أثارت أخبار فضيحة استعمال برنامج التجسس "بيجسوس" من قبل عدة مؤسسات وجهات عالمية، وبضمنها، كما جاء في الأخبار، بعض حكام أنظمة الدول وكبار المسؤولين فيها، موجة من الغضب والانتقادات؛ لا سيّما بعد أن نُشرت، في كبرى الصحف العالمية، قائمة من خمسين ألف شخصية، كانت أرقام هواتفهم مدرجة كأهداف للتنصت عليها وتعقبها من قبل جهات معنية نجحت بشراء ذلك البرنامج وباستعماله.
ومع أنني لست خبيرًا في علوم البرمجة والحاسوب، ولا مطلا محترفا على آخر ما وصلت إليه تقنيات "السايبر الهجومي"، إليها ينتمي هذا البرنامج المتطور، إلا أنني أعرف أننا نتحدث عن سلاح خبيث ومعقد؛ فهو عبارة عن برنامج يمكن تثبيته على جميع أجهزة الهواتف الذكية وتشغيله من قبل مصنّعيه أو مقتنيه بسهولة نسبية، وذلك بهدف التجسس على صاحب الهاتف ونقل جميع ملفاته وتحويله إلى هدف يخضع للمراقبة الدائمة وللسيطرة وما يتبعهما.
صاحبة هذا الاختراع هي شركة إسرائيلية، تسمى "إن إس أو" (NSO) ، يقع مركزها في مدينة هرتسليا، ويعمل فيها العديد من خريجي الوحدات العسكرية الاسرئيلية المختارة، وفي طليعتها وحدة المخابرات المعروفة برمزها (8200).
ولقد ثارت ثائرة بعضهم في خضم توارد الأنباء والتفاصيل عن حجم الفضيحة، وذلك بعد أن وردت أسماؤهم في تلك القائمة. وقد يكون أبرز المستَفزين هو الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي طلب شخصيًا من نفتالي بينت، رئيس حكومة اسرائيل، التحقيق في خبر اخضاع هاتفه الشخصي لعملية التجسس، والتحقق من جميع أنشطة الشركة، صاحبة البرنامج. وهاجم ماكرون وغيره الشركة الاسرائيلية واتهموها بتخطي جميع الخطوط الحمر والأعراف المتبعة دوليًا، وذلك حين وافقت على بيع منتجها الخطير لعدة جهات في جميع أنحاء العالم، على الرغم من أنه كان واضحًا أن تلك الجهات ستستغل البرنامج لأهداف غير نظيفة، كما اتضح فعليًا.
لا أعرف كم من متابعي هذه القصة سوف يصدّقون حرقة الرئيس الفرنسي ماكرون وأمثاله من أصحاب النفوذ والأطماع السياسية في دول أخرى؛ إذ لولا وقوعه شخصيًا، ومن مثله من المسؤولين السياسيين، فرائس لهذا السلاح، كما نشرت الصحافة، لما أعاروا، لا هو ولا هم، هذه الفضيحة اهتمامًا حقيقيًا، ولما عبّر، بأسلوب قاطع، عن غضبه واعتراضه على تسويق ذلك البرنامج في السوق العالمية وبيعه بملايين الشواقل لكل من يرغب ومن يدفع.
ولأنني لا أصدقه وأعرف أن كثيرًا مما قيل، من قبله وقبل آخرين، في حق شركة NSO قد قيل وهو مغمّس بالرياء وبالتملق، أعترف أنني تابعت فصول هذه الفضيحة وأفعال أبطالها بغضب دفين؛ وكنت، في نفس الوقت أتابع ما يرد من أخبار عما يحصل مع الأسرى الفلسطينيين الاداريين ومقاطعتهم لمحاكم الاحتلال التي أعلنوا عنها منذ مطلع العام الجاري.
يقبع في السجون الاسرائيلية، هذه الأيام، قرابة خمسمائة سجين إداري؛ وهم، مثلهم مثل آلاف الأسرى الاداريين الذين سبقوهم، اعتقلوا من دون أن توجه لهم تهمة عينية، ومن دون أن يحظوا بحقهم بالدفاع عن أنفسهم في محاكم نزيهة، وبناء على ما يدعى "ملف البيّنات السري".
كنت في الماضي أسخر من هذه الملفات وتسميتها المغرضة، وكنت أتحدّى القضاة العسكريين بأن يعطوني ساعة لأكتب لهم فيها بضعة شبيهات من تلك الصفحات "الاستخباراتية" وسأسميها أنا أيضًا، ملف معلوماتي السرية. كنت أصف، متهكمًا، تلك الأوراق/التقارير، التي كانت محفوظة داخل مغلفات بنية وموضوعة في صناديق حديدية يحملها عناصر المخابرات، بأوراق لف "أرغقة الفلافل"، فهي تشبهها من بعيد.
ومرّت السنون.. حتى شاركت ذات يوم بندوة كنت قد دعيت إليها من قبل فرع نقابة المحامين الاسرائيلية في القدس. كان عنوان الندوة: "الاعتقالات الادارية - ضروراتها مقابل قانويتها". وقد شاركني على منصة المتحدثين مجموعة من المسؤولين القانونيين العسكريين الكبار، ومستشار قضائي متقاعد، كان يرأس، لسنوات طويلة، وحدة قضائية في جهاز المخابرات العامة، الشاباك.
سادت في الندوة - كما لكم ان تتخيلوا - أجواء ساخنة؛ خاصة بعد أن تلقيت دعما من قبل بعض الزملاء اليهود الحاضرين الذين وافقوني ولم يخفوا اعتراضهم على ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين.
ما زلت أذكر كيف حاول، حينها، المستشار القضائي لجهاز المخابرات أن "يطمئنني" كاشفًا بأن جهازهم قد توقف، منذ سنوات، عن الاعتماد على ما ينقله لهم المخبرون والعملاء فقط، وعن استعمال "أوراق الفلافل"، قالها مداعبًا مقلّدا تسميتي ؛ فالعالم، هكذا أعلن بثقة مخابرتية جازمة، قد تغيّر، والتقنيات التي أصبحت في متناول ايادي المخابرات قد تطوّرت، وجهازهم قد أصبح قادرًا حتى على التقاط "أنفاس ناموسة" تائهة فوق سرير من يخضع للملاحقة والتنصت، وهو داخل غرفة نومه. لم أسمعه ينطق باسم "بيجسوس" عندها، ولكن روح ذلك "الحصان المجنّح" - وهو "بيجسوس" في الميثولوجيا الاغريقية- كانت تهيم في القاعة.
لم تنحصر بيانات الاندهاش والشجب من افتضاح حجم سوق مبيعات الشركة الاسرائيلية ونوعية زبائنها، بأصوات تهافتت من انحاء العالم؛ بل انضمت إليها أصوات العديد من الشخصيات الاسرائيلية، خاصة بعد أن شاعت أخبار عن تسخير جهاز الشرطة الاسرائيلية لهذا البرنامج، واستعماله في ملاحقة عدة أشخاص ومن بينهم ناشطين اجتماعيين وصحافيين وشخصيات، كانت لهم علاقة في ملفات الفساد المفتوحة ضد بنيامين نتنياهو.
كان المشهد الإسرائيلي الذي رافق هذه الفضيحة عبثيًا ورخيصًا؛ فالقضية أخطر وأكبر مما حفّز الرئيس ماكرون على التعبير عن رأيه، ولا تنحصر فقط بمحتويات هاتفه ولا على أعتاب شركة (NSO) ولا بسبب تصنيعها لبرنامج التجسس "بيجسوس" وضحاياه الحقيقيين والمزعومين. فعن هذه المخاطر، تحديدًا، نشرت عشرات التقارير، وبعضها ذكّر بتاريخ هذه الظواهر وبصمت "العالم الحر" عنها. انها أكبر لأنها تسقط الستائر التي تغطي تفاصيل جريمة صناعة الأسلحة الخبيثة على أنواعها وكيف تجنى المليارات في أسواق "خنازيرية"، تمتد من مشارق الأرض إلى مغاربها، ومن خلال صفقات، تنضح جشعًا، ولا تخضع لأية معايير إنسانية أو قانونية صارمة، وبيوعات لا تحكمها أية ضوابط اخلاقية.
وقد تكون إسرائيل من أنشط الدول في هذه الأسواق المعتمة؛ وقد تكون شركة (NSO ) قد خرقت جميع المحاذير والمحظورات، لكنها ليست الشركة الوحيدة التي تقوم بذلك، لا في إسرائيل ولا في كثير من دول العالم "المتحضر". ولا أقول ذلك من باب ايجاد الأعذار للشركه ولأفعالها، بل للتأكيد على شيوع هذه الجرائم وتورط الكثيرين في ممارستها.
لن نستطيع في مقالة واحدة استعراض تاريخ تلك العلاقات التي سادت بين شركات تصنيع الأسلحة، التقليدية والالكترونية الحديثة والخبيثة، وبين جهات مشبوهة، أو حكام أنظمة ظلامية لجأوا، في الماضي واليوم، إلى استخدام "بيجسوس" وأشباهه؛ فبعض المآسي، التي تسببتها تلك الأسلحة، موثقة في سجلات الأمم، ومكتوبة بدماء الضحايا الذين لوحقوا واخضعوا للمراقبة قبل بيجسوس وبعده، واعتقلوا وقضوا في غياهب الزنازين أو في الأحراش النائية.
لقد دار معظم النقاش داخل إسرائيل حول تمادي الشرطة باستعمال هذا البرنامج في تعقب هواتف العديد من الاشخاص من دون أن تحصل على أوامر قضائية لفعل ذلك؛ ورغم أهمية هذه الجزئية إلا أن النقاش لم ولن يتدحرج نحو صلب الظاهرة نفسها وخطورتها. فأنا مقتنع بأن المجتمع الاسرائيلي غير مستعد للكشف عن الحقيقة، سواء عن حقيقة علاقات هذه الشركة ومثيلاتها في العالم، أو عن حقيقة الظروف التي استعملت فيها الشرطة ذلك البرنامج.
وبعودة إلى أحداث تلك الندوة ؛ لم نتفق حول معظم المواضيع التي تطرقنا إليها؛ فجميع المتحدثين العسكريين دافعوا عن حق إسرائيل في اعتقال الفلسطينيين اداريًا، بينما عارضتهم وفندت ذرائعهم واحدة تلو الأخرى. ولقد حمّلت قضاة المحاكم العسكرية والمدنية المسؤولية عن الإفراط في ممارسة الاعتقالات الادارية، وعن الانزلاقات التي نشهدها داخل المجتمع الاسرائيلي، وعن التآكل الاخلاقي والقيمي والقانوني الحاصل في داخله؛ وذلك لأنهم، اي القضاة، تمنعوا عمدًا عن ممارسة دورهم في تحجيم شهية المؤسستين الأمنية والسياسية، واطلقوا لها الأعنة. ولقد فاجأنا مستشار الشاباك حينها عندما صرّح أنه يشاركني رأيي حول مسؤولية ودور القضاة عمّا حصل ويحصل في الدولة.
استحضرت اليوم، وأنا اتابع أخبار فضيحة التجسس، موقفه وتيقنت أن هؤلاء القضاة كانوا عمليًا "بيجسوسات" ذلك الزمن؛ ولكنني، بالمقابل، عندما قرأت أخبار إصرار مقاطعة الأسرى لمحاكم الاحتلال، تيقنت أن الحقيقة لا تعيش في الأساطير، بل تتدفق كالبرق من عتمة الزنازين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق