأكد من حقيقة ما هو حقيقي ، الا مناقشة منطقية ومنفتحة على المستقبل"


يورغن هابرماس (مواليد 1929) هو جزء من ذلك الجيل الذي أُجبر في ألمانيا على النشأة في ظل النازية، والذي لم يكن يعرف شيئًا، وقت انهيارها عام 1945، سوى أيديولوجيتها ونظامها. للهيمنة. في بلد مدمر، كان السؤال الملح لهذا الجيل الشاب، في فجر العشرينات من عمره، هو كيفية إعادة بناء مجتمع وسياسة على أسس غير تلك القائمة على الإكراه والعنف والهيمنة - التي كانت في قلب البربرية النازية. يُعد فكر يورغن هابرماس ، المعروف من بين عقول أخرى لمفاهيمه عن "الفضاء العام" ، و"الفعل التواصلي" ، و"العقل الجمهوري" ، و "الديمقراطية التداولية" ، أحد المساهمات الرئيسية في النظرية الاجتماعية والسياسية المعاصرة وكذلك في نظرية ايتيقا النقاش والتواصل. وبالمثل، فإنه يغذي بشكل حاسم تيار النظرية النقدية (لمدرسة فرانكفورت) ، التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي من قبل مجموعة من الباحثين المجتمعين حول معهد البحوث الاجتماعية - بما في ذلك ماكس هوركهايمر ، وثيودور أدورنو ، والتر بنجامين ، وهربرت ماركوز ، ليو لوفينثال ، سيغفريد كراكور. منذ كتاباته الأولى، أعطى يورغن هابرماس مكانة مركزية لمفهوم العقل، مؤكداً على مكوناته، الأخلاقية والسياسية على حد سواء، وكذلك البعد الاجتماعي والتاريخي. واعتبر أن تطوراته النظرية هي جزء من فكر يقع على مفترق طرق التخصصات المتنوعة مثل الفلسفة الاجتماعية والسياسية وعلم الاجتماع وعلوم الاخبار والاتصال والاعلام والإعلامية والتقنية وعلم اللغة ونظرية المعرفة والقانون ونظرية الدولة والتحليل النفسي، علم النفس التنموي، إلخ.


تم نشر فكر يورغن هابرماس منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، على مدى أكثر من ستة عقود، في شكل مساهمات نظرية بالإضافة إلى تدخلات عامة في الفضاء العام السياسي والإعلامي الأوروبي والأمريكي. وإذا كان من الصعب تلخيص فكره في عدد من الأفكار، فمن الممكن - من زاوية سؤال الجمهور - تحديد الفترات الرئيسية، التي تتميز بها أعمالها الثلاثة الرئيسية: الفضاء العمومي (1962)، نظرية الفعل التواصلي (1981) والحق والديمقراطية (1992). تتميز الفترة الأولى بتطوير نظرية عن الفضاء العمومي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمفهوم الكانطي للعقل، والذي يتتبع يورغن هابرماس ، كعالم اجتماع ومؤرخ ، المصير التاريخي والاجتماعي. تتميز الفترة الثانية بامتداد هذه التطورات في مجال نظرية اللغة والتواصل الاجتماعي، وأساس نظرية العقل بين الذات الراسخة في فهم اللغة ومبدأ المناقشة. على هذه الأسس، طورت الفترة الثالثة نظرية حول حكم القانون و"الديمقراطية التداولية"، وكان محورها هو الوسيط القانوني. على هذا النحو تعبر أفكار الجمهور والفضاء العام والسياسة التداولية، كشرط لتشكيل جماعي للإرادة الديمقراطية، هذه الفترات الثلاث، وتقدم نفسها كمفاهيم أساسية لنظرية هابرماس.


1-    الفضاء العمومي:


"يظهر جزء من الفضاء العمومي في كل محادثة يجتمع فيها الأفراد معًا لتشكيل جمهور. يتصرف المواطنون بصفتهم العامة عندما يتداولون في المسائل ذات الاهتمام العام دون قيود - مع ضمان حرية التجمع وتكوين الجمعيات وحرية التعبير عن آرائهم ونشرها. يتطلب هذا النوع من التواصل، لدى جمهور كبير، وسائل لنقل المعلومات والتأثير على من يتلقونها. اليوم، الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون هي وسائل إعلام المجال العام ". بهذه الكيفية تميز فكر يورغن هابرماس جذريا عن هذه التجربة البربرية النازية وافترق عن غيره بهذا المطلب الأخلاقي والسياسي لإعادة البناء الاجتماعي. كان هناك القليل من الشك في عينيه في أن ملامح إعادة الإعمار هذه يجب أن تكون سمات الديمقراطية ومشاركة المواطنين والحريات المدنية. لم تقض الهمجية النازية فقط على الحريات المدنية، وأزالت شروط ممارسة الاستقلالية الفردية، بل قضت أيضًا على فكرة الثقافة المفتوحة والفضاء الخطابي غير الخاضعين للسلطة الشمولية. إنها عودة حاسمة إلى المبادئ المعيارية للحداثة البرجوازية الناشئة والليبرالية السياسية التي يعمل بها يورغن هابرماس ، من منظور مادي ونقدي على حد سواء ، من خلال الاعتماد على حدس معين موجود بين زملائه في مدرسة فرانكفورت (ثيودور أدورنو ، ماكس هوركهايمر ، هربرت ماركوز). في هذا السياق، اكتسب المفهوم الكانطي للعقل النقدي والدعاية التنويرية أهمية حاسمة في تفكيره. طور إيمانويل كانط فكرة "الاستخدام العام للعقل" ردًا على السؤال "ما هو التنوير؟ "(كانط، 1784). تصور إيمانويل كانط منطق الأفراد العاديين الذين يتجمعون في جمهور، حيث يفكر الجميع بطريقة ما بصوت عالٍ ويتوصلون إلى اتفاق من خلال اللغة، كعملية ضرورية لتشكيل مجتمع عادل ومصير مشترك. يتيح مبدأ العقل، الذي يقع في صميم هذه الفلسفة، إمكانية توحيد الوعي في الفهم، والتعبير عن الأخلاق والسياسة، والربط بين المجال الخاص والمجال العام، وتصور تحول جماعي وفقا للعقل. وفقًا لهذا المبدأ، يجب أن يخضع قانون الدولة لاختبار العقل العملي، ولكي يكون القانون عادلاً، يجب أن تتم الموافقة عليه علنًا. وبالتالي، فإن ممارسة السرية، التي بنت عليها الدول المطلقة هيمنتها، قد تحطمت. يجب أن تقوم السلطة السياسية والتشريعية على إرادة الشعب، التي أساسها إجماع بين الناس لاستخدام عقلهم علانية. وفقًا لإيمانويل كانط، فإن العدالة و"الأغراض العامة للجمهور" لا تنفصل عن الدعاية. ومع ذلك، لا يمكن تحقيق مبدأ تقرير المصير هذا إلا إذا استخدم المشاركون بالفعل منطقهم في المناقشات العمومية، والتي تعمل في نفس الوقت على التحكم العملي في خدمة الحقيقة والعدالة.


باختصار، يفترض المبدأ الكانطي للعقل أولاً أن الأشخاص مستقلين، وأنهم يشكلون بحرية ودون قيود حكمًا على مسائل المصلحة العامة؛ بعد ذلك، أن يشكل الأشخاص أنفسهم علانية من أجل صياغة بيانات وأحكام تدعو إلى تقييد السلطة السياسية؛ وأخيراً ، أن تكون قرارات الأخيرة في شكل قوانين خاضعة للنقاش والموافقة من قبل هذا الجمهور ، مما يضمن شرعيتها. إن مبدأ العقل النقدي والدعاية التنويرية هذا هو أساس مفهوم هابرماس للفضاء العمومي. إنه يرى الذات البشرية كحيوان سياسي - وفقًا لصيغة أرسطو - أي كائن يتشكل ويتحقق فقط في "ثقافة عامة، مشتركة بين الذات مع نظرائها، والتي لا تطور مهاراتها. السماح للشخص بأن يصبح شخصًا فقط بفضل اندماجه الأصلي في شبكة عامة من العلاقات الاجتماعية. نحن البشر نتعلم من بعضنا البعض، يؤكد يورغن هابرماس. وهذا ممكن فقط في الفضاء العام الذي تنتجه بيئة محفزة ثقافيًا. هذا الإصرار على البعد الاجتماعي يبعد يورغن هابرماس عن النظريات الليبرالية والفردية. إن تركيزه على الجمهور كعملية من التكوين الذاتي والعملي يبعده عن نظريات المجتمع. في هذا التراث يجب أن يُدرج مفهومه عن الجماهير. ومع ذلك، مع مبدأ العقل النقدي والدعاية التنويرية، نحن بعيدون عن فكرة "الفضاء" بالمعنى المكاني، كما توحي الترجمة الفرنسية للمصطلح. لأن تعبير "الفضاء العمومي" غالبًا ما يستخدم بالفرنسية للإشارة إلى الأشكال الملموسة للمساحات غير الخاصة (الشارع، السوق، المباني العامة، إلخ). على العكس من ذلك، يعطي يورغن هابرماس هذه الفكرة المعنى الكانطي لعملية تؤثر على "أن تصبح عموميا" ، حيث يتم تجاهل المصالح الخاصة أو الشخصية للذات. على عكس المعنى المكاني، يشير مصطلح قبل كل شيء إلى حركة "النشر" والدعاية، وهي عملية "أن تصبح عمومية" ، وهي ديناميكية مشتركة للفهم يحكمها العقل. هذا هو المبدأ الذي يتبناه المفكر لنفسه في عمله. هناك، أسس مفهومًا معياريًا للتنظيم الذاتي الديمقراطي للمجتمع، من خلال بناء جماهير نقدية قادرة على الحكم والخطاب السياسي والعقل التداولي.


إلى جانب عمله في الفضاء العمومي منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، شارك يورغن هابرماس كباحث شاب في استطلاعات الرأي في فرانكفورت. ركز عمله التجريبي في ذلك الوقت على عملية نزع النازية وإعادة البناء الديمقراطي في ألمانيا. على وجه الخصوص، كان الباحثون يدرسون احتمالات إعادة نشر المشاركة السياسية والمدنية ضمن حكم القانون الديمقراطي المعاد بناؤه ، وتجريده من جوانبه الاستبدادية.  وصل هذا البحث أيضًا إلى طرح سؤال حول تكوين الذوات الديمقراطية، القادر على تنشيط الرأي العام السياسي دون الاستبداد - وتطهير بقايا الأيديولوجية النازية - لإيجاد مسار النقاش الديمقراطي والتعددية والمشاركة السياسية والتكوين الديمقراطي للإرادة الجماعية. في هذا السياق، مع ظهور جيل جديد، لا تنازل عن النازية ولا مسؤول عنها، يُظهر يورغن هابرماس ثقة معينة في قدرته على المساهمة في إعادة بناء مجتمع ديمقراطي، في ضوء المبادئ الأخلاقية القائمة على المشاركة السياسية لجمهور فاعل. هذا لا يمنعه من أن يرى في العمل، في هذا السياق الجديد، آليات قوية للمصادرة السياسية تتميز بميول لسرقة الأسئلة العملية للمجال العام لصالح دولة تكنوقراطية تتجاوز الجميع. مشاركة المواطنين، حتى معادية لهذه الأخيرة. هذا الاهتمام بأشكال مصادرة "التكوين الجماعي للإرادة" من قبل سلطة سلطوية يتخلل كل أعماله. في ستينيات القرن الماضي، قدمت تعهدات ضد تقليص التكنوقراطية في النشاط السياسي، محولة الأسئلة العملية والسياسية إلى أسئلة تقنية. في السبعينيات، كانت الدافع وراء عملها على أزمة الشرعية في مجتمعات "الرأسمالية المتقدمة" وكذلك الميول نحو "استعمار العالم الحي" من خلال أنظمة الاقتصاد والسلطة. في الثمانينيات، كانوا موضوع بحث متعمق حول دور القانون كوسيط بين "النظام" و"العالم الحي" داخل "المجتمعات المعقدة" المرتبطة بعملية الشرعية من خلال الممارسات الاتصالية الفضاء العام. لقد نشأت هذه الأسئلة في الفضاء العام من خلال تحليله لانحدار المجال العام البرجوازي و"إعادة الإقطاع". في ضوء المبدأ المعياري للإعلان، صنع يورغن هابرماس علم الاجتماع التاريخي عنها من خلال وصف عملية تكوين المجال العام البرجوازي من ناحية، وعملية تحللها من ناحية أخرى. وفقًا لتحليله، تم تشكيل هذا الأخير بفضل مشاركة الموضوعات المستقلة في فضاء من النقاش حيث يتم دفع الجميع إلى صياغة أحكام من خلال مناقشة الأسئلة المهمة. تفترض مثل هذه العملية تصورًا عقلانيًا ونقديًا للثقافة، بالإضافة إلى وسائل اتصال غير متلاعبة تسمح بتكوين الجماهير من خلال "الاستخدام العمومي للعقل". لأنه، كما أكد المؤلف. وبالتالي، فإن الفضاء العام يعني "مجال الحياة العامة للنشاط الاجتماعي المضمون لجميع المواطنين، والذي يمكن من خلاله تكوين رأي عام". في الفضاء العمومي، تابع يورغن هابرماس مشروع استعادة المصير التاريخي للمقولة الكانطية للعقل التنويري، من التكوين التاريخي للمجال العام البرجوازي حتى تراجعها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. في رأيه، فإن تخريب مبدأ الدعاية النقدية لصالح الإعلان المتلاعبة يشير إلى ذبول مبدأ الإعلان وتراجع الفضاء العام البرجوازي. وبينما توقعت علاقات التبادل بين الملاك الأفراد الذين كان من المفترض أن يكونوا متساوين، أدى النموذج الليبرالي إلى تركيز غير مسبوق للسلطة الاقتصادية والاجتماعية في أيدي قلة. أدى ذلك إلى خلق روابط التبعية والهيمنة التي أصبحت في وقت من الأوقات غير محتملة بالنسبة للمجتمع. تحت تأثير تناقضاته الخاصة، انهار النموذج الليبرالي، تاركًا فراغًا تم ملؤه من خلال تدخل الدولة المتزايد، من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثم انهار الفصل بين الملكين الخاص والملك العام، الذي كان مكونًا للنموذج الليبرالي للمجال العام البرجوازي. قبل كل شيء، تآكلت الوظيفة الحاسمة للإعلان، بمعنى الاستخدام العام للمنطق، لصالح "إظهار" القوة المتزايد، بحثًا عن "التزكية" الجماعية وليس المناقشات النقدية. عندئذ يصبح الجمهور الناقد والمتأمل جمهوراً "تابعاً" وغير مبالي. في حين أن الإعلان "كان يعني في السابق إزالة الغموض عن البعد السياسي في المحكمة من أجل الاستخدام العام للعقل؛ الإعلان اليوم هو المحتوى لتراكم سلوكيات الاستجابة التي تمليها الموافقة السلبية. يضاعف المبادرون المؤثرون استراتيجيات التمثيل والمكانة لكسب دعم "الفاعلين"، بدلاً من تقديم الحجج التي تستهدف الجمهور الناقد باستخدام العقل. إن "ثقافة الشمولية" هذه تُخضع الفرد للالتزام الطائش. في عملية "إعادة الإقطاع" في المجال العام، تلعب وسائل الإعلام دورًا رئيسيًا - في شكل وسائل الإعلام، لأنها تشجع الأفراد على التمسك بالعلاقات الاجتماعية القائمة، دون الخوض في ممارسة التفكير النقدي.


2-    الفعل التواصلي:


في عمله عام 1962، جاء المؤلف لملاحظة تصفية الجمهور مستغلًا أسبابها لصالح "إعادة تشكيل" الفضاء العمومي، وفقًا لمخطط ديالكتيكي للتحلل التاريخي للفضاء العام. الفضاء العام. هذا النموذج يتبعه نموذج آخر في كتاباته في نهاية الستينيات، حيث لم تعد المراحل التاريخية هي التي تعارض (الجمهور النقدي مقابل الجمهور التابع)، ولكن منطق الفعل وأشكال التبرير. وهكذا يميز يورغن هابرماس عملية "عقلنة رمزية" تؤثر على المعايير واللغة حيث يترك عالم التقاليد (السحر والأساطير والدين وما إلى ذلك) بعده المقدس مصنفة حسب الفعل اللغوي، في شكل استجواب منهجي. يحرر هذا التبرير مساحات جديدة، مفتوحة الآن للغة والتفسير، مما يساهم في ظهور جماهير نشطة وناقدة تتحدث عن تعريفات العالم والمعايير التي يقوم عليها. على العكس من ذلك، هناك شكل آخر من أشكال التبرير يتكشف، ذا طبيعة تقنية هذه المرة، والذي يعمل في عالم الاقتصاد والسلطة. يتضمن ذلك حساب وسائل وغايات الإجراء من خلال البحث عن أفضل خيار بموجب معايير الأداء. إذا كان الترشيد الرمزي يساهم في توسيع نطاق الجمهور والمهام اللغوية التي تقع على عاتقه (التعريف التواصلي للمعايير والمواقف)، فإن تفجير احتياجات فهم اللغة، والعقلنة التقنية، تقصير الدوائر اللجوء إلى اللغة من خلال عملياتها المنهجية للحساب ومعيارها للكفاءة الآلية، وبالتالي تقليل أي مساحة للتنسيق إلى استراتيجية وأداء فعالين. بالنسبة لهذين الشكلين من العقلانية، يعارض يورغن هابرماس أيضًا شكلين من أشكال التمثيل، والذي يصفه بأنه تواصلي عندما يتعلق الأمر بمعايير ورموز فهم اللغة، والأداتية عندما يتعلق الأمر على الأشياء والعلاقات وفقًا للاستراتيجيات ومعايير الأداء الوظيفية. يُظهر الفيلسوف كذلك أن المجتمعات الحديثة تُنظم بواسطة شكلين مختلفين من التنسيق بين الذوات الاجتماعية، اعتمادًا على ما إذا كانت تندرج تحت "النظام" (الاقتصاد والسلطة) أو "العالم الحي". ان العمل وفقًا للغة يعني الاتفاق على المعايير التي تحكم عالم العمل، والتنسيق عن طريق تعبئة الرموز التي يتم استنساخها في نفس الوقت من خلال هذا التنشيط. للعمل وفقًا لأشكال منهجية للتنسيق، فإنه يعني الاستغناء عن اللغة والحاجة إلى التوافق عن طريق وسائل الاتصال، والتي تتعلق بتعريف العالم الذي تعيش فيه الموضوعات وكذلك التوجهات المعيارية التي تبنيها. البعد الرمزي والاجتماعي. إذا كان النشاط العادي يحدث على المستوى المنهجي بقدر ما يحدث على مستوى التواصلية، فإننا نشهد "استعمارًا للعالم الحي" من قبل النظام، عندما يتعدى الأخير على النشاط اللغوي والتنسيق، حتى جعلها غير ضرورية. يشير هذا إلى اختفاء الجماهير التي يستخدم أعضاؤها اللغة في الاتفاق والحجة على حد سواء، لتحديد الاتجاهات المرغوبة للعمل. منذ ذلك الحين، أصبح العالم الاجتماعي كونًا باردًا وغير مبالٍ، يسكنه عمليات مجمدة في الأوتوماتيكية التي تتشكل بفضل أداء النظام وحده. سيكون التواصل اللغوي فقيرًا لدرجة أن "إعادة الإنتاج الرمزي" للمجتمع ستكون مهددة. وهنا يكمن السيناريو الكارثي لتصفية الجمهور والتشكيل الجماعي للسلطة السياسية، لصالح عالم موحَّد تحت تأثير مقتضيات "النسق"، والسلطة الإدارية ، والاقتصاد.


3-ايتيقا النقاش:


في مواجهة هذه الصورة المجنونة لاختفاء الفضاء العام تحت تأثير "النظام" ، تابع يورغن هابرماس - منذ الثمانينيات - تفكيره في القانون كوسيط تنظيمي بين "النظام" و "العالم الحي". ". وفقًا لهذا المفهوم، ينبثق القانون من العمليات المتعارضة وعمليات الفهم الناشئة عن العالم المعاش، لتأسيس نفسه في مجموعة النصوص القانونية والقوانين المستقرة نسبيًا. على هذا النحو، فإنه يعرض خصائص "العالم الحي" وخصائص "النظام". وبهذا المعنى، فهو أوجد فئة وسيطة لتنظيم الحياة الاجتماعية والحد من سيطرة النظام على العالم الحي. في 1992، طور المؤلف تحليلًا للعلاقة بين الجمهور المنظم في شكل مجتمع مدني والنظام السياسي المحصور في ساحات السياسة التمثيلية. التأكيد مرة أخرى على الدور الرئيسي للفضاء العمومي، والذي لا يراه كمؤسسة ولا كمنظمة، ولكن باعتباره "ظاهرة اجتماعية" ذات "آفاق مفتوحة ومتنقلة تسمح بالاتصال المحتويات والمواقف ومن ثم الآراء، اعتبر أن الارتباط بين المساحات العامة غير المنظمة للنقاش الحالي، يؤدي إلى تدفقات كثيفة من الاتصالات التلقائية، والمجالات المؤسسية الممنوحة سلطة اتخاذ القرار. يتمثل التحدي الذي يواجه المجتمع الديمقراطي في النجاح في ضمان وجود تعددية للأماكن العامة، متباينة ومتعددة، مع التمكن من إيصال هذا التنوع في الأصوات إلى الفضاء السياسي المؤسسي والضغط على "السلطة الإدارية". تعتمد شرعية القرارات التي تتخذها السلطة السياسية وحيوية الديمقراطية على التفاعلات بين هذه المساحات. وتستند هذه الشرعية إلى إجراء تم نشره داخل المجال السياسي العام، يجمع الآراء المعبر عنها في مختلف الساحات. يعتمد على هذا الإجراء شرعية النظام السياسي الديمقراطي. مع فكرة "السيادة الإجرائية" هذه، أعيدت صياغة نظرية الفضاء العمومي في إطار "المجتمعات المعقدة" وسيادة القانون، وترسيخ نفسها في إمكانية العقلانية المكرسة في ممارسات اللغة العادية. وفقًا للنظرية المعيارية للمؤلف حول الديمقراطية التداولية، يجب أن تكون الأسئلة التي تتم مناقشتها وموضوعها في الفضاء العام (خاصة من قبل الحركات الاجتماعية) قابلة للترجمة إلى تعبيرات ومقترحات ضمن المجالات السياسية الخاصة بالنظام الديمقراطي، لتحقيق إعادة تشكيل الحق إذا لزم الأمر. ولكن للقيام بذلك، يجب أن تضمن السلطة السياسية شفافية معينة في مناقشاتها وقراراتها، من خلال السماح للجمهور بالتعرف على الأسئلة التي تطرحها السلطة، والتعبير عن آرائه. كما يجب أن تكون الجماهير المنظمة ودينامياتها الخطابية قادرة على تكوين "سلطة تواصلية" كما يؤكد يورغن هابرماس، مما يجعل من الممكن التأثير وتعديل الأحكام القانونية المتعلقة بمشكلة تم تحديدها وإنشاؤها داخل الأماكن العامة المعنية. يظهر الفضاء العام على أنه "لوحة سبر آراء" قادرة على تمرير المشاكل الناتجة عن ضغط أنظمة الاقتصاد والسلطة الإدارية على وجود المواطنين - مشاكل تسبب الإحباط والمعاناة، وميزة الاتصال الجماهيري هي توليهم المسؤولية والتعامل معهم. وهكذا يضع المفكر موضوعًا، من خلال استلهام مفهوم حنة أرنت للسلطة، على "السلطة القائمة على التواصل"، التي تستند إلى "حريات الاتصال للمواطنين" وعلى "الاعتراف" بين موضوعات ادعاءات الصحة " وشرائط الصلاحية، في أفعال الكلام التي تتم صياغتها في الأماكن العامة غير الرسمية. تُمارس هذه السلطة التواصلية في مواجهة السلطة المُدارة من أجل "تأكيد ضروراتها" وتحويل نفسها إلى سلطة صنع القرار السياسي. في دولة القانون، تستجيب هذه السلطة لمطلب ربط النظام الإداري بالسلطة التشريعية القائمة على التواصل، مع حمايته من القوة الغاشمة لـ "القوة الاجتماعية لتدخل المصالح المتميزة.


4-    دور وسائل الإعلام العمومية:


لذا فإن نموذج "الديمقراطية التداولية" يعني وجود جماهير قادرة على النقد والحكم والتداول. كما يتضمن مفهومًا معياريًا لوسائل الإعلام والصحافة، من المفترض أن يضمن دور المعلومات والمعرفة، مما يجبر من هم في السلطة والهياكل الإدارية على أن يكونوا مسؤولين ويبررون أنفسهم في الفضاء العام، تصور يورغن هابرماس الصحافة على أنها "مؤسسة بامتياز" للمجال العام: كانت المنظمات الصحفية الأولى امتدادًا لمناقشات منطقية داخل المجال العام البرجوازي، أي حفز الوسطاء المناقشة العامة. في طليعة النضال من أجل حرية الرأي العام والدفاع عن مبدأ الدعاية، في مقابل الرقابة وممارسة السرية، ترتبط وسائل الإعلام ارتباطًا وثيقًا بديناميات الفضاء العام. ويتمثل دورهم في ضمان الظروف لتكوين جماهير مستنيرة وعقلانية، قادرة على التعرف على الموضوعات والقضايا التي تهمهم، ومن ثم تشجيع التشكيل الديمقراطي للإرادة الجماعية. لذلك فإن وسائل الإعلام لها دور في المعلومات والثقافة وتدريب الجمهور القادر على ممارسة عقله النقدي، وبالتالي أيضًا إعادة تشكيل القواعد المعيارية للسلطة السياسية. ولا يمكن لوسائل الإعلام أن تؤدي هذا الدور إلا إذا تم تأطيرها بواسطة أنظمة قوية من القواعد والمبادئ المعيارية، مما يجعل من الممكن وقف عملية تسليع المحتوى والحد من مخاطر رؤية إنشاء "سلطة إعلامية". تحت الضغط الاقتصادي، يميل مجال المعلومات إلى تحويل نفسه إلى ترفيه، حيث يسود منطق "الصناعة الثقافية" كما أوضح ثيودور أدورنو وزملاؤه. يؤكد يورغن هابرماس بثبات، منذ كتاباته الأولى حتى خطاباته الأخيرة، أن الطابع التجاري والخاص لشركات الصحافة، وتركيزها الاقتصادي، يمثل "تهديدًا للمجال العام"، على الرغم من أنه كان كذلك في الأصل. تتابعه الذي لا غنى عنه. "بينما كان بإمكان الصحافة في الماضي أن تقتصر على لعب دور الوسيط والمحفز في استخدام الأشخاص العاديين الذين يشكلون الجمهور لعقلهم، فإن الإعلام الآن هو الذي يشترط ذلك المنطق "أكد في الفضاء العام. هذا الشك فيما يتعلق بوسائل الاتصال، والتأكيد على "غموضها" مع الإصرار على مساهماتها الأساسية في المجتمعات الديمقراطية، موجود في تحليلاته للصحافة الكلاسيكية، ووسائل الإعلام في القرن العشرين، وكذلك في تحليلاته للتقنيات الحديثة لظاهرة المعلومات والاتصالات. إن التطورات في أنظمة المعلومات والاتصالات، وخاصة الإنترنت، تخضع في الواقع لنفس المنطق. إنها بالطبع تغير قواعد اللعبة من خلال عملية الأفقية ومضاعفة فضاءات المناقشة. مع "ثورة وسائل الإعلام"، يتم تسريع وتكثيف التدفقات التواصلية، مما يسمح بالتبادلات غير المنظمة بين شركاء الاتصال ويعزز كلاً من توسيع شبكات الاتصال وزيادة التمايز بين الجماهير. وهكذا، يميل الاتصال عبر الإنترنت إلى "إعادة التوازن إلى نقاط ضعف الطابع المجهول وغير المتكافئ للاتصال الجماهيري"، من خلال إحياء "الشخصية التاريخية للجمهور المتساوي من المحاورين الذين يقرؤون ويكتبون والمراسلين بالحرف". على الرغم من مساهمات هذه التحولات في الاتصال، بفضل تقنيات وسائل الإعلام، يؤكد يورغن هابرماس أنه "من غير الممكن إزالة الشك الذي لدينا للوهلة الأولى حول المساهمة المحتملة للاتصال الجماهيري في النهوض بالسياسة التداولية. إذا كانت البنية التحتية التقنية التي هي الويب تعزز الاتصالات الأكثر كثافة وأسرع والأكثر احتقارًا، فإنها تشجع أيضًا عمليات التجزئة التي تخفف من قوى الطرد المركزي اللازمة لتحويل ديناميكيات الفضاء العام إلى إرادة سياسية. لأن "المعادلات الوظيفية لهياكل الأماكن العامة التي تجمع الرسائل اللامركزية وتختارها وتوليفها". كما تفتقر إلى فضاء الاتصال الرقمي. وهكذا لاحظ يورغن هابرماس أن، "في الأماكن العامة الوطنية، يبدو أن الاتصال السياسي قادر مؤقتًا فقط على الاستفادة من المناقشات عبر الإنترنت، عندما ترتبط المجموعات النشطة على الويب بعمليات حقيقية مثل الحملات الانتخابية أو الخلافات المستمرة، من أجل حشد اهتمام ودعم المؤيدين. ظهور الملايين من غرف المحادثات المنتشرة في جميع أنحاء العالم والقضايا العامة من المجموعات التي تتجمع حول سؤال، والتي تكون مترابطة، تفضل بدلاً من ذلك تفكك هذه الجماهير الكبيرة، ومع ذلك تتمحور "في نفس الوقت على نفس الأسئلة في الأماكن العامة السياسية" (المرجع نفسه). لذلك، في الفضاء الرقمي، ينقسم هذا الجمهور إلى عدد كبير من المجموعات العشوائية المجزأة التي تجمعها اهتمامات محددة. وبهذه الطريقة، يبدو أن المساحات العامة الوطنية الحالية تتقوض تدريجياً.


خاتمة:


يمارس هابرماس النقد البنائي، اذ على الرغم من هذا النوع من التحفظ الذي تمت صياغته عدة مرات في كتاباته، غالبًا ما يتم انتقاد نظرية يورغن هابرماس للتواصل والفضاء العام لإضفاء المثالية على عمليات الاتصال التي يفترض أن تقوم بها الأجهزة الرقمية، والتي تعتبر مفرطة في الترميز والرقمنة مراوحة بين الموضوعية والفهم المتبادل، التواصل غير المقيد، بناء الإجماع التداولي. في الواقع، يعتمد عمله بشكل أقل مباشرة على فحص الأشكال الخطابية المفصلة بالسلطة، كما في ميشيل فوكو، والتبادلات اللغوية غير المتكافئة، أو حتى الأشكال الرمزية للعنف والسيطرة - التي وصفها علم اجتماع بيير بورديو. إنه لا يحاول تسليط الضوء على استحالة الاتصال بسبب التفاوتات الهيكلية والمهارات غير المتكافئة والاختلافات في الوضع وأنماط الهيمنة. ومع ذلك، تلعب "تشوهات الاتصال"، أو "أمراض الاتصال" دورًا سيئ السمعة في يورغن هابرماس، وترقى نظريته النقدية إلى منح نفسه الوسائل لتسليط الضوء عليها وتقديمها للنقد. قبل كل شيء من منظور إعادة البناء للمعايير العملية للفهم الاتصالي يتم إبرازها. لا يسعى الفيلسوف إلى تفكيك ممارسات الفهم بين الذات والتواصل الاجتماعي، بل لإعادة بناء ممارسات الفهم بين الذاتيين والتواصل الاجتماعي - والمعايير الفعالة لأخلاقيات المناقشة" المرتبطة بالبحث الجماعي عن "أفضل حجة". إن نظرية المعرفة البنائية هذه هي أساس نظريته، وتتألف من وصف العالم "الذي يجب أن يكون" على أساس العالم "كما هو"، في فحص ما يمكن أن يكون جوهريًا في الممارسات موضع التساؤل حول الخطة المعيارية. انطلاقًا من القيد، يطرح هابرماس بالتالي مسألة حدود المجتمع العادل الذي ينظمه العقل، بدءًا من المعيارية العملية للفهم بين الذات بواسطة اللغة. إن مداخلاته العامة هي تعبيرات عن هذا الموقف النقدي، إلى جانب الرغبة في تجديد "تشخيصه للحاضر" باستمرار، والتي تتوافق مع المساهمات المشتركة لعلم الاجتماع والفلسفة.  هذا البعد المزدوج، الاجتماعي والمعياري ، لا ينفصل عن النظرية النقدية ليورغن هابرماس ، وتصوره للجمهور مرتبط بها بشدة. فإلى أي مدى تسمح هذه الايتيقا التواصلية من انقاذ العالم من أزمة اللاتواصل؟


المصادر والمراجع:


Habermas J., 1962, L’Espace public. Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, trad. de l’allemand par M. B. de Launay, Paris, Payot, 1978.


Habermas J., 1968a, La Technique et la science comme « idéologie », trad. de l’allemand par J.-R. Ladmiral, Paris, Gallimard, 1973.


Habermas J., 1968b, Connaissance et intérêt, trad. De l’allemand par G. Clémençon, Paris, Gallimard, 1976.


Habermas J., 1981a, Théorie de l’agir communicationnel. Tome 1, trad. De l’allemand par J.-M. Ferry, Paris, Fayard, 1987.


Habermas J., 1981b, Théorie de l’agir communicationnel. Tome 2, trad. De l’allemand par J.-L. Schlegel, Paris, Fayard, 1987.


Habermas J., 1981c, « La modernité : un projet inachevé », trad. De l’allemand par G. Raulet, Critique, 413, pp. 950-969.


Habermas J., 1989,« La souveraineté populaire comme procédure.Un concept normatif d’espace public», trad. De l’allemand par M. Hunyadi, Lignes,7, pp.29-58.


Habermas J., 1989b, « Médias de communication et espaces publics », trad. De l’allemand par L. Quéré, Réseaux, 34, pp. 81-94.


Habermas J., 1990, « Préface à l’édition de 1990 », pp. I-XXXV, in : Habermas J., L’Espace public, Paris, Payot, 1993.


Habermas J., 1991, De l’éthique de la discussion, trad. De l’allemand par M. Hunyadi, Paris, Éd. Le Cerf, 1992.


Habermas J., 1992, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad. De l’allemand par Ch. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.


Habermas J., 2006, « La démocratie a-t-elle encore une dimension épistémique ? Recherche empirique et théorie normative », trad. De l’allemand par I. Aubert et K. Genel, Participations, 5 (1), pp. 163-175.


Habermas J., 2015, « Espace public et sphère publique politique. Les racines biographiques de deux thèmes de pensée », Esprit, 8, pp. 12-25.


Habermas J, Morale et communication, édition du cerf, Paris, 1986.


Habermas J, la pensée postmétaphysique, édition du cerf, Paris, 1993.


كاتب فلسفي

سيئول وطوكيو تسببان بخلافاتهما صداعا لواشنطن/ د. عبدالله المدني*


لعل أحد أكثر الملفات العاطفية الموروثة من الحروب الباسيفيكية هو ما يسمى ملف"نساء المتعة" وملف"العمال السخرة" اللذين ترفعهما كوريا الجنوبية في وجه اليابان، مطالبة طوكيو بالإعتذار ودفع تعويضات مالية ضخمة لمواطنيها الذين انتهكت حقوقهن وكرامتهن من نساء وعمال خلال حقبة الإحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية (من 1910 إلى 1945)، وهو ما ألقى منذ عام 2018 بظلال قاتمة على علاقات الدولتين المفترض أنهما حليفتان ووضعهما في مسار تصادمي، فتأثرت روابطهما التجارية والأمنية بدليل قيام طوكيو بإزالة كوريا الجنوبية من ”القائمة البيضاء“ لشركائها التجاريين المفضلين، وتهديد سيئول بالانسحاب من اتفاقية الأمن العام ومشاركة المعلومات الاستخباراتية مع اليابان ”GSOMIA“.

وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية أكبر المتضررين من هذا النزاع بسبب حاجتها إلى أن يسود التعاون والتفاهم بين سيئول وطوكيو من أجل هدفها الأسمى في هذه الفترة وهو مواجهة الصعود السياسي والاقتصادي والعسكري للصين من ناحية، ومن ناحية أخرى لمواجهة تهديدات وألاعيب كوريا الشمالية في المنطقة. ولهذا جندت إدارة الرئيس جو بايدن دبلوماسيتها لتقريب وجهات النظر بين حليفتيها اليابانية والكورية، لكن دون نجاح يذكر بسبب إلقاء كل من اليابان وكوريا الجنوبية اللوم على بعضهما البعض فيما خص تدهور العلاقات من بعد نحو نصف قرن من التعاون.

فسيئول مثلا تقول أن اليابانيين هم من يعرقلون أي تسوية حول الملف التاريخي المذكور بانتظار وصول رئيس كوري جديد إلى السلطة في العام القادم، بينما تفند طوكيو هذا الزعم وتقول أن الكوريين يتجاهلون التعويضات التي دفعتها سابقا ويصرون على إعادة فتح ملفات أغلقت بموجب اتفاق تم التوصل إليه في عام 2015 لتسوية قضية الاعتذار وتعويض النساء الكوريات. والمعروف في هذا السياق أن اليابان قدمت اعتذارا صريحا على لسان زعيمها الأسبق شينزو آبي الذي أعرب عن ندم بلاده لإهانة شرف وكرامة أعداد كبيرة من الكوريات، وتعهد بتضميد الجراح النفسية من خلال تعويضات مالية، وأنشأت ومولت صندوقا لتقديم تعويضات قبلها ثلثا الضحايا الناجين، بينما فضل الثلث المتبقي الرفض والاستمرار في رفع قضايا ضد طوكيو في المحاكم الكورية الجنوبية. 

والمعروف أيضا أن الحكومة الكورية السابقة انتصرت لهذا الثلث وألغت من جانب واحد اتفاقية 2015 وقامت باغلاق الصندوق، ما أغضب الحكومة اليابانية ودفعها للقول أن نظيرتها الكورية ليست جديرة بالشراكة والثقة.

يمكن القول ان الضغط الشعبي في كلا البلدين، والذي وقفت خلفه وسائل الإعلام المحافظة، جعل ساسة البلدين يتصلبون في مواقفهم لأسباب إنتخابية، وهو ما تسبب في بقاء الأزمة على حالها.

انفراج بسيط تحقق في إبريل المنصرم، حينما رفضت محكمة سيئول دعوة رفعتها مجموعة من النساء ضد اليابان، حيث قال القاضي أن اتفاقية 2015 كانت صالحة لتسوية مشكلتهن، مع اقراره بأنها لم تكن مرضية تماما قياسا بالألم الذي عانينه في الماضي. وتناقض هذا الحكم مع حكم أصدرته محكمة ذات مستوى مماثل في يناير الماضي قضى بأن على اليابان أن تمنح المزيد من التعويضات. توقع المراقبون أن يؤدي الحكم القضائي الجديد، إلى فتح الباب أمام مفاوضات دبلوماسية بين البلدين بدعم أمريكي. 

غير أن رد الفعل الياباني كان حذرا آنذاك بسبب تجاذبات وصراعات داخل الحزب الديمقراطي الحر الحاكم في طوكيو استعدادا للإنتخابات العامة، خصوصا مع ميل المقترعين لإتخاذ مواقف متشددة. هذا ناهيك عن وجود عقبات أخرى حالت دون ترطيب الأجواء وفي مقدمتها قيام الكوريين بالإستيلاء على أصول لشركتي "ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة" و"نيبون للحديد والصلب" اليابانيتين، وبيعها لسداد تعويضات لأمرأتين وأربعة رجال أجبروا على العمل القسري زمن الحرب والاحتلال، وذلك تنفيذا لحكمين أصدرتهما المحاكم الكورية في أكتوبر 2018 وسبتمبر  2021 وهما حكمان رفضتهما طوكيو واعتبرتهما خرقا لمعاهدة سنة 1965 الثنائية التي ترتبت عليها إقامة العلاقات الدبلوماسية والاتفاقية الملحقة حول تسوية المشكلات الخاصة بالملكية والدعاوى والتعاون الاقتصادي واستفادة كوريا الجنوبية من القروض اليابانية. لكن معاهدة 1965 في نظر كوريين جنوبيين كثر، ولاسيما اليساريون منهم، تسوية غير مقبولة لأنها ــ حسب زعمهم ــ أبرمت بشكل غير ديمقراطي من قبل نظام زعيمهم الأسبق "بارك شونغ هي" العسكري الإستبدادي، الذي "تنازل عن العدالة التاريخية وحقوق مواطنيه في مقابل الحصول على المساعدات الاقتصادية اليابانية"، كما وأنها أبرمت، طبقا لهم، في وقت كانت فيه بلادهم في وضع إقتصادي صعب وتقف على الخطوط الأمامية للحرب الباردة، فلم يكن أمامها سوى خيار قبول التعاون الأمني والاقتصادي مع اليابانيين وتأجيل الحديث حول تسوية عادلة لأخطاء الماضي.

وهنا يتناسى الكوريون حقيقتين أولاهما أن أحد المباديء الأساسية في القانون الدولي هو أن الإتفاقيات بين الدول لا تسقط بتغير أنظمتها السياسية، وثانيتهما هي أن الإطار العام لمعاهدة 1965 هو معاهدة سان فرانسيسكو للسلام، والتي حددت شروط التسوية السلمية الشاملة بين اليابان ومعظم المجتمع الدولي.

الجديد على صعيد العلاقات المتوترة بين البلدين تمثل في مكاملة هاتفية في منتصف أكتوبر الفائت بين الزعيم الياباني الجديد "فوميو كيشيدا" ونظيره الكوري "مون جيه إن". في هذه المكالمة، وهي الأولى بين الجانبين منذ أكثر من ثلاث سنوات، طالب كيشيدا بضرورة تعميق العلاقات الثنائية وروابطهما مع واشنطن لمواجهة التهديدات الأمنية الخطيرة في المنطقة، فيما دعا الرئيس الكوري الجنوبي إلى حل قضايا الماضي بطريقة دبلوماسية وبحيث لا تؤثر على التعاون الأمني. ومثل هذه الدعوات، رغم أنها إنشائية وفضفاضة ولم تحسم الأمور الخلافية، إلا أنها خطوة ودية توحي باستعداد القيادة اليابانية الجديدة لطي صفحة الخلاف من أجل التركيز على قضايا مشتركة أكثر أهمية.

د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

تاريخ المادة: ديسمبر 2021م


أعياد الميلاد المجيد تتواصل في ظل تحديات الاحتلال/ سري القدوة




من بيت لحم مهد السيد المسيح ومن الناصرة في الجليل يستقبل الشعب الفلسطيني عيد ميلاد السيد المسيح وسط أجواء من الفرح والتطلع الى مساندة الحقوق الفلسطينية والي موقف دولي يضمن دعم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وبهذه المناسبة التي تأتي في ظل تواصل العدوان الاستعماري وبناء المستوطنات وتوسعتها ومصادرة الاراضي الفلسطينية تعم أجواء الغضب الفلسطيني حيث يعكر الاحتلال الاسرائيلي وممارساته وإجراءاته على الارض وما يقوم به عصابات المستوطنين ومنظمات الارهاب اليهودي المنظم في المستوطنات والبؤر الاستيطانية وتصاعد اعتداءاتهم على المقدسات الاسلامية والمسيحية صفو احتفالات هذا العام مثلما عكرت صفو احتفالات الاعوام الماضية .

من مدينة بيت لحم بشكل خاص وفلسطين بشكل عام يحمل الشعب الفلسطيني هذه الايام رسالة السلام والمحبة للعالم ويذكرون شعوبه ودوله برسالة العدل والمحبة والسلام التي حملها السيد المسيح وهم يحلمون بانتصارهم في معركة العدالة الانسانية والتحرر من الاحتلال والعدوان، ويحملون في الوقت نفسه مشاعر الاخوة والمحبة والمصير الواحد لمسيحيي المشرق العربي في الاردن ومصر والعراق وسورية ولبنان الذين شكلوا على امتداد تاريخهم مع اخوانهم المسلمين وجه حضارة المنطقة وكانوا على امتداد السنوات الماضية هدفا لإرهاب أسود يستهدف زعزعة ارتباطهم بأرض آبائهم وأجدادهم وما يترتب على ذلك من استمرار دائرة الارهاب والقمع والعدوان .


تتواصل التحديات الصعبة التي يواجها ابناء الشعب الفلسطيني في أعياد الميلاد المجيد حيث يتطلب المزيد من الوحدة ورص الصفوف بين أبناء الشعب الواحد وجميع المؤمنين في مواجهة سياسة حكومة الاحتلال العدوانية الاستيطانية التوسعية وما تتعرض له مقدسات المسلمين والمسيحيين في المسجد الأقصى المبارك وفي المسجد الابراهيمي كما في كنيسة القيامة من انتهاكات واعتداءات واستفزازات تقوم بها قطعان المستوطنين وتقييد لحرية ممارسة المسلمين والمسيحيين لشعائرهم الدينية وفي مواجهة هذه الموجة العالية من التطرف التي تؤججها قطعان المستوطنين ومنظماتهم القائمة على ممارسة الارهاب والتي تتخذ من المستوطنات مواقع آمنة في ظل حماية جيش الاحتلال، ولا بد من المجتمع الدولي في الوقت نفسه العمل على توفير الحماية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير المصير وممارسة سيادته على اراضيه المحتلة .

في هذه الايام المجيدة ومع حلول العام الجديد ما زال الاحتلال الغاصب للحقوق الفلسطينية يتواصل مما ادى الي ارتفع عدد الشهداء في الايام الاخيرة في أنحاء الضفة على يد قوات الاحتلال دون أي اعتبار للأعياد الميلاد وللرأي العام الدولي ولقوانينه ومواثيقه حيث يواصل الاحتلال ممارسة سياسة التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني لتقويض إرادته وترويعه والدفع به نحو الاستسلام لواقع الاحتلال وقوانينه وإجراءاته .

وبرغم مما يمر به الشعب العربي الفلسطيني من مأساة تتكرر عبر السنوات الطويلة فلا يسعنا هنا الا وان نتقدم بكل التحية والتقدير وعظيم التهنئة للإخوة المواطنين المسيحيين في فلسطين والأردن وفي بلدان المشرق العربي وفي جميع انهاء العالم بحلول عيد الميلاد المجيد ونؤكد وبهذه المناسبة العظيمة على اهمية التوحد الفلسطيني امام هذا العدوان والاحتلال والاستيطان والعمل على تعزيز حالة الصمود والثبات بكل ما يتطلبه ذلك من واجبات ملقاة على الشعب الفلسطيني من اجل العيش بحرية وعدالة وضمان انهاء الاحتلال الاسرائيلي الغاشم ووقف كل اشكال العنف وتجسيد رسالة السلام والمحبة المبنية على الحق والعدل وكرامة الإنسان من فلسطين للعالم اجمع .

مع بدر شاكر السياب في ذكرى الحياة والموت/ فراس حج محمد


يُعرَف الشاعر في كثير من الأحيان بقصيدة واحدة تصبح علامة دالة عليه، أو ديواناً على أحسن تقدير، فيشيع ذلك بين جمهور القراء، فينسى شعره كله ولا يستعاد إلا في مناسبات البحث والتنقيب عن تلك الجوانب المخفية في الشعر لدراستها، طلباً للجدة والابتعاد عن التكرار. وليس بعيدا عن ذلك الشاعر بدر شاكر السياب الذي يصادف في ديسمبر هذا العام (2021) الذكرى السابعة والخميس لرحيله المبكّر، رحمه الله، حيث رحل شابّا عن عمر ثمانية وثلاثين عاماً، ولعلها مجرد صدفة قدر أن يتقارب يوم مولده في 25 ديسمبر 1926 مع يوم وفاته في 24 ديسمبر 1964، ليكون الاحتفاء بذكرى الرحيل هو استذكار لازم ليوم الميلاد؛ فالذكرى السابعة والخمسين للرحيل هي ذاتها الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده.

لقد عرف السياب أكثر ما عرف بقصيدة "أنشودة المطر"، وجاءت في ديوانٍ، له العنوان ذاته، فنسي القراء الديوان، وعرفوا القصيدة وأشاروا إليها وأشادوا بها، واقتبسوا مقدمتها وتناصّ معها الشعراء، وذكرها أصدقاء الشاعر في أحاديثهم وذكرياتهم معه وعن القصيدة، ومنهم على سبيل المناسبة الشاعرة العراقية "لميعة عباس عمارة" التي جمعتها مع السياب علاقة حب فيما يظهر من كتابات النقاد والدارسين وتلميح الشاعرة ذاتها، فقد صرحت في أحد لقاءاتها المتلفزة أن السياب قد أطلعها على قصيدة "أنشودة المطر" قبل أن تنشر، بحكم أنه كان يطلعها على جديده أولا بأول. إذاً، ربما يصح أن نقول إن "أنشودة المطر" قد أكلت شعر الشاعر واختزلته، كما اختُزل غيره بقصائد منفردة.

خلّف الشاعر بدر شاكر السياب مجموعة من الدواوين طبعت تحت عنوان "ديوان بدر شاكر السياب- الأعمال الشعرية الكاملة"، ويضم أحد عشر ديواناً، ومجموعة قصائد أخرى لم تنشر في تلك الدواوين، وقد قام على هذا الجهد الباحث سمير إبراهيم بسيوني، وصدر في القاهرة عن مكتبة جزيرة الورد عام 2009 في (750) صفحة يضمّها مجلد واحد من جزأين من القطع الكبير بغلاف مقوّى.

تشير هذه المجموعة إلى أن الشاعر غزير الإنتاج؛ فقد كتب الشعر وهو ابن عشرين عاماً كما تشير "قصائد البواكير"، وما بين عامي 1941 وحتى 1964، أنتج في هذه السنوات الثلاث والعشرين عشرات القصائد وولدت فيها آلاف الأفكار والصور الشعرية، وعلى هامشها اشتعلت معارك التجديد في الشكل والمضمون. لقد كان شاعرا استثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

في هذه الاستعادة الخاصة لأبي غيلان في ذكرى الحياة والموت لفتت انتباهي قصيدة "وغداً سألقاها"، وهي قصيدة قصيرة، لكنها تفتح الأفق على كثير من الحديث النصيّ في القصيدة ذاتها، وعلى ما تحيل إليه، وما ترتبط به من موضوع متشعب ومختلف، وما تومئ إليه في علاقته مع الآخرين، وخاصة تلك المرأة صاحب الضمير الغائب في النص. يقول السياب في القصيدة:

وغداً سألقاها،

سأشدّها شدّاً فتهمس بي

"رحماك" ثم تقول عيناها:

"مزّق نهودي ضمّ- أوّاها-

ردفي.. واطو برعشة اللهبِ

ظهري، كأن جزيرة العربِ

تسري عليه بطيب ريّاها"

ويموج تحت يدي ويرتجفُ

بين التمنع والرضا ردفُ

وتشبّ عند مفارق الشَّعَرِ

نار تدغدغها: هو السعفُ

من قريتي رعشت لدى النهرِ

خوصاته؛ وتلين لا تدري

أيّان تنقذفُ.

ويهيم ثغري وهو منخطفُ

أعمى تلمّس دربه، يقفُ

ويجسّ: نهداها

يتراعشان، جوانب الظهرِ

تصطكُّ، سوف تبلّ بالقطرِ؛

سأذوب فيها حين ألقاها!

هكذا وردت القصيدة في المجموعة الشعرية الكاملة، وتحتل الصفحة (644) من المجموعة، ومؤرّخة ومؤمكنة في "لندن 27/2/1963"، وجاءت في الديوان العاشر "شانشيل ابنة الجلبي" (1964-1965)، وبذلك تكون القصيدة من شعر السياب المتأخر، وهي قصيدة شعر حرّ، لم تحفل بالرموز ولا بالأساطير كعادة السياب، بل جاءت قصيدة سلسة سهلة واضحة، قائمة على المشهدية الموقفية التي يحكمها التمني والفعل في المستقبل. فالقصيدة لا تتحدث عمّا تمّ فعله، وإنما عمّا سيتم فعله في الغد، وهو يوم اللقاء، إذاً، فالقصيدة بنت الأحلام والتمنيات في فكرتها وليست بنت الواقع المعيش والتجربة الحية. فقد كتبها وهو مريض، ولم يكن في كامل صحته. فما الذي يجعل الشاعر يقول مثل هذا النص في ظرف عصيب صحي مرضي مثل هذا الظرف؟

بدت صورة الشاعر في القصيدة صورة الشاب الممتلئ صحة وقوة وعنفواناً وذا قدرة جنسية مجنونة، فقد رسم صورة مشهدية متصورا للقائه بتلك المحبوبة حيث الاتصال الكامل بين حبيبين ينعمان بكل المتع الجسدية المتمناة بين رجل وامرأة. إذ تميل القصيدة في لغتها إلى العنف الجنسي، وليس إلى الرقة والعذوبة والرومانسية الهادئة، ففيها كثير من الثورة والصخب الجنسي اللافت للانتباه بما قد يذكر ببعض مشاهد من روايات الماركيز دو ساد أو مشاهد جورج باتاي فيما كتبه من شعر أيروتيكي في "القدسي وقصائد أخرى"، أو بعض مشاهد قصصه في "حكاية العين".

لا أظن أن السياب كان في هذه القصيدة القصيرة متأثرا بأيّ من هذين الكاتبين (دو ساد وباتاي)، وإنما هي نزعة فطرية غريزية أحسّ بها فجسّدها في هذا النص، متعالياً على مرضه، ومتحدياً ما يمرّ فيه من ألم وتوجع على صحته، فأراد أن يقهر تلك اللحظة بلحظة مشتهاة يفصّلها في أحلامه وتمنياته. ولكن هل كان مرضه بالفعل عائقاً أمام إمكانية الاتصال الجنسي مع النساء؟ جاء في وصف مرضه في موقع "الويكيبيديا": "وفي سنة 1961 بدأت صحة السياب بالتدهور حيث بدأ يشعر بثقل في الحركة، وأخذ الألم يزداد في أسفل ظهره، ثم ظهرت بعد ذلك حالة الضمور في جسده وقدميه". إن دراسة النص على هَدْيٍ من حالة الشاعر الصحية أمر ضروري للغاية.

يتحدث في النص صوتان (الشاعر والمرأة صاحبة اللقاء)، وتميل القصيدة في بنيتها إلى التقنيات السردية، وجملها في أغلبها جمل نثرية لا صور بلاغية جزئية فيها، وإنما اكتسبت شعريتها من كليتها القائمة على التصوير المشهدي لذلك اللقاء المرتقب الذي تخلله عدة مشاهد تصويرية تصوريّة.

تبدأ القصيدة بتحديد موعد اللقاء، وكيف سيكون اللقاء، إذ سيكون عنيفاً، وسيشدّها شداً، صورة أولية، لا تحمل سوى الشبق والعجلة، وكأن الشاعر سيلقاها في بار. وستكون من بنات الهوى المتعجلات، هو يريد منها متعتها الحاضرة، وهي جاهزة، وجاء مستعداً، فتناولها أول أن رآها. هكذا يقول المشهد المتصور. إنها أحلام الشاعر في اليقظة، يتخيل كيف سيكون لقاؤه، إنه سيعد له، ويرسم له سيناريوهات. لا يترك اللحظة تصنع نفسها بعفويتها، إنما يريد أن يرسمها مسبقا، فيتجاوز عن كثير من المقدمات.

هل لهذا التصور الشبقيّ المسبق علاقة بحالة الشاعر ومرضه. ربّما حمل المشهد شيئاً من ذلك، فما زال قادرا على أن يكون "فحلاً" مع نساء "لندن" على الرغم من حالته التي سبق ووضحتها أعلاه، أم أنها مجرد أمنيات لا تحمل أي واقع ولا تشير إليه، فالقصيدة تعتاش على أفعال مضارعة مُسوّفة مستقبلية، وخاتمتها تحمل ملمحا من العجز يكاد يشعر به القارئ في قوله "حين ألقاها". إنها جملة تحيل النص إلى رثائية مستكينة في النص يداريها الشاعر بهذه اللغة الصاخبة الصارخة.

إن بين السياب ومحمود درويش فارقا كبيراً في رسم هذه اللحظة، درويش الذي كان حريصا على الهدوء والرومانسية المبالغ فيها، وغير الواقعية، إلا لشخص قد يوصف أنه "عنّين" أو يعاني من الارتباك في لقاءات النساء. فدرويش في قصيدة "درس من كاموسطرا" يوصي العاشقيْنِ بالانتظار إذا ما جن الليل عليهما، وأصبحا غارقين في هدأة الليل وجمال لحظته:

إلى أَن يقولَ لَكَ الليلُ:

لم يَبْقَ غير كُما في الوجودِ

فخُذْها، بِرِفْقٍ إلى موتك المُشْتَهى

وانتظرها

أما السياب فلم ينتظر؛ فثمة فارق بين عاشقٍ حقيقيّ وطالب متعة متعجل أو طالب متعة متمنٍّ، لعلّ موقف السيّاب هذا أشبه بموقف عمر بن أبي ربيعة طَلّاب المتعة العابرة مع النساء، ففي مقطوعة قصيرة يقع ابن أبي ربيعة في المشهدية ذاتها، إذ يقول:

قالت وعيش أبي وحرمة إخوتي              

                             لأنبهنّ الحي إن لم تخرجِ

فخرجت خيفة قولها فتبسمت             

                              فعلمت أن يمينها لم تحرجِ

فلثمت فاها آخذا بقرونها                     

                            شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

يتشابه المشهدان، مشهد بداية قصيدة السياب والبيت الثالث عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة، في أنه لا انتظار، ولا طقوس، وإنما متعة عابرة، إضافة إلى الناحية السرد قصصية لدى الشاعرين والصورة القائمة على التخيّل.

هذا المشهد الافتتاحي عند السياب لم يطلْ كثيراً، فتنتقل القصيدة إلى صوت المرأة، صاحبة اللقاء، عدا أن الشاعر السياب منحها صوتا للحديث، فإن القصيدة ترسم صورة شبقة لتلك المرأة، وجاءت هذه الشبقية متسقة مع المقدمة المغلّفة بالعنف منذ البداية، شبقية مفضوحة واضحة في العينين ولغتها، فما طلبها للرحمة من الشاعر ما هو إلا محض مراوغة أنثوية؛ تمهيديا لإعلان الصخب والعنف الجنسي الذي طالبته فيه، من تمزيق نهودها، وطيّ ظهرها، وضم ردفيها"، إنها صورة مهدت للشاعر أن يكمل الفعل التخيلي الجنسيّ فيما يأتي من سطور شعرية، وصولا إلى الكناية اللطيفة بانتهاء المشهد بقوله: "وتلين لا تدري أيّان تنقذفُ.".

وهنا يغلق الشاعر النص بعلامة الترقيم النقطة، هذه العلامة التي توحي بانتهاء المشهد الكليّ للقاء من الوصل صاخبٍ، مع أنّ الشاعر جعل خلفيّة هذا المشهد طبيعيّة، حيث النهر والقرية وأجواؤهما. هذه القرية "جيكور" التي لم تفارق شعر الشاعر وظلت تتردد في أشعاره، حتى وهو في آخر البقاع، بُعدا عنها، إلا أنها هي الحاضرة دوما في وجدانه ولب لباب أشعاره.

تتحول القصيدة بعد ذلك إلى الإيقاع الهادئ، وهي ترسم مشهد ما بعد "القذف"، بعد انتهاء الالتحام المتخيّل بينهما، في هذا الجزء من النص، أو هذا "التخيل الاستباقي"، سيلتفت إلى أفعال أخرى أقل صخباً ودرامتيكية؛ فيهيم ثغره وينخطف، ويجسّ نهديها بلطف وهما يتراعشان، وصولا إلى قوله "سأذوب فيها حين ألقاها".

هذه الجملة- إذا ما تم غض الطرف عن تفسيرها النفسي السابق- منحت النص بعدا روحيا، ورفعت شعرية القصيدة في خاتمتها، بعيدا عن الشبق العابر الذي أوهم به الشاعر قراءه في البداية، فكأنه يعيد إلى أذهان القارئ كثيرا من المقولات الفلسفية حول علاقة الجسد والجنس بالروح والمتعة الروحية المتأتية من العلاقة الجسدية الكاملة، فالجسد حامل للروح، بل هو وعاء للنفس، ولن تولَج الروح إلا من بوابة الجسد.

إن العاشقين جميعا، بل الرجال كلهم، والنساء كذلك، لا بد من أن يكون الجسد حاضرا في العلاقة المركبة المربكة بينهم، ويجب ألا تتحول إلى "شيء" أو "موضوع" مسكوت عنه أو "تابو" محظور الاقتراب منه،  ولذلك فإنني أرى أن ما أعلن عنه الفنان اللبناني مارسيل خليفة عام 2019 في إحدى حلقات برنامج "بيت ياسين" أن هذه القصيدة سيلحنها ويغنيها من بين مجموعة أعمال أخرى- لغير السياب- تحتفي بالجسد، لهو أمر في غاية الجمال والأهمية، ولعل أجمل ما يهدى شاعر في ذكراه أن نحيي شعره ونحيّيه بهذه الالتفاتة الفنية التي يتضافر فيها الشعر مع الموسيقى، تحقيقاً عملياً لمقولة "الشاعر لا يموت برحيل جسده"، إنما هو باق ما دام هناك قراء وفنانون يستعيدون شعره، قراءة وبحثاً وألحاناً.

إنّ في دراستي لهذه القصيدة محاولة للإضاءة على جانب مخفيّ من شعر كثير من الشعراء، ويتحاشى كثيرون الحديث فيه، وأعني بذلك الشعر الأيروسي أو الشعر الحامل لإيحاءات جنسية، إنني معنيّ- على نحو خاص- برصد هذا الجانب لدى كثير من الشعراء، وخصصت له فصلا كاملا في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية".

هذا أمر، والأمر الآخر الذي يدفعني إلى قراءة السياب واستعادته بقصيدة "هامشية" ذات إيحاء جنسي وغير مصنفة على أنها من عيون أشعاره أن بعض أشعار السياب تدرس للطلاب في المدارس في مناهج اللغة العربية، وبلا شكّ فيه فإن المعلمين والنظام التربوي برمته لن يضيء هذا الجانب في حياة الشعراء وأشعارهم، ولن يدفع الطلاب إلى البحث فيها، ولذا ستظل مخفية، ولن يتعرفوا إلا على "أنشودة المطر" و"غريب على الخليج" و"هل كان حبّا؟"، كما هو حاصل عندنا في فلسطين، حيث تُدرّس هذه القصائد للطلاب.

على الرغم من أنه لن يجرؤ أحد على تجريم السياب، كما لم يجرؤوا على تجريم نزار قباني أو محمود درويش اللذين يُدرّس شيء من شعرهم أيضاً في مدارسنا. لكنهم بكل وقاحة وصلافة وقلة أدب يجرمون ويشيطنون شاعراً معاصراً يعيش بينهم، منتمياً إلى المنظومة التربوية ذاتها؛ لأنه قال مثلما قال هؤلاء الشعراء أو أقلّ. لكنّ هؤلاء الشعراء في نظر المسؤولين مبدعون، وهو عاهر و"نسونجي" وقليل أدب.

لذلك كله- أخلاقيا وجماليا وفكريا- لا بد من استعادة بدر شاكر السياب في هذا النوع من الشعر ومحمود درويش ونزار قباني، كما يجب استعادة كل شعر عربي يحمل هذا الموضوع من امرئ القيس إلى عمرو بن كلثوم إلى أبي نواس والاحتفاء بشعر الشاعرات أمثال ولادة بنت المستكفي ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجية وجمانا حداد، وكل شعر خارجيّ النزعة يحتفي بالجسد، وخارج عن المألوف، ولا بد من كسر هذا "التابو"، والانفلات من هذه الحلقة التي وضعَنا في سياقها الجهلة والمزيّفون، وأوجدت عند طلابنا نوعا من الاغتراب عن حقيقة الشعر والشعراء، وحقيقة النفس الإنسانية التي لن تشعر بالأمان إلا وهي تحقق حاجتيها: الحسية والروحية، بل يجب أن يفهم "التربويون المتكلسون" أن الجسد وإشباعه ليس خطيئة، وأن الكتابة النقدية فيه وتدريس أدبه؛ شعرا ونثراً ليس جُرماً، وأن كتابته، خَلْقاً إبداعيّاً، كذلك ليس جريمة مطلقاً، ولا يستحق عليها "الشاعر الموظّف" تهديده بعقوبات الفصل من الوظيفة أو التشهير به، وإن كانت شاعرة فمحاصرتها ونبذها والتنمر عليها في وسائل التواصل الاجتماعي.

إنها محاولة لكسر دائرة الصمت المطبق؛ لعلّ بعض الضوء ينفذ إلى هذا الجدار، فيخلخل حجارته وأساساته، ويحلحل تلك العقول السابحة في محيطات من الظلام، وهي تحسب أنها من دعاة التنوير والحداثة والمعاصرة. أو ربما أنها تحسب أنها تحسن صنعاً.

العِشق المُفارِق. (ملائكة الحُب)/ الدكتورة بهيّة أحمد الطشم



أهِيمُ بأحبائي.....

ولكن, أوّاه يُشقِيني الفراق ويعذّبني لهيب الشّوق المُستعِر أبداً....


أُداعبُ الذكريات البهيّة ,حيث تسود السّكينة وتغفو الأزهار,

وأروم  الوصالَ في صرح الأحلام,بعدما صار القُرب في الواقع منسياً...

.......................................

لقد شيّدتُ العشق المُفارِق على نهر العاطفة الفائقة,

وذرفتُ دموع الشغف المُتعَب من عيون قلبي,

فتنهدّتُ بحروف  حائرة تهمسها شِفاه نفسي:

"....أحبائي لي وأنا لهم....."

لكن......وألف لكن,

ما أفظع غدر الزّمان وغياب الأحبة عن حيّز وجودنا,

وحسابات مشاعرنا!

وما أروع تقاسُم العُمرالاستثنائي مع ملائكة الحُب ابّان هنيهات زمنيّة هاربة ستحفر عميقاً في أثلام الدماغ!