الشَّاعر جميل داري كائنٌ مضمَّخٌ بأريجِ الشِّعرِ ومجبولٌ بوميضِ التَّنويرِ/ صبري يوسف


 

الشَّاعر المتألِّق جميل داري، شاعرٌ مجبولٌ برهافةِ حرفٍ منقوشٍ بحداثةٍ مرصَّعَةٍ بوميضِ التَّنويرِ، كأنَّ آفاقَهُ مستنبتةٌ من اخضرارِ الحياةِ ومن شهوةِ أرضٍ عطشى لمنائرِ الجمالِ والخيرِ في براري الشَّمالِ، شَمالِ القلبِ، وشَمالِ الحنينِ، وشَمالِ كنائزِ العطاءِ. يكتبُ داري شعرًا منسابًا مثلَ قطرات النَّدى المتناثرة فوقَ أزاهيرِ الخطميّةِ المتناميةِ في أعماقِ الحقولِ الفسيحةِ. يصوغُ حبرَهُ المعبَّقَ بأريجِ الحياةِ فوقَ تيجانِ الحنينِ، ويقفُ بكلِّ رصانةٍ يُنشدُ أشعارَهُ في صباحٍ ربيعيٍّ مزدانٍ بالأقحوانِ والأزاهيرِ البرّيّةِ. تكتنفُ شعرَهُ أهازيجُ الأعيادِ وطقوسُ الأفراحِ، ومناجاةُ مُهجةِ العشقِ بمصداقيّةٍ دافئةٍ مشحونةٍ بمذاقِ التَّجديدِ، بحثاً عن أبهى تجلّياتِ بوحِ القصائد! 

يمتلكُ لغةً معجونةً بتلاوينِ الحياةِ، من خلالِ آفاقِهِ المكتنزةِ بمخابئ أسرارِ اللُّغةِ، وخيالاً مفتوحاً على أشهى فضاءاتِ الحنينِ. يلتقطُ صُورَهُ الشّعريّةَ الخلَّاقةَ من مآقي الغمامِ المسترخيةِ في قبّةِ السَّماءِ، ومن هبوبِ نسائمِ اللَّيلِ العليلة، ومن رفرفاتِ أجنحةِ العصافيرِ واليمامِ والحجلِ البرّي. ينسجُ رؤاهُ على إيقاعِ انبعاثِ الحلمِ، فيأتي مترعاً بالعذوبةِ، ومزداناً بالسُّموِّ والتَّساؤلِ، كابحاً ضراوةَ الغدرِ من كلِّ الجهاتِ، وماحقاً بلغتهِ الرَّصينةِ أنيابَ الجشاعاتِ المتطايرةِ من شراهاتِ القبحِ! 

كلَّما ابتعدَ الشّاعرُ جميل داري عن مسقطِ الرَّأسِ ومرتعِ الطٌّفولةِ واليفاعةِ والشَّبابِ، ازدادَ تذكُّراً وشوقاً لأيّامه الخاليات في ربوعِ عامودة، وانفرشَتْ أمامَهُ اللّيالي القمراء ساطعةً كشموعِ الخيرِ وضياءِ الوئامِ، وهو مسترخٍ فوقَ الأسرّة الخشبيّة أو الحديديّة أو العرازيلِ الكبيرةِ الّتي كانت تستقبلُ بحفاوةٍ قبّةَ السّماءِ بكلِّ تلألؤاتِها. ينظرُ ببهجةٍ غامرةٍ إلى تراقصاتِ النّجومِ في رحابِ الأعالي، وهو في حالةِ انبهارٍ، يسمعُ بكلِّ رهافةٍ إلى تناغمِ هسيسِ الكائناتِ في هدوءِ اللّيلِ، وكأنّها، أي الكائنات، تشكرُ عبرَ هسيسِ موسيقاها هذا البهاءَ الكونيَّ الّذي يسطعُ علينا ضياءً مبهجاً للروحِ، وابتهالاً لا مثيلَ له. تراودُ داري وهو في أوجِ انجذابِهِ لتلألؤاتِ النّجومِ، عشراتُ الأسئلةِ، ثمَّ يتركُها معلَّقةً في فضاءِ الذَّاكرةِ، يشعرُ وكأنّهُ إزاءَ ملحمةٍ شعريّةٍ كونيّةٍ سماويّةٍ متفرِّدةٍ في تناغماتِها وجمالِها وهالاتِها الممتدّةِ على مساحاتِ الأكوانِ الّتي لا نراها، إلّا عبرَ خيالِنا المجنّحِ. يرقصُ قلبُهُ ألقاً وفرحاً وذهولاً، ينتابُهُ أحياناً وكأنَّ النّجومَ في حوارٍ معهُ، تناغيهِ، تحاورُهُ، تبتسمُ له، تهمسُ لدقّاتِ قلبِهِ ورفرفاتِ روحِهِ همسةَ حبٍّ. يغمرُهُ الفرحُ ويزدادُ شوقُهِ إلى بهاءِ الأعالي، ويجرفُهُ الخيالُ إلى رحلاتٍ حلميّةٍ ابتهاليّةٍ متدفّقةٍ، وكأنّهُ في أجواءٍ أسطوريّةٍ خياليّةٍ باذخةٍ، ويدهشُهُ عندما يرى نجمةً في أبهى ضيائِها تخرُّ في أقاصي السَّماءِ، متسائلاً في قرارةِ نفسِهِ، أينَ تحطُّ النُّجومُ الّتي تخرُّ في كبدِ السَّماءِ؟! هل تُهشِّمُ هذه النّجومُ النّجيماتِ الصَّغيراتِ الّتي تصطدمُ بها، أم تتبدَّدُ في أجواءِ السّماءِ، وتحافظُ النُّجومُ بقدرةِ ربِّ الأكوانِ على مساراتِها، بعيداً عن ضراوةِ الاصطدامِ ولهيبِ الاشتعالِ؟!  

الشِّعرُ بركةُ البركاتِ لمخيالِ الشُّعراءِ، يطهِّرُ الرُّوحَ من غبارِ هذا الزّمانِ، لا يبارحُ الشِّعرُ آفاقَ جميل داري أينما حلَّ ورحلَ، حتَّى وهو في حالةِ استرخاءٍ، نراهُ يناغي هواجسَهُ المتماهيةَ معَ وهجِ الشِّعرِ، ويحلِّقُ خيالُهُ عالياً، فيهرعُ إلى قلمِهِ ويكتبُ ما يجودُ بهِ الخيالُ. الشِّعرُ صديقُهُ الأوفى في مرامي العمرِ، حرفُهُ الأبقى والأزهى فوقَ طينِ الحياةِ، لا يفارقُ دندناتِهِ السّحريّةَ في كلّ محطّاتِ العبورِ، لأنّهُ في حالةِ ابتهالٍ للحظاتِ ولادةِ القصيدةِ. يكتبُ الشِّعرَ كمَنْ يترجمُ أحلامَهُ الهاربةَ من اشتعالاتِ هذا الزّمان وانشراخاتِه. الحرفُ زادُهُ الأشهى، والكلمةُ ملحُ الحياةِ، فلا يرى أجدى من القصيدةِ ينثرُها فوقَ وجنةِ الصَّباحِ على إيقاعِ زخّاتِ المطرِ، كي يوشِّحَ خدودَ الأطفالِ بدندناتٍ متناغمةٍ معَ أغاني فيروز، بينهُ وبين فضاءاتِ التّجلّياتِ الفيروزيّة، انبعاثاتُ شعرٍ من نكهةِ ابتهالاتِ الرُّوحِ في أوجِ حبورِها، فيروز وهجُ القصيدةِ المزنّرةِ بالفرحِ الآتي، مراراً أوحَتْ له أهازيجُ الأغاني بإشراقاتِ بوحِ القصائدِ. الموسيقى لغةٌ شاهقةٌ مضمّخةٌ بمذاقِ الشِّعرِ، هي والشِّعرُ توأمان جامحانِ نحوَ نضارةِ السَّماءِ. الشِّعرُ لغةُ التَّجلِّي، والأحلامِ الوارفةِ، لغةُ الانبعاثاتِ الفيّاضة، لغةٌ مفعمةٌ بانسيابيّةٍ طافحةٍ بالانبهارِ! 

جميل داري شاعرٌ مكتنزٌ بأوجاعِ الحنينِ، وآفاقِ الشَّوقِ المضرّجِ فوقَ خدودِ البنينَ، تنبعُ القصيدةُ من خيالِهِ ولواعجِهِ وأفراحِهِ وأحزانِهِ وذاكرتِهِ المعرّشةِ في أبهى شهقاتِ الحياةِ؛ تولدُ صافيةً صفاءَ الماءِ المنسابِ من مآقي السَّماءِ، فهوَ على عناقٍ معَ ضياءِ الهلالِ في أوجِ السُّطوعِ، صديقُ الجمالِ المنبعثِ من مرامي الأعالي إلى كينونةِ الكونِ، منبهرٌ من إشراقةِ الشَّفقِ. صادقَ الحياةَ برمَّتِها واتخذَها صديقةً حميمةً لهُ، وتصالحَ معَ ذاتِهِ بكلِّ طموحاتِهِ وجموحاتِهِ، متناغماً معَ شاعريّةِ الطَّبيعةِ، ومعَ تلاوينِ الحياةِ؛ لهذا يرفرفُ حرفُهُ نقيَّاً صافياً مثلَ هبوبِ النّسيمِ. يكتبُ شعراً متعانقًا معَ بهاءِ الحياةِ دونَ أيّةِ رتوش؛ إلّا رتوشاتِ الشّهقةِ الإبداعيّةِ الخلّاقةِ، فقد تشكَّلَ نصُّهُ من لغةٍ مغموسةٍ بالجمالِ المتماهي معَ حبورِ الطَّبيعةِ، وكركراتِ الطّفولةِ بكلِّ مباهجها وبراءَتها وعفويَّتها، مُبحراً في فضاءاتِ القصائدِ برغبةٍ غامرةٍ، كمَن يبحثُ عن الدُّررِ والياقوتِ والنّفائسِ النّادرةِ في قيعانِ البحارِ، مستوحياً ممّا قرأهُ وشاهدَهُ وترسّخَ في خيالِهِ على امتدادِ مساحاتِ العمرِ، رؤيةً طافحةً بأرقى جموحاتِ الإبداعِ.  

يغوصُ الشَّاعر جميل داري عميقاً في ما ينسجُ من تجلِّياتٍ في فضاءِ القصيدةِ، مناغياً ما يكتبُ عنهُ برشاقةٍ بديعةٍ وحميميّةٍ دافئةٍ، فتولدُ القصيدةُ نقيَّةً من الشَّوائبِ المتطايرةِ فوقَ ظلالِ الأزقّةِ، مسربلةً برحيقِ الذّكرياتِ المرفرفةِ فوقَ أجنحةِ الرّوحِ، يرسمُ الدَّمعةَ والفرحةَ والبسمةَ واشتعالاتِ الحنطةِ فوقَ هاماتِ البلادِ، كما يرسمُ الكثيرَ من انشراخاتِ هذا الزّمان فوقَ هضابِ العمرِ، لا يرتوي من التَّعبيرِ عن هواجسِهِ وأوجاعِهِ وأفراحِهِ، فتولدُ رؤاهُ من خلالِ أحلامِهِ وطموحاتِهِ الوارفة كأغصانِ الزَّيتونِ. يترجمُ ما ينتابُهُ من مشاعرَ دفينَةٍ بمهارةٍ عاليةٍ، سواءً كانت هذه المشاعر حزينةً أو مبهجةً، فهو يراها لُبَّ القصيدةِ الّتي يحبكُها بكلِّ ما فيها من شموخٍ أو انكسارٍ فوقَ معراجِ الحياةِ!   

عندما أقرأُ شعرَهُ؛ أتلمَّسُ توهُّجاتٍ فنّيّةً رهيفةً فوقَ وجنةِ الحرفِ، فوقَ خصوبةِ الخيالِ؛ فهو بارعٌ في مداعبةِ بوحِ الحرفِ مثلَ ناسكٍ متعانقٍ معَ هدهداتِ الحرفِ وحبورِ الكلمةِ ومذاقِ انبعاثِ فضاءاتِ اللّغةِ، فهو كائنٌ مجبولٌ برحيقِ الشِّعرِ، بوهجِ الكلمةِ، بألقِ الصّورةِ وأشهى ما في بيانِ الكلامِ. يقطفُ أزاهيرَهُ الشِّعريّةَ في صباحٍ باكرٍ أو في قيظِ الظّهيرةِ، عندما يأخذُ قيلولةً تحتَ ظلالِ الأشجارِ أو وهو يسرحُ في أعماقِ البراري، حيثُ تتراءى أمامَهُ سهولُ قمحِ عامودة على مدِّ البصرِ، بكلِّ اخضرارِها وعطاءاتِها الخيِّرة، فتنفرشُ أمامَهُ ذكريات عقود من الزّمان، ولا تفارقُ مخيالَهُ اللّقاءاتُ والسّهراتُ البهيجةُ في مساءاتِ عامودة بينَ أحضانِ الأهلِ والأحبّةِ والخلَّانِ. يخفقُ قلبُهُ شوقاً، كلَّما تذكّرَ ابن عمّهِ الفنّان رفعت داري وهو يغنِّي أغنيته الملحميّة الشَّهيرة "حمدين وشمدين". كم استمتعتُ أنا بالذّات، كلَّما استمعتُ إلى هذهِ الأغنيةِ المدهشةِ في تجلّياتِ أدائِها، إلى أن كتبتُ مقالاً متعانقاً معَ فضاءاتِ هذهِ الملحمةِ المفعمةِ بالموسيقى والأحداثِ الشّاهقةِ في مضامينِها، وفي وسطِ هذهِ الأجواءِ عاشَ الشّاعرُ جميل داري، متوغِّلاً في فضاءاتِها الابتهاليّة، وكأنّهُ يحضرُ كرنفالاتٍ فنّيّةً موسيقيّةً وشعريّةً وأهازيجَ الحفلات الّتي كانت تبهجُ الرُّوحَ والقلبَ معاً، بحثًا عن صُورٍ شعريّة مبلَّلة بوميضِ الشَّفقِ، يحلّقُ عاليًا عبر حرفِهِ، كأنّه مجذّر في ذاكرةٍ متفرّعةٍ إلى ذاكرةِ المكانِ والزّمانِ، وذاكرتُهُ معتّقةٌ بهلالاتِ انبعاثِ الحلمِ، كأنّهُ صديقُ الكائناتِ البرّيّةِ والأهليّةِ معًا. 

يمتلكُ الشّاعرُ جميل داري شفافيّةً بارعةً في مناجاةِ الذّاتِ، وفي ترجمةِ إشراقةِ شهقاتِ الأحلامِ، ويرى ذاتَهُ متناثرةً في اخضرارِ الحياةِ، فيرسمُ تجلِّياتِ حرفِهِ بطريقةٍ شاعريّةٍ بارعةٍ وبرهافةٍ عاليةٍ، يهدهدُ حرفُهُ شهيقَ الحياةِ وكأنّه يخاطبُ الحياةَ حرفًا حرفًا، كلمةً كلمةً، فتنبعثُ القصيدةُ من أعماقِهِ إلى ناصيةِ الورقِ وبهاءِ النُّورِ. فهوَ شاعرٌ مندَّى بأشهى خصوباتِ الكلمةِ الممراحةِ المنبلجةِ من رحابِ نبضِ الإبداعِ الصّافي صفاءَ الصّباحِ، لهذا أراهُ يغوصُ عميقًا في ماهيةِ الشّعرِ، وجوهرِ الشّعرِ، وحفاوةِ الشّعرِ؛ لأنّهُ كائنٌ مضمّخٌ بأريجِ الشّعرِ منذ أن تبرعمَ على وجهِ الدُّنيا. يبدو أنَّ والدتَه قمّطتهُ باخضرارِ الدَّالياتِ وسقسقاتِ العصافيرِ وحفيفِ الأشجارِ منذ أن رأى النّورَ في خيراتِ عامودة المعطاءة، وظلّ مقمَّطًا بهذهِ الحفاواتِ أينما حلَّ وأينما انتهى به المطافُ.

يتميّزُ الشّاعرُ المبدعُ جميل داري بلغةٍ مطواعةٍ طريّةٍ جامحةٍ في تجلّياتِها، وغنيّةٍ في صورِها الفنّيّةِ وفضاءاتِها الشَّاهقةِ، وكلُّ هذه الإمكانيات ناجمة عن خبرةٍ طويلةٍ، اكتسبَها الشّاعرُ من خلالِ قراءَتِهِ العميقةِ لعيونِ الشّعرِ والأدبِ الشَّرقي والغربي، وغوصِهِ في منعرجاتِ اللُّغةِ وبوحِ الحرفِ، إلى أن غدا شاعرًا جامحًا ومتميّزًا في لغتِهِ الشّعريّةِ والأدبيّةِ الخلّاقةِ، الصّافيةِ صفاءَ الماءِ الزُّلال! 


ستوكهولم: (16/ 7/ 2019)، مسودة أولى.

           12. 1. 2022 صياغة نهائيّة 

صبري يوسف

أديب وتشيكلي سوري مقيم في ستوكهولم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق