فلسطين/ الدكتور حاتم جوعيه

 


            

(  قصيدة مهداة إلى الشعب الفلسطيني الأبي والشجاع الذي  ما زال يناضل ويكافح من أجل كرامته ونيل حقوقه كاملة - وبمناسبة ذكرى عام النكبة )


قبلة َ الشَّرقِ  لكِ  الشَّعبُ  استجابا       كنتِ      نورًا     وضياءً      وكتابا 

يا    فلسطينُ     تبارَكتِ     حِمًى        أهلُك  اعتادُوا  على  الدَّهر الصِّعابا 

أنتِ أرضُ الطهر ِ نبراسُ  الهُدَى         يبتغيكِ     الكونُ     دارًا      وإيابَا 

نحنُ   في   التاريخ ِ  سفرٌ   خالدٌ          والحضاراتُ      بنيناها        قبابَا  

لم      تزلْ     راياتُنا       خفّافةً          في   انتظارِ  الفجرِ  شوقا  وارتقابَا

قد  رضعتُ  المجدَ  طفلاً  نازحًا         وَسُقيتُ     الحُبَّ    كاساتٍ    عذابَا  

أنتِ   قدسي ،  وسمائي ،  ودَمي         بعدَ  هذا  الطهرِ  لا  أهوَى  اغترابَا 

شعبُكِ   الصَّلدُ    أبيٌّ    لم   يهُنْ          وَيمينا        سيُصَفِّيهِ         الحسَابَا 

رغمَ  عسفِ  الظلم ِ، قد  هزُّوا الدُّنى          يبتغونَ    الموتَ    مجدًا     وطلابَا 

ويخوضونَ    خضمَّاتِ    الرَّدَى         في  انتشاءٍ ...والدُّجَى  يعلو  التِهَابَا  

هُمْ  نجومٌ   في الدَّياجي  أزهَرَتْ         يا   بلادي   واقبسي   منهم    شهابَا 

أنظرينا    يا   بلادي   قابَ    َقوْ         س ٍ  غَدَاةً  سوفَ  نعطيكِ  الجَوابَا    

خَسِىءَ     المُحتلُّ    أن    يجتثنا         جذرُنا  الرَّاسخُ  لا  يخشَى  الصِّعابَا 

كلُّ   شبر ٍ   في   ثراكِ   صارخٌ          عربيٌّ ...  أبدًا       نبقى     عرَابَا   

سائلي   التاريخَ   عن     أمجادِنا          فهْوَ   لو   ساءلتِ   يُنبيكِ   الجوابَا 

يشهدُ   التاريخُ     أنَّا    لم   ندَعْ           ساحة َ  الموتِ   ولم    نَلْوِ   هرابَا  

كانَ    صَكًّا    وقَّعُوهُ    يا    لهُمْ           قبضُوا  المالَ   وقد  باعوا  الترابَا 

وانتتشَرنا   في   المنافي    يومَهَا         واكتسَتْ    أيَّامُنا     الغُرُّ     ضَبابَا  


يا     مُلُوكا     خذلونا     وَيحَهُمْ          سلَّمُوا الأوطانَ  وانجرُّوا  انسحابَا  

يا     ملوكًا     كحذائي   عرشُكُمْ          خزيُكُم  قد  جعلَ   الخصبَ   يَبَابَا   

تلكَ   تيجانٌ   تبيعُ  الأرضَ  والْ        عِرْضَ تبقى في قصورِ الخزْيِ نابَا 

ما   لشعبِ  العُربِ  لا   يهتزُّ  ما         لعروشِ  الظلم ِ  لا   تهوي  خرابَا  

يا  شعوبًا  في  الدُّجَى  كم  رتعَتْ         آنَ   أنْ    تنضُوا  هوانا   واكتِئاتبَا  

رُغمَ   عَسْفِ  الظلم ِ  أتتُمْ   هُجَّعٌ          ما  رفعتُمْ   صرخة َ الحقِّ  غضابَا  

ما   تركتُمْ   سُدْفة َ  الجَهل ِ  وكمْ           كم   فتحتُمْ   في  الدُّجَى  بابًا  فبابَا 

ذُهِلتْ   من   نومكم   كلُّ   الدُّنى          وهوَان ٍ     جَرَّ     أشياءً     غِرَابَا 

قد مَشَى الغربُ على هام ِ السُّهَى           أنتمُ  في الدَّرك ِ  تشكونَ   انسحَابَا  


كم    عروش ٍ    حَطَّمتهَا    هِمَمٌ            وَشُعوبٍ    حقّهَا    المَوؤُودُ    آبَا  

إنَّمَا      للظلمِ      يومٌ     يَمَّحِي             والرَّوابي    تلثُمُ    النورَ   المُذابَا 

كم     بقاع ٍ    بدماءٍ ...  إرتوَتْ             تبتغي   العيشَ   كريمًا   مُستطابَا 

واشرَأبَّتْ   في    الذُّرَى    ألوية ٌ           طابَ جُرحُ الشَّعبِ يا مُحتلُّ  طابَا 


يا  فلسطينَ  المُنى  حَيَّاكِ  شعبٌ             إستقى   الأحلامَ     نمَّاهَا   عذابَا 

ما    نوالُ    الحقِّ     إلاّ     بدمٍ             سِنُعيدُ   الحقَ    قهرًا   واغتصَابَا 

فإذا     أحرارُ    شعبي    أبعِدُوا             وابتلى  أفقُكِ  عَسْفا   واضطرَابا   

والقرابينُ       وَهبناهَا        فِدًا              حَجَّبُوا   الفجرَ   وغطُّوهُ   حِجابَا   

وبكى    النجمُ     على   أمجادِنا              أهلُنا  الصِّيدُ  فكم  أبدُوا  العِجَابَا   

حُلمُنا   المَنسيُّ   أضحَى    يانعًا             فاستقينا   الموتَ  شهدًا  وَرُضَابَا 

يا    بلادي    وضحَايَانا    جُسُورٌ           تبعَثُ  الشَّمسَ التي  كانت  سَرَابَا   


صرخة ُ الشَّعبِ  رُعُودٌ  زلزلتْ            صاحتِ القدسُ وكم هزَّتْ  هضَابَا 

يا عروسَ  العُرْبِ  يكفيكِ  أسًى             لم    تعُدْ  عيناكِ    تنهلُّ   انسكابَا 

شعبُكِ  المغوارُ  في عتمِ  الدُّجَى            يصهرُ  الأغلال   يجتاحُ  الضَّبَابَا  

ضِفَّة َ  المجدِ   ويا   رمزَ  الفدَا              أهلُكِ  الصِّيدُ   لقد  هَبُّوا   غضَابَا 

فيمينا     كلُّ    حقٍّ     عائدٌ ...            سارَ شعبي في اللَّظى هاجَ اصطخَابَا 

يا  رَصاصَ الغدرِ إنَّا  لم  نهُنْ              بدمانا    الحُمر ِ    رَوَّينا    الترابَا  

حُلمُنا   المَنشُودُ   أسمَى   غايةٍ             من  نضالِ  الأهلِ   يزدَادُ  اقترابَا  


يا   فلسطينُ   لقد   ذبتُ   هَوًى            فارْحَمِي  الطَّيرَ الذي أمسَى مُصَابَا  

كم  شربتُ الحُبَّ  كأسًا  مِنْ  يَدٍ            وَلثَمتُ   الخِصبَ    قبَّلتُ    الترَابَا 

قد  سَقيتُ  الجُرحَ  أنغامَ   المُنى            وَوَهَبتُ   الكونَ    ألحانا     عذابَا 

أيُّهَا  الزَّيتونُ   تدري  كم   عُهُو            دٍ    قد   قطعناها  وأشعلنا   شهابَا   

نحنُ     أقسَمنا     يمينا      للفدَا           وَضَمَمناها       وُرُودًا      وحرَابَا  

وَرَفعنا    راية َ   للتحرير ِ   حُلْ           مَ     فلسطينَ  التي  أعْيَتْ   جَوَابَا 

يا    بلادي   كم    أذاقونا   أسًى           آنَ   للباغينَ    أن    يلوُوا   هِرَابَا  

قد   قضَى  دهرٌ  بتشريدٍ    فجُبْ          نا   بقاعَ   الأرض ِ  أشتانا   غرَابَا 

نحنُ   نبقى  في   صمودٍ  راسخ ٍ          وَسَنُجلي    عن     مغانينا    الذئابَا 

في  خيامِ الحُزن كم شعبي اكتوَى          نحوَ   لُقياكِ     وكم     دمع ٍ   أذابَا  

في    المتاريس ِ   أسُودًا    وُلِدُوا         بهَرُوا  الطغيانَ   كم  كانوا  صلابَا  

وانظري خلفَ خُطوطِ  النارِ  شَعْ         بي   أذاقَ   المُعتدِي   نارًا   شهابَا         

وانظريهِم  في خضمِّ  الموتِ  كمْ          يعشقونَ  الموتَ    يفدونَ    الترابَا 

من  أغاني الموتِ  يُسقى  موكبي          موردًا    جمًّا      وأنغامًا     عذابَا 

في  خيامِ  للحُزن ِ  شعبي  صامدٌ          يلثُمُ      الرَّشَّاشَ      دينا     وكتابَا 

في  خيامِ   الحُزنِ   يبني   مجدَهُ           يبتغي    الحُرِّيَّة َ   الحَمراءَ     بابَا  

فيمينا       حقُّ     شعبي    عائِدٌ          عزمُهُ  الحُرُّ   لكم    ألوَى   صعابَا  

لا     ينالُ    الحقّ     إلاَّ      بدمٍ          سنعيدُ   الحقَّ     قهرًا    واغتصَابَا  


الدوافع النفسيّة وراء كتابة القصيدة: الذاكرة الحيّة على الجريمة/ كريم عبدالله

 


قراءة في قصيدة الشاعرة : سلوى علي – العراق , روح الشمس في ممرّات الخردل .


مالذي يحرّك مخيّلة الشاعر أثناء كتابة القصيدة , ومالدافع الداخلي النابض الذي يدفع الشاعر الى كتابة القصيدة ..؟؟!!! .

انّ الشاعر انسان استثنائيّ , غير طبيعيّ , قلقٌ دائماً , وغير مستقر نفسيّا , مهوسٌ بالشعر والابداع , بمقدوره أن يدجّنُ هذا القلق وعدم الاستقرار النفسيّ عن طريق فكتابة الشعر . انّ الشاعرة : سلوى علي , استطاعت ان تجعل مِنَ التمزّقات التي كانت تعاني منها نفسيّاَ الى قصيدة تخلّد الفاجعة . أنَّ الشاعر الذي لا يمتلك ضميراً حيّاً , هو شاعر تافهٌ , والشاعر الذي ( لا يحبلُ ) بكارثةٍ فضيعة لا يمكنه ان يكتب مقطعاً نصيّاً حقيقياً يتوازى مع محنته , هكذا كانت الشاعرة وهي تكتب عن قضيتها وقضية شعب بأكمله , لقد ( حبلتْ ) فولدتْ لنا هذا المولود ( القصيدة ) المجروحة الخاطر , والمثقلة بهول الألم والمحنة , لقد كانت الشاعرة قد احترقت , فكان رمادها شعراً يؤرّخ لهذه الفجيعة ,  أنّ الشاعرة قنبلة موقوتة , انفجرت فكان نتيجة هذا الانفجار هذه القصيدة ( روح الشمس في ممرّات الخردل ) , لقد كانت الشاعرة مهوسة بذكرى مؤلمة عذّبتها كثيراً , أنّها تعاني من عقدة نفسيّة مرّت بها , وعاشت كلّ تفاصيلها حتى الدقيقة منها , عقدة تراكمت فأصبحت جرحاً عميقاً في روحها وذاكرتها الحيّة , أنّها الذات المسكونة بالهمّ الداخلي الذي جعلها تلجأ الى الشعر في ترجمة معاناتها الفظيعة , أنّ هشاشة روحها جعل منها حسّاسة جداّ وكأنّها دُمّلة تنزُّ بالوجع كلّما داعبتها الذكرى , وراودتها المشاهد المؤلمة , أنّ الأزمة النفسيّة التي تركتها في أعماقها هذه الفاجعة حرّك روحها , وأقلقتها كثيراً , وجعلتها شعلة تحترق بهدوء وهي تسرد لنا مصيبتها .

أنّ عنوان القصيدة هذه ( روح الشمس في ممرّات الخردل ) , يدلّ على أنّ ثمن / الحرية – الشمس / الموت – الخردل / , من هنا نقرأ هذه المساحة الشاسعة منَ الألم والخيبة والخسران والموت , ثمن باهض وفجيعة مهولة , فالشاعرة تبتدأ قصيدتها بهذه الطقوس المرعبة / طقوس مغروسة بطعم الرماد تكتظّ بالذكريات / , ذاكرة حيّة لمّا تزل تكتظّ بالكثير من الذكريات المؤلمة والفظيعة , طقوس ترافقها أينما كانت وتكون كالزمن الذي لا فكاك منه , فنحن سنبقى تحت رحمة هذا الزمن , ونعيش فيه رغماً عنّا / تتجوّلُ في عقارب الساعات / , لتثقب الاحزان حين دسّت اشعة الشمس بالقبور أمام ضوء القمر / أنّ الكارثة هي الحاضر الاول في تحريك مخيلة الشاعرة لكي تكتبها كما عاشتها هي , أنّها تصوّر البشاعة أصدق تصوير مشحوناً بالكثير من التشظّي والوجع / جماجمها زرعت في كتب الرهبة تصمت رصاصاتها شهقات الحضارة لنار سرمديّة يستلذُّ بأطفال يتلوّن آيات الشيب على جناح فراشة فوق هامة عزرائيل / ما اجمل تصوير هذه الفجيعة والكارثة الانسانيّة , لقد كانت الارض مزرعة جماجم , وأيّ جماجم هذه , جماجم أطفال وشيوخ ونساء كالفراشات الرقية يقلّبها ( عزرائيل ) ..!! , ثم تسترسل في تصوير هذه المشاهد المرعبة / هناك تخمّرت أوتار النزف وصدى الرؤيا بذاكرة التنزيل , لتبلّل لحظات الاحتضار/ في تلك الارض المنكوبة ظلّت تحتفظ ذاكرة الشاعرة بكل تفاصيل محنتها , وتشهد لحظات الاحتضار والموت السريع , / فيتلاشى سالك دروب الصمت عبر ممرّات الخردل أتعبه الرقص بين اوراق الربّ , فانكسرت بهجة الشمس قبل ان تصرخ هل مِنْ نصير ..؟؟ / نعم فيحلّ السكون والصمت والموت وتنطفئ الشمس ويحلّ الظلام الكثيف حين تغلق العيون أجفانها , / نفضت شال الابجديّة لتمتلئ قوارير الربّ تحت جدائل ذهبيّة على صدى صوت حقول السنابل المجروحة قبل مواسم الحصاد برائحة حدائق التفاح لتشقّ صدر الديمومة في جنّات عدن / هنا نجد المقدرة الابداعية لدى الشاعرة في تصوير هذه المشاهد المأساوية عن طريق اللغة التجريديّة – التعبيريّة  , لغة حيّة استنفرت طاقاتها واستنطقتها وبثّت فيها العمق المأساوي الانساني , وجعلت مِنَ المتلقي يقرأ ما وراء الكلمات مِنْ معاناة انسانيّة , استطاعت أن تصوّر لنا بشاعة الموت وهمجيّة الانسان حين يتخلّى عن انسانيته مِنْ أجل مصلحته الشخصيّة , ثم سرعان ما / يأتي المصير ويمتزج الطوفان , بلحظة انفجار , وصاح الدم في الحقول لا مأوى لقد أورق المستحيل , فتساقطت النجوم على همس الليل المبلّل بالحنين وهي تدندن بصوت نوارسها الصباحيّة الراحة أغنية ../ لقد غرست الشاعرة في نفوسنا ملامح الخوف الذي حلّ بتلك الارض ( حلبجة ) , وطقوس الفناء والرعب والالام , لأنّ روح الشاعرة كانت تسكن في / ممرّات الخردل – في الممرّات المؤدية الى الموت البشع / , فهي الشاهد على ما حلَّ , فنحن في هذه القصيدة لا نرى هذه الذات الشاعرة , ولكن نتلمس رفيف أجنحتها الرقيقة وسط هذا العذاب والدمار , وهي تحاول برفرفة اجنحتها أن تزيل غبار الهمجيّة عن بتلات الورود المحترقة , تحاول ان توقظ الارواح الغافية على أسرّة الموت المتوحّشة , أنّها تحاول ان تزيل عن أجساد الاطفال أطناناَ مِنَ الاوجاع , أنّ الشاعرة حمّلت قصيدتها هذه ابعاداً انسانيّة وهموماً , فهي تغوص في اعماق ذاكرة الارض المنكوبة , لتستنطقها مِنْ اجل ايصال صورة واضحة وصوتاً نقيّاً عن كارثة انسانيّة , وتحفّز التفكير على أن يلعن الديكتاتوريات البغيضة , وينمّي في الروح حبَّ الحرية والسلام والحياة . ثم تختتم قصيدتها بهذه الاغنية الفلكلوريّة القديمة التي كان أهالي ( حلبجة ) يتغنون بها :

أريد وردة مِنْ بتلات الورد

وردة مِنْ حدائق حلبجة

وردتي وردتي وردتي .

أنّها عشق الحياة والجمال والحرية .

لقد كانت القصيدة عبارة عن انظمة متداخلة ومترابطة سلسلة ذهبيّة , بعضها يوحي والاخر صوّر , تتجلّى حاضرة داخل نسيجها الشعري , أنّها عبارة عن تجربة أدبيّة نابعة مِنْ أعماق الذات الشاعرة , مشحونة برؤية أدبية عميقة و أنّها عبارة عن التقاط المعنى العميق وبثّه في روح المتلقي ليتعامل معها بطريقة ايجابية . أنّها القصيدة السرديّة التعبيريّة التي تتجلّى فيها طاقات اللغة , والخيال الخصب المنتج , والفضاءات الشاسعة مِنَ الجمال والابداع الفذّ .

أنَّ هذه القصيدة تحكي عن محنة الأنسان ورحلته في البحث عن الحرية والضياء والشمس , أنّها مأساة الإنسانية في هذا الزمن , أنّها حكاية المدينة التي كانت آمنة مسالمة ( حلبجة ) التي قصفها النظام السابق بالقنابل الكيمياويّة , فأباد أهلها , وترك الرعب يعشش في قلوب الناجين منها .

المسكوت عنه في الرواية الفلسطينية الرسمية/ فراس حج محمد



يشير تبني رواية ما لحادثة تاريخية معينة، والقبول بتعدد الروايات حولها إلى وجود معضلة تأسس إلى قبول كل الروايات في منطق الصراع الفكري الذي يقود إلى الصراع على الأرض. في فلسطين ثمة روايات متعددة لحدث النكبة، ثمة سرديات مختلفة في الجهة الواحدة، فهناك سردية دينية وأخرى تاريخية، وتنحلّ السرديتان إلى سرديات فرعية تتشابك وتتصارع فيما بينها، فكيف ستتصارع مع الرواية التي تعدها نقيضا؟


في تقديري الشخصي أخطر تلك السرديات هي السردية التاريخية للصراع على الأرض. التاريخ غير حقيقي وغير شامل وفيه جوانب معتمة كثيرة، والسردية التاريخية بشكل عام هي سردية مخاتلة وفيها الكثير من المراوغة والخديعة والخذلان، ويزداد هذا الأمر وضوحا في الحالة الفلسطينية، نظرا لتاريخ فلسطين الممتد والمتعمق في الزمن، الجغرافيا ثابتة والتاريخ سائل ومتحرك. سكن هذه البلاد سكنا شرعيا ملايين من الناس من أديان وأعراق مختلفة، حتى وصلنا إلى الحالة السياسية اليوم، لمن هذه الأرض اليوم؟ أيحق للتاريخ أن يقول كلمته في ذلك؟


في السياسة لا منطق إلا منطق القوة، فالتاريخ ليس له اعتبار عند السياسيين، فأمريكا تحولت إلى مستعمرة "الرجل الأبيض" رغما عن قوة التاريخ وعشرات الملايين من الهنود الحمر، وإسبانيا تأسلمت ثمانية قرون ثم عادت إلى الصبغة الغربية، وكذلك الحال مع فلسطين، كانت بيزنطية مسيحية بعد أن كانت وثنية كنعانية ثم غدت عربية إسلامية، ثم ها هي اليوم ذات صبغة عبرانية. لا أحد يستشير كتّاب التاريخ، فهؤلاء عليهم أن يكتبوا أعمال المنتصرين، هؤلاء هم القادرون على المحو والإلغاء والتغيير وليس كتّاب التاريخ وأصحاب منطق "السرديات المتصارعة" على أرض فلسطين.


ومع كل ذلك، ومع إيماني العميق بلا جدوى "صراع الروايات" مع المحتل، لأنه يستهلك الوقت والجهد بلا طائل، فلا هم سيخضعون لمنطق التاريخ إن كان قويا ولا سيغيرون الحال، ولن يفسحوا لنا المجال لنظل على هذه الأرض ونتصرف فيها بحُرية، ووصلوا إلى ضرورة عدم اقتسام الأرض معنا، لأن منطق القوة هو الحكم الأول والأخير وليست قوة المنطق التاريخي، مع أن التاريخ أيضا لا يبشر بخير مطلق، ففيه ما يخيب أملنا أيضا لو أردنا الاستناد على التاريخ في أعماقه.


سأسلم جدلا بمنطق التاريخ، فكيف سنبني سردية فلسطينية متماسكة في مواجهة التاريخيات الأخرى؟ وإلى أي حد يمكن أن نستفيد من التاريخ القديم الموغل في الزمن لبناء مثل هذه السردية المتصلة والمنطقية؟ وكيف يمكن أن نقرأ التاريخ وأحداثه؟ وبأي أدوات، علمية علمانية، أم دينية عقائدية؟ ثمة صراع مخفيّ داخل هذا البناء الهشّ في بناء سردية مقبولة لدى الجميع، العلماني الأكاديمي سيكون في صراع فكري مع الديني الشعبي والديني السياسي. كما أسلفت.


إضافة إلى ذلك، لا بد من أن نواجه أنفسنا بحقائق تاريخية ليست بعيدة عنا، إنها ابنة العصر الحديث والنكبة المعاصرة، ويجب ألا نغفل عن ذلك، وخاصة دور العرب والأنظمة العربية وجيش الإنقاذ الذي أغرقنا في لجة الاحتلال، فالنظام العربي الرسمي ما زال غربي التوجه، صهيوني السياسة، تضليليّ الفكر، متحالف مع القوى الاستعمارية الغربية ضد الشعوب أولا وضدنا نحن ثانيا.


إن أية سردية ستظل "سردية" غائمة وناقصة وخادعة إن لم تبحث هذا الجانب من الرواية الفلسطينية، ولا يمكن لها أن تكون فعالة إلا إذا تمّ تداولها في المدارس وفي الجامعات بشكل علمي منهجيّ موثق في كتب مقررة جنبا إلى جنب مع مساق القضية الفلسطينية والتربية الوطنية، ويضيء عليها الباحثون في الدراسات المحكمة. فالفلسطينيون أبناء التاريخ الحديث لم يتخلوا عن أرضهم كما اتفق العرب والمحتلون على أن يقولوا، بل وَثِق الفلسطينيون بجيوش العرب التي خدعتهم، وسلمت البلاد إلى العصابات الصهيونية، وساعدت على طرد الفلسطينيين من ديارهم. لو لم يكن هناك "جيش إنقاذ" عربي لم تكن البلاد قد سقطت بهذه السهولة المُرّة، أو على الأقل، لما استقرت على ما هي عليه اليوم.


لقد تكرر هذا السيناريو الخبيث المر فيما عُرف بحرب الأيام الستة؛ إنها لم تكن أكثر من مسرحية لتسليم بقية "غرب النهر"، إتماما لما تم الاتفاق عليه "مسبقا" بين "الهاشميين" وبين بريطانيا في اقتسام البلاد، ليكون غربيّ النهر للكيان الغاصب، وشرقيه ملكا وراثيا لأحفاد الهاشميين من نسل "الشريف" حسين القادم من عمق الصحراء العربية ليمنح هذه البلاد (فلسطين) للحركة الصهيونية.


كثير من الحوادث على الأرض كتب عنها الذين عاصروا تلك الأحداث شربوا المرارة مرتين، والأمرّ كان من يد الحليف العربي الذي كان يدا علينا وسيفا لقطع رؤوسنا. إن أية سردية فلسطينية لا بد لها من أن تعرّف الأجيال القادمة كيف ضاعت فلسطين، وأي تلك القيادات التي أضاعتها. على من سيصوغ تلك "السردية" أن يبين دور "الملك عبد الله الأول" وكيف حمى الصهاينة وأمنهم في مدننا وقرانا وخذلنا نحن الفلسطينيين، خذلنا في أرض المعارك الزائفة وخذلنا في رودوس وخذلنا لاجئين. وما زال النظام الأردني كما هو النظام المصري كما دول الخليج التطبيعية كما المغرب كما السودان عناصر خذلان للقضية الفلسطينية.


أية سردية فلسطينية عليها أن تبين دور النظام العراقي في الستينيات كيف ساعد اليهود بل أجبرهم النظام العراقي بالتعاون مع زعماء الحركة الصهيونية على الخروج من العراق ليهاجروا إلى بلادنا ليسكن اليهودي العراقي في بيتي. وعلى أي سردية فلسطينية للصراع عليها أن تقول كيف خذلنا "حافظ الأسد" وعمل فينا ما عمل في تل الزعتر، وكذلك اللبناني وتحالفاته مع العدو لكنسنا وتحجيمنا والقضاء علينا ومحاصرتنا.


إن أي سردية فلسطينية رسمية تسكت عما صنعته بنا الأنظمة العربية ستكون هذه السردية إحدى تجليات خذلان المرء لنفسه. على أبنائنا أن يتعلموا في المدارس أن يوسف الفلسطيني خذله إخوته قبل أن يبيعه زعر ليصبح رقيقا ومسجونا.


وعلى السردية الفلسطينية أن تقول وبصريح العبارة كيف خذل المثقف العربي القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وناصر الاحتلال، حتى قبل إنشاء الكيان الغاصب، وأن يكف النظام التعليمي الفلسطيني عن تبجيل هؤلاء كتابا ومثقفين كباراً، بل على النظام التعليمي أن يكشف عن المثقفين المناصرين لقضيتنا، ويدرس نصوصهم وكتبهم، فكل من خذلنا لا ينبغي لنا أن نقرأ أدبه مهما كان، فهم منافقون، وما قدموه من أدب لا يساوي شيئا أمام ما جنت علينا مواقفهم السياسية في وقوفهم مع المحتلين والقتلة. يجب علينا أن نكون "متطرفين" و"متشددين" أكثر من أي وقت مضى، وإلا فإن الحقيقة ستُعرف، والأجيال ستكشف زيفنا، ولن يرحمنا أحد.


أظن أنه قد حان الوقت لنقول ما يجب أن نقوله، وعلى تلك الأنظمة أن تعترف بخطاياها، وتكفر عن آثامها، وتكف أيديها عن القضية والتدخل فيها، وليكن "النظام الثقافي الفلسطيني" قويا ليعري ويجلي هذه الحقائق، ومن أراد أن يغضب، فليغضب، وعلى النظام السياسي الفلسطيني أن يتحرر من التبعية والاستجداء. فتلك الأنظمة لا تدفع الأموال للفلسطيني إلا لأنها أضاعت أرضه وشردته، فعليهم أن يتحملوا ذلك غصبا عنهم وحقا لازما في أعناقهم، فهم السبب فيما نحن فيه الآن، أعيدوا لنا الأرض وأخرجوا المحتل منها كما أدخلتموه، بل خذوه إلى دياركم وأعطوه عواصمكم ودللوه كما يدلل أحدكم ابنه وابنته، وأطعموه، وأدخلوه غرف الاستقبال، وزوجوه وتزوجوا من بناته الشقر، وحسنوا من نسلكم وأنسابكم معه، أما فلسطين وخيراتها وأبناؤها وبناتها فمقدسون كالقدس بل أطهر.


إن أردنا أن تكون المعركة معركة تاريخ ورواية وبناء سردية قوية، فمن الحكمة ألا يقف الفلسطيني في منتصف الطريق ضعيفا خائبا منتظرا، فقد حان الوقت لا ليكتب الكتّاب رواياتهم وأشعارهم ومقالاتهم فقط، بل حان الوقت للتخلص من "النزعة الفردية" والشخصية والمصلحة الذاتية لنضع نقاطنا نحن على حروفنا وتكون الخطوة الأولى للانطلاق نحو التحرر، بالخلاص من وهم "القومية" التي أضاعتنا، ومن وَهْم العرب الذين يدعموننا، فما حكّ جلدك مثل ظفرك، فلتتولّ- أيها الفلسطينيّ- جميع أمرك، ولتذهب الدبلوماسية والدبلوماسيون إلى قعر جهنم، فهي بهم أولى، وهم بها أحرى وأليق.

ألكسندر دوجين وتأسيس الجغرافيا السياسية/ ترجمة د زهير الخويلدي



جون ب. دنلوب



مقدمة

 من الملاحظ، منذ عام 1994 أن الفاشية، وخاصة البديل "الأوروبي الآسيوي"، كانت تحل محل القومية الروسية بين النخب الروسية الدولتية باعتبارها "فكرة روسية" ما بعد الشيوعية، لا سيما في مجال السياسة الخارجية.  أن "ضعف القوميين الروس ينبع من عدم قدرتهم على تحديد مواقع الحدود الروسية بوضوح. تجلب الأوراسية أساسًا أيديولوجيًا للإمبريالية ما بعد السوفييتية". من المحتمل أنه لم يكن هناك كتاب آخر نُشر في روسيا خلال فترة ما بعد الشيوعية كان له تأثير على نخب السياسة الخارجية للجيش والشرطة والدولتية مقارنة بما كتبه ألكسندر دوجين في أطروحة الفاشية الجديدة عام 1997 ، تأسيس الجغرافيا السياسية. إن تأثير هذا الكتاب المدرسي "الأوروبي الآسيوي" على العناصر الرئيسية بين النخب الروسية يشهد على الصعود المقلق للأفكار والمشاعر الفاشية خلال فترتي يلتسين وبوتين. الروس على الأراضي الممتدة "من دبلن إلى فلاديزفوستوك" ، ولد ألكسندر جيلفيتش دوجين في عام 1962 ، وهو الابن والحفيد والحفيد الأكبر للضباط العسكريين الروس. يقال إن والده كان برتبة عقيد ، ووفقًا لأحد المصادر ، خدم في المخابرات العسكرية السوفيتية بكل المقاييس ، كان دوجين شابًا ذكيًا ومبتكر النضوج يتمتع بموهبة تعلم اللغات الأجنبية. (يُقال إنه أتقن تسعة منهم على الأقل). وبينما كان لا يزال مراهقًا ، انضم إلى مجموعة سرية من مثقفي موسكو المهتمين بالتصوف والوثنية والفاشية. شارك "سادة" هذه المجموعة و"تلاميذهم" ، من بين أمور أخرى ، في ترجمة أعمال الكتاب الأجانب الذين يشاركونهم اهتماماتهم. كواحدة من مساهماته ، أكمل دوجين ترجمة كتاب للفيلسوف الإيطالي الوثني الفاشي يوليوس إيفولا. وبحسب ما ورد اعتقل دوجين من قبل الكاجيبي لمشاركته في مجموعة الدراسة هذه ، وتم اكتشاف الأدب المحظور لاحقًا في شقته. وفقًا لإحدى الروايات ، فقد طُرد بعد ذلك من معهد موسكو للطيران ، حيث التحق ببعض الوقت كطالب في أواخر السبعينيات. وفقًا لرواية أخرى ، تمكن في النهاية من التخرج من المعهد. في عام 1987 ، خلال السنة الثانية من حكم جورباتشوف ، كان دوجين في منتصف العشرينات من عمره وبرز كزعيم للمنظمة القومية الروسية سيئة السمعة المعادية للسامية ، باميات ، برئاسة المصور دميتري فاسيليف. خلال أواخر 1988 و 1989 ، عمل دوجين كعضو في المجلس المركزي في باميات ، وفي عام 1989 ، مستفيدًا من الفرص المتزايدة لزيارة الغرب ، أمضى دوجين معظم العام في السفر إلى دول أوروبا الغربية. وأثناء وجوده هناك ، عزز العلاقات مع شخصيات بارزة في اليمين الأوروبي الجديد ، مثل الفرنسي آلان دي بينويست والبلجيكي جان فرانسوا تيريارت. أدت هذه الاتصالات إلى "مصالحة متأخرة" لدوجين مع الاتحاد السوفيتي ، في الوقت الذي كانت فيه تلك الدولة تقترب من زوالها النهائي. يبدو أنه نتيجة لهذه الاتصالات مع الأوروبي الجديد نوفيل درويت ، أصبح دوجين منظّرًا فاشيًا. حول موضوع توجه دوجين الفاشي الذي لا يقبل الشك ، كتب ستيفن شينفيلد: "المهم بالنسبة لسياسة دوجين هو المفهوم الكلاسيكي لـ" الثورة المحافظة "التي تقلب عالم ما بعد التنوير وتؤسس نظامًا جديدًا تكون فيه القيم البطولية لمن يكاد يكون منسيًا. يتم تجديد "التقليد" ، وهذا هو المفهوم الذي يعرّف دوجين بشكل لا لبس فيه على أنه فاشي ". بحلول بداية التسعينيات ، عندما كان الاتحاد السوفيتي يقترب من الانهيار ، بدأ دوجين في تولي دور سياسي أكثر أهمية. أسس جمعية مع "الوطنيين الدولتين" في المعسكر الشيوعي وكان ، لفترة وجيزة ، مقربًا من جينادي زيوغانوف ، زعيم الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية. وفقًا لستيفن شينفيلد ، "ربما لعب دوجين دورًا مهمًا في صياغة الأيديولوجية الشيوعية القومية التي كانت السمة المميزة لزيوجانوف". في عام 1991 ، وهو العام الذي شهد نهاية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ، تعرف دوجين على كاتب فاشي جديد مهم له صلات بعناصر في الجيش الروسي ، ألكسندر بروخانوف ، الذي كانت مجلته دن (التي أعيدت تسميتها لاحقًا زافترا) بمثابة مفتاح لوحة السبر لـ "المعارضة ذات اللون الأحمر والبني". سرعان ما برز دوجين باعتباره "أحد الأيديولوجيين البارزين لدن في أفضل فتراتها (1991-1992)". في يوليو 1992 ، بدأ دوجين أيضًا في تحرير مجلته الخاصة ،العناصر: مراجعة أوراسيا، والتي تظهر مرتين سنويًا (لاحقًا مرة واحدة في السنة) في نسخة مطبوعة من 5000 إلى 10000. تم استعارة عنوان المجلة من المجلة النظرية لليمين الفرنسي الجديد ، عناصر ، الذي حرره آلان دي بينويست. فيما يتعلق بمجلة دوجين ، لاحظ ألكسندر فيرخوفسكي وفلاديمير بريبيلوفسكي: "عند الحديث عن إليمنتي ، لا ينبغي لأحد أن ينسى أن نصف كل عدد يتكون من" دفاتر جيوسياسية "تحتوي على مقالات حول المعارضة العالمية لمختلف الحضارات ، وفي مقدمتها روسيا والغرب. خلال أوائل التسعينيات ، أسس دوجين دار النشر الخاصة به ، "Arktogeya". تم استعارة هذا الاسم من دار نشر الكاتب العنصري الألماني جيدو فون  (1848-1918). فهو يجمع بين الكلمات اليونانية القديمة arktos (شمال) و gea أو gaia (الأرض) ، في إشارة إلى القارة القطبية المختفية التي كان من المفترض أن تكون الموطن الأصلي للآريين.

في 1991-1992 ، حاول بروخانوف ودوجين تشكيل تحالف بين بعض قادة اليمين الأوروبي الجديد والعديد من رؤساء الأقسام والأساتذة في أكاديمية هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية. نشر العدد الأول من العناصر في عام 1992 نسخة من مائدة مستديرة في أبريل 1992 ، عقدت في مقر الأكاديمية ، والتي تضمنت الفريق نيكولاي كلوكوتوف ، رئيس قسم الاستراتيجية في الأكاديمية. اللفتنانت جنرال نيكولاي بيشتشيف نائب رئيس القسم نفسه ؛ اللواء فلاديسلاف ايمينوف رئيس قسم التاريخ العسكري في الأكاديمية. آلان دي بينويست "زعيم اليمين الأوروبي الجديد" ؛ وجان لالو ، متحدث آخر باسم اليمين الجديد.

وبحسب ما ورد، فإن قائد أكاديمية الأركان العامة، الجنرال إيغور روديونوف ، "يميل بشكل خاص إلى دوجين" ، ومن الواضح أن أفكار دوجين استمرت في التمتع بدعمه بمجرد أن أصبح وزيراً للدفاع الروسي في 1996-1997. قد يكون من المهم أن كتاب أسس دوجين للجغرافيا السياسية قد كُتب في الوقت الذي كان فيه روديونوف وزيراً للدفاع. ويعود اهتمام أكاديمية هيئة الأركان العامة بالجغرافيا السياسية والأوراسية إلى ما يقرب من أربعين عامًا. لاحظت فرانسواز ثورن: "بداية من الخمسينيات من القرن الماضي ، استلهم الاستراتيجيون السوفييت مثل الجنرال شتمينكو والأدميرال جورشكوف أفكارهم من الفكر الأوراسي." أما بالنسبة لدوجين ، فقد خص المارشال نيكولاي أوجاركوف ، رئيس أركان الجيش السوفيتي في أوائل الثمانينيات ، بأنه "خبير جيوسياسي واستراتيجي وأوراسيوي بارز".  في عام 1993 ، انضم دوجين إلى جهوده مع جهود الديماغوجي الكاريزمي إدوارد ليمونوف (مواليد 1943) وأسس الحزب البلشفي الوطني . كما أشار فيرك-هوفسكي وبريبيلوفسكي ، "إن أيديولوجية الحزب البلشفي الوطني تم إنشاؤها بالكامل من قبل شخص واحد - ألكسندر دوجين." 17 لعب ليمونوف دور زعيم على النمط الفاشي ، وشغل دوجين منصب الثاني في القيادة والمنظر الرئيسي للحزب. يبدو أن المنظمة الجديدة تأثرت بالألمانية أكثر من تأثرها بالبلشفية القومية الروسية. كان البلشفي الألماني القومي إرنست نيكيش قد "دعا إلى تحالف ألماني روسي ضد الغرب. وفي الاتحاد السوفيتي ، وخاصة الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين ، رأى العديد من القوميين الألمان [مثل نيكيش] الإنجاز المنطقي للحرب ضد" الرأسمالية اليهودية ". في عام 1995 ، ترشح دوغين لمجلس دوما الدولة الروسي على منصة بلشفية وطنية ، لكنه قوبل برفض قاطع من قبل الناخبين ، وحصل على 0.85 في المائة فقط من الأصوات. في عام 1997 ، انفصل دوجين عن ليمونوف العاصف وبدأ صعودًا سياسيًا جديرًا بالملاحظة. في نفس العام ، نشر كتابه "أسس الجغرافيا السياسية" ، وهو أحد أكثر الأعمال تأثيرًا في فترة ما بعد الشيوعية. يبدو أنه تمت كتابته بمساعدة الجنرال نيكولاي كلوكوتوف من أكاديمية الأركان العامة ، الذي عمل كمستشار رسمي للمشروع. قد يكون الكولونيل جنرال ليونيد إيفاشوف ، رئيس الإدارة الدولية بوزارة الدفاع الروسية ، قد عمل أيضًا كمستشار. ربما يرجع ذلك جزئيًا إلى مثل هذه المدخلات عالية المستوى ، "من الواضح أن أفكار دوجين الجيوسياسية [كما تم التعبير عنها في الأسس] هي أكثر تأثيرًا بكثير من الجوانب الأخرى الأكثر صوفيةً وباطنيةً لفلسفته." خلال العام التالي ، خطت مسيرة دوجين المهنية خطوة رئيسية إلى الأمام عندما تم تعيينه مستشارًا في الجغرافيا السياسية لغينادي سيليزنيف. كان سيليزنيف رئيسًا (أو "رئيسًا") لمجلس الدوما الروسي ولاعبًا رئيسيًا في السياسة الروسية. (في يونيو 2001 ، تم تصنيف سيليزنيف في المرتبة العاشرة كأكثر شخصية سياسية مؤثرة في روسيا من قبل لجنة خبراء الجريدة الرسمية. وحث على جعل عقيدة دوجين الجيوسياسية جزءًا إلزاميًا من المناهج الدراسية. بعد ذلك بعامين ، في المؤتمر التأسيسي لحركة "أوراسيا" ، تفاخر دوجين ، "أنا مؤلف كتاب" مؤسسة الجغرافيا السياسية "، الذي تم اعتماده ككتاب مدرسي في العديد من المؤسسات التعليمية [الروسية]. خلال نفس المؤتمر ، أشار الجنرال كلوكوتوف المذكور - وهو الآن أستاذ فخري لكنه واصل التدريس في الأكاديمية - إلى أن نظرية الجغرافيا السياسية قد تم تدريسها كموضوع في أكاديمية هيئة الأركان العامة منذ أوائل التسعينيات وذلك في المستقبل "سيكون بمثابة أساس أيديولوجي قوي لإعداد قيادة [عسكرية] جديدة". في الوقت الحاضر ، يُفترض أن كتاب دوجين يستخدم ككتاب مدرسي في أكاديمية الأركان العامة. في عام 1999 ، أصدرت دار نشر دوجين مجلدًا من كتابات الكاتب الأوراسي المهاجر في فترة ما بين الحربين ، الأمير نيكولاي تروبيتسكوي. في مقدمته للمجلد ، كتب دوجين أن تروبيتسكوي "يمكن تسميته ماركس أوراسيا". وبدا أن دوجين رأى لنفسه دورًا بارزًا مماثلاً بصفته صاغًا لـ "فكرة روسية" جديدة في فجر الألفية الجديدة. في وقت ما في أواخر عام 1999 ، أسس دوجين "مركز الخبرة الجيوسياسية" في موسكو. في مقال في زافترا ، تكهن أن هذا المركز الجديد قد يصبح قريبًا "أداة تحليلية للمنصة الأوروبية الآسيوية للإدارة الرئاسية وحكومة الاتحاد الروسي ومجلس الاتحاد ومجلس الدوما في وقت واحد."  في أواخر آذار (مارس) 2000 ، في مقال ثانٍ لـ زافترا ، تصور دوجين دورًا جديدًا للشرطة السرية الروسية (التي كانت حتى وقت قريب. برئاسة الرئيس الروسي المنتخب حديثًا ، فلاديمير بوتين). بينما في كتابه عام 1993 ، المؤامرة ، انتقد دوجين الشرطة السرية لاعتقادها بأنها "أطلسية" ، أي تعاطف مؤيد لأمريكا وبريطانيا ، فقد قام الآن بتحميص الكاجيبي (الأحرف الأولى التي فضلها على فسب) على أنها "طبقة جديدة ، طبقة اجتماعية جديدة "دعت كلاهما إلى التمسك بالخط ضد" الهيمنة الأمريكية "و" إعادة إنشاء دولة أوروبية آسيوية قوية ذات سيادة "والتي من شأنها أن تشمل جميع جمهوريات رابطة الدول المستقلة. في أغسطس 2000 ، بعد قراءة مقال بقلم جليب بافلوفسكي ، كتب دوجين بافلوفسكي يقترح عقد اجتماع. يوافق بافلوفسكي ، مؤسس العديد من مواقع الويب المؤثرة المؤيدة للكرملين. وتعليقًا على هذه العلاقة المزدهرة ، قال الصحفي أندريه كوليسنيكوف: "إن أيديولوجية اليمين المتطرف لا تتحول فقط إلى وجهة النظر السائدة في المنشورات الروسية وخطاب الدولة ، بل أصبحت أيضًا عصرية من ناحية الصالون".  في تشرين الثاني (نوفمبر) 2000 ، قبل وقت قصير من قيامه برحلة إلى بروناي ، أعلن الرئيس بوتين علنًا أن "روسيا ترى نفسها دائمًا على أنها دولة أوروآسيوية". وصف دوجين هذا البيان لاحقًا بأنه "اعتراف ثوري تاريخي عظيم ، والذي يغير كل شيء بشكل عام. نبوءة جان بارفوليسكو [عالم التآمر الفرنسي] قد مرت .... ستكون هناك ألفية أوراسية. "في 21 أبريل 2001 ، حقق دوجين آفاقًا جديدة مع المؤتمر التأسيسي لـ "الحركة الاجتماعية السياسية لعموم روسيا أوراسيا". وقد أكد عقد هذا المؤتمر على العلاقات الوثيقة التي أقامها دوجين مع الأعضاء الحاليين والسابقين في الخدمات الخاصة الروسية. . انعقد المؤتمر في قاعة تابعة لنادي "الشرف والكرامة" ، وهي مجموعة من قدامى المحاربين في الخدمات الخاصة ومنظمات إنفاذ القانون. كان رئيس النادي ، فلاديمير ريفسكي ، قد خدم في وقت سابق في فيمبل ، وهي وحدة عمليات خاصة ملحقة بالمديرية الأولى للكاجيبي (وفيما بعد سفر). افتتح رفسكاي المؤتمر رسميًا وانتُخب لاحقًا لعضوية المجلس السياسي ، الهيئة الحاكمة في "أوراسيا". كما لعب بيتر سوسلوف دورًا أكثر أهمية في المؤتمر. شغل سوسلوف منصب رئيس اللجنة التي نظمت المؤتمر ثم تم انتخابه نائبًا لزعيم الحركة الجديدة (مع اختيار دوجين كقائد). خلال مقابلة في يوليو / تموز 2001 ، أكد سوسلوف أنه كان خريج مدرسة ريازان للمظليين الذين "خدموا في هياكل الكي جي بي ... في وحدة نفذت عمليات خاصة في الخارج".  وبهذه الصفة ، كما قال ، خدم في أفغانستان وموزمبيق وأنغولا ونيكاراغوا وفيتنام. بعد تقاعده من سفر في عام 1995 ، أصبح مستشارًا في القضايا المتعلقة بالقوقاز لرئيس مجلس الدوما سيليزنيف ، والذي أتاح له فرصة مقابلة دوجين ، الذي كان ينصح سيليزنيف بشأن المسائل الجيوسياسية. سرعان ما أدرك الاثنان أنهما اتفقا على العديد من القضايا الرئيسية. كما توجد معلومات تفيد بأنه موظف خارجي في الجهاز المركزي وكذلك في الإدارة الرئاسية ، الهيئات التي انضم إليها زعيم "أوراسيا" دوجين لقد تم بالفعل النظر إلى دوجين ،" كما لاحظت جريدة أبشكايا الأسبوعية ، "ليس كواعظ لطائفة أيديولوجية ولكن كخبير معترف به رسميًا في المسائل الجيوسياسية." في سياق مماثل ، لاحظت صحيفة فرسايا الأسبوعية الاستقصائية في أواخر مايو 2001: "الاتصالات بين بافلوفسكي و" أوراسيا "تحدث بالفعل ، ولكن على الأرجح على مستوى الاستشارات الشخصية. يتمتع ألكسندر دوجين ورئيس التكنولوجيا السياسية في الكرملين ، العلاقات الودية. تابعت الصحيفة أن فلاديمير بوتين جعل من دوجين "أحد صائغي مفهوم الأمن القومي". يشار إلى أن ديمتري ريوريكوف ، المستشار البارز للرئيس يلتسين للشؤون الخارجية والسفير الروسي في أوزبكستان حاليًا ، وافق على أن يصبح عضوًا في المجلس المركزي لـ "أوراسيا". كما أن منظمة دوجين الجديدة ، فيرسيا ، كانت منخرطة أيضًا في "إعداد تقارير تحليلية عن الشؤون الخارجية للإدارة الرئاسية". وعن الدعم المالي لـ "أوراسيا" كتبت الصحيفة: "إن الدعم المالي للحركة يأتي من خلال المنظمات الإقليمية للخدمات الخاصة. وهذا الدعم بحسب مصادرنا ليس بالضئيل. علاوة على ذلك ، لا يتم توفير التمويل فقط". ولكن أيضًا اتصالات "ضرورية". في خطابه أمام المؤتمر التأسيسي لـ "أوراسيا" ، أعرب دوجين عن امتنانه لـ "إدارة رئيس الاتحاد الروسي" على مساعدتها ، كما شكر بطريركية موسكو ، الإدارة الروحية المركزية لمسلمي روسيا ، وغيرها من المنظمات. في 31 مايو 2001 ، سجلت وزارة العدل الروسية رسميًا حركة "أوراسيا" ، التي ورد أن لها فروعًا في خمسين منطقة في روسيا. في أواخر يونيو 2001 ، استضافت "أوراسيا" مؤتمرًا طموحًا بعنوان استفزازي "تهديد إسلامي أم تهديد للإسلام؟" الذي عقد في فندق الرئاسة في موسكو. كان الرؤساء المشاركون في المؤتمر هم سيليزنيف (الذي لم يحضر) والشيخ طلغات تاج الدين ، الرئيس المعترف به رسميًا لمسلمي روسيا ورابطة الدول المستقلة. بحلول صيف عام 2001 ، تمكن ألكسندر دوجين ، وهو منظّر فاشية جديدة ، من الاقتراب من مركز السلطة في موسكو ، بعد أن أقام علاقات وثيقة مع عناصر في الإدارة الرئاسية ، والأجهزة السرية ، والجيش الروسي ، وقيادة دوما الدولة. . في مقابلة مع قسم كراسنويارسك في راديو إيكو موسكفي في 25 يوليو 2001 ، أكد دوجين ، في تعليقه على دور بوتين في اجتماعات مجموعة الثماني الأخيرة في جنوة ، "إن انطباعي أن بوتين يدرك جيدًا في المجال الدولي النموذج السياسي الأوراسي ".  بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في مدينة نيويورك وواشنطن العاصمة ، طلبت صحيفة روسية كبرى رأي دوجين ، جنبًا إلى جنب مع آراء سكرتير مجلس الأمن الروسي ، ورئيس مجلس الاتحاد ، ومختلف قادة فصائل الدوما ، والتي تشهد على التأثير الملحوظ الذي يمارسه دوجين في روسيا الحالية. لقد أكد العديد من الصحفيين الروس أن "الأوراسية" على غرار دوجين يلبي عددًا من الاحتياجات السياسية في روسيا. كتب الصحفي إيفجيني إيخلوف أن الإيمان بأولوية حقوق الفرد على حقوق الدولة سيؤدي إلى سيطرة المجتمع المدني على الدولة. في روسيا ، على النقيض من ذلك ، تابع إيخلوف: الطبقة الرئيسية الجديدة الخاصة بك غير قادرة على الحكم في ظل مثل هذه الديمقراطية ... إنهم بحاجة إلى أساس جذاب لنموذج آخر غير ديمقراطي. هنا تناسب الأوراسية بشكل غير عادي الفاتورة. وهي تقدم ما يلي: نموذج استبدادي - كاريزمي (أوتوقراطي). الخدمة غير الأنانية والزهدية للنظام كأعلى شكل من أشكال الشجاعة (متلازمة القوة العظمى الخلاصية) ؛ اتفاق الأقليات العرقية والدينية على لعب دور ثانوي ؛ وكراهية الأجانب الإمبراطورية.  ما الذي يدفع النظام للبحث عن أيديولوجية جديدة في الأوراسية؟"

 سأل الصحفي دميتري راديشيفسكي. أجاب: "هنا في الأوراسية على غرار دوجين توجد أفكار تلبي الاحتياجات النفسية للمجتمع: هناك بديل عن علاقة الحب الفاشلة مع الغرب ؛ هناك التقليد [الروسي] للخلاصية ؛ وهناك القرب من آسيا .... النظام في حاجة إلى أيديولوجية جديدة ، ولكن إلى أيديولوجية تقليدية "متكاملة وكبيرة". يتم الجمع بين كل هذا لحسن الحظ في الأوراسية ".


الجغرافيا السياسية كتاب دوجين لعام 1997

من المفترض أن تصدم آراء دوجين المتشددة حول الجغرافيا السياسية ، كما تم التعبير عنها في "كتابه المدرسي" لعام 1997 ، القراء الغربيين على أنها فظة ومجنونة ، مما يمثل تحسنًا طفيفًا على هذيان نائب رئيس دوما فلاديمير جيرينوفسكي. على الرغم من أن أفكار دوجين ووصفاته متطرفة وخطيرة وطاردة بالفعل ، إلا أنه ينبغي التأكيد على أنها تندرج بشكل كبير في تقليد كتابات الفاشيين في فترة ما بين الحربين وأتباع درويت الأوروبي الجديد. من الناحية التاريخية ، أدى الفكر الفاشي أكثر من مرة إلى توسع متفجر. وتجدر الإشارة إلى أن دوجين لا يركز بشكل أساسي على الوسائل العسكرية كوسيلة لتحقيق الهيمنة الروسية على أوراسيا. بدلاً من ذلك ، فهو يدعو إلى برنامج معقد إلى حد ما للتخريب وزعزعة الاستقرار والمعلومات المضللة بقيادة الخدمات الخاصة الروسية ، مدعومًا باستخدام صارم ومتشدد لثروات روسيا من الغاز والنفط والموارد الطبيعية للضغط على الدول الأخرى وتنميتها للانحناء لإرادة روسيا. يبدو أن دوجين لا يخشى الحرب على الأقل ، لكنه يفضل تحقيق أهدافه الجيوسياسية دون اللجوء إليها.

بالاعتماد على الأدب المكثف للقرن العشرين حول الجغرافيا السياسية - وخاصة عن مدرسة كارل هوشوفر الألمانية في فترة ما بين الحربين - يفترض دوجين صراعًا ثنائيًا بدائيًا بين "الأطلسية" (الدول والحضارات البحرية ، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا) و "الأوراسية" (الدول والحضارات القائمة على الأرض ، مثل أوراسيا وروسيا). كما لاحظ واين ألينسورث ، بمجرد أن يخترق المرء ما تحت سطح لغة دوجين التي تبدو منطقية وعلمية في أسس الجغرافيا السياسية ، يدرك المرء أن "الجغرافيا السياسية لدوجين صوفية وغامضة بطبيعتها ، وشكل الحضارات العالمية والنواقل المتضاربة للتطور التاريخي هي يتم تصويره على أنه تم تشكيله بواسطة قوى روحية غير مرئية تتجاوز إدراك الإنسان ".  في أطروحة دوجين ، كما أكد ألينزورث ، خصص المؤلف "فكرة" الجيوبوليتيكية البلجيكية جان تيريارت ، التي "اعترفت بالاتحاد السوفييتي المروّس باعتباره المعقل الأخير للحضارة في أوروبا التي اجتاحتها نزعة الاستهلاك الأمريكية التي لا جذور لها". وكان تيريارت قد دعا في وقت سابق إلى تشكيل "تحالف مقدس" جديد بين الاتحاد السوفياتي وأوروبا يهدف إلى بناء "إمبراطورية أوروبية سوفيتية" تمتد من فلاديفوستوك إلى دبلن وستحتاج أيضًا إلى التوسع في الجنوب "، لأنها تتطلب ميناء على المحيط الهندي ".


كارثة جورباتشوف

تمثل سنوات غورباتشوف (1985-1991) ، في نظر دوجين ، واحدة من أكثر الهزائم الجيوسياسية إيلامًا في تاريخ روسيا وأوراسيا والاتحاد السوفيتي الألفي. ابتداءً من عام 1989 ، أصبح من الواضح أنه "لا أحد في القيادة السوفيتية كان قادرًا على تفسير منطق السياسة الخارجية التقليدية [السوفيتية] ، ونتيجة لذلك ، حدث تدمير سريع للغاية للكائن الحي الأوراسي الهائل .. . ". بشكل غير متوقع ، "وجد الاتحاد السوفيتي نفسه في نفس الوضع تقريبًا مثل ألمانيا ما بعد الحرب - فقد تقلص تأثيره العالمي إلى لا شيء ، وتضاءلت أراضيه بشكل حاد ، وتحول اقتصاده ومجاله الاجتماعي إلى أطلال". كما يزعم دوجين أن الكارثة السوفيتية في 1989-1991 ، مثل الكارثة الألمانية السابقة ، نتجت عن فشل قادة البلاد في الاهتمام بنصائح الجيوسياسيين. تجاهل هتلر نصيحة كارل هوشوفر وغيره من المتخصصين عندما قرر غزو الاتحاد السوفيتي في عام 1941. وبطريقة مماثلة ، كانت "دائرة سرية معينة  وأصوات أخرى تدعو إلى دورة "أوروبية آسيوية" لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ، ولكن ذهب نصيحتهم أدراج الرياح . كما يراه دوجين ، فإن "المشروع" الذي حاول المصلحون الروس المتغربون تنفيذه خلال سنوات غورباتشوف ويلتسين قد فقد مصداقيته بالكامل الآن: "هذا المشروع ينفي قيم مثل الشعب ، الأمة ، التاريخ ، المصالح الجيوسياسية ، العدالة الاجتماعية ، العامل الديني ، إلخ. فيه ، كل شيء مبني على مبدأ الفعالية الاقتصادية القصوى ، على أولوية الفرد ، على الاستهلاك ، و "السوق الحرة". كما يعتقد دوجين أن الأطلسيين (خاصة الولايات المتحدة) خططوا بوعي لإسقاط حلف وارسو والاتحاد السوفيتي. "ولذلك فإن هارتلاند مطالبة بسداد قيمة الطاقة البحرية بنفس العملة". الهدف ، كما يراه دوجين ، هو إنعاش وإعادة تنشيط أوراسيا / روسيا بعد الضربات الجيوسياسية شبه المميتة التي امتصتها من 1989 إلى 1991. بعد ذلك يؤكد دوجين أن الاتحاد الروسي الحالي ، الذي ظهر عام 1991 من تحت أنقاض الاتحاد السوفيتي ، ليس دولة كاملة ، ولكنه "تشكيل انتقالي في العملية الجيوسياسية العالمية الواسعة والديناميكية". كما أن الدول الجديدة التي ظهرت إلى حيز الوجود في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق ، باستثناء أرمينيا فقط ، لا تمتلك أي علامات على الدولة الأصيلة. وبدلاً من ذلك ، فإنهم يمثلون بنى سياسية مصطنعة سريعة الزوال. في المقابل ، يُنظر إلى الشعب الروسي على أنه "حامل حضارة فريدة". الروس هم شعب خلاصي ، يمتلك "أهمية عالمية شاملة للبشرية". يصر دوجين على أن الشعب الروسي لا يمكنه أن يخدم إلا كعرق أساسي لإمبراطورية شاسعة: "لم يضع الشعب الروسي هدفه أبدًا في إقامة دولة أحادية العرق وموحدة عنصريًا" . مثل هذه النظرة المشوهة تمثل "الخط الأطلسي الذي يخفي نفسه على أنه" القومية الروسية ". يحذر دوجين بشدة من أن "رفض وظيفة بناء الإمبراطورية سيعني نهاية الشعب الروسي كواقع تاريخي ، كظاهرة حضارية. مثل هذا التنصل سيكون بمثابة انتحار وطني". محرومون من إمبراطورية ، الروس سوف "يختفون كأمة". المسار الوحيد القابل للتطبيق ، من وجهة نظر دوجين ، هو أن ينتعش الروس من كارثة 1989-1991 من خلال إعادة إنشاء "إمبراطورية فوق وطنية" عظيمة ، حيث يحتل الروس "موقعًا متميزًا". وستكون نتيجة جهود إعادة البناء هذه "دولة قارية عملاقة في إدارتها سيلعبون [الروس] الدور المركزي". ويشير دوجين إلى أن هذا النموذج العرقي يشبه إلى حد بعيد نموذج الاتحاد السوفيتي السابق. من أجل تسهيل إعادة إنشاء إمبراطورية قارية شاسعة تسيطر عليها روسيا ، دعا دوجين إلى إطلاق العنان للمشاعر القومية الروسية ، ولكن من نوع معين. يكتب: "هذه القومية [الروسية] يجب ألا تستخدم مصطلح الدولة ، بل المصطلحات الثقافية الإثنية ، مع التركيز بشكل خاص على فئات مثل" نارودنوست "و" الأرثوذكسية الروسية ". أن تكون في المقدمة وفي المنتصف: "على الروس أن يدركوا أنهم أرثوذكس في المقام الأول ؛ [عرقية] الروس في المرتبة الثانية ؛ وفي المرتبة الثالثة فقط ، الناس ". هناك حاجة ، كما يصر دوجين ، على" الكنيسية الكاملة "للروس ، لكي يُنظر إلى الأمة الروسية ببساطة على أنها" الكنيسة ". ويعتقد أن مثل هذا التركيز، كما يعتقد ، يجب - - جنبًا إلى جنب مع التركيز المستمر على الماضي المجيد والمستقبل المشرق للأمة الروسية - ساعد في إحداث "الطفرة الديموغرافية" التي يحتاج إليها الروس بشدة اليوم. ولن تكون الحوافز الاقتصادية بحد ذاتها غير كافية للترويج لمثل هذه الطفرة. ويخلص دوجين إلى أن "الشعار يجب أن يُطرح باستمرار:" الأمة هي كل شيء. الفرد ليس شيئًا ". هذا الشعار يلخص واحدة من أعز معتقدات دوجين.


التمزق الاطلسي

 باستخدام "إستراتيجية الأناكوندا" (وهو مصطلح اقترضه دوجين من الجيوسياسيين الألمان بين الحربين والمستخدم للإشارة إلى بريطانيا) ، يُنظر إلى الولايات المتحدة وحلفائها المقربين على أنهم يمارسون ضغطا بلا هوادة على جميع المناطق الساحلية الأوروبية الآسيوية . باتباع المبادئ التي أعلنها فرانسيس فوكوياما من بين آخرين، تسعى الولايات المتحدة إلى زرع نموذجها السياسي والاقتصادي في جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك، ووفقًا لتعليمات بول وولفويتز ، تحاول الولايات المتحدة تقليص دور روسيا إلى دور "قوة إقليمية" متدنية . بطريقة ساخرة، تريد الولايات المتحدة "تحويل روسيا إلى" محمية عرقية "حتى تتمكن من السيطرة الكاملة على العالم" . كيف يمكن إحياء إمبراطورية روسية أوراسية لإحداث "الهزيمة الجيوسياسية للولايات المتحدة" ؟ يجادل دوجين بأن الرد المناسب على التهديد الأطلسي الذي يلوح في الأفق هو أن تقوم الإمبراطورية الأوراسية الروسية المتجددة بتوجيه جميع قواها (باستثناء إشعال حرب ساخنة) ، وكذلك تلك التي لدى بقية البشر ، ضد الأناكوندا الأطلنطي. كتب دوجين: "على أساس البناء الجيوسياسي لهذه الإمبراطورية [الأوراسية] ، يجب وضع مبدأ أساسي واحد - مبدأ" العدو المشترك ". إنكار الأطلسية ، ورفض السيطرة الاستراتيجية للولايات المتحدة ، ورفض تفوق قيم السوق الاقتصادية الليبرالية - وهذا يمثل الأساس الحضاري المشترك ، والدافع المشترك الذي سيمهد الطريق لسياسة قوية و الاتحاد الاستراتيجي ". إن معاداة اليابانيين لأمريكا "، الذين يتذكرون جيدًا الإبادة الجماعية النووية ووصمة الاحتلال السياسي" ، يجب إطلاقها ، فضلاً عن العداء الشديد لأمريكا لدى الإيرانيين المسلمين الأصوليين . على الصعيد العالمي ، يعلن دوجين أن "كبش الفداء سيكون الولايات المتحدة على وجه التحديد". إن إحدى الطرق التي ستتمكن من خلالها روسيا من قلب الدول الأخرى ضد الأطلسي هي الاستخدام الذكي لثروات البلاد من المواد الخام. يكتب دوجين: "في المرحلة الأولى [من النضال ضد الأطلسي] ، يمكن لروسيا أن تعرض على شركائها المحتملين في الشرق والغرب مواردها كتعويض عن تفاقم علاقاتهم مع الولايات المتحدة". لحث الأناكوندا على تحرير قبضتها على ساحل أوراسيا ، يجب مهاجمتها بلا هوادة على أراضيها الأصلية ، وداخل نصف الكرة الأرضية الخاص بها ، وفي جميع أنحاء أوراسيا. يصر دوجين على أنه "يجب تفعيل جميع مستويات الضغط الجيوسياسي في وقت واحد. داخل الولايات المتحدة نفسها ، هناك حاجة إلى الخدمات الخاصة الروسية وحلفائها "لإثارة جميع أشكال عدم الاستقرار والانفصالية داخل حدود الولايات المتحدة (من الممكن الاستفادة من القوى السياسية للعنصريين الأفرو أمريكيين ) ". ويضيف دوجين: "من المهم بشكل خاص إدخال الفوضى الجيوسياسية في النشاط الأمريكي الداخلي ، وتشجيع جميع أنواع الانفصالية والصراعات العرقية والاجتماعية والعرقية ، ودعم جميع الحركات المنشقة - المتطرفة والعنصرية والطائفية ، وبالتالي زعزعة الاستقرار". العمليات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة سيكون من المنطقي أيضًا في نفس الوقت دعم الميول الانعزالية في السياسة الأمريكية ". يكتب دوجين أن "المشروع الأوروبي الآسيوي يقترح التوسع الأوراسي في أمريكا الجنوبية والوسطى بهدف تحريرهم من سيطرة الشمال".  ونتيجة لجهود زعزعة الاستقرار التي لا تلين ، ستضطر الولايات المتحدة وحليفتها الوثيقة بريطانيا في النهاية إلى مغادرة شواطئ أوراسيا (وأفريقيا). يتنبأ دوجين أن "الصرح الضخم الكامل للأطلسي سوف ينهار". إنه يعتقد أن هذا يمكن أن يحدث بشكل غير متوقع ، كما حدث مع الانهيار المفاجئ لحلف وارسو والاتحاد السوفيتي. بعد طردها من شواطئ أوراسيا ، سيُطلب من الولايات المتحدة "حصر نفوذها في الأمريكتين".


 محور موسكو-برلين :

ضمن الامتداد الإقليمي لأوراسيا ، يركز برنامج دوجين على تشكيل ثلاثة محاور رئيسية: موسكو - برلين ، وموسكو - طوكيو ، وموسكو - طهران. فيما يتعلق بمستقبل أوروبا ، كتب دوجين: "تتمثل مهمة موسكو في تمزيق أوروبا بعيدًا عن سيطرة الولايات المتحدة (الناتو) ، والمساعدة في توحيد أوروبا ، وتعزيز العلاقات مع أوروبا الوسطى تحت رعاية القوى الخارجية الأساسية. محور موسكو ـ برلين. أوراسيا بحاجة إلى أوروبا موحدة صديقة ". في الدفاع عن هذا المسار ، يبدو أن دوجين قد تأثر بكتابات اليمين الأوروبي الجديد ، الذي دافع منذ سبعينيات القرن الماضي عن "الحياد الصارم لأوروبا وخروجها من الناتو" .


محور موسكو وبرلين:

كتب دوجين أن أساس هذا المحور سيكون "مبدأ العدو المشترك [أي الولايات المتحدة]". في مقابل التعاون مع روسيا في هذا المشروع ، يقترح دوجين إعادة ألمانيا "كالينينغراد أوبلاست (بروسيا الشرقية)". نتيجة للتحالف الكبير بين روسيا وألمانيا ، سيقوم البلدان بتقسيم الأراضي الواقعة بينهما إلى مناطق سيطرة فعلية. لن يكون هناك "طوق صحي". ويؤكد دوجين أن "مهمة أوراسيا تتمثل في التأكد من عدم وجود مثل هذا الطوق [الصحي]". ويصر على أن روسيا وألمانيا معًا "يجب أن يقررا جميع المسائل المتنازع عليها معًا ومسبقًا".  سيتم تشجيع اندماج مساحات من أراضي أوروبا الغربية والوسطى في مجال الهيمنة الألماني بشكل مباشر وتحريضه من قبل أوراسيا وروسيا. يجب دعم تشكيل "كتلة فرنسية ألمانية" بشكل خاص. يؤكد دوجين: "في ألمانيا وفرنسا ، هناك تقليد راسخ مناهض للأطلسي". من المرجح أن يمتد نفوذ ألمانيا إلى الجنوب - إلى إيطاليا وإسبانيا. فقط بريطانيا، "قاعدة عائمة خارج الحدود الإقليمية للولايات المتحدة" هو أن يتم قطعها ونبذها. بالانتقال شرقاً، يقترح دوجين منح ألمانيا هيمنة سياسية فعلية على معظم الدول البروتستانتية والكاثوليكية الواقعة في وسط وشرق أوروبا. يُنظر إلى دولة فنلندا "غير المستقرة" ، والتي "تدخل تاريخيًا في الفضاء الجيوسياسي لروسيا" على أنها استثناء. في هذه الحالة، يقترح دوجين أن تُدمج فنلندا مع جمهورية كاريليا المتمتعة بالحكم الذاتي التابعة للاتحاد الروسي في تكوين إقليمي عرقي واحد "يتمتع باستقلالية ثقافية قصوى، ولكن مع اندماج استراتيجي في الكتلة الأوراسية". ويضيف دوجين أن المناطق الشمالية من فنلندا يجب استئصالها والتبرع بها لأوبلاست مورمانسك. فيما يتعلق بموضوع دول البلطيق، يقترح دوجين الاعتراف بإستونيا على أنها تقع في نطاق ألمانيا. من ناحية أخرى، يجب منح "وضع خاص" لكل من لاتفيا وليتوانيا، مما يشير إلى أنه سيتم تخصيصهما للمجال الأوراسي الروسي. وبولندا أيضا ستمنح مثل هذا "الوضع الخاص". وبخصوص البلقان ، خصص دوجين "شمال شبه جزيرة البلقان من صربيا إلى بلغاريا" إلى ما يسميه "الجنوب الروسي" . "صربيا هي روسيا" ، هذا هو العنوان الفرعي في الكتاب يعلن بشكل لا لبس فيه . في رأي دوجين ، ستسعى جميع دول "الشرق الأرثوذكسي الجماعي" بمرور الوقت إلى إقامة روابط ملزمة مع "موسكو روما الثالثة" ، وبالتالي رفض أفخاخ "الغرب العقلاني الفردي" . يتوقع دوجين أن تصبح دول رومانيا ومقدونيا و "البوسنة الصربية" وحتى اليونان العضو في الناتو في الوقت المناسب أجزاءً مكونة من الإمبراطورية الأوراسية الروسية. أما بالنسبة لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الواقعة داخل أوروبا ، فيجب أن تستوعب أوراسيا وروسيا جميعًا ، في رأي دوجين (باستثناء إستونيا). يؤكد دوجين بشكل قاطع أن "بيلاروسيا يجب أن يُنظر إليها على أنها جزء من روسيا" . بطريقة مماثلة ، يُنظر إلى مولدوفا على أنها جزء مما يسميه دوجين "الجنوب الروسي". حول السؤال الرئيسي لأوكرانيا ، يؤكد دوجين: "أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي. ليس لها أهمية ثقافية معينة أو أهمية عالمية، ولا تفرد جغرافي، ولا حصرية عرقية". ويحذر من أن "أوكرانيا كدولة مستقلة ذات طموحات إقليمية معينة تمثل خطرًا هائلاً على كل أوراسيا، وبدون حل المشكلة الأوكرانية، فمن العبث عمومًا التحدث عن السياسة القارية". ويضيف أن "الوجود المستقل لأوكرانيا (خاصة داخل حدودها الحالية) يمكن أن يكون له معنى فقط باعتباره" طوقًا صحيًا ". ومع ذلك، كما رأينا، بالنسبة إلى دوجين، فإن كل هذه "الأطواق الصحية" غير مقبولة. زد على ذلك يتكهن دوجين بأن ثلاث مناطق غربية متطرفة في أوكرانيا - فولينيا ، غاليسيا ، وترانس كارباثيا - المكتظة بالسكان مع التوحيد وغيرهم من الكاثوليك ، يمكن السماح لها بتشكيل "اتحاد غربي أوكراني" مستقل. لكن يجب ألا يُسمح تحت أي ظرف من الظروف بأن تخضع هذه المنطقة للسيطرة الأطلسية. باستثناء هذه المناطق الغربية الثلاث ، تعتبر أوكرانيا ، مثل بيلاروسيا ، جزءًا لا يتجزأ من أوراسيا وروسيا. محور موسكو وطوكيو: يكمن حجر الزاوية في نهج دوجين في الشرق الأقصى في إنشاء "محور موسكو وطوكيو". فيما يتعلق باليابان ، يؤكد أن "مبدأ العدو المشترك [أي الولايات المتحدة]" سيكون حاسمًا . كما في حالة ألمانيا ، سيتم عرض صفقة إمبراطورية كبرى على اليابان. يوصي دوجين بإعادة الكوريل إلى اليابان حيث ستتم إعادة كالينينجراد إلى ألمانيا. لأغراض التوسع في المستقبل ، يجب تشجيع اليابان على فرض "نظامها الجديد" الخاص بها ، والذي خططت لتنفيذه في ثلاثينيات القرن الماضي ، في المحيط الهادئ ". ويشير دوجين إلى أن الهند ستكون حليفًا مهمًا آخر لأوراسيا وروسيا ، والتي ستتم دعوتها ، مثل اليابان ، للانضمام إلى روسيا في جهود احتواء وربما تفكيك الصين. وستتم دعوة الكوريتين وفيتنام أيضًا للمشاركة في هذا الجهد . يُنظر إلى منغوليا على أنها تشكل "حليفًا استراتيجيًا لروسيا" وسيتم استيعابها مباشرة في أوراسيا وروسيا. مثل الولايات المتحدة ، يُنظر إلى جمهورية الصين الشعبية على أنها تشكل خطرًا هائلاً على أوراسيا وروسيا. بمجرد أن رفضت مسار ماو الصحي المتمثل في "اشتراكية الفلاحين" ، شرعت الصين في إجراء إصلاحات اقتصادية تم تحقيقها "على حساب تسوية عميقة مع الغرب". الصين ، من وجهة نظر دوجين المنحرفة ، على وشك أن تكون حقيقة أطلسية. في عدة نقاط من كتابه ، أعرب دوجين عن مخاوفه من أن الصين قد تقوم في وقت ما في المستقبل "بزحف يائس إلى الشمال - في كازاخستان وسيبيريا الشرقية". في قسم بعنوان "سقوط الصين" ، حذر دوجين مباشرة: "الصين هي الجار الجيوسياسي الأكثر خطورة لروسيا في الجنوب". ويؤكد أن الصين تشكل خطرًا على روسيا "كقاعدة جيوسياسية للأطلسي وعلى حد ذاتها ، كدولة ذات تماسك ديموغرافي متزايد في السعي وراء" الأرض الحرام ". كتعويض جيوسياسي عن خسارة مناطقها الشمالية ، يوصي دوجين بضرورة تقديم التنمية "في اتجاه جنوبي - الهند الصينية (باستثناء فيتنام) ، والفلبين ، وإندونيسيا ، وأستراليا". تشكل هذه المناطق مجال الهيمنة المناسب للصين. وتجدر الإشارة إلى أنه في قسم التذييل المطول الملحق بإصدار 1999 من أسس الجغرافيا السياسية ، أعاد دوجين تأكيد إيمانه بضرورة قيام أوراسيا وروسيا بتقسيم الصين. في مقابلة أجراها دوجين في أواخر تموز (يوليو) 2001 ، تراجع قليلاً عن هذا الموقف - على الأرجح احتراماً لموقف بوتين المعلن بشأن الصين - ولكن إلى حدٍ ما فقط. واستمر في الإصرار على أن علاقات روسيا مع اليابان وإيران والهند أكثر حيوية وأهمية من العلاقات مع الصين.


محور موسكو - طهران:

 الجزء الأكثر طموحًا وتعقيدًا من برنامج دوجين يتعلق بالجنوب ، حيث النقطة المحورية هي محور موسكو - طهران. يكتب: "تكمن فكرة التحالف القاري الروسي الإسلامي في أساس الاستراتيجية المناهضة للأطلسي.  تحالفه قائم على الطابع التقليدي للحضارة الروسية والإسلامية". يتابع: "بشكل عام ، تمثل المنطقة الإسلامية بأكملها واقعًا جيوسياسيًا ودودًا بشكل طبيعي فيما يتعلق بالإمبراطورية الأوراسية ، حيث أن التقاليد الإسلامية ... تتفهم تمامًا عدم التوافق الروحي بين أمريكا والدين. يرى الأطلسيون أنفسهم الإسلام العالمي ، إجمالاً ، خصمهم المحتمل ". وكنتيجة لتحالف كبير واسع بشكل خاص سيتم إبرامه مع إيران ، يؤكد دوجين أن أوراسيا وروسيا ستستمتع باحتمال تحقيق حلم روسي عمره قرون ، وأن تصل أخيرًا إلى "البحار الدافئة" في المحيط الهندي. يكتب: "فيما يتعلق بالجنوب ، فإن" المحور الجيوسياسي للتاريخ [لروسيا] له ضرورة حتمية واحدة - التوسع الجيوسياسي إلى شواطئ المحيط الهندي ". يكتب: "بعد أن حصلت على وصول جيوسياسي - في المقام الأول ، قواعد بحرية - على الشواطئ الإيرانية ، ستتمتع أوراسيا بأمن كامل من إستراتيجية" حلقة أناكوندا ". وشدد على أن أوراسيا وروسيا وإمبراطورية إيران سيكون لهما "نفس الاتجاه الجيوسياسي"

نتيجة لهذا التحالف الكبير ، يجب أن تكون أوراسيا وروسيا مستعدة لتقسيم الغنائم الإمبراطورية مع "الإمبراطورية الإسلامية في الجنوب". بعد طرح السؤال "ما هو الجنوب الروسي؟" يدعي دوجين أنه يشمل "القوقاز [كلها]" ؛ "الشواطئ الشرقية والشمالية لبحر قزوين (أراضي كازاخستان وتركمانستان)" ؛ "آسيا الوسطى ، بما في ذلك كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان" ؛ بالإضافة إلى "منغوليا". وأشار إلى أنه حتى هذه المناطق يجب أن يُنظر إليها على أنها "مناطق توسع جيوسياسي إضافي في الجنوب وليست" حدودًا أبدية لروسيا ". "السيطرة على القوقاز ،" يلاحظ دوجين في نقطة ما في الكتاب ، "يفتح ... مخرجًا إلى" البحار الدافئة "" سيتم تقسيم الامتداد الواسع للأراضي الواقعة إلى الجنوب من الاتحاد الروسي مع إمبراطورية إيرانية مستقبلية ومع أرمينيا أيضًا. يكتب دوجين أن "دورًا جيوسياسيًا خاصًا تلعبه أرمينيا ، وهي حليف تقليدي وموثوق لروسيا في القوقاز. وستكون أرمينيا بمثابة القاعدة الاستراتيجية الأكثر أهمية في إحباط العدوان التركي في الشمال و شرق البلاد".." لذلك من الضروري إنشاء "المحور [الفرعي] موسكو - يريفان - طهران" . ويؤكد دوجين بموافقة أن "الأرمن هم شعب آري ... [مثل] الإيرانيين والأكراد" .

تمثل أذربيجان أحد الأمثلة على كيفية اختيار الثلاثي أوراسيا وروسيا وإيران وأرمينيا لتقسيم الغنائم. يحذر دوجين من أنه "إذا حافظت أذربيجان على توجهها [الحالي] المؤيد لتركيا، فسيتم تقسيم تلك" الدولة "بين إيران وروسيا وأرمينيا. وينطبق الشيء نفسه تقريبًا على مناطق أخرى من القوقاز- - الشيشان، أبخازيا، داغستان، إلخ. كتب دوجين في مكان آخر "من المنطقي ربط أذربيجان بإيران". وبحسب دوجين، سيتم دمج كازاخستان "في كتلة قارية مشتركة مع روسيا". وستكون أبخازيا أيضا مرتبطة "مباشرة بروسيا". وهو يتكهن بإمكانية دمج "أوسيتيا الموحدة" في أوراسيا وروسيا. وماذا عن باقي أجزاء جورجيا؟

يشير دوجين إلى أن ما تبقى من هذا البلد المسيحي الأرثوذكسي بعد أن استوعبت روسيا أبخازيا وجنوب أوسيتيا قد يتم تسليمه إلى إيران كغنائم وعقاب مناسب، على الأرجح، لمسارها المستقل الشائك تجاه روسيا في فترة ما بعد الشيوعية. ووفقًا لدوجين، فإن أحد الأسباب الرئيسية لإبرام تحالف كبير مع إيران هو حاجة روسيا إلى حليف مسلم في صراعها ضد تركيا العلمانية و "السعودية الإسلامية" بوهابية خطيرة. يجب أن تُعامل تركيا بقسوة مثل الولايات المتحدة والصين. يكتب دوجين: "من المهم أن نأخذ في الاعتبار ضرورة إلحاق دور" كبش فداء "لتركيا في هذا المشروع [الأوراسي]". يجب استفزاز الأكراد والأرمن والأقليات التركية الأخرى للثورة. يشدد دوجين على ضرورة خلق "صدمات جيوسياسية" داخل تركيا. مثل أذربيجان، يتوقع دوجين أن تركيا يمكن أن تقسم أوصالها من قبل أوراسيا وروسيا وإيران وأرمينيا في المستقبل. إذا لم يحدث مثل هذا التقسيم، فيجب تشجيع تركيا، مثل الصين، على التوسع جنوبًا حصريًا، "في العالم العربي من خلال بغداد ودمشق والرياض".


خاتمة

 في لحظة مليئة بالإمبراطورية المبتهجة ، كشف دوجين عن الأبواق في مرحلة ما من كتابه ، "لم تنته المعركة من أجل الحكم العالمي للروس [الإثنيين]". من الضروري قول الحقيقة غير المتجسدة. المستشار الرسمي للجغرافيا السياسية لرئيس مجلس الدوما الروسي هو فاشي روسي خطير. كما لوحظ ، يقال إن دوجين يتمتع أيضًا بعلاقات وثيقة مع عناصر في الإدارة الرئاسية ، والأجهزة السرية ، والجيش ، والبرلمان. على الرغم من أنه لا ينبغي المبالغة في تأثير دوجين ، إلا أنه لا ينبغي التقليل من شأنه أيضًا. مطلوب من المرء أن يتساءل عما إذا كانت الفاشية الروسية - وهي نزعة تُظهر ازدراءً للحدود الدولية والقانون الدولي - لديها فرصة واقعية للظهور كـ "التفكير السياسي الجديد" في الشؤون الدولية في روسيا فلاديمير بوتين. في أواخر عام 1998 ، حذر الأكاديمي الروسي أندريه تسيغانكوف على نحو ملائم من أن خطاب دوجين و "الأوراسيين" ذوي التفكير المماثل هو في الواقع "خطاب الحرب".  في مقابلة أجراها معه صحفي من صحيفة الجيش في مايو 2001 ، أوضح دوجين بصبر: "الفضاء الأوراسي هو أراضي روسيا ، ودول رابطة الدول المستقلة وجزء من الأراضي المتاخمة للغرب والجنوب ، حيث يوجد لا يوجد توجه جيوسياسي واضح. كل هذا يشمل الفضاء الإستراتيجي الأوروآسيوي المفهومة على نطاق واسع ". لم يقدم مراسل الجيش أي اعتراض على هذا المخطط المجنون تمامًا.  للتلخيص ، تمثل أسس ألكسندر دوجين للجغرافيا السياسية رفضًا قاسيًا وساخرًا لهيكل العلاقات الدولية الذي أقيم بشق الأنفس في أعقاب مذبحة الحرب العالمية الثانية وظهور الأسلحة النووية. يبدو أن دوجين و "نظامه" يشبهان فترة ما بين الحربين القابلة للاشتعال وصعود الفاشية في أوروبا ، مع الأوهام الإمبريالية الفاضحة للدوسي والفوهرر وغيرهما من الديماغوجيين الفاشيين. هل يمكن أن تكون العودة إلى ماضٍ مدمر "المكاسب" التي ستحصل عليها روسيا والغرب لأنهما أخيرًا وبجهد هائل أنهى الحرب الباردة؟

بقلم جون ب. دنلوب ، معهد هوفر. يركز بحثه الحالي على الصراع في الشيشان ، والسياسة الروسية منذ عام 1985 ، وروسيا والدول التي خلفت الاتحاد السوفيتي السابق ، والقومية الروسية ، وسياسة الدين في روسيا. نُشرت الدراسة لأول مرة في مجلة الديمقراطية 12.1 (31 كانون الثاني (يناير) 2004)

الصَّمْتُ في حَرَمِ الغبَاءِ ذكاءُ/: الدكتور حاتم جوعيه



          لقد أعجبتني هذه الجملة المنشورة على صفحة أحد الاصدقاء  في الفيسبوك : " الصَّمتُ في حرمِ الغباءِ  ذكاءُ " ، وهي مأخوذة  بتصرف من البيت الشعري المشهور للشاعر الكبير نزار قباني ، وهو :

(( وإذا وقفتُ  أمامَ  حُسنكِ صامتًا    فالصَّمتُ في  حرَمِ الجمالِ  جمالُ )) 

  فنظمتُ  أنا هذه الأبيات الشعريَّة ارتجالا ومعارضة  لها :

  

إنَّ    الذي   فيهِ   النُّهَى    وَذكاءُ       في  صَمْتِهِ   بين   الحمير ِ   دَهَاءُ

وَإذا   وَقفتُ  أمامَ   تيْس ٍ  صامتًا       فالصَّمتُ   في  حرَم ِ  الغباءِ  ذكاءُ 

كم  جاهلٍ  في  عصرنا  مُتَفلسِفٌ       والشّعبُ   صارَ    يقُودُهُ    البلهاءُ

كم  من حكيم ٍ  في الهَوانِ  مُنكّسٌ       وَيذمُّهُ        الجبناءُ      والسُّخفاءُ      

كلُّ  المسالكِ  أغلقتْ   في  وجهِهِ        آمالهُ      غابتْ    وَخابَ     نِداءُ

إنَّ  الفسادَ   إذا    تجمّعُ     شملهُ        سيحلُّ     ليلٌ    دامسٌ      ووَباءُ 

وَسيرتعُ  الأوباشُ في وَحْلِ  الخنا       والشّرُّ   يطغى .. يختفي   الشّرفاءُ

إنَّ  الكريمَ  لا  يبيتُ على  الأذى        والموتُ    شهدٌ    عندهُ    ورَجاءُ

أضحَتْ نوادي الإفكِ وَكرًا للأذى        يرتادُهَا       الأوغادُ      واللقطاءُ

مأجورةٌ   وَعميلة ٌ.. من    نهجِهَا        يفرنقعُ        الأفذاذ ُ    والعظماءُ

هذي    النوادي    إنّها     لمنابرٌ        للإمَّعاتِ       يؤُمُّهَا        العملاءُ 

وعلى الأشاوسِ عتّمُوا يا  يوحَهُمْ        وَعلى  الأراذلِ   رُكّزتْ   أضواءُ 

قد   أكرَمُوا  كلَّ  الحميرِ   بخِسَّةٍ        للمُبدعِينَ       تجاهلٌ        وَخفاءُ

وَمُكرَّمٌ   تحتَ  الحضيضِ   مُعفّرٌ       كم   يُكرمُ   الحمقى  هنا   الجبناءُ

وَهبنّقهْ ( سحبان  وائل )  قد  غدَا        وهُوَ   ابنُ  سينا   بلسمٌ     وشفاءُ

الإمّعاتُ   اليوم   أسيادُ    الوَرى        والمُفسدونَ      النّخبة ُ    الخطباءُ

كلُّ  العضاريطِ  انتشَوْا  بوظائف       وَمصيرُهُمْ    نارُ    اللظى    وَبلاءُ

نالَ  الوظائفَ   أحمقٌ   أو   آبقٌ       مَسْخٌ    عميلٌ     خائنٌ       حرباءُ 

هذا   زمانٌ   للأراذلِ   قد   غدَا       والحُرُّ    تُوصَدُ     دونهُ    الأرجَاءُ

لكعُ  بنُ  لكعٍ   قد  غدَا  مُتزَعِّمًا       الحقُّ      يُوأدُ     والحياةُ      شقاءُ

يومُ  التّنادي  قد  دَنا   فاستبشرُوا       يا      أيُّهَا     الفقراءُ     والتّعسَاءُ

أنا  شاعرُ  الشّرفاءِ   كلّ  مُكافح ٍ       خاضَ   النّضالَ    جبينُهُ    العلياءُ

أنا  شاعرُ الشّعراءِ  دُونَ  مُنازع ٍ       الكلُّ      يشهدُ      إنّني     العنقاءُ

إنّي انا  الصوتُ الذي  بهَرَ الدُّنى        تختالُ     من    أنغامِهِ     الخيلاءُ

شعري هُوَ الشعرُ الذي  بُهِرتْ به       كلُّ    الورى    والغيدُ   والشّعراءُ

الجنُّ   تعجزُ  أن   تجيءَ   بمثلِهِ        والإنسُ     والفصحاءُ     والبلغاءُ

عند   الأراذلِ   لم   أكرَّمْ ..إنّني        لضميرِ  شعبي   الفارسُ   الوَضّاءُ

أنا     ثورةٌ      قوميَّة ٌ    عربيَّة ٌ      تاقتْ      لِحرِّ    أوارِهَا     البيداءُ

وَهويَّة ُ الأجيالِ   رمزُ  صُمودِهَا       الحقُّ     ديني    والكفاحُ       بقاءُ

وَهويَّتي    أممٌ    تلوكُ    قيودَهَا        ونضالهَا    أن    يرحلَ    الأعداءُ

خُضتُ الحُتوفَ مُكافحًا وَمُناضلا       وَلأجلِ     شعبي   ثورةٌ      وَفداءُ

وسطَ اللهيبِ قضيتُ عُمري ثائرًا       وأنا    المبادىءُ    شعلة ٌ    وذكاءُ

هذا  صراطي  دربُ كلِّ  مٌناضلٍ       وعليهِ     سارَ    النخبة ُ   الشّرفاءُ

أنا  طائرُ  الفينيقُ  أجتاحُ  الرَّدَى       بينَ    الرَّمادِ    سَتُشرقُ    الحَوْبَاءُ

الموتُ  يهربُ  صاغرًا  وَمُنكّسًا        من   بعدِ   موتي   تُبعَث   الأشلاءُ

أنا  أوّلُ الشهداءِ آخرُ مَن  قضى        مِلءُ     الزَّمان     تألّقٌ     وَرُوَاءُ

  

* 1 يوم  التنادي : يوم القيامة  والحساب .

*2  الحَوباء : الروح  أو النفس 

العالم باعتباره نصا تشعبيا/ عبده حقي



إذا كان أي نص تشعبي يعكس إنجاز الكتابة الأدبية والفكر الإنساني ، وإذا كان أيضا يمثل صورة إيجابية عن أي مجتمع ، ألا يمكننا أن نبني على هذه الاستعارة رؤية جديدة للعالم وللفلسفة ؟ هكذا طرح ليفي وبولتر سؤاله في هذا المجال المتشعب:

يمكن اعتبار مجموعة الرسائل والتمثيلات المتداولة في مجتمع ما ، كنص تشعبي كبير ومتحرك ، ومتاهة بمئات التنسيقات ، وبألف طرق وقنوات حيث يشترك سكان نفس المدينة في العديد من العناصر والوصلات المتشابكة الضخمة والمشتركة. كل شخص يمتلك رؤية شخصية ، وجزئية بشكل رهيب ، مشوهة بواسطة عدد لا يحصى من الترجمات والتفسيرات. هذه الروابط التي لا داعي لها ، وهذه التحولات التي تديرها الآلات المحلية ، مفردة وذاتية ، المرتبطة بالخارج ، هي التي تعيد إدراج الحركة ، والحياة ، في النص التشعبي المجتمعي الكبير وبالتالي إلى "الثقافة" بشكل عام .

يمكننا أن نتوقع من العلماء المعاصرين أن يتوصلوا إلى استنتاج مفاده أن كتاب الطبيعة هو نص تشعبي بامتياز ، ولغته هي الرياضيات الحسابية للرسوم البيانية الموجهة. إنه احتمال مثير للاهتمام. لأنه إذا كان العلماء يدرسون ترابطية الطبيعة ، بينما يقرأ آخرون النصوص التشعبية ، فيمكن عندئذٍ توحيد رؤيتنا للطبيعة مع تقنيتنا في الكتابة بطريقة لم نشهدها منذ العصور الوسطى.

إن استفزاز النص التشعبي هذا ، كما رأينا أعلاه قد سخر منه البعض الذين يتساءلون فيما إذا كان النص التشعبي يخفض مستويات الكوليسترول - وبالتالي يصبح سلطان الاستعارات ، والاستعارات الفائقة.

لطالما كان اللجوء إلى الاستعارة الحسابية يبدو لنا غريبًا إلى حد ما : فنحن نصنع آلات هي الأنسب للإنسان من خلال وضع أنفسنا في فرضيات تقوم على عمل العقل ونصرخ من أجل تحقيق المعجزة لأن الآلات المذكورة ستؤكد هذه الفرضيات . لكن هذه بلا شك نظرة كاريكاتورية إلى حد ما للأشياء. إن المحاكاة و الافتراضية تعبر عن الطريقة التي يستخدم بها تطوير التقنيات الجديدة المعرفة المتواضعة جدًا عن الجنس البشري .

جاك رانسيير بين التحرر الفكري والديمقراطية الجذرية/ د زهير الخويلدي

 


مقدمة

" الفلسفة ولدت من مثل هذا اللقاء مع السياسة أو الفن أو العلم أو أي نشاط فكري آخر، تحت علامة مفارقة معينة، صراع، معضلة[H1] . الهدف، كما هو الحال مع كانط وفلاسفة التنوير، هو التحرر."

ولد جاك رانسيير في الجزائر العاصمة عام 1940. وكان طالب لويس ألتوسير في المدرسة العليا نورمال وشارك في كتابة "رأس المال القراءة"، وهي دراسة رئيسية لفكر ماركس نتجت عن ندوة عقدها ألتوسير في معهد الدراسات عام 1965. ثم نأى بنفسه عن أستاذه، وفي عام 1974 نشر كتاب درس ألتوسير الذي انتقد فيه منهجه. أخذ استقلاليته الفكرية، وأصبح مفكرًا للديمقراطية بمعناها الأكثر راديكالية، وأصبح مهتمًا بمسألة تحرر العمال. سيقوده هذا العمل إلى أطروحة، نُشرت عام 1981 تحت عنوان ليلة البروليتاريين. أرشيفات حلم الطبقة العاملة: كان جاك رانسيير حينذاك مؤلفًا لأعمال تعتبر اليوم كلاسيكيات. في الفيلسوف والفقير (1983) والسيد الجاهل (1987)، يهتم بمسألة التحرر الفكري، والتشكيك في التسلسل الهرمي التقليدي. مع تقاسم الحساسية 2000، يقدم مقاربة أصلية للعلاقة بين الجماليات والسياسة، والتي ستكون علامة فارقة. في عام 2005، نشر كتابه كراهية الديمقراطية 2005، الذي يشكك في مصادر عودة ظهور الخطاب المناهض للديمقراطية في فرنسا. اليوم هو أستاذ فخري في جامعة باريس 8 سان دوني، نشر مؤخرًا زمن المناظر الطبيعية. في بداية الثورة الجمالية (2020). على مدار أكثر من أربعين عامًا من الإنتاج الفكري، قدم جاك رانسيير مساهمة أصيلة في تحليل المفاهيم السياسية والجمالية في فلسفة اللغة الفرنسية. مساهمته ليست ذات طبيعة منهجية ولكن قبل كل شيء تنبع من تفكيك المفاهيم التقليدية (السلطة، السيادة، المساواة، الحرية، إلخ). بالنسبة لجاك رانسيير، فإن الفلسفة ليس لها أقسام يمكن أن تستعير إما من مفهومها الخاص أو من المجالات التي تجلب فيها تقسيمها أو تشريعاتها. لها أشياء فريدة، عقدة فكرية ولدت من مثل هذا اللقاء مع السياسة أو الفن أو العلم أو أي نشاط فكري آخر، تحت علامة مفارقة معينة، صراع، معضلة[H2] . الهدف، كما هو الحال مع كانط وفلاسفة التنوير، هو التحرر. ومن خلال هذا المنهج، كان جاك رانسيير هو مصدر الانفتاح على خطابات أولئك المستبعدين من الخطاب، والذين حُكم عليهم بالصمت أو الصمت. بقوا على الهامش: بروليتاريون، فقراء، نساء، أقليات. وبهذا المعنى، فهو أحد الفلاسفة الفرنسيين النادر الذين وجد نفسه في قلب مشروع الدراسات الثقافية، فيما كان لديهم وما احتفظوا به على أنه مزعج للغاية ومبتكر في مناهج العلوم الإنسانية. فماهي مهمة الفلسفة عنده؟ وكيف ارتبطت بالتحرر من الهيمنة وتجذير الديمقراطية؟


السيد الجاهل: خمسة دروس في التحرر الفكري

" لن يتعلم الجاهل إلا ما لا يعرفه السيد إذا كان السيد يعتقد أنه يستطيع ذلك ويجبره على تحقيق قدرته."

في عام 1818، بدأ جوزيف جاكوت، الثوري المنفي وقارئ الأدب الفرنسي بجامعة لوفان، في بث الذعر في أوروبا المتعلمة. لم يكتف بتدريس اللغة الفرنسية للطلاب الفلمنكيين دون إعطائهم أي دروس، فقد بدأ في تعليم ما لم يكن يعرفه وإعلان شعار التحرر الفكري: جميع البشر لديهم ذكاء متساوٍ. لا يتعلق الأمر بعلم أصول التدريس المسلية، بل بالفلسفة والسياسة. يقدم جاك رانسيير، من خلال سيرة هذه الشخصية المذهلة، تفكيرًا فلسفيًا أصيلًا على التعليم. الدرس العظيم لجاكوت هو أن التعليم مثل الحرية؛ لا يُعطى، بل يؤخذ. لقد أيقظ هذا المقال الصغير لجاك رانسيير الضمير النائم بطريقة ما. لقد فتح مجالًا مرئيًا وفكريًا جديدًا لم يكن من الممكن التفكير فيه ولا يمكن تصوره حتى الآن، وذلك ببساطة من خلال حقيقة بسيطة تتمثل في التفكير في فكرة المساواة باعتبارها افتراضًا مسبقًا (لا يوجد عدم مساواة في الأصل) بدلاً من المفهوم المعتاد على أنه هدف يجب تحقيقه. لأن كل شيء يأخذ منحى مختلفًا نتيجة لذلك: لا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه صاحب معرفة أو معرفة متفوقة وغير قابلة للتحقيق وبالتالي إنشاء تسلسل هرمي فعلي للذكاء. تأتي هذه الملاحظة من اكتشاف جاك رانسيير لثائر فرنسي منفي في لوفان في بداية القرن التاسع عشر هزّ المبادئ الراسخة المسؤولة عن الخضوع الفكري لأكبر عدد، لصالح الأكثر تعليماً. بدأ هذا الرجل المسمى جوزيف جاكوت بالفعل بتعليم ما لا يعرفه من خلال عمل من الملاحظات والمقارنات، وحصل على نتائج مفاجئة. من خلال اللعب على غموض المتحدث، لقد حان الوقت ومن الممكن (سواء في بداية القرن التاسع عشر أو نهاية القرن العشرين) أن يشارك الجميع في القرارات التي تبني مجتمعاتنا. لذلك دعونا نحدد مشروعًا آخر. لجعل المتعلم ليس كائناً سلبياً يخضع لأنظمة معينة، ويتعلم الخضوع بمفرده، ولكن لإقناعه بأن لديه كل القدرات في داخله لكي يتعلم بنفسه، تعلم ما يحكم عليه. مفيدة له، ذات صلة، ولكن قبل كل شيء ستمنحه الرغبة في التعلم إلى أجل غير مسمى وأن حياته كلها وأن يكون قادرًا على تعليم نفسه. لكن هل يجب أن نتعلم كيف نحرر أنفسنا أم يجب أن نتحرر لنتعلم؟ وهل يجب أن نخدم كعبيد أم نصبح سادة عن طريق الاستغلال والتسلق؟


صوت المستبعدين

"لم تكن هناك حاجة لشرح ما هو الاستغلال للعامل."

 لقد كان رانسيير لسان المهمشين وتكلم بصوت المستبعدين وكان ذلك في عمله "ليلة البروليتاريين" (1981) ، والفيلسوف وفقرائه (1983) ، والسيد الجاهل (1987) ، يتعلق الأمر قبل كل شيء بالتحرر. يسعى رانسيير إلى أن يجد في خطب عمال القرن التاسع عشر أو في الهذيان التربوي الغريب للسيد الجاهل جوزيف جاكوت ، معاني مصطلحات مثل الاستغلال ، والإتقان ، والعمل ، والإرهاق ، والاقتصاد ، والترابط ، والتحرر ، والمعرفة ، في العلاقة بالهويات التي تمت صياغتها هناك. إن البروليتاريين والفقراء يجاهدون في الكلام، وهذا ليس كلام أسيادهم ولا سيدهم الأكاديميين. يصور الفيلسوف وفقرائه من جانبه الخلفية الجدلية لمشروع إعادة الكلمات من خلال دراسة أفلاطون وماركس وسارتر وبورديو العلاقة بين الفكر والتسلسل الهرمي الاجتماعي، بين منصب الفيلسوف وتخصيص المكان الفقير له، بين المفهوم الفلسفي للتحرر وتحريم الكلام. تقوم مجموعة ثانية من الأعمال بتفكيك وإعادة بناء مفهوم السياسة من خلال السعي للتفكير في "التسلسل الهرمي للقيم ومساواة الخليط"، الواحد والمتعدد في مجتمع متساوين ديمقراطي. على حافة السياسة (1990) يتعامل مع تنظيم المجتمع السياسي من منظور مزدوج للبحث عن العدالة ومعالجة الانقسام بين الأغنياء والفقراء. يتم فهم الديمقراطية في طبيعتها الديناميكية كعملية إعادة ترتيب المجتمع للتراجع باستمرار عن الأنظمة التي يُفترض أنها طبيعية بين الرجال. يتحكم الجدل القائم على المساواة في تكوين المجتمع وإعادة تشكيله: فالقانون الديمقراطي ينادي بالمساواة، وتقوم السياسة على استئناف تحقيقها الملموس باستمرار من خلال أخذها على محمل الجد. وبالتالي، فإن الفضاء الديمقراطي يظهر على أنه فضاء للانقسام والنضال ضمن تأكيد المجتمع. الطرق التي نكتب بها التاريخ ، تعالج مسألة الشعراء التي يهرب بها الخطاب من الآخرين ، سواء كان ليشكل نفسه كأدب ، إلى يدعي نفسه كعلم ، أو لفتح مساحة جديدة للتحدث. في مرحلة ما، في المشاركة الحالية للمعرفة والممارسات، من الضروري إيجاد الكلمات والأشكال لقول أشياء "جديدة" معينة، سواء كان ذلك توقعًا للحرية، أو وجود الشعب في التاريخ، أو الحركة الديمقراطية. ماهو مثير للدهشة أن "حكوماتنا تسير من طرف أقلية" وتمارس الهيمنة على الأغلبية، فما العمل للكف عن ذلك؟


الجماليات والسياسة

" لقطة فيلم هي تسلسل في تاريخ وتعليق لهذا التاريخ."

منذ النصف الثاني من التسعينيات، ركزت مساهمات رانسيير بشكل أكبر على جماليات ونظرية الأدب. تشير الجماليات في الواقع إلى "مشاركة المعقول" حيث يتم تأسيس كل من الجزء المشترك والأجزاء الخاصة من الرجال في إدراك التجربة وصياغتها. وهكذا، وفقًا لرانسيير، توجد جمالية، بالمعنى الاشتقاقي، في أساس السياسة، أي طرق الإحساس والرؤية والقول وفقًا للأماكن والأجزاء، بما في ذلك المشتركة، التي يشغلها الأشخاص. هذه هي الأشكال المسبقة بالمعنى الكانطي التي تحدد ما يمنح نفسه للشعور به. يتم تحديد الممارسات الجمالية الصحيحة على أساس هذا الهيكل الجمالي الأساسي للعالم وهي تفرض عليه مشاركتها الخاصة - المشاركة، على سبيل المثال، الكتابة، الأداء المسرحي، الكوريغرافيا الجماعية ، التسطيح التصويري ، كل منها يتوافق مع طرق تحديد الجزء المشترك والأجزاء الخاصة. بعبارة أخرى، تحمل الأشكال الفنية شخصيات من المجتمع ولكنها تلعب أيضًا وفقًا للنماذج السياسية وضمن هذه النماذج (المسرح في الوضع الديمقراطي اليوناني وفي الوضع الملكي الكلاسيكي). يوسع رانسيير رؤيته للتمييز من هناك عدة لحظات من الفن، والفن في نظامه الأخلاقي (حيث يتعلق الأمر قبل كل شيء بحقيقة الصور)، والفن في نظامه الشعري أو التمثيلي (حيث كرامة الأشياء والتقنيات التي دعمهم على المحك) وأخيرًا الفن في نظامه الجمالي حيث تمتلك المنتجات الفنية مجالًا حساسًا خاصًا بها. كما يشير مفهوم السياسة وفقًا لجاك رانسيير إلى أن العالم المشترك يتوافق مع التوزيع الجدلي لأساليب الوجود والمهن والممارسات. يمكن للنشاط الفني، في ظل هذه الظروف، أن يعمل إما كإعلان عن العمل، أو كتثبيت لاستثناءاته في أسلوب من نوع معين، أو حتى كتعليق للقيمة السلبية المنسوبة إلى العمل بإلغاء التقسيم بين العمل والخبرة الحساسة. بين الفهم والحساسية. ثم يأخذ على عاتقه جزء من القيمة التحررية للعمل عند سن التوافق. على هذا النحو يتخلى الفن المعاصر عن مشروع التحرر الجماعي. يصبح شكلاً من أشكال "الخدمة العامة". كانت المدينة الفاضلة الجمالية ستهزم بفعل الشمولية وجماليات المجال التجاري. وهذا يترك مجالاً لفن أخلاقي بقدر ما هو مرح وأخيراً لنظام أخلاقي جديد للفن، أفقه هو الوجود السلمي للأشياء والكائنات في عالم مشترك. وفي الوقت نفسه، تنحل السياسة في الإجماع، أيضًا أخلاقيًا، مما يعزز فكرة النقاش الديمقراطي حيث يمكن للجميع تأكيد تفرد وجهة نظرهم. انها لعبة، لإعادة إمكانية الخلاف ، وهو قلب السياسة والديمقراطية. بهذا المعنى "الكلمات ليست أخلاقية أكثر من الصور" و بصرف النظر عن أي اعتبار جمالي لنوعية الأعمال ، تواجه الفلسفة الأدب كمشكلة بحد ذاتها: هل يجب أن تعتبره جانبًا آخر له ، أم جانبه العكسي ، أم تتعهد بتفكيك ينابيعه؟ ومن هم أعداء الديمقراطية والذين يمثلون تهديدا دائما للسلوك التشاوري والعقلية التعددية؟


كراهية الديمقراطية

" إن الفضيحة الديمقراطية واضحة بالفعل في أفلاطون. بالنسبة للأثيني المولود، فإن فكرة قدرة أي شخص على الحكم غير مقبولة. لكن الديمقراطية تظهر أيضًا كفضيحة نظرية: حكومة الصدفة، إنكار أي شرعية تدعم ممارسة الحكومة."

بالأمس عارض الخطاب الرسمي فضائل الديمقراطية على الرعب الشمولي، بينما تحدى الثوار ظهورها باسم ديمقراطية حقيقية مقبلة، وولت تلك الأوقات. حتى في الوقت الذي تسعى فيه بعض الحكومات إلى تصدير الديمقراطية بقوة السلاح، فإن المثقفين لدينا لا يزالون يكتشفون، في جميع جوانب الحياة العامة والخاصة، الأعراض الكارثية لـ "الفردانية الديمقراطية" ودمار "المساواة" الذي يدمر القيم الجماعية، ويصوغ مفهومًا جديدًا. الشمولية ودفع البشرية إلى الانتحار، لفهم هذه الطفرة الأيديولوجية، لا يكفي إدراجها في حاضر حكومة الثروة العالمية. يجب أن نعود إلى الفضيحة الأولى التي مثلتها "حكومة الشعب" ونفهم الروابط المعقدة بين الديمقراطية والسياسة والجمهورية والتمثيل. عند هذا الثمن، من الممكن إعادة اكتشاف القوة التخريبية للفكرة الديمقراطية، خلف العشق الفاتر للأمس واندلاع الكراهية اليوم. في الواقع تأخذ "كراهية الديموقراطية" وجهة نظر معاكسة لفكرة قديمة جدا وواسعة الانتشار: السلطة تعود بالحق إلى كل أولئك المقدرين لها بالولادة أو بدعوتهم بالكفاءة. بشكل أو بآخر، كل على طريقته الخاصة، نستسلم لأغنية الإنذار هذه، والكاريزما، وفي كثير من الأحيان، نشكو من الناس وأعرافهم، "بدون مساواة. يتطلب الأمر كل الصرامة، في هذه الفترة المضطربة، من جاك رانسيير للحفاظ على العقل. يقدم المؤلف في عمله بديهية مساواة الذكاءات. هذه المساواة بالنسبة له ليست ملاحظة تجريبية ولا هدفًا. هذا افتراض هو شرط لأي عمل أو فكر تحرري ومعترف به في مبدأ الديمقراطية ذاته. من هذا المنظور "لا توجد خدمة يتم إجراؤها، ولا توجد معرفة تنتقل، ولا توجد سلطة يتم إنشاؤها دون أن يكون لدى السيد، مهما كان ضئيلاً، هذه المساواة مع الشخص الذي يأمره أو يوجهه. لا يمكن للمجتمع غير المتكافئ أن يعمل إلا من خلال عدد كبير من علاقات المساواة. إن هذا التشابك في المساواة في عدم المساواة هو ما تظهره فضيحة الديمقراطية من أجل جعلها قوة مشتركة ". هذا هو السبب في أنه يُتوخى عنوانًا للحكم منفصلًا عن أي تشابه مع أولئك الذين يأمرون العلاقات الاجتماعية، ومنفصلًا عن أي تشابه بين العرف البشري ونظام الطبيعة (أي عنوان للحكم متميزًا عن الوالدين والطفل والصغير والرئيس. - التبعية، الحسن المولد، العدم، القوي، الضعيف، المتعلم، الجاهل). لذلك فإن الديمقراطية تعني حكومة لا تقوم على أي شيء سوى عدم وجود أي لقب للحكم، كما كتب جاك رانسيير. منذ ذلك الحين، الحكومات التي تدعي أنها ديمقراطية ملزمة بتخيل نفسها على أنها أمثلة على عامة المجتمع منفصلة عن المنطق الوحيد لعلاقات السلطة. جاك رانسيير يميز في عمله بين الشرطة والسياسة. الأول يحدد النظام الاجتماعي القائم، أي مجموعة الوسائل المطبقة لتحقيق الاستقرار واستمرار التمييز غير المتكافئ بين المكانة والثروة في جسم اجتماعي ("الأسهم"). يقال السياسة من مراحل الطعن في الشرطة. يتدخل عندما يقتحم أولئك الذين لم يتم احتسابهم في النظام الاجتماعي ("بلا نصيب")، بدعوى المساواة، على مسرح التاريخ. السياسة تعني شيئًا بالإضافة إلى كل القوى الأخرى التي تحاول فرض قيادتها في المجتمع البشري. السياسة موجودة فقط إذا كان هناك لقب إضافي لأولئك الذين يعملون في العلاقات الاجتماعية العادية. السياسة والمساواة للمؤلف نفس الشيء. من الواضح أنه في مجتمعاتنا غير المتكافئة لا توجد حكومة ديمقراطية بالكامل. النظام البرلماني مختلط بين التمثيل والديمقراطية. التمثيل يسمح للنخبة أن تمارس، باسم الشعب، السلطة التي يجب أن تعترف بها فيهم. إن الانتخابات ليست دائمًا صوت الشعب، بل يمكن أن تكون في هذا السياق تعبيرًا عن موافقة تطلبها النخب. لذلك فإن النضالات الديموقراطية تعارض هذا الوضع وتتحدى باستمرار الأوليغارشية (السياسية). الأوليغارشية لأنها تستعيد باستمرار المناصب المفقودة (الشرطة). لذلك، هناك مجال عام للقاء والصراع بين هذين المنطقتين المتعارضين: منطق حكومة أي شخص، وحكومة المهارات الاجتماعية. تميل الممارسة العفوية لأي حكومة أقلية إلى تقليص هذا المجال العام، وجعله شأنًا خاصًا به، ولهذا السبب، إلى جانب الحياة الخاصة، ترفض التدخلات وأماكن تدخل الجهات الفاعلة غير الحكومية. يسمي جاك رانسيير السياسات المسايرة هذا عدم تسييس المشاكل التي تدعي إلغاء البعد الخلافي للسياسة. وهكذا، بإعلان أنفسنا اليوم على أنهم مجرد مديرين خبراء في التداعيات المحلية للضرورة التاريخية العالمية، فإن حكوماتنا تتخلص من الشعب والديمقراطية؛ من خلال اختراع مؤسسات فوق دولة لا تخضع للمساءلة أمام أي شعب، فإنهم يزيلون تسييس الشؤون السياسية. وعندما يفشل علم من هم في السلطة في فرض نفسه، فإن ذلك يرجع بالضرورة إلى الجهل والتعلق بالماضي. "بلا جزء" يكافح بشكل طبيعي من أجل الحرمان وتوسيع المجال العام. يهدف التوسيع إلى الاعتراف بجودة المتكافئين والموضوعات السياسية لأولئك الذين ترفضهم ممارسات الدولة تجاه الحياة الخاصة لكائنات أدنى؛ للتعرف على الطابع العام للمساحات والعلاقات التي تُترك لتقدير القوة غير المحدودة للثروة (مثل التأكيد على العمل باعتباره هيكل الحياة الجماعية).  لذلك، فإن كل شيء هو مسألة توازن لم يتم العثور عليه أبدًا بين المساواة وعدم المساواة، بين الثروة الرأسمالية غير المحدودة والسياسات الديمقراطية غير المحدودة. الديمقراطية هي اضطراب العلاقات التي نتصورها في أغلب الأحيان على أنها طبيعية. إن شدة الحياة الديمقراطية بمسارها من التنازع الدائم تتحدى دائمًا سلطة السلطات العامة ومعرفة الخبراء المرخصين ودراية نصف المهرة. الأمر الذي جعل جاك رانسيير يقول إن الديمقراطية هي مجال الإفراط. هذا التجاوز يعني خراب الحكومة، لذا فهي تخوض خطوة بخطوة. غالبًا ما يتمثل العلاج في رفض الأفراد تجاه المجال الخاص وسعادة الملكية والاستهلاك والروابط الاجتماعية، إلخ. ... الصراع على الساحة الأيديولوجية في هذه المعركة ليس أقل مرارة. بالتالي، يسمي المناهضون للديموقراطية اليوم، الذين لا يخلون من بعض الجمباز الفكري المحفوف بالمخاطر، الديمقراطية ما كان يسمى بالأمس شمولية. لم تعد الخطيئة الأصلية للديمقراطية، أن تسمعهم، وكما تم انتقادها في الماضي، فهي جماعية بل على العكس من فردانيتها النقدية. وينددون بحقوق الإنسان في هذا الصدد باعتبارها حقوق الفرد الأناني والمساواة والمتحرر من الجسد الجماعي. إن ما يدافع عنه مستنكروا الفردية الديمقراطية ليس بشكل طبيعي الجماعية بشكل عام ولكن جماعة الأجساد والبيئات التي تستوعب المعرفة والخبرة. لنأخذ مثالاً من كتاب جاك رانسيير ، فإن العدو الذي ستواجهه المدرسة الجمهورية اليوم لن يكون المجتمع غير المتكافئ الذي سيضطر منه إلى تمزيق التلميذ ، بل التلميذ نفسه كممثل بامتياز للرجل الديمقراطي ، الكائن غير الناضج. ، المستهلك الشاب الثمل للمساواة. إن ما يسمى عهد الرجل المتساوي يشمل جميع أنواع الممتلكات والعديد من الهويات. واليوم، ندين أنانية مثل هذه المطالب الجماعية، مثل هذه الأقلية، والخصوصية الدينية أو العرقية؛ غدا سنطالب بالوحدة الوطنية وحرب الحضارات. كما يحمل رانسيير السلطة وتابعيها مسؤولية القمع الذي يتعرض له المستغلين بقوله: "الشرطة" هي تنظيم المجتمع ككل قابل للتقسيم إلى أجزاء، تتوافق مع أماكن ووظائف ومهارات وطرق وجود محددة جيدًا. إنه مفهوم الحكومة على أنها إدارة لهذا التوازن من قبل أولئك "المؤهلين" للقيام بذلك. على هذا النحو يعد "كره الديمقراطية" عملا ثمينا يسمح بالتأمل الحقيقي للديمقراطية وهذه القضايا ودينامياتها.  ان الديمقراطية حسب جاك رانسيير هي عمل مشترك باسم سلطة الفكر التي تنتمي إلى الجميع. نحن لسنا في دولة ديمقراطية لمجرد أن الشعب يمثله نواب ، أو يحكمه رؤساء منتخبون ، ولكن عندما تكون هناك أشكال من التأكيد على هذه السلطة لأناس يتمتعون بالحكم الذاتي فيما يتعلق بمؤسسات الدولة. لكن هل يمكن للفن أن يحررنا من السياسة؟


المتفرج المتحرّر

" الصورة ليست حضورًا مرئيًا خالصًا ولا شاشة ممتدة أمام الأشياء. إنها دائمًا علاقة بين شيئين. صورة الوجه تعطينا إياه وتطرح الفكرة التي تحييه."

"من يرى لا يرى": هذا هو الافتراض الذي يمر عبر تاريخنا، من الكهف الأفلاطوني إلى إدانة مجتمع المشهد. إنه أمر شائع بالنسبة للفيلسوف الذي يريد أن يبقى الجميع في مكانه ولدى الثوار الذين يريدون تمزيق المهيمنين بعيدًا عن الأوهام التي تبقيهم هناك. لعلاج عمى أولئك الذين يرون، لا تزال هناك استراتيجيتان رئيسيتان تسودان. يريد المرء أن يُظهر للمكفوفين ما لا يرونه: يتراوح هذا من التعليم التوضيحي لعصابات المتاحف إلى التركيبات المذهلة التي تهدف إلى اكتشاف المذهول أنهم غزتهم صور قوة الإعلام ومجتمع الاستهلاك. الآخر يريد أن يقطع شر الرؤية من جذوره عن طريق تحويل المشهد إلى أداء والمشاهد إلى تمثيل. تعارض النصوص المجمعة في هذه المجموعة هاتين الاستراتيجيتين فرضية بسيطة بقدر ما هي مزعجة: أن حقيقة الرؤية لا تنطوي على أي ضعف؛ أن تحول أولئك الذين كرسوا أنفسهم للقيود والتسلسل الهرمي للعمل إلى متفرجين ربما يكون قد ساهم في اضطراب المواقف الاجتماعية؛ وأن الإدانة الكبيرة للإنسان المنفردة من كثرة الصور كانت في البداية استجابة النظام المهيمن لهذا الاضطراب. إن تحرير المتفرج إذن هو تأكيد لقدرته على رؤية ما يراه ومعرفة ما يفكر فيه وماذا يفعل به. تدرس المداخلات التي تم جمعها في هذه المجموعة، في ضوء هذه الفرضية، بعض الأشكال والقضايا المهمة للفن المعاصر وتحاول الإجابة على بعض الأسئلة: ما المقصود بالضبط بالفن السياسي أو سياسة الفن؟ أين نحن مع تقليد الفن النقدي أو مع الرغبة في وضع الفن في الحياة؟ كيف أصبح النقد النضالي لاستهلاك البضائع والصور تأكيدًا حزينًا لقوتهم المطلقة أو إدانة رجعية لـ "الإنسان الديمقراطي"؟ حول موضوع التحرر الفكري يصرح: " لقد كانت حركة الطلاب ماي 68 صحوة قاسية: ظهر لي هذا الخطاب العلمي لما يسمى بالتحرير على أنه خطاب النظام المهيمن." وبالتالي يبدأ التحرر عندما يدعو المرء إلى التشكيك في التعارض بين النظر والعمل، عندما يفهم المرء أن الأدلة التي تنظم علاقات القول، والرؤية وفعل نفسها تنتمي إلى هيكل الهيمنة والخضوع. الصور الفنية لا توفر أسلحة للقتال. إنها تيساهم في رسم تكوينات جديدة لما هو مرئي وقابل للقول ويمكن التفكير فيه، وبالتالي، مشهد جديد من الممكن. لكنهم يفعلون ذلك بشرط عدم توقع معناها أو تأثيرها. لا يعمل نظام المعلومات من خلال فائض الصور، فهو يعمل عن طريق اختيار الكائنات الناطقة والعقلانية، القادرة على "فك تشفير" تدفق المعلومات المتعلقة بالجماهير المجهولة الهوية. سياسة هذه الصور تعلمنا أنه ليس كل شخص قادر على الرؤية والتحدث. هذا هو الدرس الذي يؤكده بشكل قاطع أولئك الذين يدعون انتقاد الطفرة التلفزيونية للصور. فمتى يكون للفن دورا ملتزما؟


خاتمة

"من يعلم بلا عتق هو أحمق. ومن يحرر ليس عليه أن يقلق بشأن ما يجب أن يتعلمه المتحرر".

في كتابه الفيلسوف وفقرائه السؤال الفلسفي الأول هو سؤال سياسي: من يستطيع التفلسف؟ بالنسبة لأفلاطون، يجب على المواطنين أن يقبلوا "كذبة جميلة": فقد أعطى الإله للبعض الروح الذهبية للفلاسفة، والبعض الآخر الروح الحديدية للحرفيين. إذا كان صانعو الأحذية يهتمون بأحذيتهم فقط، فستكون المدينة في حالة جيدة وستكون الفلسفة محمية من فضول "الأوغاد". في القرن التاسع عشر، كان صانعو الأحذية مضطربين وجاء الفلاسفة ليعلنوا التغيير العظيم: من الآن فصاعدًا سيكون المنتج ملكًا والعبد الإيديولوجي. ومع ذلك، بعد رحلة ماركس، يتخذ علم العالم الجديد جانبًا مقلقًا: البروليتاري "الحقيقي" سيأتي دائمًا، والكتاب اللانهائي، ويرفض العالم كل أولئك الذين يحاولون تطبيق علمه. يواجه سارتر هذه المفارقة: يصبح العامل الحارس الغائب لعالم الفيلسوف، ويجب على الأخير أن يقدم أسبابه في أسباب الحزب.  يدين النقد الراديكالي المفترض للفروق الثقافية والأوهام الفلسفية المهيمنين بامتلاك الأذواق والأفكار التي تفرضها الهيمنة. لم يعد الفيلسوف ملكًا. لكن المفكر المحترف يتأكد من إلقاء نظرة "واضحة" على عمى جاره، من أجل قضية جيدة لشعب يطلب دائمًا البقاء في مكانه. إلى جانب النقاشات حول أزمة الفن أو موت الصورة التي تعيد عرض المشهد اللامتناهي لـ "نهاية اليوتوبيا"، يود الفيلسوف أن يؤسس بعض شروط الوضوح، للرابط الذي يربط الجماليات بالسياسة. وهو يقترح للقيام بذلك للعودة إلى أول نقش للممارسات الفنية في تقسيم الأزمنة والفراغات، المرئي وغير المرئي، والكلام والضجيج، الذي يحدد المكان والقضية السياسية. يمكننا بعد ذلك تمييز الأنظمة التاريخية للفنون كأشكال محددة لهذه العلاقة وإحالة التكهنات حول المصير القاتل المجيد لـ "الحداثة" إلى تحليل أحد هذه الأشكال. كما يمكننا أيضًا أن نفهم كيف أن نفس نظام الفكر يؤسس إعلان استقلالية الفن وتطابقه مع شكل من أشكال التجربة الجماعية. لكن كيف يعيد رانسيير تقديم مفهوم الذات بعد كل استبعاد اجتماعي وقمع سياسي؟


المصادر:

Jacques Rancière, Le partage du sensible : Esthétique et politique, 2000

Jacques Rancière, Le destin des images, 2003

Jacques Rancière, Le maitre ignorant : cinq leçons sur l'émancipation intellectuelle,2004

Jacques Rancière, Malaise dans l'esthétique, 2004

Jacques Rancière, Aux bords du politique, 2004

Jacques Rancière, La haine de la démocratie, 2005

Jacques Rancière, La parole muette,2005

Jacques Rancière, Le philosophe et ses pauvres, 2007

Jacques Rancière, Le spectateur émancipé, 2008

Jacques Rancière, Les écarts du cinéma, 2011

Jacques Rancière, Le fil perdu : Essais sur la fiction moderne, 2014

Jacques Rancière, Les temps modernes, 2018

Jacques Rancière- Philosophie Magazine, n°10 – mai 2007