يطلق على الفلبين في الأدبيات الآسيوية "رجل آسيا المريض" كناية عن عجزها على الارتقاء بنفسها وبلوغ ما بلغه معظم جاراتها في منطقة جنوب شرق آسيا من نهضة ورخاء وتقدم على مختلف الأصعدة. وبعبارة أخرى تقف الفلبين، لأسباب داخلية كثيرة، على مسافات بعيدة عن دول النمور الآسيوية سواء في بنيتها التحتية أو في مستويات معيشة مواطنيها أو في ضروب الصناعة والزراعة والتجارة والاستثمار وغيرها.
والحقيقة، التي لا يختلف عليها الفلبينيون اليوم، أن ثورتهم الشعبية ضد نظام فرديناند ماركوس الديكتاتوري سنة 1986 لم تحقق لهم النهضة المنشودة. صحيح أنها جاءت لهم بالحرية والديمقراطية، لكنها في المقابل سلبت منهم الأمن والاستقرار ولم تحسن ظروفهم المعيشية، ولم تخرج بلادهم من غرفة الانعاش.
والمعروف أن الأنظمة الديمقراطية التي خلفت نظام ماركوس حاولت على مدى العقود الماضية أن تقوم باصلاحات من شأنها وضع الفلبين على مسار النمور الآسيوية، لكن حركتها كانت بطيئة بسبب مماحكات ومزايدات الساسة تحت قباب البرلمان، ما تسبب في تجميد الكثير من الخطط والمشاريع. وعلى الرغم من كل هذه العقبات المتوقعة في الأنظمة الديمقراطية غير العريقة في العالم الثالث، تمكن الرئيس السابق بنينو أكينو الإبن (نوي نوي) خلال السنوات الست التي أدار فيها البلاد من عام 2010 إلى 2016 من اصلاح الخلل في مؤسسات البلاد الاقتصادية والتخلص من الديون التي تراكمت في عهد ماركوس وعهد والدته الرئيسة الأسبق "كورازون أكينو"، فانتعشت الآمال بقرب تحقيق نهضة اقتصادية، وبالتالي التخلص من الفقر الذي لازم الشعب طويلا ودفع أكثر من عشرة ملايين فلبيني للهجرة والعمل في دول الشرق الأوسط.
وكان مما فعله الرئيس أكينو الإبن آنذاك أن أحاط نفسه بوزراء أكفاء، وشن حملة ضد الكسب غير المشروع والتهرب الضريبي، وزاد من مساحة الشفافية والمساءلة العامة، وجعل من الشراكة بين القطاعين العام والخاص أساسا لبناء المشاريع، بل قام بما لم يجروء عليه أسلافه وهو تهديد الكنيسة الكاثوليكية المنيعة باتخاذ اجراءات ضدها ما لم تشارك في السيطرة على ممارسات السكان غير الاخلاقية. أثمرت هذه السياسات عن فوز مانيلا بتصنيفات استثمارية عالية من جميع شركات التصنيف الائتماني العالمية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة عليها بمليارات الدولارات، ودخول معدل نمو اقتصادها نطاق 8%. إلى ذلك منحت منظمة الشفافية الدولية، في آخر سنة من حكم أكينو، الفلبين المركز 95 في مؤشرات الفساد من أصل 180 اقتصادا.
يتفق المراقبون على أن انتخاب الرئيس الحالي "رودريغو دوتيرتي" في عام 2016 أعاد الأمور إلى نقطة الصفر. فالرجل الذي انتخبه الشعب لمواصلة الفورة الاقتصادية، استنادا إلى سمعته كسياسي نجح في تحقيق معدلات نمو أسرع ومعدلات جريمة أقل أثناء إدارته لمقاطعة دافاو الجنوبية، انشغل بملف القضاء على مافيات المخدرات والجريمة المنظمة وتحقيق الأمن بالقوة، على حساب الملف الاقتصادي والمعيشي الذي اعتبره ملفا يمكن أن ينتظر، ما سمح بعودة وانتشار الممارسات القديمة مثل الفساد والمحسوبية والإرتشاء والتحايل على القانون، بدليل أن الفلبين تراجعت في عام 2019 إلى المركز 118 في مؤشرات الفساد العالمية، بعد أن كانت في المركز 95 عام 2016 كما أشرنا آنفا.
وهكذا، حينما داهمت جائحة كورونا البلاد كان اقتصادها يفتقر إلى المناعة اللازمة للصمود والوفاء ــ على الأقل ــ بالحاجات الأساسية للسكان البالغ تعدادهم نحو مائة مليون نسمة. ويمكن القول في السياق نفسه أن اهمال دوتيرتي للملف الاقتصادي، وعدم البناء على معدلات النمو القائمة وقت استلامه للسلطة لم يتسبب في معاناة الفليبينيين معيشيا وصحيا فحسب ولم يتسبب في بروز الفلبين كواحدة من أسوأ البلدان الآسيوية لجهة التعامل مع الجائحة، وإنما تسبب أيضا في تعرض مانيلا مؤخرا لأسوأ انهيار في سوق أسهمها، بسبب قيام المستثمرين الأجانب بنقل استثماراتهم وأموالهم إلى الملاذات الآمنة.
في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها هذا العام، يدعم دوتيرتي المرشح فرديناند ماركوس الإبن الشهير باسم "بونغ بونغ" نجل الديكتاتور السابق والذي ترافقه كمرشحة لمنصب نائب الرئيس "سارة دوتيرتي" إبنة الرئيس الحالي. وهناك احتمال كبير أن يفوز "بونغ بونغ" ويصبح الرئيس المقبل للفلبين، مستفيدا من حنين فلبينيين كثر لزمن والده الذي تميز، رغم دكتاتوريته، بترسيخ الأمن والانضباط مع شيء من الازدهار الاقتصادي. لكن تبدو احتمالات نجاحه في تغيير الواقع الفلبيني صعبا لأنه سيرث ملفات ليس من السهل التعامل معها، خصوصا مع استمرار ضغوط المتحورات الجديدة لكورونا على الوضعين الصحي والمعيشي. ومن هنا قيل أن العهد القادم لن يكون سوى نسخة من عهد دوتيرتي أو شبيها بعهد الرئيسة الأسبق "غلوريا ماكابغال أرويو". إلا إذا حدثت معجزة.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2022م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق