عبله تايه الشاعرة الكرمية الفلسطينية وابنة أسرة أشتهرت وعرفت بالشعر والأدب، كما عرف أبناء منطقة طولكرم واشتهارهم بالأدب والشعر، ولو قمنا بإحصاء أبناء منطقة طولكرم الذين اشتهروا بالأدب والشعر لما وسعتنا صفحات وقد نحتاج إلى مجلدات، مع ملاحظة أن طولكرم حين كانت قضاء كانت تضم محيطها جميعه حتى مدينة قلقيلية ومحور الصعبيات وتتبع محافظة نابلس، والآن أصبحت أقل بالمساحة حيث أصبحت نابلس إداريا محافظة وقلقيلية محافظة وطولكرم محافظة، لكن بقي يسجل لمدينة طولكرم وضواحيها تميزها بالشعر والشعراء حتى الآن، وحين كانت روحي تحلق بأشعار عبله تايه المتناثرة في فضاء الشعر، كانت هناك نصوص تثير اشراقة روحي وقلمي ومنها هذه النصوص/ الورود بعبقها وشذاها، والتي اعتادت الشاعرة أن تتركها بلا عناوين حتى تشد القارئ للوصول إلى الفكرة بدون عنوان يوجهه إلى اتجاه محدد، وتبقي قصائدها بأبيات ليست طويلة فتكثف فيها اللغة والمعنى فتمنحها جمالا آخر بعيد عن الإطالة وتكرار الفكرة.
في النص الأول تمتعت روحي فتخيلت هذه الصور واللوحات والمقاطع الثلاثة في النص، ففي اللوحة الأولى وهي مقدمة النص كان هذا الوصف الجميل لحالة عشقية يثير الروح ويجعلها تحلق في فضاء آخر فوق الغيمات، أتخيل المشهد للحبيب وهو يجثو على ركبتيه كأمير في محراب المليكة، والليل قد تسلل وعبر مقلتيها...
"جاثٍ وفِي مقلتيَّ الليلُ قد عبَرا/ حتّى بُعِثْتُ على أهدابهِ بَصَرا"
فهذا الحب الذي أثار الذاكرة فجعل سيدة النص تسافر مع زمن منسي بالذاكرة، فتهمس: "نثَرتُ الفجرَ"، فهل أجمل من اشراقة حب تنثر الفجر الجديد؟ وهذه الصور المرسومة بالكلمات نجدها في المقطع الثاني من النص حيث تقول ايضا: "نفَضْتُ أمسي" فلنتخيل المشهد الذي كانت نتيجته: "فأغراني تبَسُّمهُ"، وايضا "حنَّ نبضٌ"، حتى تعود وتهمس: "وجئتُ أحملُ أحلاماً أؤَجلها، لأستفيقَ على شطآنها مطرا"، فهل أجمل من حب يلامس الروح ويعيد النبض وينهمر "على شطآنها مطرا"؟
"سافرتُ في الزمنِ المنسيِّ ذاكرةً/ معي أنايَ نثَرتُ الفجرَ فانتشرا
نفَضْتُ أمسي فأغراني تبَسُّمهُ/ وكلَّما حنَّ نبضٌ قيلَ قَدْ عُذِرا
وجئتُ أحملُ أحلاماً أؤَجلها/ لأستفيقَ على شطآنها مطرا"
والخلاصة في المقطع الأخير وهو لوحة مرسومة بريشة القلم وألوان الروح ونبضات قلب فتقول:
"إنّي أحبكَ حباً لا شريكَ له
محملاً بالندى والشِّعرِ والشُّعرا"
فهل أجمل من هكذا حكاية حب من روح أنثى معتقة بتلاوين الزمن، فيأتي الحب كما غيمات ثلاث محملة بجمال الندى الصباحي "محملاً بالندى" وغيمة محملة بـالـ "الشِّعر" لتليها الغيمة الثالثة محملة بـ "الشُّعرا"، فيأتي الجمال مرسوما من مشهد يحيط به من خلف الكلمات شَّعر الحبيبة مسدول على الكتفين ومتناثر مع نسمات الهواء كرقصة غجرية؟
وفي النص الثاني/ الوردة الثانية تتألق شاعرتنا عبلة من جديد في نص قصير ما بين الماضي والحاضر اختزل حكايات في ثلاثة أبيات شعرية لا غير، فسيدة نصها تصف الحال في الشطر الأول والحلم في الشطرة الثانية فتقول:
"بي من متاهاتِ الدِّيارِ – ديارُ/ فعسى بِلقيا تسمحُ الأقدارُ"
فنرى حلم بلقاء " فعسى بِلقيا تسمحُ الأقدارُ"، لكنها لا تحدد من تحلم باللقاء به، لأن هذا الحلم الخاص ارتبط بالظرف العام الذي اشارت له الشطرة الأولى، فسيدة النص تعاني من متاهات الديار ديار، فهنا حصرت المعاناة داخل الديار، والديار هي الأمكنة التي نسكنها، ففيها كانت المتاهات ولكن بالتأكيد ليس توهانا عن مكان، بل متاهات فكرية ونفسية، لذا كان الحلم باللقاء في الشطرة التالية، فكان البيت الأول هو مكان ومسرح الحكاية، بينما في البيت الثاني:
"بي من عيونِ المتعبينَ حكايةٌ/ تلْتَفُّ حول جفونها الأسرارُ"
كانت ذروة الحدث ومتن الابيات الثلاثة، فسيدة النص تعاني لكنها لا تبوح بأسرارها، فبداخلها "من عيونِ المتعبينَ حكايةٌ"، فلنتخيل من خلال هذا الوصف ما هي هذه الاسرار التي تشير اليها تأثيرات السهر والتعب الداخلي حول الجفون، فهي تبوح بذلك بالقول: " تلْتَفُّ حول جفونها الأسرارُ".
في البيت الثالث:
"هذي الشجونُ توثَّبتْ عبْرَ المسا/ وخوالجُ الذكرى صدىً دوّارُ"
نرى الشاعرة تضعنا بصورة الحدث وسره، فهي مع سكنات الليل ومع المساء انثالت بروحها الشجون وتوثبت، " هذي الشجونُ توثَّبتْ عبْرَ المسا"، فمن أين أتت هذه الشجون؟ لا تتركنا سيدة النص نبتعد بتفكيرنا فهي توضح بالشطرة الثانية من البيت الثالث أن الشجون أتتها من الذكرى والتذكر والتي كانت مختفية في تلافيف الذاكرة فأتت في المساء فكانت " صدىً دوّارُ"، فكان هنا تعبير أدبي يعتمد على فكرة علمية حين يتردد الصدى من أكثر من جانب في حالات خاصة مرتبطة بطبيعة المكان، فكان الصدى هنا لا يأتيها مرة واحدة وينتهي، لكنه الصدى الدوار المتكرر من كل الجنبات للذاكرة والدماغ.
عبله تايه كما عادتها بالشِعر، تطل علينا بين فترة وأخرى ببوح روحها بنصوص قصيرة ولكنها مكثفة جدا، تختصر على القارئ الوقت وتبتعد عن التكرار والإطالة، وفي هذا النص/ الوردة الثالثة المكون من أربعة أبيات رسمت لنا حكاية عشق بين اثنين، العاشق الذي يسجن مشاعره ولا يبوح بها، والعاشقة التي تشعر بمشاعر العشق بدون أن يتكلم، فتقول في البيت الأول:
"على مدى بوحِكَ المسجونِ ريحُ صَبا/ قد عانقَ الروحَ فانسابَ الهوى سُحُبا"
فتحلق بالفكرة ومن خلال خيال الشاعرة تشعر ببوحه المسجون يصلها "ريح صبا"، وريح الصبا هي ريح دافئة تأتي من الشرق، فهل ارادت الشاعرة أن تشبه بوح العاشق بالدفء أم قصدت تحديد موقعه الجغرافي بالنسبة لمكانها أم قصدت كلا الامرين؟ ويبقى الجواب كما المثل: "المعنى في بطن الشاعر"، لكن الشاعرة في عجز البيت أرادت أن تبعد التساؤلات فقالت أن هذا البوح الدافئ "قد عانق الروح" في إشارة أنها مشاعر أحست بها، رغم أنها قالت في صدر البيت "بوحك المسجون" وبالتأكيد ان السجن هو القلب الذي يحمل هذه الأحاسيس، فتحول الهوى الدافئ كما "ريح صبا" إلى غيوم وسحب لكن بانسيابية ونعومة " فانسابَ الهوى سُحُبا" لكن هذه المشاعر تراكمت حتى أصبحت كتل من السحب.
في البيت الثاني:
"حاولتُ أنْ أفهمَ المعنى بلا لغةٍ/ فمنْ سِواكَ قصيداً غابَ فاقتربا"
تلجأ الشاعرة إلى روحها وقلبها كي تفهم هذا البوح الذي أتاها كما ريح صبا بدفئها وشرقها، فمشاعر الحب تسمو فوق الحروف فلا تستطيع اللغة التعبير عنه فهي تريد ان تفهم "بلا لغة"، لكن عجز البيت يكشف المستور، فالعاشق كان موجودا ولكنه "غاب فاقتربا" فشبهته بجمالية "من سِواكَ قصيدا"، فالقصيد أجمل ما توارثناه عبر العصور وما زال يلفنا بجماله، وهنا نجد أن العاشق الذي حبس بوحه كان يشعر بالخجل من ابتعاده، فحين اقترب بقي صامتا لكن بوحه حلق بدون أن يتكلم بدفء ريح صبا، فكان هذين البيتين مقدمة النص الشعري ومقدمة الحكاية العشقية.
في البيت الثالث:
"كلُّ العيونِ بها من عِشقِنا قبَسٌ/ وفجرُ عينيكَ يا حلمَ الصِّبا وثَبا"
تنقلنا الشاعرة لذروة النص قبل أن توصلنا للنهاية في البيت الرابع والأخير، فهنا الاعتراف بحكاية العشق التي لم تتوقف رغم ابتعاد العاشق، فهي في هذا البيت ترى أن كل العيون التي لدى البشر بها بعض من هذا العشق المتأجج فتقول: "كلَّ العيون بها من عِشقِنا قبَسٌ"، أي فيها بعض من هذا القبس، والقبس في المعاجم العربية بعض من النار أو النور وكما ورد في القرآن الكريم في سورة طه:"إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى"، وكما ورد في القرآن الكريم أيضا: "انظرونا نقتبس من نوركم"، فمن خلال هذا القبس من حكاية العشق في كل العيون، إلى عيني العاشق الذي ترى أنه فجر قفز منه حلم وذاكرة الصِبا والشباب، فتقول: "وفجرُ عينيكَ يا حلمَ الصِّبا وثَبا"، وهنا نجد جمالية أخرى بالنص من خلال كلمتي: صَبا بفتح الصاد وصِبا بكسرها مع اختلاف المعنى وتشابه الحروف فأضاف ذلك إلى النص لوحة جمالية أخرى.
وفي النهاية للنص والبيت الأخير:
" آتٍ إليك أمدُّ العمر َ أزمنَةً/ إِذْ كيفَ يغترُّ قلبٌ جاورَ اللهَبا"
نجد الخاتمة لحكاية العشق تنادي عشقها أنها آتية اليه متجاوزة كل الأزمنة التي مرت، فتصرخ: "آتٍ إليك أمدُّ العمر َ أزمنَةً"، وتؤكد أنها ستلبي نداء البوح الصامت الذي ورد في البيت الأول وبالتأكيد لن تغتر بنفسها كون الحبيب هو من ابتعد، فالقلب رغم البعاد لم يتوقف عن الاشتعال بالحب وكأنه "جاورَ اللهبا" طوال الفترة الماضية بقولها في عجز البيت: " إِذْ كيفَ يغترُّ قلبٌ جاورَ اللهَبا"، فتكتمل الصور الجمالية بأربعة أبيات اختصرت رواية وأمكنة وأحداث بلغة مكثفة ولوحات مرسومة بالقلم.
تألقت عبله تايه سليلة الشعراء الكرميين في هذا النص كما تألقت في نصوص أخرى شدتني بقوة، فلا امتلك إلا ان أشكرها على هذا الفضاء الجميل الذي اتاحت لروحي التحليق فيه، وجمال الشِعر واللغة التي مست شغاف القلب وسيرت القلم.
وهكذا نجد الشاعرة عبله تايه سليلة الشعراء الكرميين تألقت في هذه النصوص كما تألقت في نصوص أخرى، فنراها تروي لنا من خلال هذه النصوص الثلاثة حكاية عشق وحب سكنت روحها، لكنها بكل المؤشرات تشير للماضي الذي ترك أثرها على الروح وعلى القلب، فيخرج الحنين بين فترة وأخرى، فهل من حدث جديد جعل بركان القلب يتفجر من جديد وتسيل حممه شعرا يربط الماضي بالحاضر وحلم المستقبل؟ ربما نرى ذلك في النصوص القادمة مستقبلا، فلا أمتلك إلا الهمس: شكرا لروحك عبلة فقد جعلت روحي تحلق في فضاء أحببته أتاح لروحي التحليق فيه، وجمال الشِعر واللغة التي مست شغاف القلب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق