خطوات التجربة الثانية (اكتشاف الغرافيتون)/ إبراهيم أمين مؤمن



اجتمعَ جمْعٌ كبير من الأساتذة يتقدمهم فهمان لخوض تجربة التاريخ.

كلٌّ واحد منهم وقف في مكانه المنوط به.

بدءوا بطاقة ارتطام ضعف طاقة  FCC-1 الكائن بسرن؛ والخوف يعصر أوصالهم، إذ يرجون أن تنجح التجربة لعبور البوابة إلى تجربة التاريخ. والتجربة نجحت بالفعل.

تنفسوا الصعداء، ولما شرعوا في الإعداد لإجراء تلك التجربة نظر بعضهم إلى بعض تدور أعينهم فيما بينهم، يلوذون بعضهم ببعض للنجاة من الموت، إذ إن التجربة ستجرى بطاقة المصادم القصوى ألا وهي خمسمائة تيرا إلكترون فولت التي قد تتسبب في هلاكهم وهلاك الكون كله إذا ما تضخم الثقب وبات نسخة عن جهنم الآخرة.

وداهمتهم هواجس شتى، من بينها خوفهم من أن يلتهمهم الثقب ويرمي بهم في بوابة بُعدية قد تكون النملة فيها بحجم الفيل.

وبعد أن دكتهم تلك الهواجس أماتت في قلوبهم طموحاتهم وأحلامهم فذهبت مع الريح خاطرة جائزة نوبل في الفيزياء، وكذلك خاطرة صنْع سلاح يكون له كلمة الحسم في الحرب المحتملة بين الكتلتين، حتى خاطرة القنبلة التي أثارها فهمان في رسالة الماجستير بجنيف ذهبتْ أيضا مع الريح، لم يتبقَ لديهم إلّا خاطرة الكينونة، نكون أو لا نكون.

أمّا فهمان فلا يسيطر على نفسه إلّا أن يحيا العالم في سلام وفضيلة، أمّا خاطرة الكينونة فلم تدب أقدامها على مسرح قلبه لأنّه متأكد أنّ الثقوب المتولّدة نتيجة الاصطدام ستتلاشى بمجرد تكوينها.

تمّ دفع البروتونات إلى داخل المصادم وحدث الارتطام بعد مرورها عبر مكونات المصادم.

 سجلتْ المجسات البيانات، وحدثتْ بعض الاهتزازات عند منطقة التصادم المقصودة، تلك الاهتزازات أشبه بالاهتزازات الرعديّة العنيفة، ممّا تسبّب في هلع المراقبين فبعضهم فرّ هاربًا، ومنهم الذي انكفأ على بطنه إذ لم تستطع قدماه أن تحملاه، ومنهم من سقط مغشيًا عليه نتيجة الاختناق.

وتمتْ التجربة بنجاح منقطع النظير، فهلّل مَن هلّل وصاح مَن صاح، وهبَّ واقفًا من سقط منذ ثانية، هبّ مهللاً كالطفل.


إحصاء نتائج التجربة:

عند كاشف SciFi مُتعقّب الألياف الضوئيّة تمّ رصْد أعلى بيانات التجربة بعدها سجّل أطلس بيانات أقل.

إنّ الارتطام تمّ عند مِجس أطلس وكاشف SciFi مُتعقّب الألياف الضوئيّة.

والحقيقة أنّ الاهتزازات صاحبها سحب الهواء مما تسبّب في اختناق وغثيان بعض الباحثين.

ولقد فسّر فهمان أنّ التجربة أسفرت عن ثقبٍ أسود تلاشى بسرعة، وأنّ الثقب كان بداخله جسيمات حاملة لقوى الجاذبيّة وهو الجرافيتون، وهو المسئول عن سحب الهواء الذي تسبب في اختناق وغثيان بعض الباحثين.

ترامتْ البيانات إلى كلِّ أنحاء العالم عبر شبكة الحوسبة الفائقة، وخلال أيام وامتدت بعد ذلك إلى شهور تقدّم مجموعةُ من العلماء بأكثر من مائة ألف ورقة بحثيّة تحلل بيانات الكواشف.

وممّن حلل البيانات العالم اليابانيّ الفذّ ميتشو كاجيتا، وقد اكتشف الغرافيتون من خلال تحليله.


                        رد فعل العالم إزاء اكتشاف الغرافيتون 

ميتشو كاجيتا:

في غرفة مغلقة لا تجمع إلّا اثنين من شياطين الأرض وهما ميتشو كاجيتا ورئيس وزراء اليابان.

ثمة عامل مشترك يجمع بين كاجيتا ورئيس وزراء اليابان ألَا وهو التخلص من الولايات المتحدة الأمريكيّة.

فكاجيتا من فرط كُرهه لأمريكا كره الإنسان، وفي المقابل يحبّ وطنه بولعٍ شديد، وسبب كراهيته لأمريكا أنّ نسبه منحدر من عائلة كانت تقطن هيروشيما، ماتت كلّها إثر إلقاء القنبلة الأمريكيّة عليها سنة 1945.

عائلته كانت ذات نسب عريق جدًا تقدّس التقاليد، ومن تقاليدها أنّ الثأر لا يموت ولو مضى عليه عشرات العقود.

وإمعانًا في حبْك التقاليد وإضفاء الشرعيّة عليها اعتنقوا قولا بمثابة عقيدة راسخة وهو: إنّ الأحفاد كما يرثون الأجداد في أموالهم وحضاراتهم يرثون كذلك إجرامهم. 

أمّا رئيس وزراء اليابان فقد كان يكره أمريكا أيضًا والسبب أن عراقة حضارتها وكبريائها صرعت كبرياءه المتوغل في روحه. فهو الآخر ينحدر من أصل كبار الأباطرة اليابانيين الذين زالت إمبراطوريتهم وذابت على أعتاب الولايات المتحدة الأمريكية في ماضيها وحاضرها.

قال كاجيتا له: «إنّ الغرافيتون قد يستطيع اختراع قنبلة جديدة أشبه بالثقب الأسود.»  

صُعق الرئيس من هول الكلمة ونظر في وجهه مذهولا ولم ينبس بكلمة.

تابع كلامه: «إن ما منعني من اختراع هذه القنبلة إلّا عدم تمكّني من رصد الغرافيتون، أمّا الآن وبفضل مصادم الوادي الجديد فيمكن رصده والإمساك به وصنْع قنابل الثقب السوداء.» 

وأكّد له كاجيتا أنّ مصادم الوادي الجديد أنتج ثقوباً سوداء أطلقت فوتونات ضوئيّة وجرافيتونات الجاذبيّة وقد أدّوا عملهما وهو حالة الاختناق وسحب الهواء.

قال الرئيس: «علام تنتظر؟ يجب أن تكون هناك في غضون أيام.»   

سكت هنيهة وعيناه تنظران في زاوية أحد الجدران العلوية ثم قال: «أيّ قنابل ملعونة هذه يا ملعون اليابان.»

أجابه: «القنبلة الذريّة تعتمد على الانشطار، والهيدروجينيّة تعتمد على الاندماج، لكن قنابل الثقوب السوداء لها شأن آخر؛ فهي تجذب ماحولها من مادة آخذة إيّاها إلى المجهول. نضعها أمام جيوش أمريكا لعام 1945 التي دمّرت اليابان "يقصد الجيوش الحالية " فتجذبهم وتنهيهم.»  مسح كاجيتا يده اليسرى باليمنى إشارة إلى تنظيف يده من قاذرواتها وهو يستطرد: «وأنّه حان الآن تنظيفها بعد إلقاء أمريكا في المجاري.»

 ثمّ نظرَ إلى خريطة العالم وأشار إلى موقع الولايات المتحدة الأمريكيّة فيها وردّد قائلا: «وتُطهّر الخرائط الجغرافيّة من الخطيئة بمسح هذه المنطقة المتّسخة منذ اكتشافها.»

ردّ الرئيس: «هذا ما أروم إليه، لكن علينا بتوخي الحذر والعمل في السرِّ حتى نتيقن من نجاح هذه القنابل الملعونة، عندها نقيم سُرادقات العزاء الذي تأخّر قرونًا، ونستعيد إمبراطوريتنا من جديد.»

ثمّ قال بحزم بعد أن زفر زفرة طويلة: «كاجيتا الخزانة كلّها تحت أمرك، اخترْ من خبراء اليابان ما يصلح معك لتلك المهمة، واعملْ على إحضارها هنا، وحاذرْ حاذرْ أن يعلم أحدٌ بهذا الشأن غيرنا،أنتَ وأنا، أنا وأنت.»

ردّ كاجيتا: «هذا ما انتويتُ فعله بالضبط، سأعكف في معملي أدرس خطوات صنعها وإيجاد معادلتها، وهذا الأمر قد يستغرق وقتًا.

وسأعقد مؤتمرا صحفيا في الحال لأقول فيه أنّي سأنزل بالوادي الجديد خلال بضعة أشهر، وسأقول إنّي نزلت من أجل اكتمال النموذج القياسيّ للجسيمات حتى لا يشكُّ أحد فينا.»

وتمّ عقد المؤتمر وقد قال ذلك بالفعل .


فهمان: 

وشأن فهمان متباين عن شأن كاجيتا؛ فخطة كاجيتا هو صنْع القنبلة للتدمير والفناء، أمّا فهمان فكلّ خطته من صنْعها هو البناء والبقاء.

خطة كاجيتا إزالة الناس من على خريطة العالم بالحرب، أمّا خطة فهمان فهو بقاء العالم كلّه على خريطتهم بنشر السلام.


جاك: 

وفور أن عرف جاك بأمر اكتشاف الجرافيتونات إلّا وتبلّورت لديه فكرة القنبلة التي ذكرها فهمان في رسالة الماجستير بجنيف والتي كادتْ تودي بحياته بعد هجوم وحدة الكيدون عليه.

كلّ خطوات عمل القنبلة تبلّورت في ذهنه وهو صامت، ثمّ همس لنفسه: قنابل الثقوب السوداء تطرق أبواب الكون.

 فانقبض قلبه على الفور.

حاول أن يروّح عن نفسه بعد معرفته بأمر الجرافيتون الذي أجرى الخوف في أوصاله، كما لم يرحمه ذاك الخوف وفتك به أيضًا بسبب خشيته من تحوّل النجم إلى ثقب أسود قبل أن يبتعد عن المجموعة الشمسية.

وفي قصره الكائن في واشنطن توسّط حديقته الغنّاء لينعم بالطبيعة الساحرة محاولة منه للترويح عن نفسه كما قلتُ، فيسمع تغاريد العنادل العذبة، ويشم روائح الياسمين والأزاهير.

لكنّ نفسه المفعمة بالهموم والخوف على العالم لم تفارقه أبدًا، فألقتْ بظلالها فيما حوله، فما وجد في صوت العنادل إلّا أصواتًا تنتحب وتقطر ثغورها دمًا، بينما الأزاهيرُ ما عاد ينبثق الأريج من براعمها.

فتقزّز وشعر بأنّ أنفه امتلأ بالإشعاع النوويّ، وأنّ دويّ القنابل اخترقتْ أذنيه.

أمسك بصحيفة اليوم التي على الطاولة بجانب كرسيّه وفي الصفحة الأولى شاهد صورًا وقرأ مقالات عن مؤتمر لكاجيتا والذي قام بتغطيته عشرات الصحفيين.

كلها تتكلم عن رغبته في اكتمال النموذج القياسي للجسيمات من خلال التجارب التي سيقوم بها بوساطة FCC-2.

شعر جاك أن كاجيتا مخادع وأنّه ما أراد من مصادم الوادي الجديد إلّا ابتكار قنابل الثقوب السوداء، فأراد أن يستوثق من خداع هذا المكير عن طريق مشاهدة ملامح وجهه والتفرس فيها.

بيدين مرتعشتين فتح اللاب توب فشاهد على اليوتيوب المؤتمر الصحفيّ الذي عقده كاجيتا، يسأله فيه خبراء الفيزياء عن سبب نزوله أرض الوادي الجديد فأجابهم بأنّه يأمل بعد اكتشاف الجرافيتون بالطاقة الجديدة أن يكتمل النموذج القياسيّ للجسيمات، وأن ..إلخ.

ظلّ يتكلم عن معضلات وألغاز لم يهتدِ إليها العالم على مرّ تاريخهم ، حتى قال: «واعتقد أنّه حان الوقت لحلّ الكثير من الألغاز الكونيّة التي لم يتوصّل إليها أحدٌ بفضل مصادم فهمان فطين المصريّ.»

وبعد أن تفحص جاك ملامح وجهه وهو يتكلّم تبيّن أنّه يخادع ويراوغ، وأنّه يضمر شرًا مستطيرًا، وجاك يعلم بالضبط ماذا يريد كاجيتا من FCC-2.

ظلّ يغمغم مرتعشًا: كذّاب، كذّاب..... كذاب.

وصرختْ كلُّ جوارحه، وعاش لحظات بين الوعي واللاوعي فرأى الأزاهير تنحني وتتساقط واحدة تلو الأخرى أمام عينيه وكأنّها تعلن عن موتها، والبلابل تخرّ ساقطة بعد أن هوت أزاهيرها.

أفاق وانتبه من الحالة الوسطية التي اعترته، بعدها أمسك باللاب توب ورماه في السماء قائلاً: إذن نهاية العالم على أيدي مصادم  FCC-2، بل على يديك يا فهمان.

وما أن انتهى من قوله أمسك بالهاتف واتصل بفهمان. 

قال له جاك: «العالم على حافية الهاوية بسبب مصادمك، قلْ لرئيسك يغلق المصادم.»

 سأله دهشا: «لِمَ ؟»

أجابه: «أغلقْه، ميتشو كاجيتا وفريقه في الطريق إليك من أجل الجرافيتون.»

- «تقصد أنّه أتى وفريقه لصنْع قنابل الثقوب السوداء؟»

- «طبعًا، وإن نجح سيركعُ العالم كلّه لليابان، وخاصة أنّي أعلم عن رئيس وزرائهم أنّه مجنون بداء العظمة، لكنّه يداري ويضمر حتى لا تلجمه أمريكا وتقتل ما بداخله من عفن.»

- «أنتَ تعلم أنّ صنْعها صعب، ومع ذلك سأسعى جاهدا للحيلولة دون ذلك.»

- «وهل لديك بروتوكولا من بروتوكلات المصادم لتمنعه عن ممارسة التجارب؟»

-«لا.»

- «إذن أغلق المصادم بحجة ترميمه أو اجعلْ رئيسك يطرده هو ووفده.»

- «لن أغلقه قبل الوصول إلى إبليس لقتله فتحيا البشريّة بلا حروب.»

- «لن تعبر، العالم سينتهي قبل أن تعبر، العالم الذي تُضحّي من أجله سيضيع بسبب مصادمك يا فهمان.»

- «صديقي، ليس لدي صلاحية لإغلاقه، وليس من صلاحياتي طرده كذلك، لكن سأشرح الأمر للرئيس مهدي.»

- «فهمان، صديقي، لو قامتْ الحربُ بين آسيا وأوروبا بقيادة أمريكية فكلٌّ منهما لن يستخدم النووي إلّا بحذر شديد لأنهما خاسران في حالة تبادل الضرب به، لكن عندما تمتلك دولة قنابل الثقوب السوداء وهو سلاح أشبه ببوق إسرافيل فلن تصدّه قنابل نوويّة ولا قنابل هيدروجينيّة، فهمان لو حصل عليها أحدهما سيعمل على الخلاص من الآخر بها.»

- «صديقي، لن أسعى لإغلاقه قبل العبور، فأنت تعلم ما أريد، وأكرّر لك، أريد طرق بوابة إبليس، أريد قتْل إبليس، أريد الهداية للناس.»

- «وأنا أكرر لك لا جدوى من الوصول إليه، فكلّ الطرق المؤدية إليه محفوفة بالمخاطر.»

ثم قال مستدركا: «صديقي إن نجحتَ في العبور فسيقبضون عليك ويقتلونك.» 

سكت هنيهة، وزفر زفرة طويلة ثمّ قال راجيًا: «دعك من هذا الوتر المهتز الذي سيبلغك بُعد الشياطين، دعك منه، لو أدرك كاجيتا قنابل الثقوب السوداء فلن يرحم منا أحدا ولو رضعائنا.»

- «لن أدعه ولو كانت نفسي فداء لذلك، وسأقف حجرة عثرة حتى لا يحقق مخططه الشيطاني.»

- «إذن فأنا أحملك ما سيحدث للعالم من جراء حمقك.»

 وأغلق الهاتف ثم رماه فارتطم بالحائط وهو يزفر غيظا وغضبا.


العالم: 

أمّا شأن الدول إزاء اكتشاف الجرافيتونات فهو أمر مؤسف أيضًا.

تهيّأت قوى التحالف لإرسال المزيد من خبرائها وعلمائها فضلاً عن الموجودين أساسًا من قبل إلى FCC-2 بعد ان تأكدوا من وجود الجرافيتون.

ولقد حثّ الرئيس الأمريكيّ الأمم المتحدة بكافة أقسامها بجعْل مصادم الوادي الجديد تحت مراقبة لجنة متخصصة من أفضل العلماء الأمريكيين متذرعا بأنه قد يهلك الكون، ولقد سعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا، وغرضه الحقيقي هو إطلاق حريّة الحركة للخبراء الأمريكيين دون غيرهم من الروس وحلفائها بعمل ما يحلو لهم على المصادم.

اكتشاف الجرافيتون فتح آفاقًا جديدة للدول المتوقع خوضها الحرب النوويّة، تلك الآفاق المتمثلة في عمل بحوث حول إمكانيّة تطويعه لصنع سلاح أفتك من الأسلحة النوويّة.

ولقد منّوهم خبراؤهم بأنّ المصادم FCC-2 قد يكون الوسيلة لصنع سلاح دفاعيّ ضد الرءوس النوويّة وبالتالي يعصف بأخطار القنابل الذريّة من قبل المهاجم.

وبدأتْ الدول ترسل دعمها بمليارات الدولارات مما كان له أثر بالغ في تحسين الاقتصاد المصري شيئا فشيئا.


ما بين الناقد الأكاديمي والناقد الحرّ/ فراس حج محمد



على هامش أحد اللقاءات الافتراضية مع الكاتب محمود شقير لمناقشة كتابه المربك والإشكالي "حليب الضحى"، أثارتني هذه الازدواجية ما بين الناقد الأكاديمي والناقد الحرّ، وكيف يتعامل كلاهما مع عمل واحد، وكيف يفكران على نحو مختلف.

لكن، ثمة تعميم كبير جدا في هذا التقسيم الحدي الازدواجي. لأن الناقد الأكاديمي ليس وجها واحدا، ولا يفكر النقاد الأكاديميون كلهم على نحو واحد، حتى وهم ينتمون إلى مدرسة نقدية واحدة، فلا يمكن أن يكون الناقد الأكاديمي بمواجهة الناقد الحرّ، ندا لندّ وطرفاً لطرف بهذا الشكل.

خلال الندوة تلك، وهي واحدة من ندوات اليوم السابع المقدسية، وقد أدارتها الكاتبة والروائية ديمة السمان، تحدثتِ السمان على هامش الندوة وقبل البدء في أننا (رواد ندوة اليوم السابع) لسنا نقاداً، وإنما نعبر عن وجهة نظرنا تجاه العمل، ولنا فيه وجهات نظر متعددة، ومتباينة، وعلينا أن نحترمها كلها.

حضر في هذه الندوة نقاد أكاديميون ونقاد انطباعيون، وقراء، وبالطبع بحضور الكاتب محمود شقير، وكان الكتاب كرة لغوية تتدحرج بين الكتابات، وسجل عليها القراء والنقاد ملحوظاتهم الجزئية والفنية، وتحدث الكاتب دون أن يخوض في كثير من التفاصيل، وأجاب عن بعض التساؤلات، كان لبقا ومحبا ودمثا وهادئا كعادته، وسجل ملحوظاتنا، وكان سعيدا بها حتى تلك الملحوظات التي قد تزعج غيره من الكتاب، تلقاها بصدر رحب، بل إن تلك الملحوظات غير المقنعة وغير المهمة نقديا وأدبيا اهتم بها، وإن أخرج تعليقه عليها بفكاهة رصينة. محمود شقير في كل ندواته وفي كل مساجلاته يعلمنا كيف يمكن للكاتب الكبير أن يكون صبورا وعادلا وإنسانيا.

ما لفت انتباهي هو هذه الازدواجية التي أشرت إليها في العنوان الناقد الأكاديمي والناقد الحر. اختلف المنتدون حول "حليب الضحى" إن كان رواية أو كان مجموعة قصصية، ولا أريد أن أذهب إلى هذا النقاش، فقد بحثته في دراسة مستقلة ستنشر قريبا بعون الله. إنما فكرت كيف يمكن للناقد الأكاديمي أن يرى الموضوع من زاوية أكاديمية صرفة.

أظن أن خروج الكتاب عن القواعد العامة للكتابة يحرج الناقد الأكاديمي، لأنه ليس حرا، ولا تلعب ذائقته الخاصة عاملا حاسما في تقدير العمل الأدبي الاستثنائي حق قدره. فالأكاديمي لديه مجموعة من القواعد يسير عليها، ويحاول جاهدا أن يفبرك النص بناء على تلك القواعد، قد يتمرد العمل على الناقد الأكاديمي، فتخذله تلك القواعد خذلانا عظيما، فيراه عملا ناقصاً، وبحاجة إلى المزيد من المراجعة لضبطه. الناقد الأكاديمي هنا يدعو الكتّاب إلى تخريب العمل في حقيقة الأمر وليس إلى ضبطه. لقد نسي هؤلاء النقاد أن كل تلك القواعد إنما هي قواعد استقرائية أجبرهم عليها الكتّاب الإبداعيون، وليس العكس.

أما الناقد الحر، المتحرر من سيطرة تلك القواعد الحادة من تدفق الذائقة فإنه سيكون أقدر- إن كان ملما ومثقفا- على التعايش مع العمل الأدبي والدخول إلى أنساغه، والتفاعل مع مكوناته، فلا يعنيه كثيرا إن كان العمل الأدبي "حليب الضحى" رواية أو مجموعة قصصية ما دام أنه يقرأ نصوصا جميلة تشبع رغبته، وتطور من معرفته. الناقد الحر سيقدّر العمل حق قدره، لأن خير الأعمال ما حرك عقل القارئ وحسه، أما الناقد الأكاديمي فسيفشل فشلا ذريعا في هذه المسألة، لأن القواعد الأكاديمية حرمته المتعة وحرّمت المتعةُ نفسَها عليه أيضا. فالناقد الأكاديمي نصف قارئ، لأنه يستخدم عقله فقط، ويعطل إحساسه فلا ينفعل بالجمال إلا بقدر انطباقها على تلك القواعد.

حدث ذلك مثلا مع الناقد المصري الدكتور صلاح فضل والروائي يوسف زيدان، عندما أراد د.فضل أن يخضع رواية "ظل الأفعى" للقواعد الروائية الأكاديمية المقررة في كتب النقد المنهجي فقال له: "إن من يدخل مدينة الرواية عليه أن يحترم قوانينها"، فأجابه زيدان: "ما هي قوانين الرواية حتى نحسب قدر انحرافي عنها".

من خلال هذه الثنائية بين هذين النوعين من النقاد، سيجد المتلقي- قارئاً أو سامعاً- أن اللغة عامل حاسم أيضا في إحداث الفرق بين الناقدين، ما بين لغة معلبة قواعدية مصطلحية فنية غير مفهومة لأنها تحاكي عموميات الأعمال الأدبية، وبين اللغة الانفعالية الواضحة المستلة من رحم العمل نفسه، فتكون قريبة ومعبرة وحقيقية. هذا ما فعله الناقد الحر- وهم كثر- خلال مناقشة كتاب "حليب الضحى"، أو مناقشة أي كتاب في الندوات الأخرى، حتى لتبدو أيضا انحيازاته العقدية والجمالية دون أن يكون مضطرا للتبرير، هذا المنطق التبريري الذي يستند عليه الناقد الأكاديمي. فلغة الناقد الحر لغة شفافة واضحة علنية، أما لغة الناقد الأكاديمي فهي متوارية وخائفة وتوجسية وتكثر فيها الشكوك والريب وألفاظ: ربما ولعلّ وأشباههما؛ بحجة واهية تدعي الموضوعية والحيادية والبعد عن اليقينية.

هل بإمكان الناقد الأكاديمي أن يكون ناقدا حرا؟ لا أعتقد ذلك ألبتة، أقولها بلا "ربما"، وبلا "لعلّ". فهو شخص مجهز ومبرمج على نسق واحد، وليس له من طيبات الأعمال الإبداعية وملذّاتها من نصيب، خربته القواعد فضلّ الطريق. هذه الأكاديمية الصرفة لا تصلح لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوة كندوة اليوم السابع، ولذلك تشعر أن وجودهم في الندوة عامل ملل حقيقي، فهم مضجرون إلى درجة كبيرة. ولا يتقنون لغة الحب تجاه الكاتب وعمله الإبداعي. ومكانهم في الندوة- أي ندوة- ليس هو المكان الصحيح، فليظلوا- كما قال رونان ماكدونالد- داخل أسوار الجامعة يمارسون شهواتهم النقدية على طلابهم داخل قاعات الدرس أو في دراساتهم التي يتقدمون بها لنيل الترقيات. هذا أقصى ما يمكن أن يفعلوه، وجزاهم الله خيراً. فليرحموا الأسماع والأكباد من "زنّ الخشب".

أظن أن النقاد الأكاديميين أشخاص مدجّنون وجبناء، ويعلّمون الكتاب التدجين والجبن، عكس الناقد الحر الذي لا تقولبه القواعد ولا تحده الحدود المقررة، فالشجاعة كلها عند هذا الناقد الذي يسبق الناقد الأكاديمي في التقاط الجمال المدهش، وسيعود إليه يوما ما، وإلى ما قاله من آراء جمالية وانتباهات حرّة غير منهجية، فالشجاع قائد دائما، وعليه لن يستطيع الناقد أن يغير قواعده إلا إذا أجبره الناقد الحر على فعل ذلك، واستمر المبدعون في تحطيم أسوار الجامعة ومقرراتها النقدية الجافة، فكثرة "الطَّرْق" على الحديد تجعله ليّنا. وهذه هي مهمة القارئ الملهم المجهز بوصفه ناقدا حرا غير مدجّن ولا جبان، بل هو متمرد، لا يحب القعود في الأطر الجاهزة.

أظنّ أننا لولا هذا الناقد الحر لما استطعنا تذوق الجمال في الكتب، ولا أن نقول إن كتاب "حليب الضحى" رواية، فالرواية بمفهومها العام أقرب إلى ذهن الناقد الحر من الناقد الأكاديمي الذي لا يعرف إلا أن يقود حماره في الخط المرسوم له دون أن يستمتع بجمال الطريق والربيع الزاهي على جنباته، فلا تصل إلى أنفه عطور تلك الزهور ولا يشعر بها من حوله. فيا له من إنسان ناقص ذلك المدعو "الناقد الأكاديمي"!

العيد الوطني للكويت: لبنان والكويت/ مي اسد سمعان



        كمْ  غوتْني رَمْلةٌ خلفَ الحِجابْ 

         واستَبدٍت  دمْعة   آنَ   ارتِقابْ.


          ايُّ   اقدارٍ   دعَتنا   لاقترابْ 

          كيفَ نُحْصِي الوِدَّ أو قمح التحاب


        مِنْ كويتٍ  والمدَى  طَلْقٌ  وبابْ 

        فاضَ  شَوْقٌ  مُستَهامٌ  مستَطابْ


         كمْْ تراءَتْ  واحةُ  الرّملِ السّرابْ 

         والثُّريَّا  كمْ تهادَت  في الرّحَابْ


         كمْ قلوبٌ بينَ  عَوْدِ  وذهَابْ 

         كمْ جَليسٍ آنسَ  الجُرْحَ  فَطابْ.


         مِن كُويْتٍ إبنةِ الشّطٍِ  المُثَابْ  

         ظَبيةِ  الرَّمْلِ  وانْغَامِ   الغِيابْ.


          مِنكَ  لبنانُ  المناراتُ ، الكِتابْ

         كمْ احَاجٍ حَارَ دهْرٌ في الجَوابْ !


          انتِ بيروتُ  المُحيَّا  والشّبابْ 

         آنَ فجرُ  والنّدى  يرْوِي  التُّرابْ


         كم تنادَتْ في السَّماواتِ القِبابْ 

         مؤذناتٌ    بالمَوَاقيتِ    العِذابْ


          صُبَّني في أكؤُسِ الوَصْلِ شرابْ 

          واقْتَبِلِني    هَمسَةً    آن  اكْتِئابْ


            تَوْأمٌ في الحقِّ أو ْ حُسنِ المَآبْ 

            شَهدُنا  الحُبُّ  المحنَّى بالثّواب


             تلكَ الرَّوابي اعلنت سِرّا  لغَاب 

             عنْ أمير ٍ جادَ دَومًا واستَجَابْ


             عنْ اكُفٍّ عِطرُها  ضَوْعٌ  مُذَابْ 

             عَن عُقولٍ أخْصبَت  رَمْلا  يَبَابْ


             مَكرُماتٌ ليسَ تُحْصَى أوْ تُعَابْ 

             جودُها طَبْعٌ  ويَنأَى عنْ حِسَابْ


           كَمْ مَرَاسٍ بَعدَ غَوصٍ واصْطِخابْ 

            كمْ  غِناءٍ  يَحتفِي  آنَ   الإيَابْ


            كَمْ مَحَارٍ  شَقَّهُ  هَجْرُ  الشِّعابْ 

            كَمْ   لآلٍ  شَاقَها   ضَمُّ   الرِّقابْ


            آه كويْتٌ ذُقتِ  ما ذُقنا  العَذَابْ

             وانعَتقْتِ  مِثْلما  غَيْمُ  السَّحابْ


            هل أنينٌ  بَعدُ  يُجْدي او عِتابْ 

            هَلْ إخاءٌ  إنْ  لهُ  ظِفرٌ  ونَابْ!؟


             سَامَنا الظُّلم  فغَالبْنا  الصعاب 

            والتأمْنا  بعدَ  أن ْ جَلَّ  المُصَابْ


           وانتسبنا   للألى  ايّ   انتساب ! 

           واكتَتَبنا في الهَوَى  ايَّ اكتِتابْ. !

                        

                            في ٢٢/ ١/ ٢٠٢٢

الطريق الى شانغهاي: مشاهد على متاهات العرب في إسرائيل/ جواد بولس



ستصبح مشاهد هبة شهر أيار / مايو المنصرم مجرد فواصل صغيرة في حياة شعب عرف الأمل مطويًا، منذ

أكثر من مائة عام، في صفحة وعدٍ بريطانيٍّ مشؤوم؛ وتجرّع حليب فجرٍ ذبحوه في عام النكبة. وستمضي الشهور ولن يبقى في الذاكرة غير الغصات وفي الصدور غير الوجع.


أعود إلى تلك الهبة وتبعاتها بعد أن قرأت، يوم الاربعاء الماضي، في جريدة هآرتس العبرية، ما قاله

ممثل النيابة العامة الاسرائيلية لقضاة المحكمة العليا الاسرائيلية أثناء مرافعته في الاستئناف على قرار الحكم الذي أصدرته المحكمة المركزية في حيفا  ضد الشاب، ابن مدينة عكا، محمد أسود.


ففي أعقاب تلك الهبة الشعبية اعتقلت الشرطة الاسرائيلية عشرات الشبان العرب، وقدمت ضدهم لوائح

اتهام، تضمنت تهم المشاركة بأعمال الشغب والتسبب بأضرار لممتلكات يهودية وغيرها من هذه التهم الشبيهة، وطالبت بإدانتهم وبإنزال عقوبات قاسية بحقهم. وفي نهاية الشهر الماضي حكم قاضي المحكمة المركزية في حيفا على الشاب محمد أسود بالسجن الفعلي لمدة سنة بعد أن أدانه بمثل

تلك التهم. 


وفي الاستئناف على القرار طالب ممثل النيابة من قضاة المحكمة العليا تشديد العقوبة على المتهم

بشكل استثنائي وغير مسبوق لكي يصبح الحكم في هذا الملف سابقةً تحتذى في سائر القضايا المرفوعة ضد معتقلي الهبة الذين وصفهم بمثيري الشغب؛ وبسبب الخطورة الصارخة المنبعثة من الأحداث التي جرت في مواقع مختلفة من البلاد "ولأننا لا نتحدث عن عدو خارجي وإنّما عن مواطني

الدولة وعن جزء من النسيج المدني المشترك فيها"، كما جاء في أقواله أمام القضاة. وأضاف جازمًا بأن هؤلاء المواطنين قد "تحوّلوا إلى عدو من الداخل ..فالاحتجاجات قد استهدفت المناعة القومية للدولة، والأمل بحياة مشتركة" وهذا كلّه ينطوي على خطورة بالغة قد تؤدّي إلى انشقاق

بين المواطنين، حسب رأيه.


سننتظر كيف ستتعاطى المحكمة العليا مع هذه المسألة الخطيرة؛ وسنعرف عمّا قريب، فيما اذا سيقبل

قضاتها موقف النيابة العامة ويعتبرون بدورهم كل المواطنين العرب الذين شاركوا في الهبة الشعبية "أعداءً من الداخل" على كل ما سيستوجبه هذا التعريف القانوني من تبعات، ويعنيه بالنسبة لمكانة المواطنين العرب وحقهم في الاحتجاج ومواجهة سياسات القمع والاضطهاد العنصري الممارس

ضدهم من قبل مؤسسات الدولة.


اننا نقف أمام مشهد مفصلي في مصير علاقة الدولة بمواطنيها العرب؛ وقد أراهن اليوم على أن المحكمة

العليا الإسرائيلية ستنضم بشكل سافر وواضح ، عاجلًا أم آجلًا، لموقف النيابة العامة الذي يمثل، في الواقع، موقف الحكومة الرسمي وسياساتها، في الحاضر والمستقبل، تجاه مواطنيها العرب.


ومن المفارقات المدهشة أن ما شاهدناه خلال أحداث هبة أيار وكيف تعاملت وستتعامل مؤسسات الدولة

مع مواطنيها العرب، يجري بالتوازي مع تنفيذها لبعض السياسات المغايرة تجاههم ولاتخاذها بعض القرارات الرسمية التي قد تبدو نقيضة لممارساتها العنصرية العملية؛ لكننا، إذا ما تمعنّا فيها بجدية، سنجد أنها  ليست أكثر من تكتيكات مكمّلة ومدروسة وتنفذ كجزء من سياسة الحكومات

الإسرائيلية المرسومة بدقة تجاه من تعتبرهم "أعداءها من الداخل".           فلقد قرر وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، تعيين النائب عن حزب ميرتس، غيداء ريناوي زعبي، قنصلًا إسرائيليًا عامًا في مدينة شانغهاي الصينية. وسوف تكون السيّدة غيداء أول مواطنة عربية مسلمة

تتبوّأ منصبًا هامًا كهذا؛ لكنها ليست أوّل مواطن عربي يخدم في السلك الدبلوماسي الإسرائيلي، اذ سبقها إلى ذلك المنصب مواطنون عرب آخرون، دروز ومسلمون ومسيحيون. 


لم يلق هذا القرار ما يستحقه من اهتمام بين المواطنين العرب، لا من باب المعارضة ولا على سبيل

الدعم، كما تحاول أن تدّعي بعض المواقع الاخبارية العبرية؛ فباستثناء بعض التعقيبات عليه من جهة بعض من يتعاطون الاعلام السياسي، سنجد أن الخبر قد مرّ  بهدوء نسبي، من دون أن يؤدي قرار التعيين نفسه إلى أي احتدام أو مواجهات بين معسكر من المؤيدين ومعسكر المعارضين.

وهذا ليس صدفة بل دليلًا على حالة السبات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية. 


لا أعرف متى ستتراجع حكومة إسرائيل عن موقفها الحالي وتطلب عودة قنصلها العربي من شنغهاي، لكنني

على قناعة أن ذلك سيحصل قريبًا؛ خاصة وأن البعض قد غمز وأشار إلى أن قرار الوزير لبيد مشكوك في نزاهته، ويستهدف، في الواقع، أولًا، ابعاد النائب غيداء عن ساحة الكنيست لتضمن حكومة بينت - لبيد عدم تكرار "مشاغبتها" في المستقبل، كما حصل عندما صوتت ضد قانون تجنيد الشبان

المتدينين اليهود (الحريديم)؛ وثانيًا، لمعاقبتها بسبب بعض تصريحاتها ومواقفها التي استفزت ديوك الحكومة وصقورها.


لقد تزامن قرار تعيين مواطنة عربية كقنصل يمثل إسرائيل في أحد المواقع الجغرافية المؤثرة في العالم،

مع قرار تعيين قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، خالد كبوب، في المحكمة العليا الإسرائيلية، خلفًا للقاضي العربي الحالي جورج قرا، الذي سيخرج قريبًا إلى التقاعد. قد يفهم من قرار تعيين القاضي كبوب  أن صنّاع القرار في الدولة سيحافظون، لأسبابهم الدعائية الخاصة، على

وجود قاض عربي واحد في المحكمة العليا، وقد يتم ذلك بالتناوب بين أبناء الطوائف جميعها، فخالد المسلم يخلف جورج المسيحي، وهذا قد يخلفه في المستقبل قاض من بني معروف.


لم يكن غريبًا اذن أن تقوم المصادر العبرية بتأكيد هوية القاضي كبوب الدينية ، كمسلم يخلف مسيحيًا؛

لكنني لم أستوعب حين لجأت وسائل اعلام عربية الى إبراز هذه الجزئية، أو حين سخّرتها بعض الشخصيات العربية التي باركت الخطوة وهنأت القاضي، مثلما فعلت نفس النائب غيداء ريناوي - زعبي عندما كتبت على صفحتها:  "خطوة تاريخية، تعيين قاضي عربي مسلم في المحكمة العليا. ألف

مبروك اختيار القاضي خالد كبوب خلفا لجورج قرا بالعليا، وبهذا يحقق خطوة تاريخية كعربي مسلم يشغل منصب قاضي في المحكمة العليا". كلام يقال من قبل شخصية قيادية عربية، بروتينية عادية، ويعكس في الواقع ما تعانيه هويتنا الفردية والجمعية من أزمات. كلام يكشف، مرة أخرى،

عن تعقيدات حياتنا، خاصة فيما يتعلق بفهمنا لمكنونات هويتنا، وبعلاقتنا مع الدولة، وكيف يكون تحقيق مطالبنا في المساواة الكاملة وما هي مساحات اندماجنا المتاحة في الدولة اليهودية والمرغوبة من قبلنا.


 لقد كتبت في الماضي منوّهًا الى أن مَن يراهن أن إسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم

في عرى مواطنة هادئة، يخطيء؛ ذلك لأننا بالرغم من مواجهتنا لتداعيات أزمة خطيرة وساحقة، لم ننجح كمجتمع في وضع رؤى كفاحية حقيقية وواقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، ولم نحاول ايجاد السبل الصحيحة للتوافق المتزن مع الدولة

او للاشتباك الرابح معها.


انها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية وبعيدًا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء؛

ففي النهاية لن يجدينا التهرّب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة. لا تحتاج هذه  المواجهة الى الجرأة السياسية فحسب، كما يطالب البعض، بل تحتاج إلى تذويتها كضرورة وجودية ملحّة، والاعتراف بها كمعضلة يجب تفكيكها

بمفاهيم صحيحة وحكيمة، وإلا سيبقى التسيّب القائم اجتهادًا متاحًا بعشوائية لكل المواطنين ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، وليس محصورا في هذه الحركة أو ذاك الحزب.


وبعودة إلى مشاهد التيه من هذا الاسبوع، فهل حقًا نريد تعييين مزيد من القضاة في جهاز القضاء

الاسرائيلي بشكل عام وخاصة في المحكمة العليا ؟ واذا كان منصب القاضي يعتبر انجازًا مرموقًا واستحقاقًا لمن اختاروا كلية الحقوق عنوانًا لطموحهم في شبابهم، فلماذا نعيب على من قبل أن يكون قنصلًا في شنغهاي مثلا، وهو منصب مرموق أيضًا بدون شك ؟ واذا كان الجواب على هذا

مطبوعًا في فقه البداهة التي عشنا في أكنافها، والحظر في أن نقبل أن نكون أبواقًا تدافع عن سياسات دولة تعتبرنا أعداءها الداخليين،  فماذا سنقول لمئات الأكاديميين العرب الذين استوعبتهم مرافق الدولة حتى أصبح بعضهم يتبوّأون أعلى المناصب في الجامعات والمستشفيات والشركات

والوزارات، ويقفون على منصات البلاد وخارجها، كعرب واسرائيليين، ويستعرضون منجزاتهم ومنجزات مؤسساتهم الاسرائيلية التي يمثلونها ؟


لا أقول هذا دفاعًا عن قبول النائب غيداء وموافقتها لاشغال منصب القنصل في شنغهاي، فهذا سيبقى قرارها وستتحمل هي وحدها عواقبه، فهذا سيبقى قرارها وستتحمل هي وحدها

عواقبه، ولا تقليلًا من مكانة القضاة، ولا ذمًا لجميع من كافحوا وتميّزوا في ميادين العلم أو في الادارة أو في الرياضة واستحقوا عن جدارة مناصبهم وتمثيل ما انجزوه حتى لو كان باسم الدولة وتحت علمها، اقول ذلك، لأذكر بسوء حالنا وبتيهنا، وبأننا ماضون نحو مستقبل قاتم

لا نعرف فيه كيف يكون الحسم بين المرغوب والمشتهى..  وبين المحظور.          


الطبيبُ الإنسان/ الدكتور حاتم جوعيه



( قصيدة نظمتُها  بمناسبة الذكرى السنويَّة على وفاة الطبيب الإنسان خالد الذكر المرحوم الدكتور نسيب فهد الحاج  ) .

 

نسيبٌ   أنتَ    للمَرْضَى   طبيبُ        وَمَن    يقصدكَ    حقّا    لا    يخيبُ 

تُداوي   الناسَ    من  ألمٍ    وَداءٍ        وَللآمالِ         دومًا          تستجيبُ 

وأنتَ   الخيرُ   بل   كلُّ  الأماني        بظلّكَ      أنتَ     فالفاني      يطيبُ 

وَذكرُكَ  ساطعٌ  في الناسِ  دومًا         تُبَجِّلكَ        الضمائرُ        والقلوبُ 

وَعاملتَ   الجميعَ    بكلِّ    حُبٍّ         وَعندَ     الكلِّ     معروفٌ      حبيبُ 

تُداوي  الناسَ  في  حُبٍّ  وَصدق ٍ        شفاءٌ     منكَ      والحلُّ     العجيبُ

وأنتَ    البلسمُ   الشافي   لشعبٍ          لِصوبكَ     كلُّ     مكلومٍ      يؤُوبُ 

أمامكَ    وَلّتِ   الأرزاءُ    ذعرًا          تلاشتْ     من     مغانينا    النّدُوبُ 

وفي  أوج  العطاءِ   رحلتَ   عنّا         وفي    أجوائِنا    ازدَادَ     الشُّحُوبُ

حياةُ    المرءِ    بالإبداعِ    تزهُو         ولا   يخشى   إذا    حلتْ    خُطوبُ

ربيعُ    العمرِ    أيَّامٌ     وتمضي         ويذوي  العيشُ   والغُصْنُ  الرَّطيبُ

أبا    فهدٍ    رحلتَ    بلا   وَداعٍ          وسادَ  الحُزنُ ..كم   طالَ    النّحيبُ 

وَإنَّ   الموتَ   بين  الناس   حقٌّ          ولكنَّ      الفراقَ     لنا      عصيبُ 

وَكأسُ   الموتِ   قد  عمَّ  البرايا           وَكلٌّ      للرَّدَى      فيهِ      نصيبُ 

جنانُ   الخلدِ    منزلكَ    المُفدَّى          يفوحُ     الزَّهرُ     فيهَا    والطيُوبُ 

جنانُ    الخُلدِ    للأبرارِ    دومًا          وفيها  العدلُ   يرتعُ    لا   الحُروبُ 


الوضوح/ غسان منجد


 هل يتقاسم التراب اجسادنا 

ويروج للافق بتأبط صمتنا 

وكأن وقع خطواتنا على رصيف التشرد غيوم حمراء 

وتتخبط في سلاسل رياحنا 

ايحاءات من جهة الشمس لشوارعنا لتسيل 

في ملكوت مخيلتنا وتسافر في اقاصي احلامنا 

هل يكفي قنديل لإضاءةقلوب ضيقه لم 

يخرج منها سوى جراح متنقله ومتجددة الاشكال 

وكأن القلوب لا تتذكر شرايينها 

وكأن الشرايين في عزلة عنها ولا تتنكر حتى لترابها 

هل انا المرهق 

الذي لا يتذكر حتى اسمه 

شمس   وضوح 

اشجار.   ظلال 

غموض.   لا وضوح 

وعتمةلا تحجبها قناديل 

اعرفه غامض 

ويعرفني بوضوح 

ما هذا الجدار الحاجب لظلالي 

انام  وتقفو آثاري عتمة 

استيقظ وتتوهج اضواء 

انا الشعاع 

والاضواء ملكي 

انا الحر 

والعبيد اصواتي 

انا مثلهم 

لكنهم ليسوا شبهي 

انا اوهامهم 

ويتكلمون بصوتي 

يأتي من وحي كلماتي 

ويعرض عني 

ينفي ما اقوله

ويعمل باقوالي 

هو الشيطان الخفي 

ويفحص اهوائي 

يسرف في الظن 

ويلوث تراب كلماتي 

يراهن على ظلامه 

ولا يعرف سر شموس 

ملَكَة الحُكم الصّائب.. (أثلام الدماغ).. خاطرة من وحي فلسفة البيولوجيا/ الدكتورة: بهيّة أحمد الطشم

 


 انبرى فلاسفة العصور الى تصنيف القِوى في النفس البشرية:الشهوانية,الغضبية والعاقلة,

فما أسمى القوة العاقلة كملكَة للحكم الصّائب!

 اذ تنضوي القدرة التفكيرية للعقل في أثلام الدماغ....

وما العقل الاّ الأجزاء الثلاثة مجتمعة:

المخ,المخيخ,وجذع الدماغ.....

........................

ندرِك بالعقل كُنه الحياة ,ونلتمس العِبَر في  حنايا المواقف.

ننسج بقدرته الحكيمة ثوباً مزداناً بتموّجات قوس قزح

كي نكشف النقاب عن مواطن الجمال في الآفاق.

تناجي مظلّة النفوس الراقية والعقول الراجحة  بالحِلم حدود السّماء لتطفىء جنون الغضب ,ولتُخمِد ثورة الشهوات العمياء...........

ما أبهى أن نرمق بعيون العقل أبعاد الأمور,ونُساور حنايا أعمارنا بمقتضى لدُنه ( العقل)!

انّه القمر الذهبي في ليل الحياة الحالك,والذي لا طائل منه  بدون تكريس معقوليته ( العقل) فعلاً عند كل عاقل في الوجود.....


أوقفوا خطف أطفالنا/ أحمد سليمان العمري



أطفالنا قرّة أعيننا وسويداء قلوبنا؛ نهرب بهم إلى أقاصي البلدان البعيدة جغرافياً وعرفاً وديناً جبراً للحفاظ عليهم وحمايتهم من جلّاد يؤذي بالسوط بإسم الوطنية، فنضيّعهم في القارّة الباردة بإسم العرف وتارة بإسم الدين وأخرى جهلاً.

فبالله بعضاً من الرأفة بإسم الحب والإعزاز والكلف.

في بلادنا العربية المنكوبة تغلب العاطفة في جلّ حياتنا على الموضوعية؛ سياسياً اقتصادياً واجتماعياً وعلى كلّ الأصعدة. لذلك يبدو أنّ أحد أهم فشل الأنظمة العربية هي إقحام العاطفة بغير مكانها، فننتخب ابن العشيرة في البلدية والبرلمان، لنختار نهاية الحكومة بذات الآلية أو الجهويّة، وهي لا تختلف عن نظام القبيلة بشيء. فقط على سبيل الطرح لا الحصر.

ظهر فيديو متداول منذ قرابة ٨ سنوات ونيّف، وأُعيد تداوله بكثافة، يبيّن جهات حكومية سويدية تأخذ أطفال أسرة عربية.

وجدت هذه المأساة - ظاهرها مأساة وباطنها رحمة - تعاطفاً وتضامناً قوياً مع الأسرة وغيرها من الأسر التي واجهت ذات المصير، مرفقة بعاصفة إعلامية مستمرة منذ قرابة أسبوعين ولغاية الآن، فكثر الهرج والمرج والنسخ واللصق، ونَشُط حاملي الخلويات الّذكية ليُقدَّم عمل المؤسّسات الحقوقية والإنسانية والرعاية على أنّه اختطاف واستهداف لأطفال العرب والمسلمين، فظهرت وسوماً داعية لاسترجاع الأطفال إلى أسرهم ومتضامنة معهم مثل ‎أوقفوا خطف أطفالنا وأوقفوا خطف أطفالنا في السويد، لتنتشر مثل النار في الهشيم.

آلية طرح قضية العرب بإختلاف معتقداتهم والمسلمين في السويد، والتي تستند إلى مصدر واحد وهم الأسر المتضرّرة ومواقع إعلامية قدّمت هذه المسألة من ذات المصادر أُحادية الجانب، أي الأسرة، ومقابلات أخرى عرضت مداخلات لم تفِ بالغرض، بعضها قدّم الجانب القانوني الذي يدين بدوره الأسر المعنية وأخرى بيّنت ضعفاً بأعداد موظّفي مؤسّسة رعاية الأطفال بشكل عام والموظّفين المخّتصين أثّرت سلباً على إمكانيات مؤسّسة رعاية الأطفال والناشئة وأدائها، مؤطّراً بعدم فهم هذه الأسر حديثة الإقامة في السويد للقانون؛ أدّت هذه العوامل مشتركة إلى هذا المآل.

الإعلام وظّف العاطفة بطريقة طرحه للموضوع لتهييج الشارع العربي، فتقديمه المآسي - إن صحّ التعبير - والتغطية الإعلامية الواسعة، بين مظاهرات ومقابلات لذوي الأطفال واستثناء المؤسّسات السويدية المعنية، وعوضاً عن ذلك مقابلات مقتضبة مع محامي الأسر وآخرين جعلت الإسقاط والإستناد للأسباب التي قدّمتها الأسر ومحامي بعضهم أو الموقع العربي أو الإسلامي يصعب التحقّق منه.

المطّلع على الوجه الآخر لهذه المأساة، يعي تماماً أنّ ما يسمّوه في هذا الفضاء اختطافاً هو في حقيقة الأمر حماية للأطفال.

‏‎الأنظمة الأوروبية المعنية بشؤون الأطفال والناشئة وليس السويد وحدها تتفاعل عندما تلاحظ أنّ هناك تغيير سلوكي للطفل، وهذا لا يعني بالضرورة فصلهم عن ذويهم، فهذه الخطوة هي الخيار الأخير لحماية الأطفال، كأن يتعرّضون للضرب المبرح، فهي تحميهم عندما يتبيّن أنّ الأسرة تمارس العنف على أطفالها؛ تجنّبا لوقوع حوادث لا تُحمد عقباها ولا يمكن إصلاحها بأثر رجعي؛ والأمثلة كثيرة لا حصر لها، آخرها في ألمانيا قبل 6 أيام؛ سقط رجل على الأرض وطفله بين ذراعيه، فهزّه مرات عديدة غضباً ليفارق الحياة بعد أسبوع.

الحقيقة أنّنا ترعرعنا في مجتمعات يمثّل الضرب بها جانباً أساسياً من التربية، والضرب المبرح أيضاً، لكنّنا لم نرى بهذا الجانب الذي يشبه حالات «غوانتانامو» من التربية شيء يضرّ بالطفل كون المجتمع كان مشتركاً مع الأباء والأخوة؛ يساهمون حيناً بالضرب ويسمّى تربية.

أخذ بعض من اللاجئين الذين تركوا بلادهم هرباً من الموت على أيدي نظام الأسد وغيره هذا الموروث المجتمعي الجائر معهم، ظنّا منهم أنّ الضرب هو ضرورة في التربية؛ لم يعرفوا غيره. لذلك سنترك مسمّيات هذه الحالات في السويد إلى أولئك المظلومين جرّاء فصل أبنائهم عنهم من وراء هذا النوع من التربية.


كرامة الإنسان لا تتجزّأ

افتتاحيه الدستور الألماني الذي يطابق السويدي ومعه الأوروبي هي المادّه الأولى، والتي تنصّ على:  

كرامة الإنسان لا تتجزّأ، وترجمتها القانونية بأنّها غير محصورة على مجموعة عرقية أو جنسية أو دين، وتُطبّق على كلّ إنسان يعيش على أرضها.

في المدن الأورويبة يوجد مساعدون للمحافظ، عمدة أو  رئيس البلدية كلّ باختصاصه، فمنهم مساعد للشؤون الإجتماعية، وبهذا الصدد نتحدّث، وتحت إشراف هذا المسؤول أو المساعد تعمل إدارة شؤون الأطفال والناشئة؛ تتضمّن هذه الإدارة قسم يسمّى قسم دعم ومساعدة العائلة والشباب والأطفال.

في حالة ملاحظة أي إشارات تدلّ على تعرّض الطفل إلى عنف جسدي أو نفسي يخبر من يلاحظ ذلك مديرية هذه الدائرة كالجيران، المدرسة أو الحضانة. وهنا تبدأ الإجراءات الأولية.

في حالة وجود ضرب مبرح يقوم المسؤول بإتخاذ الاجراءات الضرورية لحماية الطفل المتضرّر، بعدها تقوم المؤسّسة المعنية ممثّلة بالموظّف المسؤول بدراسة الوضع العائلي والأسباب التي أدّت إلى العنف، وبناءً على نتائج الدراسه يعمل الموظّف على وضع برنامج قانوني وتربوي لحماية الطفل وإعداده وتهيئته وعائلته على حدّ سواء للرجوع إلى بيت الأسرة.

والإرشاد التربوي يعمل مع هذه المؤسّسة بالموازاة لدعم العائلة، بالإضافة إلى الخدمة النفسية المدرسية إذا دعت الحاجة في حال وجود مشاكل تربوية نفسية عند الطفل.

الدراسة والإجراءات تتمّ تحت إشراف محكمة الشؤون العائلية، وللأهل في طبيعة الحال حقّ النقض في الإجراءات الإدارية والقانونيه.

من أهم أهداف هذه الإجراءات هي تمكين العائلة بإيجاد جو تربوي إيجابي لتربية الأولاد ورعايتهم.

إذن، الأمر ليس بهذه السهولة التي روّجت لها الجهات الإعلامية من خلال قصص من طرف الأُسر المتضرّرة، وهي قصص مؤلمة لا محال.

الذي حصل في السويد من فصل الأطفال عن أسرهم هو تمخُّض عن قلّة خبرة الموظّفين المسؤولين فاعتمدوا على ثقة الموظّف بتقييم الحالة، لعدم وجود أخصّائيين كفاية لتغطية الحالات الكثيرة التي دخلت الدولة بالجملة، بالإضافة إلى جهل الأُسر جديدة الإقامة نسبياً بالقانون السويدي، فاجتمع جهل المسؤول مع جهل الأسرة.

نهاية أود القول بأنّ الضرب أو الضرب المبرح ليس هو وحده السبب وراء سحب الأطفال من ذويهم، فهناك أسباب قد لا تكون ذات معنى في ثقافتنا كمراجعات الطبيب الدورية للأطفال، أو الغياب بشكل لافت للنظر عن المدرسة أو منعهم من المدرسة. كلّ هذه الأسباب ذريعة لتدخّل الجهات المعنية، أو حتى بأسوأ الحالات لزيارة الشرطة لمنزل ذوي الطفل.

لذلك، يجب على الأسر البحث في قانون الدولة بما يتعلّق على الأقل بالأطفال تجنباً للوقوع بمثل هذه المطبّات الإجتماعية؛ قد تتحوّل بالتفاقم إلى مآسي يصعب حلّها.

الغموض يكتنف إسم الرئيس القادم لكوريا الجنوبية/ د. عبدالله المدني

 


في الانتخابات الرئاسية السابقة في كوريا الجنوبية عام 2017 فاز السياسي الليبرالي المنتمي للحزب الديمقراطي "مون جاي إن" بهامش واسع، ملحقا الهزيمة بمنافسه "هونغ جون بيو" من حزب كوريا الحرة، ومنافسه الآخر "آهن تشول سو" من حزب الوسط. وقد تعززت مكانته بتحقيق حزبه فوزا تاريخيا في الانتخابات التشريعية العام الماضي والتي استحوذ فيها على 163 مقعدا من أصل 300 مقعد. لكن مون جاي لن يستطيع الترشح مجددا لمنصب الرئاسة في الانتخابات القادمة المقرر إجراؤها الشهر القادم بنص الدستور الذي لا يسمح للرئيس البقاء في منصبه إلا لفترة واحدة مدتها خمس سنوات. 

ولهذا اختار الحزب الديمقراطي الحاكم (تأسس عام 1955 ويضم فصائل سياسية من اليمين والوسط ويتبنى في الداخل اقتصاد السوق المدعوم بشبكة أمان إجتماعي، ومكافحة الفساد وحماية البيئة، بينما يدعم في سياساته الخارجية فكرة إعادة توحيد شطري البلاد) "لي جاي ميونغ" (محافظ مقاطعة غيونغي والمحامي السابق لحقوق الانسان) كمرشح له، مخالفا كل التوقعات التي قالت أن الأوفر حظا بالاختيار هو زعيم الحزب ورئيس الوزراء السابق "لي ناك يون" بسبب خبراته الإدارية التي برزت إبان توليه منصب حاكم جنوب جولا.



أما "حزب سلطة الشعب" المعارض (حزب تأسس في عام 2020 من اندماج عدد من الأحزاب المحافظة بعد فضائح الفساد التي شهدتها البلاد عام 2016، ويتبى السياسات النيوليبرالية ويدعم التكتلات الصناعية المهيمنة على اقتصاد البلاد، ويتخذ مواقف متشددة من كوريا الشمالية) فقد قرر في 13 نوفمبر 2021 أن يكون مرشحه للرئاسة في انتخابات 2022 الرئاسية هو "يون سوك يول"، الذي عينه الرئيس الحالي في منصب المدعي العام في يوليو 2019، واستقال العام الماضي. وجاء ذلك بعد انتخابات تمهيدية قام بها الحزب المعارض على ثلاث مراحل على مدار 72 يوما، وأيضا بعد استطلاعات للرأي في صفوف أعضاء الحزب وعامة الناس حصل فيها "يون" على المركز الأول بنسبة 47.85% من الأصوات. وبهذا وضع حزب سلطة الشعب "يون سوك يول" الشخصية المبتدئة في عالم السياسة في مواجهة مرشح الحزب الديمقراطي الذي يسعى لمواصلة بقائه في البيت الأزرق الرئاسي، وفي مواجهة مرشحي حزبين صغيرين ( حزب الشعب وحزب العدالة)

في كلمة قبوله بالترشح للرئاسة وعد يون أنصاره بأن يحقق تغييرا في البلاد من خلال إنهاء سياسات الانقسام والغضب والفساد والنهب، واصفا الانتخابات القادمة بالمعركة بين العقلانيين والشعبويين، وبين مرشح "العقل السليم" ومرشح آخر يفتقر إليه.

من الصعب التنبوء باسم الرئيس المقبل من بين المرشحين الرئيسيين، حيث يعتقد على نطاق واسع أن من يحدده هو جيل الشباب غير المؤدلج ممن ولد بين عام 1980 وأوائل الألفية الثالثة، وهو جيل يغلب عليه طابع التأرجح وعدم الثبات بدليل ما حدث من تقلبات في آرائه حيال الرئيس الحالي وحزبه الحاكم. كما وأن المواقف السياسية التي سيتبناها ويدافع عنها المرشحان من الآن وحتى موعد الانتخابات في التاسع من مارس المقبل سوف تؤثر على توجهات الناخبين بصفة عامة. نقول هذا على الرغم من أن أصوات شباب حزب كانت وراء اختيار "يون" مرشحا رئاسيا، لكن ثباتهم على هذا الموقف مشكوك فيه.

والمعروف في سياق الجزئية الأخيرة أن المرشح "يون" من منتقدى سياسات الحكومة الحالية تجاه كل من اليابان وكوريا الشمالية. فهو يرى في اليابان حليفا لا بد من تحسين العلاقات به والتعامل معه بلطف، على عكس سياسات الإدارة الحالية المتصفة بالعدائية. حيث لفت نظر جمهوره إلى أن الإدارة الحالية ألغت اتفاقية ثنائية سابقة مع طوكيو وحزمة تعويضات ذات صلة بعمال السخرة في الحقبة الاستعمارية، وأنها استغلت المشاعر المعادية لليابان لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، وأنه سيسعى إلى حل شامل مع طوكيو حول قضايا الماضي البعيد، وتحسين العلاقات البينية التي تمر بأسوأ فتراتها منذ التطبيع عام 1965.

أما بخصوص العلاقات مع الجار الشمالي المشاغب فقد قال أنها تدهورت في ظل الإدارة الحالية وتحولت إلى "علاقة استجداء مرؤوس برئيسه"، ووعد بإعادة التوازن إليها من خلال تأسيس مكتب دبلوماسي ثلاثي دائم يضم مسؤولين من الكوريتين والولايات المتحدة، واقترح أن تبقى محادثات السلام محصورة في الأطراف الثلاثة دون توسيعها إلى محادثات سداسية تشمل الصين واليابان وروسيا، وتعهد أن يدعو الأطراف الثلاثة الأخيرة إلى طاولة المحادثات بمجرد الاتفاق على نزع أسلحة بيونغيانغ النووية. ومن جهة أخرى أبدى استعداده، إذا ما انتخب رئيسا، أن يدفع بخطط التنمية الاقتصادية المشتركة بين الكوريتين إلى الأمام، وأن يحيي التبادلات الإنسانية المجمدة حاليا، بشرط أن تقدم بيونغيانغ أولا على خطوة جريئة بشأن سلاحها النووي وصواريخها الباليستية.

د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

تاريخ المادة: فبراير 2022م


عند الباب في يوم الحبّ [ليسَ لي مِنَ اللّغةِ إلّا طعمُها المرّ]/ فراس حج محمد



هذي القطعة من جسمكِ المجنونة بالجنسْ

تفرّ إليَّ

تضجّ بالانتقام الحيِّ

تستعمر نصفيَ السفليَّ كي تشبعْ

تغسل نفسها بماء الغيمة البيضاءْ

تعرِف نفسها؛ إذ تتعرّى من وظائفها غير أنْ تستلذّ بطعم هذا الماءْ

قطعتكِ الحيويّة هذي لا تنامْ

ولا تدعُ الأناملَ كي تنامْ

تدعو الجنّ كي يصحوا على مساحتها الملساءِ

لتلهوَ بي

وتكبرَ بي

تغرّد بالنشوة إذ تعود إليكِ بي

قطعتك المربربة تلك

أجمل ما يلفت الأنظارَ- أنظار اللغةِ الشهيّةْ

ما يعطي للانتظار معنى النارْ

تأخذني إلى تأمّلها ونحن عند البابِ

باب المصعد العالي

هبطنا من "سفينتنا"[1] وغادرْنا النعيمَ

بعثرتنا الطريقُ

تلاشينا كأنْ لم يبق منّا غير هذي اللغةْ

وشيءٌ من عجين النصّ في "الإصحاح"[2]

ولم يرتوِ الحبّ من أيّ شيءْ

ذهبتِ كما يذهب العيد في كلّ عامْ

"ولم يربح الحبّ"[3]

ولكن؛ هل خسرنا كلّ ذاكرةٍ وجملةِ شعرٍ ودمعةِ قلبْ؟


14 شباط 2021

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مطعم السفينة في مدينة رام الله.

[2] إشارة إلى كتاب "الإصحاح الأول لحرف الفاء".

[3] جملة من قصيدة لمحمود درويش.


رحلة الهواجس/ عباس علي مراد



فوق موجة عائمة

بين مدٍ وجزرٍ

ونور الشمس يفيض

يعبر فوق جسدٍ

يستريح من تعبٍ مزمنٍ

ورحلة الهواجس

فوق سكون الرمال

وعلى أنين الأفكار

يحاول ان يلتقط أنفاسه

على إيقاع الزمن

ماضٍ

حاضراً

ومستقبلاً

يبحر في الغياب

بلا شراعٍ

ومواعيد مجهولة

موانيء بلا أرصفة

أين ترسوا سفن الأحلام

الشريدة

المطرودة

الملاحقة

الابواب موصدة

ومحاكم التفتيش

تقبض على الانفاس

تقرع أجراس العبث

واناشيد الحرية

أسيرة الصمت

معلقة على صليب العدم

صفحة الحياة

ملوثة بالفراغ

الملون بألوان المعاناة

المسطرة في دفاتر الايام

ما هو الانتقال الرقمي؟/ عبده حقي



وعيا منها بحتمية مواكبة التطور العالمي الراهن في مجالات الأنشطة الإدارية والاقتصادية والإعلامية والثقافية من النظم التناظرية التقليدية إلى نظم الانتقال الرقمي أحدثت الحكومة المغربية وزارة منتدبة مكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة  . ولعل أن اقتران الرقمنة بإصلاح الإدارة في هذه التشكيلة الحكومية يعبر من دون شك عن وعي عميق بأن الرهان اليوم هو إنجاح الانتقال بالمصالح الإدارية من ردهاتها التقليدية إلى فضاءات الرقمية لما توفره من سرعة في الأداء واختصار الكلفة المالية والاستجابة الفورية وتقليص معدات اللوجيستيك, وهذا ما دفعنا للبحث عن الأجوبة المحيطة بسؤال : ما هو الانتقال الرقمي ؟

الانتقال الرقمي هو عملية استخدام التقنيات الرقمية لإنشاء ثقافة وعمليات تجارية وتجارب جديدة أو تعديلها لتلبية متطلبات الأعمال والسوق المتغيرة. إن إعادة تصور الأعمال في العصر الرقمي هو تحول رقمي بالأساس.

إن الانتقال الرقمي يتجاوز الأدوار التقليدية مثل المبيعات والتسويق وخدمة الشركاء. بدلاً من ذلك ، يبدأ الانتقال الرقمي وينتهي بكيفية تفكيرك في الشركاء والتفاعل معهم. عندما ننتقل من الورق إلى جداول البيانات إلى التطبيقات الذكية لإدارة أعمالنا ، تكون لدينا فرصة لإعادة تصور كيفية قيامنا بأعمالنا - كيف نشرك زبائننا - مع التكنولوجيا الرقمية من جانبنا.

قبل النظر في كيفية الانتقال بعملك وماذا سيحدث ، نحتاج أولاً إلى الإجابة على سؤال أساسي هو : كيف انتقلنا من حفظ السجلات الورقية وقلم الرصاص إلى الأعمال التي تغير العالم بفضل التقنيات الرقمية؟

منذ وقت ليس ببعيد ، احتفظت الشركات بسجلاتها الورقية . سواء كانت مكتوبة بخط اليد في دفاتر أو مطبوعة في المستندات ، حيث كانت بيانات الأعمال تمثيلية. إذا كنت ترغب في جمع المعلومات أو مشاركتها ، فإنك تتعامل مع المستندات المادية - الأوراق والمجلدات ، والفاكسات ،.

ثم أصبحت أجهزة الكمبيوتر منتشرة بشكل واسع ، وبدأت معظم الشركات في تحويل كل تلك السجلات المطبوعة على الورق إلى ملفات كمبيوتر رقمية. وهذا ما يسمى بالرقمنة: أي عملية تحويل المعلومات من التناظرية إلى الرقمية.

لقد أصبح العثور على المعلومات ومشاركتها أسهل بكثير بمجرد أن تتم رقمنتها ، لكن الطرق التي تستخدم بها الشركات سجلاتها الرقمية الجديدة تحاكي إلى حد كبير الأساليب التناظرية القديمة. لقد تم تصميم أنظمة تشغيل الكمبيوتر حول أيقونات مجلدات الملفات لتشعر بأنها مألوفة وأقل ترهيبًا للمستخدمين الجدد. لقد كانت البيانات الرقمية أكثر كفاءة للشركات بشكل كبير من نظيرتها ، لكن أنظمة وعمليات الأعمال كانت لا تزال مصممة إلى حد كبير حول أفكار العصر التناظري حول كيفية العثور على المعلومات ومشاركتها واستخدامها.

لقد أصبحنا اليوم راسخين في العصر الرقمي ، وأصبحت الشركات من جميع الأنواع تعمل على إنشاء طرق ذكية وفعالة وأحيانا مدمرة للاستفادة من التكنولوجيا .

من الرائع بالطبع جعل مراكز الاتصال ومكاتب الخدمة داخل المتجر تعمل بكفاءة أكبر باستخدام التكنولوجيا الرقمية. لكن الانتقال الرقمي الحقيقي يأتي عندما تنظر إلى جميع التقنيات المتاحة وتفكر في كيفية تكييف عملك معها مما يمكن أن يمنح الزبائن تجربة أفضل. لم يتم اختراع وسائل التواصل الاجتماعي لتحل محل مراكز الاتصال ، لكنها أصبحت قناة إضافية (وفرصة) لتقديم خدمة أفضل للزبائن. يعد تكييف عروض الخدمات الخاصة بك لاحتضان وسائل التواصل الاجتماعي مثالًا جيدًا آخر على الانتقال الرقمي.

قراءة في رواية حجر الألف لمؤلفها عمر سعيد/ محمود شباط



بأسلوبه السائغ المتمكن المتماسك، استطاع الروائي أن يهزم رتابة إنشائية السرد عبر إشباع النَصِّ بالفكرة، كما يشبع الفلاح المحترف التربة بالمخصبات الطبيعية. وفي الكثير من المقاطع تتبرعم وتزهر خمائل النثر الشعري الجميل. 

عبرالأمية الحديثة، حسب المؤلف، يمكنك أن تقنع الكثيرين بوجود فصيلة من البقر تتكاثر بالبيوض، وفصيلة من الذباب تتكاثر بالولادة. ص 12

الكتابة الممتعة أشبه بملامح أبي. ص 19، ما أجمل التشبيه.

ما أفصح عمر سعيد وما أصدقه حين يخبرنا أن : "الكتابة الممتعة هي ألا تكتب بكلك، وألا تفقد مهارة التنقل بين وعيك ولاوعيك خلال رحلة الغوص في الذاكرة والوجدان. ص 20

مذ غادرتني وصوتي يخذلني إلا في غناء الحزن. ص 28، يكاد القارىء يسمع موسيقاها.

يخبرنا الكاتب في الصفحة 28 بأن الدوري هو العصفور الوحيد الذي لا يهاجر، نعرف هنا بأن القيمة ليست فقط كمعلومة ، بل كعبرة، قلت: ليتني كنت دوريا ولم أسافر لمدة تجاوزت الـ 41 عاماً. 

في ذروة ألقٍ عقليٍّ إنسانوي يعبر بنا قلم الكاتب إلى غدير نقي شفاف الحروف في الصفحة 53:" بين هذين المهمين ، يستطيع العاقل ؛ أن يعرف لِـمَ تحصل كل هذه المتغيرت في هذا الكوكب؟ ولـِمَ باتت المسافات هائلة بين عقلية تحاول السير وفوق أكتافها ألف وأربعمئة سنة من الموروث، وبين عقلية متخففة لا تحمل فوق أكتافها إلا عقلاً متحررا ، لا يبالي بما بعد الموت ولا بما هو قبله، بل يبالي بأخيه الإنسان، وعلى أي رصيف من أرصفة كوكب الأرض كله".

يردف الكاتب مسلطا الضوء على تعسف السلاح وسيادة شريعة الغاب في الصفحة 65 :" في مثل تلك الحرب، تغدو البندقية أهم وسائل تحقيق الرغبات، تلك الرغبات التي لن تتحقق بسهولة في السلم تحت سقف قيم الإنسان؛ من جنسٍ، وقتل وقهر وقوة وامتلاك.


"نحن البشر نعيش على أخبارنا بعضنا البعض، مهما بدت تافهة"، وذلك في مقاربة الكاتب لمحادثته مع العجوز الليبي. ص 88.

بنكهة أدبٍ مهجري سائغ حلو المذاق يزركش الكاتب بشرة روايته الجميلة، وفيها يشتم الغربة، ويشتم الأوطان :"التي تضطر أبناءها لمثل هذا التيه" ص 94.

تتعدد المقاربات والمعالجات الإجتماعية؛ زواج الحفيدة من الجد، التعبير هنا مجازي عن فارق العمر. ص 107.

لن يفوت الكاتب الإضاءة على ما ينال اللاجئين من قسط وافرمن الظلم المزدوج والتعسف على إجحافهم حتى في ترجمة شهاداتهم للمنظمات الدولية حين تلجأ إدارة المخيم عمداً إلى مترجمين مزيفين ينقلون كلاما لا علاقة له بما يقوله اللاجئون. ص 125.

يلفتنا نص الكاتب إلى أن :" أجمل العقول  تلك التي لا تقبل بالأفكار المقززة المعلبة".

ومن أشد غرائب اللغة ، حسب المؤلف، أنها :" تنصب، وترفع، وتكسر، وتجر، وتمنع، وتقدِّم، وتؤخِّر، وتحذف، وتنفي، وتؤكد، وتبني، وتعرب، وتعرِّف، وتنكر، وتنشيء، وتخبر، وتستفهِم، وتتعجَّب، وتستنكر، وتنادي، وتحصر، وتفرد، وتثنِّي، وتجمع، وتُذكِّر، وتُؤنِّث، والكثير الكثير من الوظائف التي تنصف كل رغبة أو حاجة أو مزاج" . ص 143.

"فيها (في اللغة)، يحضر كل شيءٍ، وبها ينبعث الخيال شطاحاً، فتستحدث المادة فكرة، تتخذ أبعاداً ما كانت لتتحقق لولا انسكابات اللغة في اللاوعي" ص 144.

عن مسايرة اللغة وتشذيبها من قبل الكاتب، أي كاتب، يقول عمر سعيد في الصفحة 178: " هناك.. يستحضر الكاتب المواربات، ما استطاع منها، للنجاة بأقل القليل من (تمرير) النص، الذي يتحول إلى مسخ، لا يشبه بتاتا ذلك المدهش، الذي تشكل في عوالمه الداخلية، إذ تبدأ التنازلات، التي تتكفَّل اقتطاعات (تشوبه) بتشويه النص". ص 179.

عن مغاور ومطبات النص التي يعانيها القارىء والناقد على السواء يقول الكاتب :"النص شيطان لا يرحم"، وعلى الأخص في الـ "لو" التي تشكل أداة الناقد لتكييف النص مع نزعاته، بينما تدخل الـ "ليت" والـ "لعل" في عدة القارىء (...). ص 179.

في قول الكاتب في الصفحة 217 : "السماء لا تمطر ذهباً... نعم، إلا أنها تمطر عمائم تسبب قحطاً في العقول". كَـمّاً من رجم المُحرَّمات التي لا يجرؤ الكثيرين على المسِّ بها. 

كما لو كان عمر سعيد يرسم تجريداتٍ بكل ألوان الطيف ومتفرعاته حول قيمة العمل الإبداعي حين يقول:" فما قيمة النص، أو القطعة الموسيقية، أو العمل اللوني، أو المنحوتة، أو الرقصة إن لم تتحقق من خلالها مساحات واضحة من التساؤلات، والتحليلات، والاستنتاجات، والاستذكارات، وغيرها".

وكم ينطبق تسليط ضوء كاتبنا في الصفحة 230 على كثيرين ممن يدّعون قرض الشعر والكتابة حين يقترب من تخوم غربلة الكم والنوع :" وقيمة الشاعر ليست بعدد دواوينه" هنا يتبادر إلى ذهن القارىء قول الشاعر:

الناس كالشِّعرِ كم منهم / بألفٍ وكم بيتٍ بديوان. 

دون أن نغمط حق الذين أسهموا في التغيير؛ علوما وآدابا وإبداعاً بكل الحقول، لا يمكننا غض الطرف عن اقترافات مُدَّعين ينطبق عليهم قول عمر سعيد:" فالتغيير قبل أن يكون إرادة عامة هو طروحات وإنذارات مبكرة لما ينبغي أن يكون الحال عليه" ص 230. 

قراءة النص في الصفحة 232 ، يدعو إلى معالجة تمكين المبدع والمتلقي من فهم بعضهما البعض ترجع بي عشرات السنين إلى الوراء، حين سألني صاحب الشركة ومديرها في بداية عملي لديهم في الخليج:  ما هي طبيعة عملك لدينا ؟ 

- مترجم وشؤون موظفين.

- مترجم ؟ همهمها بتناعس ثم قال : على المترجم أن يفهم الموضوع كي يعالجه ويوصله بوضوح إلى من يعنيه الأمر. فوراً تبادر لذهني ما درسته عن البرمجة في الحاسب الآلي ؛ In-put-process-output. (إدخال المعلومة-معالجتها-إخراجها).

في الصفحتين 252 و253 ما يضغط على غدد الدموع بقوة كي تجود بأحر العبرات حين يتكلم عمر سعيد عن البنوة والأبوة (بلسان أب مغترب) مخاطباً ولده حين يصبح أباً :" وستكتشف وأنت تقف في باب المطعم، وقد اشتهيت سندويتشا، أنك ترتكب الخيانة، وأنت تحاول الأكل وحيداً، فتجري حساباتك السريعة لتغادر، وقد أجَّلتَ ما اشتهيت إلى راتب آخر". 

عبر موجة تشوقٍ لما بعد، تتلوها موجة تشوق لما هو أبعد يستمر إبحار قلم عمر سعيد. بسرد سلس أقل ما في أقله ينبىء القارىء بأن رواية "حجر الألف" تستحق القراءة ثلاث مرات على الأقل.

تخال نفسك في هذه الرواية تقرأ "شـثـرا" ، وذلك في نحت تلك الكلمة من مفردتي الشعر الشهدي المحلى بسكرالنثر. 

محمود شباط

عيحا في 19/02/2022

المزرعة/ نسيم عبيد عوض



تململت سي شي فى وقفتها وحركت رأسها يمينا وشمالا ‘ فوجدت نفسها فى وسط عشيرتها ‘ شباب وفتيات ‘ ولم تتعرف على أحد من جيرانها ‘ فلكزت جارها وسألته :إسمك إيه ؟

 رد عليها هامسا سي حا ليه بتسألى ؟

 ردت أبدا 

وعادت سي شى تتحرك بأقدامها وتسأل سي حا

إحنا فين ؟

فرد عليها لا أعرف ..ولكن غالبا إحنا محشورين فى عربية نقل 

وتعجبت سي شي وردت رايحين فين ؟

 أعرف منين ..رد سي حا فى تعجب 

وعلى يمينها سمعت سي شى الصغيرة همسا من جارها ..

رايحين مزرعة كبيرة 

وهمست " عر فت منين ؟" 

فرد ساكتا إياها ..عرفت وخلاص ..وقريبا سترين .. ثم أكمل حديثه ..

لقد سمعت هذا الشاب الجالس بجوار السواق يتحدث مع آخر قبل تحركه يقول ..عند الكيلو 200 تدخل يمين وبعد حوالى 3 كيلو ستجد يافته مكتوب عليها " مزرعة الأمل" سيفتح لك الباب ويبدأ عملك فى هذه المزرعة ..

وهنا رفع أحدهم صوته طالبا السكوت ..فسألت سي شى جارها مين ده ؟ فرد الباشكاتب والكومنده ..هوالمعين رائدا علينا .. وعلينا السمع والطاعة ..

وبعد فترة والعربة تهزهم يمينا وشمالا وهم يتساندون على بعضهم البعض ..بدأت سي شى الصغيرة تتحرك حتى  إقتربت من الذى طلب منهم السكوت ..وبدأت حديثها معه ..أهلا ..فلم يعرها إهتماما ..فكررت ..ليه التجاهل ده ..فلم يعرها أى إهتمام ..ولكنه هز رأسه  قائلا سيبينى فى حالى .. فسألته أنت ليه متنرفز وشكلك بؤس ..وهنا نظر إليها وسألها عن إسمها فسألته هى عن إسمه فقال بسرعة ..سي مان ..وعاد ليراقب الواقفين حوله يمينا وشمالا ..

لكن سي شى بعد لحظة صمت قالت له : هل سمعت عن المزرعة ؟ رد   سي مان بسرعة ..طبعا وأعرف مكانها ..

وهنا سألت ..هنعمل إيه فى المزرعة .؟.قال ..هيربونا ويعلفونا ثم يبيعونا فى الأسواق كالعادة .. 

وعند هذا شعروا بحركة دخول العربية يمينا .. وهمهم الجميع من إلتصاقهم ببعض .. وصاح أحدهم ..عاوز آكل ..جاعان .. فجاؤه الرد من مجهول .. هانت إقتربنا من الأكل والشرب ..

وإقتربت سي شي من جار هادئ فى وقفته وسألته ..هل عندك فكره عن هذه المزرعة ..هز رأسه ورد عليها ..إنه إستثمار إقتصادى فى هذا الزمان يربح الكثير لأصحابها ..وهنا إشترك زميل آخر فى الحديث ..لقد سمعت أنهم سيتم تصدير مجموعة منا للخارج وبالدولار .. 

وفجأة توقفت العربة ثم تحركت بعد قليل بعد فتح بوابة لها ..وبعد قليل توقفت أمام بوابة لمساحة هائلة محاطة بالأسلاك الشائكة ‘ وقام عندئذ 

أحدهم بإنزالهم جميعا داخل المزرعة وأغلق الباب ..وأندفع الجميع نحو مساقى الماء يشربون ثم يلتقطون أعواد البرسيم الخضراء ويأكلون ..وبعد فترة هدأ الجميع ودخل الظلام فساد النوم على الجميع ليستريحوا من طول الطريق ..

وعند بزوغ الفجر تلفت الجميع ليجدوا أنفسهم وسط جمع كثير يفوق المئات ..فقال أحدهم واو .. ماهذا العدد الكبير ؟ وهنا ظهر سي مان ليعلن عن قيادته لهم ويعرفهم إسلوب الحياة فى المزرعة ..ثم أردف ..ولحين بيعنا فى الأسواق علينا إحترام القواعد وقوانين المزرعة ..هناك علف كثير .. 

فرفع أحدهم صوته وكان واضحا أنها سي شى الصغيرة ..أليس لنا عمل نعمله ؟ فرد سيمان ..عملنا ان نأكل لنربى لحوما فى أجسادنا ..

وتساءل آخر إيه الحكاية ؟ هل أصبحنا مأكلا لبنى آدم ؟ فأستكمل آخر ..هو أبونا آدم لما أطلق علينا إسمنا ..هل كان يعرف أنهم سيأكلون لحومنا ؟ فإستكمل آخر الحديث ..لا تتكلم فى السياسة ..ويبيعون جلودنا لدولة الصين بمئات الدولارات .. وهنا ظهر سي حا وإقترب من المتحدثين .. لماذا لا نطالب بحقوقنا ؟ فجاءه السؤال وماهى حقوقنا ؟ فرد ..أن يعلو من قدرنا ..لأننا الآن نباع بأسعار عاليه تدر على صاحب المزرعة دخلا كبيرا ليصبح من أغنياء البلاد ..

وهنا ظهرت سي شى مرة أخرى وسألت ..ماذا تقترح ؟ قال أن نقسم أنفسنا حسب التخصصات .. ونعين قاده على كل مجموعة ليتكلموا بالنيابة عنا ..والله فكرة ..صاح أحدهم وإستكمل ..بالإنتخاب ..فرد الجميع وهزوا رؤسهم بالموافقة.. طلب سي مان من الجميع إلإصطفاف بهدوء ..وتم إنتخاب رئيس مجموعة اللحوم وآخر للجلود ,,وتم تعيين مسئولا عن الأعلاف وآخر لمساقى المياه ..وفى أول إجتماع طلب سي مان من الجميع الهدوء ليعرض الرؤساء مطالبهم ..فبدأت سي شى المنتخبة عن مجموعة اللحوم تتحدث وتعرض مطالبها فقالت

..أنهم اليوم بعد ذبحنا وسلخ جلودنا يقذفون بنا فى الخرابات والترع والمصارف  ومجارى المياه ..فى إحتقار وعدم إحترام ..وأطالب أن يذبحوننا فى سلاخانات معتمدة تحت إشراف أطباء بيطريين فلسنا أقل من البقر والجاموس والخرفان والمعيز ..

ووقف  واحد من نفس المجموعة تحت رئاسة سي شى قائلا..وعليهم دفن أجسادنا فى مدافن محترمة ..وأستكمل أحدهم الحديث ..أو السماح ببيع كوارعنا وعظامنا كباقى البهائم ..فصاح الجميع موافقين ..

وهنا وقف المنتخب عن الجلود وطالب بالختم بإسم صاحب الجلد قبل تصديره للخارج بإعتبار أن الإسم علامة تجارية وأضاف ..فى حالة إستخراج دواء من جلودنا يذكر الإسم على الدواء أيضا ..

وهنا صاح سي مان بإعتباره رئيس الإجتماع ..هل إنتهينا .. ؟

فرد أحدهم ..إحنا جعانين عاوزين ناكل ..فوافق الجميع وإندفعوا للأكل والشرب .. 

وهم يأكلون جاورت سي شى جارها السابق سي حا وهمست فى أذنه ..

بكره سوق الأربعاء ..ولم يهمه الرد عليها 

الإنسانية الواقعية العظيمة عند تشيخوف/ حسن العاصي

  


اشتهر تشيخوف بكونه كاتباً مسرحيًا، ولكنه أيضاً أستاذ في فن القصة القصيرة ويستند إلى الإنسانية الواقعية.

 "أنطون تشيخوف" Anton Chekhov (1860-1904) طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي، يُعتبر من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة، ومسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. بدأ "تيشيخوف" الكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو، ولم يترك الكتابة حتى أصبح من أعظم الأدباء. استمر في مزاولة مهنة الطب. عُرف عنه قوله "إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي".


حول الواقعية الإنسانية لأنطون تشيخوف

"خارج كل أبواب السعادة والرضا، يجب أن يكون هناك رجل يحمل مطرقة، والذي كان يذكرهم باستمرار بأن هناك أشخاصاً غير سعداء، بغض النظر عن مدى سعادتك، ستقلب الحياة جوانبها المظلمة عاجلاً أم آجلاً إلى/ وسوف تتأثرون بالمحن، والمرض، والفقر، والخسارة، وبعد ذلك لن يراك أحد أو يسمعك، تماماً كما أنك الآن لا ترى أو تسمع الآخرين"

الاقتباس أعلاه مأخوذ من الكاتب الروسي "أنطون تشيخوف" الذي تواصلت كتاباته عتبة القرن العشرين، في مجتمع روسي يتسم بالفقر والقمع السياسي والتفكير الشمولي.

صورة المؤلف كرجل بمطرقة تكسر جدار الجهل والقمع بطريقة مناسبة، لكنها أيضاً صورة تعبر عن حب الإنسانية الذي هو جزء مهم من رؤية "تشيخوف" للحياة، يجعلك تشعر بالصدق الذي يُبنى على الإنسان كما هو، وليس كما ينبغي.

تكمن موهبة "تشيخوف" الخاصة في أنه تمكن من وصف الناس بعقلانية وبإحساس مميز بتعقيدهم وتشابكهم. إنه مؤلف متحرر من إبهار السبابة الأخلاقي.


طفولة تشيخوف

ولد "أنطون تشيخوف" في يوم عيد القديس بطرس أنتوني العظيم St. Anthony (17 يناير التقويم القديم) 29 يناير 1860 في تاغانروغ Taganrog وهو ميناء على بحر آزوف Azovhavet في جنوب روسيا.

كان هو الثالث من بين ستة أطفال على قيد الحياة. كان والده "بافل يغوروفيتش تشيخوف" Pavel Yegorovich Chekhov ابن عبد سابق، وزوجته الأوكرانية من قرية أولهوفاتكا Olhovatka، محافظة فورونيج Voronezh وكان يدير محل بقالة.

 اعتبر بعض المؤرخين "بافل تشيخوف" قائد جوقة الرعية، ومسيحي أرثوذكسي متدين، وأب مسيء جسدياً، ويشكل نموذجاً لصور ابنه العديدة، التي تشكلت فيما بعد عن النفاق في كتاباته.

كانت والدة "تشيخوف" "يفغينيا موروزوفا" Morozova Yevgeniya راوية لقصص ممتازة، وقد أمتعت الأطفال بقصص عن رحلاتها مع والدها تاجر الملابس في جميع أنحاء روسيا.

يتذكر "تشيخوف": "لقد حصلنا على مواهبنا من والدنا، ولكن روحنا من والدتنا."

كان الاستبداد والكذب هو الذي أفسد شباب والدتنا. الاستبداد والأكاذيب شوهت طفولتنا لدرجة أنه من المخيف والمثير للغثيان التفكير في الأمر. أذكر الرعب والاشمئزاز الذي شعرنا به في تلك الأوقات، حيث ألقى الأب بنوبة غضبه على الوالدة أثناء العشاء، بسبب وجود الكثير من الملح في الحساء وأطلق عليها لقب الأم الحمقاء ".

التحق "تشيخوف" بمدرسة يونانية في تاغانروغ Taganrog حيث تم احتجازه لمدة عام بسبب إخفاقه في امتحان اللغة اليونانية القديمة. غنّى في دير الروم الأرثوذكس في تاغانروغ بجوقة والده. وفي رسالة من عام 1892، استخدم كلمة "معاناة" لوصف طفولته وذكر:

"عندما اعتدت أن أقف أنا وإخوتي في وسط الكنيسة ونرنّم الثلاثي "لتُعَلَى صلاتي" أو "صوت رئيس الملائكة"، نظر إلينا الجميع بعاطفة وحسد، لكن في تلك اللحظة شعرنا أننا سجناء صغار"

في عام 1876، أُعلن والد "تشيخوف" إفلاسه بعد أن أفرط في إنفاق موارده المالية على بناء منزل جديد، بعد تعرضه للخداع من قبل مقاول يُدعى "ميرونوف". Mironov

 ولتجنب السجن بسبب الديون هرب إلى موسكو، حيث ذهب ابناه الأكبر "ألكسندر ونيكولاي" Alexander، Nikolay إلى الجامعة.

عاشت الأسرة بفقر في موسكو. كانت والدة "تشيخوف" محطمة جسدياً وعاطفياً بسبب هذه التجربة. تُرك تشيخوف لبيع ممتلكات العائلة وإكمال تعليمه.

في عام 1879 أكمل "تشيخوف" دراسته وانضم إلى عائلته في موسكو بعد التحاقه بكلية الطب في آي. م.  سيتشينوف I.M. Sechenov أول كلية طبية في موسكو.


كتابات مبكرة

تولى "تشيخوف" الآن مسؤولية الأسرة بأكملها. ولدعمهم ودفع رسومه الدراسية، كان يكتب يومياً رسومات قصيرة ومضحكة ومقتطفات صغيرة من الحياة الروسية الحديثة، والعديد منها تحت أسماء مستعارة.

أكسبه إنتاجه الرائع شهرة تدريجية باعتباره كاتباً ساخراً لحياة الشوارع الروسية، وفي عام 1882 كتب لأوسكولكي Oskolk المملوكة لنيكولاي ليكين Nikolai Leykin أحد الناشرين البارزين في ذلك الوقت. كانت نبرة "تشيخوف" حينها أقسى من تلك المعروفة في أعماله الروائية اللاحقة.

في عام 1884 تأهل "تشيخوف" طبيباً، واعتبره مهنة الطب عمله الرئيسي، وجنى بعض المال منها، وعالج الفقراء مجاناً.

في عامي 1884 و1885 وجد "تشيخوف" نفسه يسعل دما، وفي عام 1886 تفاقم وضعه الصحي، لكنه لم يخبر أسرته أو أصدقائه بمرض السل الذي أصيب به.

في أوائل عام 1886 تمت دعوته للكتابة في إحدى الصحف الأكثر شهرة في سانت بطرسبرغ، نوفوي فريميا Novoye Vremya "نيو تايمز" التي يملكها ويحررها المليونير أليكسي سوفورين Alexey Suvorin الذي أصبح صديقاً مدى الحياة، وربما كان أقرب أصدقاء "تشيخوف".


الحياة والعمل

لم يكن فهم "تشيخوف" للطبائع البشرية يعود فقط إلى عمله كطبيب. بفضل عمله، سافر إلى بقاع متعددة في روسيا والتقى بأشخاص من جميع مناحي الحياة. يتم التعبير عن هذا الأمر في مؤلفاته، التي تغطي في معرض شخصياته كل شيء، من أغنى برجوازية إلى أكثر الفلاحين والفقراء هزالًا وفقراً.

بالإضافة إلى عمله طبيباً، كانت رحلته إلى جزيرة "سخالين" Sakhalin Island العقابية، التي قام بها "تشيخوف" في عام 1890 وهي التي ساعدته على إثارة سخطه الاجتماعي. هناك لاحظ الظروف الرهيبة التي تعرض لها السجناء في الجزيرة، لكنها كانت أيضاً رحلة لها عواقب جسدية وليست نفسية فقط، حيث كان عليه بعد الرحلة أن يخوض معركة متزايدة مع مرض السل الذي كان يعاني منه منذ سن مبكرة، وأدى في النهاية إلى وفاته عن عمر يناهز 44 عاماً.

جزيرة "سخالين" هي أكبر جزيرة في روسيا تقع شمال الأرخبيل الياباني في المحيط الهادئ، وهي محصورة بين بحر أوخوتسك من الشرق وبحر اليابان من الغرب. تقع قبالة خاباروفسك كراي، شمال هوكايدو في اليابان. يبلغ عدد سكان الجزيرة حوالي 500000 نسمة، غالبيتهم من الروس. بعد الحرب الروسية اليابانية عام 1905، سيطرت روسيا على الجزيرة بأكملها.

 قبل وفاته، كان المؤلف قد حقق حب حياته مع الممثلة "أولغا نيبر" Olga Knipper التي تزوجها عام 1901، وتمكن من تحقيق الاعتراف به واحداً من أهم الرموز في الأدب الروسي.

في بداية حياة "تشيخوف" كان الأدب بالنسبة له في المقام الأول وسيلة لكسب المال من أجل إتمام دراسته في كلية الطب. إن العديد مما يسمى بالنكات الفكاهية والتي كان لدى "تشيخوف" فيما بعد بعض الشكوك حولها، كانت قصصاً قصيرة مخصصة للترفيه الخفيف، ولكن في عام 1885 تلقى رسالة من المؤلف الروسي الشهير "ديمتري غريغوروفيتش" Dmitry Grigorovich الذي قرأ بحماس قصته القصيرة "الصياد" The Huntsman الذي كتبها عام 1873، ويحكي بطل القصة عن رحلة صيد للسمك في الريف قام بها مع شاب ريفي قوي البنية وكسول جدا وتحبه معظم نساء القرية.

كتب غريغوروفيتش مخاطباً "تشيخوف" أن "لديك موهبة حقيقية، موهبة تضعك في طليعة الكتاب من الجيل الجديد" كما نصحه بالتمهل والكتابة أقل والتركيز على الجودة الأدبية.

وشجعه على العمل بجدية مع موهبته. أصبحت هذه الرسالة نقطة تحول بالنسبة لتشيخوف حيث ذكر ما يلي:

"لقد تركت رسالته آثاراً عميقة في روحي. حتى الآن، تعاملت مع أعمالي الأدبية بشكل تعسفي وخفيف وطائش، لا أستطيع أن أتذكر قضاء أكثر من يوم واحد على أي من قصصي، وقد كتبتها مثل صحفي يكتب خبراً عن الحرائق، بطريقة ميكانيكية، وبشكل روتيني، دون التفكير في نفسي ولا في القارئ "

سرعان ما ابتعد تشيخوف عن الأدب كعمل روتيني، وأولى اهتماماً للأنواع الأدبية الأخرى غير القصة القصيرة والدراما، حيث أصبح سيداً لهذا النوع الأدبي، لا يزال تأثيره محسوساً حتى يومنا هذا.

عُرف "تشيخوف" أيضاً بكونه كاتبًا مسرحياً، لكن أعماله في القصة القصيرة له وزنها المتميز. وقد طور نموذجاً بسيطاً كان له تأثيراً هاماً على كتاب مثل "إرنست همنغواي" Ernest Hemingway و"ريموند كارفر" Raymond Carver.


قصة تشيخوف القصيرة. مثال: "السيدة مع الكلب"

إن الإنتاج القصصي القصير لتشيخوف مكثف للغاية، ولحسن الحظ هناك مجموعة كبيرة من قصصه مترجمة إلى الدنماركية. ومن أشهر القصص قصة "السيدة مع الكلب" التي وصفها المؤلف "فلاديمير نابوكوف" Vladimir Nabokov بأنها "واحدة من أفضل القصص المكتوبة على الإطلاق". يمكن القول بأن القصة القصيرة، التي ترجمها إلى الدنماركية الكاتب والمترجم الدنماركي "إيفان مالينوفسكي" Ivan Malinowski في عام 1958، هي خلاصة قصة "تشيخوف" القصيرة.

هنا يصادف القارئ عدداً من الموضوعات التي تم عرضها في المؤلف في أشكال مختلفة: الانقسام بين العبودية البرجوازية والحب الحر، والكآبة والشوق الذي لم يتحقق، وخداع الذات والهروب من مجتمع الطبقة العليا.

كُتبت القصة في يالطا، بعد أن انتقل "تشيخوف" إليها بناءً على نصيحة طبيبه للنقاهة بسبب المناخ الدافئ فيها، لتقدم حالته بمرض السل. تم نشرها لأول مرة في عدد ديسمبر 1899 من مجلة Russkaya Mysl "الفكر الروسي" بعنوان قصة "راسكاز" Rasskaz.


كما هو الحال في كثير من الأحيان مع "تشيخوف"، فإن القصة الأساسية نفسها بسيطة.

أثناء إقامته في منتجع صحي في جزيرة القرم، يلتقي المصرفي "دمتري غوروف" Dmitriy Gorev بالشابة الجميلة "آنا سيرجيفنا" Anna Sergeevna التي غالباً ما كان يراها على مسافة تتجول بمفردها مع كلبها.

كان الاثنان متزوجان، لكنهما يبدآن علاقة كان من المفترض أن تكون مجرد علاقة مختصرة وعابرة، ولكن سرعان ما اتضح أن "غوروف" لا يستطيع أن ينسى آنا. لذلك يبحث عنها في "سانت بطرسبرج" والنتيجة هي سلسلة لقاءات في مسقط رأسه "موسكو".

كلاهما مصمم على السعي وراء الحب، لكن النهاية تشير إلى أن الأمر ليس بهذه السهولة: "كان الأمر كما لو أن الأمر استغرق لحظة واحدة - عندها سيتم إيجاد الحل، وبعد ذلك تبدأ حياة جديدة رائعة، وأدرك كلاهما أنه لا يزال هناك طريق طويل، وأن الأمر الأكثر صعوبة وتعقيداً هو البدء أولاً ".

النهاية بانفتاحها النابض بالحياة وشوقها المميز الذي لم يتحقق، تجسد بالضبط حالة النسيان التي يجد العديد من شخصيات "تشيخوف" أنفسهم فيها. كما هو الحال عندما توصف علاقة "غوروف" بزوجته على النحو التالي: "لقد قرأتْ كثيرًا ولم تكتب "الـ" في رسائلها، لم تتصل بزوجها ديمتري، واعتبر أن شخصيتها ضيقة الأفق، وخالية من الذوق، كان يخاف منها ولا يحب أن يكون في المنزل ".

باختصار، يرسم "تشيخوف" صورة لرجل أعمق كيانه هو التظاهر. مع "غوروف" يكون الخط الفاصل بين خداع الذات والإغواء دقيقاً، وهو ما تم التأكيد عليه أيضاً في علاقته مع "آنا".

فيما يتعلق بهذا الأمر يشير "إيغيل ستيفنسن" Egail Stevenson الخبير بأعمال "تشيخوف" إلى ما يلي: "لم يتم تسجيل أي تطور في وصف مشاعرها ـ يقصد آناـ كما حدث في حالة "غوروف". ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن التحول الذي يحدث له يحدث في غيابها. إنه يقوم على مفاهيم رومانسية إلى حد ما، حيث يكون التطور العاطفي المماثل أثناء اللقاء مشروطاً بتجارب ملموسة".

 بعبارة أخرى، إن الحب الموصوف سريع الزوال والحب نفسه هو أحد أعراض الشوق وليس الإشباع الفعلي للشوق.

حيث تكافح العديد من الشخصيات الرئيسية في قصص "تشيخوف" القصيرة مع مشاكل ملموسة للغاية مثل الفقر، والإقصاء، والجوع.

يُظهر فيلم "السيدة مع الكلب" الفراغ الوجودي الكامن في ظل الحياة الميسورة التي تعيشها "آنا وغوروف" إن المجتمع سواء في شكل استغلال للفقراء، أو خداع الذات للوجود البرجوازي، هو العدو الحقيقي لتشيخوف، وكقوة موازنة لمعاناة الإنسان الذاتية، يجد المرء أوصافاً للطبيعة تلقي بصيصاً من الخلود على المعاناة الزمنية.

 يعتبر وصف الطبيعة بدقة، وهو رسمياً وديعة غير ذات أهمية، أحد أقوى المقاطع في فيلم "السيدة مع الكلب".

"يمكنك فقط رؤية يالطا من خلال ضباب الصباح، والغيوم البيضاء الثابتة التي تبحر فوق قمم الجبال. لم تتحرك أوراق الأشجار، وغناء "السيكادا" Cicadaـ حشرة الزيزـ وصوت البحر الباهت الرتيب، الذي كان يُحمل عليها، يُخبر عن الهدوء، والنوم الأبدي الذي ينتظرنا.

هذه هي الطريقة التي هدرت بها هناك، قبل حتى أن يكون هناك شيء اسمه يالطا أو أوريندا، هذه هي الطريقة التي تزمجر بها الآن، وهذه هي الطريقة التي ستزأر بها، بطريقة غبية وغير مبالية، عندما لم نعد موجودين.

وفي هذا الديمومة، هذه اللامبالاة الكاملة بحياة وموت أي إنسان، قد يكون هناك تعهد خفي بخلاصنا الأبدي، الحركة المستمرة للحياة على الأرض، الإكمال المستمر. "

يمكن القول إن وصف الطبيعة يفتح أمامنا استنتاج بديل له علاقة بوقت الحياة البشرية، والتعزية المتناقضة التي قد تكمن في هذا. حيث تظهر النهاية السعيدة، حيث (ربما) يجد الزوجان بعضهما البعض كمسلمة، فإن القصة الإنسانية محاطة بسرد أكبر، والذي يدور حول قوة الطبيعة ضد الإنشاءات البشرية الهشة في مدينتا "يالطا" و "أوريندا"، وأن هناك في هذه القوة شكلاً من أشكال التوازن الاجتماعي والأخلاقي تتساوى فيه جميع الاختلافات البشرية في نهاية المطاف.


الدراما العظيمة

تم العثور على كثافة القصص القصيرة، والقدرة على التقاط أي فارق بسيط في الكلمات، إلى جانب الفكرة الوجودية، في "دراما تشيخوف" العظيمة:

"النورس" The Seagull، و"العم فانجا" Uncle Vanja، و"ثلاث شقيقات" Three Sisters و"بستان الكرز" The Cherry Orchard. أعاد المترجم الدنماركي "إجنار توماسن" Ignar Thomassen صياغة جوهر هذه القطع بدقة غنائية:

"في هذه المسرحيات الحد الأدنى من الحركة، ليس كلام الفرد هو الأهم. هنا، على المسرح المفتوح، يتم عزف نفس اللحن الحزين، الذي يحمل رواياته، فقط بشكل أعمق وأقوى في الصوت. لم يتم العثور على تحول جدلي فعلي يدفع بالتكامل. يمكن لفن الحوار التعبيري الغريب "لتشيخوف" أن يقدم للممثلين أكبر الصعوبات. لا تعطي الحوارات أي تبادل للأسئلة والأجوبة، أو الأفكار أو الآراء، فهي مثل النغمات المنفردة التي ترن وتسقط، والتي تشير فقط إلى الحالة العقلية التي تكون فيها الشخصيات في لحظة معينة، وجميع العناصر الخلابة في العمل، لذلك يجب توجيه الشخصيات إلى وضع المتفرج في نفس الحالة. لكن خلف القليل الذي يحدث، والذي يبدو عادياً جداً، لا يزال هناك شيء يغلي على نار هادئة، والحياة الحامل بالحركة - بين الحين والآخر ـ تندلع في القبعة، في صرخة صاخبة، ومرة أخرى تستمر الاضطرابات في صمتها. ومع ذلك، عندما سقط الستار في نهاية المسرحية، على الرغم من عدم حدوث أي شيء حاسم، فقد تغير كل شيء، واضطربت الحياة، وانكسر العالم".

بنفس الطريقة التي كان فيها "تشيخوف" رائد القصة القصيرة الحديثة، وأكمل نهجه كلاً من "إرنست همنغواي" Ernest Hemingway و"ريموند كارفر" Raymond Carver، فإن أعمال "إنغمار بيرغمان" Ingmar Bergman و"صمويل بيكيت" Samuel Beckett لم يكن من الممكن تصورها أيضاً بدون الأديب الروسي، الذي تمكن من تحويل مركز الثقل الدرامي من التطور الملحمي للغة، إلى الشخصية القريبة التي ترسم الدراما اللطيفة.

وبصورة مميزة، فإن الشخصية الجانبية، الخادم "فيرس" Firs البالغ من العمر 87 عاماً، الذي يُسمح له بإنهاء أشهر مسرحية "تشيخوف" وهي "بستان الكرز" The Cherry Orchard بالمونولوج التالي:

"ما مدى السرعة التي مرت بها الحياة!.... كما لو أن المرء لم يعش على الأرض إطلاقاً ـ يبذل بعض الجهد للتكيف... سأبقى هنا...لا قوة فيك.... انتهيت منك.. انتهيت! ... آه، أنت كائن قديم ... تظل بلا حراك "

هناك ما لا نهاية لمونولوج "هاملت" Hamlet البليغ أن يكون أو لا يكون لجُمل "فيرس" Firs المكسورة، لكن الشفقة الموجودة بين السطور هي نفسها التي تم التعبير عنها صراحةً في شكسبير. يوضح استخدام الفاصل المميز بالنقاط، كيف يتم تمديد الوقت حرفياً إلى أقصى حد. إن اللغة والإنسان في طريقهما إلى الانحلال والنهاية سوداء ومأساوية مع عبارة "الكائن القديم" كخط البداية.

لحسن الحظ، لم يمت "تشيخوف" وحيداً ومعزولاً. فقد كانت محبوبته أولغا بالقرب منه. سكبت له كأساً من الشمبانيا على فراش الموت، مصاباً بمرض السل، وأفرغه بابتسامة متبوعة بالكلمات: "لقد مر وقت طويل منذ أن شربت الشمبانيا". ثم استدار ونام حتى الموت.


لماذا تقرأ تشيخوف وكيف؟

قد يسأل المرء نفسه ما الذي يجب أن يحفزه على قراءة مؤلف قد يبدو على الفور قاتماً نوعاً ما؟ والإجابة هي أن "تشيخوف" يصف الناس كما هم دون إدانتهم.

يعتمد الكثير من الكتّاب على النزعة الإنسانية وفقاً لمثالية لا يمكن الدفاع عنها، لكن "تشيخوف" يقوم على الإنسانية الواقعية.

قلة مثله لديهم بصيرة وفهم لقدرة الإنسان على الكفاح في الظاهر وفي العمق. كان الغرض من رواياته هو التنوير. حتى أنه لم يكن يفهم تصنيف كتاباته على أنها متشائمة.

من ناحية أخرى، كان يعتقد أنه من خلال إظهار الحياة كما هي فقط، سوف يتمكن المرء من تغييرها إلى السياق الإيجابي.

يشكل الأدب لغة متميزة، لديها القدرة على الحفر تحت سطح العادات والمواقف الاجتماعية، التي يمكن أن تساعد في تحجر الفرد البشري.

واحدة من أجمل قصص "تشيخوف" وإحدى قصصه المفضلة بعنوان "الطالب" the student تدور حول كيف يمكن للقصة أن تساعد في جعل الشخص يواجه ألمه بطريقة بناءة. يمكن أن تساعد قراءة "تشيخوف" في تقريبنا من الحياة. هذه العقيدة التي تتدفق في جميع أنحاء أعمال "تشيخوف" هي التي تجعل كتاباته حديثة إلى الأبد.