إنَّ السَّفيهَ كرامُ الناسِ تنبذهُ/ الدكتور حاتم جوعيه



      لقد أعجبني هذا  البيت من الشعر المنشور على صفحة  أحدِ  الاصدقاء في الفيسبوك ، وهو :

( وإن  بُليتَ  بشخص  لا  حياءَ  لهُ   =  فكن   كأنكَ   لم  تسمعْ   ولم  يَقُلِ )  

   فتظمتُ هذه  الأبيات من  الشعر ارتجالا  ومعارضةً  له  :


نمشي الدّهورَعلى الأشواكِ والأسَلِ      رغمَ  الشَّدائدِ   تبقى   فسحةُ   الأملِ

رغمَ   المصائبِ ما  لانتْ عزائمُنا       ونحنُ  في  الليلِ  كالأقمارِ  كالشُّعَلِ

رغمَ الرَّزايا  فما  هانتْ  مطامِحُنا        وَفيضُنا   لم   يكُن  بالمَنبعِ   الوَشلِ 

الخيرُ    وَاكبَنا    والرَّبُّ    بارَكنا        نُحيي   مرابعَنا   كالعارض  الهَطِلِ

هذي  المرابعُ   فيها    كدَّ   معولنا       وأخصَبَتْ   بعدَ  عهدٍ   قاحلٍ   مَحِلِ

نحنُ  الميامينُ  في قول  وفي عملٍ      وفي دروبِ اللظى نمضي بلا  وَجَلِ

الصَّعبُ   نعبُرُهُ    والزَّهرُ   ننثرُهُ       والفجرُ  هلَّ   كأنَّ  الليلَ   لم   يَطلِ

نحنُ الاشاوسُ وردَ الطهرِ نحرُسُهُ       وفي  التّسامحِ  صرنا  جذوةَ   المَثلِ

وكم   بُلينا   بشخص   دونما   خُلق       كأنّنا   دون   سمع   وَهْوَ  لم   يَقُلِ

إنَّ   السَّفيهَ    كرام   الناسِ    تنبُذهُ       أمَّا  الكريم   ففي  الوجدانِ  والمُقلِ

إنَّ  الكريمَ  عنِ  الأوباشِ  في   بُعُدٍ       مجالسُ  السُّوءِ   للأوغادِ   والهَمَلِ

إنَّ   الأبيَّ   حشودُ   الحقِّ   تمدحُهُ       والذمُّ   يأتي   منَ  الحُسَّادِ   والهُبُلِ

وَغايةُ  النفسِ   صفوٌ  في   نسائمِنا       وَتختفي   طغمةُ    العُذّالِ    والعذلِ

مصائبُ  القومِ  عند  الغيرِ  مُجْديَةٌ        لمَّا   يُضَيِّعُ   قومٌ   موضِعَ   السُّبُلِ

وعندما  الحُرُّ  يكبُو   بعدُ   سُؤدُدِهِ        فالنذلُ  يشمْتُ  في  لؤمٍ   وفي هزَلِ

إذا  أتى  الذمُّ  من   نذلٍ   وَمُرتزق       مسخ  عميلٍ  وفي  الأقذارِ   والعِللِ

هيَ   الشَّهادةُ   أنَّ   النُّورَ  عمَّدني       ورايتي  فوق  جفنِ الشَّمسِ لم  تزلِ

وإنّني    شاعرُ   الأحرارِ    قاطبةً       نارًا  سأبقى على الأرجاسِ  والسَّفلِ

وشعريَ  الشّعرُ  لا  نظمٌ     يُعادِلهُ      وَعندَ  أهلِ الهدى أشهَى  من  العَسَلِ

ربُّ القريضِ وشعري صعبُ مُمتنع     والغيرُ  يكتبُ  سُخفا   دونما   خجَلِ

شعري  الحداثةُ   بالإبداعِ   مُؤتلِقٌ        فيهِ الشَّذى  والمُنى  بل كلُّ  مُؤتملِ

وَإنّني  الوطنيُّ  والقوميُّ    مُفتخرٌ       طولَ  الزمانِ  بشعبٍ   صامدٍ  بطلِ

إنَّ  العروبة  عنواني  ولي  شرفٌ       أبقى  بوجهِ  رياح  البطشِ  كالجبلِ

وأصدقائي  كرامُ   النّاسِ  أشرفُهُمْ        أمَّا   القمِيءُ   مع  الأنذالِ   والزّبلِ

مَن  رامَ   ذمِّي   لمافونٌ  وَمُرتزقٌ       مَسْخٌ عميلٌ  جرى  مع زُمرةِ الفشلِ

كلُّ  المفاوزِ  في الأهوالِ  تعرفُني       الموتُ  يهربُ مِنِّي  كالصَّبي  الثَّمِلِ

الخيلُ والليلُ  والبيداءُ  لي  شهدَتْ       والعلمُ   والفنُّ  في  الأقطارِ  والدوَلِ

وَإنَّني   مُتنبِّي  العصرِ.. ما  كذبُوا       وَبي الفنُونُ ازدَهَتْ  في أجملِ الحُللِ

زينُ الشّبابِ  وَمجدٌ للألى افتخرُوا      والفارسُ المُرتجَى في الموقفِ الجَللِ

وتحتَ أقداميَ الصحراءُ  قد نضَحَتْ     وَإنَّني   البِرُّ   في   حِلٍّ    وَمُرتحلِ

نحوَ النُّجومِ  أنا  ما زلتُ  في  سَفر      ترفّعتُ  عن  عالمِ   الأقذارِ  والزّللِ

فوقَ  المَجرَّةِ   قد  أرسلتُ   قافلتي       المجدُ   أمطرنِي   بالوردِ     والقُبلِ

ميتافِزيكا   وجودِ  الخلقِ   مُنطلقي      وراءَ حُجبِ الدُّنى أمضي على عَجلِ

وَقمَّةُ  الذّاتِ  في عُرسِ الفداءِ   أنا       الفنِّ   يُنعَى  هنا   إذ  ما  دنا   أجلي


مقرّ مجلس قيادة السطوح/ شوقي مسلماني



1 ـ 

الكاتب د. حسن حمادة ضمير وهو يعتبر الإنتخابات النيابيّة المقبلة في لبنان شؤماً، لأنّها ستؤكّد سلطة منظومة الفساد، فيما بعض "اليسار" كلٌّ منهم ينطح حيطاً للإشتراك في هذه الإنتخابات متحالفاً مع هذا وذاك وذيّاك من الذين يقيسون من دون تمييز بين الذهب وبين قشور البصل الأحمر، من الذين يرفعون شعارات ما انزل الله بها من سلطان، على ما يُقال بالعابرين أو الطائفيين، منها "تشليح المقاومة سلاحها"، ومن مثل أن الفاسدين لا نميّز بين كبيرهم المتربّع على المليارات والخادم في مطبخ بيت تأكّد أنّه مرّة سرق "ملفوفة" وسرق "ربطة خبز" لإطعام أطفاله، وهما سواسية تحت مقصلة خرقاء واحدة، ومنهم الذين تحوّم شبهة "السفارات" وتشير نحوهم، ومنهم الذين بالكاد هم بعدد أصابع اليد الواحدة، يجتمعون في غرفة مرايا ويظنّون ما ظنّه الثعلب بالطبل الأجوف، وأقصى ما يجمع نفيرهم عشرين "صوتاً"، ربّما لزوجاتهم وأزواجهم وأبنائهم وأصهرتهم لا أكثر، ولغتهم السياسيّة "سنسكريتيّة" لا يفقهها أحد غيرهم، ومنهم الذين يعتبرون الإنتخابات "سوق"، و"مع السوق نسوق". حمّى خوض هذه الإنتخابات.. "آه، يلعن أبو الهبل، يلعن أبو الكرسي.. ويا عيب الشوم".  

2 ـ 

بدّك تقلّي إنّو منظّمات المجتمع المدني، اللي على كتير منها ألف سؤال وسؤال، هيّي اللّي نزّلت عالشارع بـ 17 تشرين ميّات ألوف الناس؟ معقوله؟. نزلت الناس مش لأنها مش قابضه حدا، نزلت الناس من قهرها، من مين؟ من اللي بالسلطة من التمانينات، من التسعينات، من 2005 وعمتحكي حكيك. وخود مثلاً كلّ الأحزاب اللّي بتدّعي إنّها علمانيّه، بينوجدوا جماعة المجتمع المدني لو هل أحزاب علمانيّه حقيقيّه ومنظّمه ومش مستهتره ومبرجزه؟. كيف ما قلبتها مش راكبه. 

3 ـ  

وعلى هذا النحو تكون المعزوفة، حيث لهم توجيه أقسى النقد لإيران من دون أي إعتبار أنّ الدعم الإيراني كانت له يد طولى في دحر الإحتلال الإسرائيلي في عام التحرير سنة ـ 2000 من دون قيد أو شرط وله يد طولى في نصر تمّوز 2006 ضدّ العدوان الصهيوني على لبنان بإقرار زعيم المقاومة ودون إعتبار للنصر الذي حقّقته غزّة العام الفائت على دولة الكيان الصهيوني. وقال زعيم حماس مغنيّة: "شكراً إيران للدعم المالي والعسكري والتقني"، فيما دولة رمليّة واحدة لم تقدّم بندقيّة أو حتى رصاصة واحدة للمقاومة الفلسطينيّة في غزّة طوال صراعها مع دولة الإحتلال الصهيوني ـ إسرائيل. وإذا نقدٌ ضدّ السعوديّة مثالاً لا حصراً كدولة خليجيّة فالويل والثبور وعظائم الأمور، فلدينا عمّال فيها يعملون،  وشخصيّاً مع كلّ نقد محقّ ضدّ إيران أو ضدّ السعوديّة، ومع كلّ تثمين لكلّ دور إيجابي إيراني أو سعودي، قال وأضاف: ولكنّك تعرفهم أولئك اللاهثين. 

4 ـ  

مثلاً أميركا عم تحارب إيران منشان منع المدّ الشيعي؟. بالمحيط العربي السنّي؟. شو الشيعي وشو السنّي عند الأميركان يا غضنفر؟، يا السبع الغضنفر؟. إيران عم تقول لأميركا كتير هلقدّ. الأميركان ما بدهن يلقى آذان صاغيه هل حكي بدول جوار إيران الإسلاميّه، واللي حاصل إنّه الأغلبيّه سنيّه. بيلعبوا الأميركان هل ورقه، مش فرّق تسد؟، هيدي أبسط شي، ولو كانت هيدي الأغلبيّه شيعيّه بردو كانوا قالوا عربيّه ـ فارسيّه، مَ عملوها بحرب العراق ـ إيران، 8 سنين يقولوا عرب "فيرسس" فرس، ويغنّوله: "يا حامي البوّابه الشرقيّه"، اللي أهدى، متل ما قال هيكل، أوّل قذيفة مدفع على إيران لرأس السي آي إيه، رأس الإستخبارات الأميركيّه بالمنطقه، ملك الأردن السابق، الملك حسين. مش عم يبكوا عَ الحسين، متل ما بيقولوا الشيعه، عم يبكوا عَ الهريسه. الله يحفظكْ ويحيمكْ. 

5 ـ 

وإسمع سيمون أبو فاضل كيف يبرِّر لسياسة سعوديّة متخلّفة في لبنان. هو يقول أنّ حزب الله، كحزب "إستراتيجي"!، مشروعه التشييع أو الأسلمة، يجب التصدّي له. وانظر كيف يستنكر الحديث أن السفارة الأميركيّة كبيرة قياساً بحجم لبنان الجغرافي، وهو في آن رئيس تحرير موقع الكلمة أون لاين!.  

6 ـ 

وقال بسّام أبو شريف، وهو مستشار أسبق للرئيس الراحل ياسر عرفات،  أنّ وليد جنبلاط هدّد الفلسطينيين بالمظاهرات ضدّهم إذا لم يقبلوا بعروض الخروج من بيروت، وقال أن جنبلاط كرّر قولته أنّ "بيروت عاصمتنا وليست عاصمتكم". وختم أنّه ذاته كان شاهداً على هذا الكلام الموثّق. 

7 ـ 

سقطوا في إمتحان الصبر والحكمة، كان يقول له أنّ الإعلام الصهيوني في إسرائيل والإعلام الإمبريالي الغربي يروّجان لتوجيه الإتّهام مرّة إلى سوريا ومرّة إلى حزب الله في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وفيما نحن نتّهم إسرائيل والغرب الإمبريالي بدمّ رفيق الحريري فأقلّه كان يقول له أن ننتظر نتائج تحقيقات المحكمة الدوليّة. وهو يصرّ، مرّة سوريّة هي التي اغتالت، ومرّة حزب الله هو الذي اغتال. وأخيراً ها هي المحكمة الدوليّة، بعد خسارة لبنان مئات ملايين الدولارات عليها، وها هي المحكمة الدوليّة التي ذاتها كم هم كثر الذين يشكّكون بمصداقيتها، ها هي، بعد مضي كلّ هذه السنين، تخلص إلى نتيجة تقول ببراءة الدولة السوريّة وببراءة حزب الله. ماذا سيقول الآن؟. انغمس إلى رأسه بالمواقف الطائفيّة، وصار من نخبة مثقّفي المذهبيّات التي لها لحى وقلنسوات وهو بكرافات. ولم يتميّز، وكأنّه صدى الإعلامَين: الصهيوني والغربي، وهما بالأصل واحد، ظلّ يردّد ما ينعقا به، إذا أسأنا الظنّ، وإذا أحسنّاه قلنا: هو أحمق، أخرق، أصفق!. 

8 ـ  

والمحاميّة بشرى الخليل قالت أنّ: إنهيار الليرة اللبنانيّة بدأ منذ ثمانينات القرن العشرين حين كان "الشيخ" أمين "رئيساً" للجمهوريّة بالتعاون مع "الشيخ" رفيق الذي استكمل لعبة انهيار الليرة عندما صار: "رئيساً" للوزراء. 

9 ـ 

أسعد الشفتري أقرّ في حوار متلفز أنّ المسلم في لبنان كان نزيلاً في فندق يملكه مسيحي، ولو أعطيناه حقّه ما كانت حرب 75 لتقع. وأضاف: هل تعرف ماذا يعني عندما نقول "ولو! خذنا بحلمك"؟، "يعني فيك تعيش حلمك بس نحنا كمان موجودين، شوفنا بحلمك بالطريق"!. وأسعد الشفتري كان من الضبّاط القريبين من بشير الجميّل، وما أشبه اليوم بالغد. 

10 ـ 

اليسار العربي محتاج أن يدرس أزمته، قال د. محمّد دوير، وأضاف: نحن في أزمنة يجب أن ندرسها ونقرّ بها أوّلاً، وماذا نريد؟ وعن ماذا نعبّر وأي الطبقات نلتزم؟ كيف نتأصّل بالتسامح المنهجي، بالعقلانيّة الثوريّة،  من أجل التخلّص، اليوم قبل غداً، من بقايا البرجوازيّة المتوسّطة التي لا تزال، للأسف، تهيمن على كوادر الإشتراكيّة في عالمنا العربي.  

11 ـ 

"أقام غابي اشكينازي وزير خارجية إسرائيل مأدبة إفطار على شرف سفراء الدول العربية والاسلامية المعتمدين لدى تلّ أبيب، ضمنهم، بحسب موقع إيلاف الإلكتروني: سفراء مصر "خالد عزمي"، الاردن "غسّان المجالي"، الإمارات "محمود آل خاجة"، المغرب "عبد الرحيم بيوض"، إضافة الى سفراء تركيا وكازاخستان وألبانيا وأوزبكستان وتنزانيا وكوسوفو، وشخصيّات عربيّة وإسلاميّة وعامّة في إسرائيل، وعرف الافطار إجراء اتّصال عبر تقنيّة "زوم" بين الوزير اشكنازي ووزيري خارجيّة الإمارات والبحرين: الشيخ عبد الله بن زايد وعبد اللطيف الزياني. ومن كلمة أشكنازي في الإفطار: "لا يسعني إلا أن آمل أن يشهد العام المقبل انضمام المزيد من الممثلين العرب والمسلمين إلى مائدة إفطار وزارة الخارجية الإسرائيليّة". وهذا ما لا يزال يحصل.  

12 ـ 

مَن بعد يتذكّر الشهيد البطل سليمان خاطر، المجنّد في قوى الأمن المركزي المصري، الذي خدم في سيناء وأصاب بالنار، سنة 1985، سبعة صهاينة حاولوا التسلّل، وكانت النتيجة أن حكمت عليه مصر مبارك بالسجن المؤبّد. ثمّ سنة 1986 اغتيل إرضاءً لإسرائيل. يومها قيل أنّه انتحر شنقاً في زنزانته، وخرجت مصر في مظاهرات وهي تهتف: "المعقول المعقول، سليمان خاطر مات مقتول"، ويومها قالت أمّه: "قتلوا سليمان علشان خاطر يرضوا إسرائيل". أخيراً اعترف سليمان الفقّي، سكرتير مبارك، في شهادة، أنّ سليمان خاطر، حقّاً، لم ينتحر، بل اغتيل، وقال أيضاً: "علشان خاطر إسرائيل". ولاّدة يا مصر ومنصورة. 

13 ـ  

والأخضر الإبراهيمي قال مرّة أنّ خطف الطائرات مارسته الجبهة الشعبيّة لتحير فلسطين منذ عام 1969 للفت أنظار العالم إلى قضيّة شعب يُقتل ويُشرّد ولا من يلتفت، أي كان لخطف الطائرات  فوائد لا أحد ينكرها. 

14 ـ 

استغربتُ أن لا يلحظ الفيلسوف والمناضل الفرنسي الشهير ريجيس دوبريه، وهو يردّ على سؤال، غير أنّ إسرائيل قامت عن ندم أوروبّي بقتل اليهود خلال الحرب العالميّة الثانية، ولم يضع احتمال أن تكون إسرائيل قد قامت ككيان صهيوني غريب في المشرق العربي لمشروع إستعماري ـ إمبريالي أوروبّي مجرم. 

15 ـ 

ومن المفارقات في التاريخ، ما يروى أنّ المرشّح الرئاسي المصري د. أيمن نور، ويقول رئيس تحرير عرب تايمز د. أسامة فوزي أنّ نور مبدئيّاً حصل على أصوات أكثر من حسني مبارك، لذلك سجنه الأخير. سأله فوزي إذا حقّاً عرض عليه الرئيس المصري السابق محمّد مرسي منصب رئاسة الوزراء؟. أجاب نور بالإيجاب، وأضاف أنّ مرسي عرض عليه تشكيل الوزارة، وأن يترك له منصب، وقد خصّصه للّواء عبد الفتّاح السيسي الذي انقلب عليه في ما بعد وأودعه السجن حتى مات ودفن من دون السماح لأحد طبّي، محلّي أو دولي، للكشف عن أسباب أو سبب وفاته. قال له د. نور: أنا أقبل أن تشكّل أنت كلّ الحكومة، وفقط اتركْ لي أمر السيسي!. وافترقا. 

16 ـ 

أرجو أن أكون ناقلاً صحيحاً عن الراحل الكبير الأنبا شنودا: إذا الشريعة الإسلاميّة هي "لهم ما لنا ولنا ما لهم، أو علينا ما عليهم وعليهم ما علينا، فالمسيحي سيعيش سعيداً بسيادة هكذا شريعة كريمة". 

17 ـ 

كتب الراحل الشاعر والمناضل أحمد فؤاد نجم، وبحروف كبيرة، على حائط، في بيته المتواضع: "مقرّ مجلس قيادة السطوح". وسألتني أستاذة جامعيّة ما المعنى؟. وشرحت لها أنّهم أخيراً أيضاً أولئك الذين يحيون عند فوّهة بركان.  

18 ـ 

الجنرال الأميركي "جون بيرشينغ"، وهو المشهور بإسم "بلاك جاك" وبالدمويّة، كما روى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خلال حملته الإنتخابيّة ـ 2016. قال أنّ بلاك جاك غمّس رصاصات بدماء خنازير وأعدم بها عشرات الأسرى من "المورو" وهم من سكّان الفلبيّن الأصليين ـ وفي آن هم مسلمون ـ ذلك بعد الحرب الإسبانيّة ـ الأميركيّة التي بدأت عام 1898. وكان عدد الأسرى 50 شخصاً، أعدم 49 وأمر الناجي الوحيد بالعودة إلى قومه وإخبارهم بما حدث. والمورو كانوا في حينه يقاومون احتلالاً جديداً لبلادهم بعدما فرّت مدريد وتركت بلادهم مرغمة لواشنطن ذاتها السائدة اليوم. 

19 ـ 

 يقول الكاتب حسام أبو النصر: "وقد يختلف علم التاريخ عن باقي العلوم، حيث إنه علم غير قابل للتجريب والتجارب، فهو ليس كمياء أو فيزياء ولا يحتمل نجاح التجربة أو فشلها، بل هو علم قائم على الدليل منذ اللحظة الأولى، ومساحة تفسير ظواهره متاحة إلى حدّ ما، وإلى مدى معيّن، إذا زاد عن حدّه يصبح تأويلاً وتهويلاً وإذا بني على التأويل ندخل في اتّجاه خارج سياق التاريخ". 

20 ـ 

وإنّ مالكولم إكس، الناشط الأميركي الكبير في مجال حقوق الإنسان، هو صاحب المقولة الشهيرة: "لا تغرز سكّينا في ظهر رجل تسع بوصات ثم تسحبها ست بوصات وتدّعي أنّك أحرزت تقدّماً".  

Shawkimoselmani1957@gmail.com 


ضعف الطغاة ونزع فتيل العنف/ ترجمة د زهير الخويلدي



الترجمة

"ضعف العنف

"إنها القوة التي تقاوم الضعف. من ناحية أخرى، فإن العنف يتعارض مع اللطف. يتعارض العنف مع الضعف إلى حد أن الضعف غالبًا لا يكون له أي أعراض أخرى غير العنف؛ ضعيف ووحشي، ووحشي على وجه التحديد بسبب الضعف ... " . فلاديمير يانكلفيتش [1]

بعيدًا عن كونه تعبيرًا عن قوة أو الخلط بينه وبين القوة، لا يمكن فصل العنف، حتى المفترض، أو حتى المزعوم، عن هذا الجزء الذي لا يوصف من الظلام الذي يحمي قلب الإنسان. تمكن أعظم الكتاب أحيانًا من تصويره وتسميته: "الوحشية على شكل كابوس" (جورج باتاي عن رايس [2])، "هاوية اللاإنسانية" (سارتر حول التعذيب [3])"كتلة من الهاوية "(آني لو برون عن عمل ساد [4])، أو حتى:" نداء الدم الراسخ في أعماق الطبيعة البشرية، والمقدر أن يصب بالتناوب في اللاإنساني "[5]. على المستوى الأنثروبولوجي، الهمجية ليست من اختصاص أي شخص، وقد تم قبولها منذ فرويد أن لا أحد في مأمن من الانتكاس. فهل علينا حلها؟ فقط لاحظ ذلك؟ تقبل فكرة أن الرجال لا يستطيعون العيش معًا لفترة طويلة دون قتل بعضهم البعض؟

قال هيجل إن الشعوب السعيدة ليس لها تاريخ. إن الإنسانية، التي لا يرحم تقدمها نحو الحرية الملموسة في كتابه العقل في التاريخ، قد أشادت كثيرًا بالعنف. لكن هل يأتي هذا التقدم من المعاناة التي تصاحبها بمعدل الأزمات المدمرة التي تتبع بعضها البعض لأكبر مصيبة للشعوب (حروب، ثورات، مذابح، إلخ)؟ بغض النظر عن هيجل وتلاميذه، الذين تم كسبهم بشكل عام لفكرة ضرورة العنف وخصبه، يمكننا أن نعتبر أن تقدم الروح - الذي "السلبية هي المحرك" - يجب أن يظل أكثر ثقافيًا وثقافيًا. الديناميكيات الاجتماعية أكثر من جرأة قادتهم ("الرجال العظماء"). يمكننا أن نناقش إلى ما لا نهاية الدور البارز للاستراتيجيين في تاريخ الحضارة (بريكليس، الإسكندر، قيصر، إلخ) بالإضافة إلى مزايا الشعوب التي قادوها في مشاريعهم التحررية إلى حد ما. على الرغم من ذلك، سيتعين علينا الاعتراف، بشكل جيد، أنه عندما يكون لدينا حد أدنى من الإدراك المتأخر، فإننا نختار تكريم هذه الشخصيات البطولية لمساهمتها في الحضارة (ما يسميه هيجل "العالمية"))، وليس لصالح الأرباح التي حققتها أعمالهم لصالح الأمة الواحدة التي جسدوها ذات يوم. لا يمكن للطموحات الإمبريالية وقهر التوسع والاستعمار أن تغلف الوعد بمستقبل سلمي. نحن حريصون اليوم على عدم الثناء على "الرجال العظماء" الذين ادعوا - بناءً على تفوق جيوشهم وقوة اليقين - تصدير فوائد "الحضارة" من خلال سحق ثقافات الأمم الخاضعة. ليس من خلال إبادة الجماعات المتمردة أو الأفراد. الوهم. المقاومة - إذا لزم الأمر، على حساب إراقة الدماء - هي ضرورة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن أمة ضد اعتداءات أولئك الذين يدّعون تدميرها. ومع ذلك، فإن المحررين الكبار، والعظماء، والشعوب البطلة، لا يدينون بمجدهم لوحشية مخططاتهم، ولا للعنف الذي كان عليهم اللجوء إليه لتنفيذها، ولكن فقط لحقيقة أن هذا العنف هو وقت مُجمَّع لمؤسستهم التعليمية، ولكن لدعم قضية عادلة. ليس الإرهاب العظيم ("قانون البراري") الذي يُطلب من تلاميذ المدارس تذكره من روبسبير، ولا غزو روسيا من نابليون، ولكن الإرث الديمقراطي للثورة الفرنسية الأولى والقانون المدني للثاني. قال بريكليس: "الرجال العظماء هم أولئك الذين جعلوا الأرض كلها مقبرة لهم". ومع ذلك، لا الأسلحة ولا القوة الغاشمة ولا حتى الصفات البارزة للاستراتيجي يمكن أن تجلب لهم هذا الاعتراف العالمي الذي يتضمن بالضرورة بعدًا أخلاقيًا.


ضعف الطغاة

العنف ليس أكثر من قسوة، فهو في حد ذاته وبطبيعة الحال ليس سمة من سمات القوة ولا مظهرًا من مظاهر القوة. هناك شيء يعرفه الجميع من تجربته شخصيًا: العنف عمومًا يخفي شكلاً من أشكال الهشاشة أو يعبر عن الضيق أو ينكر الإذلال. ما ينطبق على المعلم الذي يصرخ عندما يكون في مأزق ، والد أو أم الأسرة الذي ، في نهاية صبره ، لا يستطيع كبح جماح صفعة ، وما إلى ذلك - صحيح أيضًا على مستوى الشعوب و من حكوماتهم. الهجمات العصبية، وفقدان السيطرة، هي اعتراف بالضعف، ويُنظر إليها على الفور على هذا النحو. تمامًا كما أن دعوات السيد الصاخب لن تخدع أبدًا أي شخص، فإن شراسة الأمراء هي كل ما يريده المرء، لكنها بالتأكيد ليست علامة على سلطتهم. في القسوة كمبدأ للحكومة [6] ، يتذكر باتريك بوشرون أنه بالنسبة لمكيافيلي نفسه (الأمير ، الفصل العشرين) كانت قلاع أمراء العصور الوسطى تعبيرًا عن الخوف الكبير الذي ألهمه الناس. "إن الطاغية محبوس في قلعته كما لو كان محاصرًا بسلطته" [7]: المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم هذا لا يمكن إلا أن تعرض مثل هذا البناء للخطر. وبشكل أكثر وضوحًا، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن شرعية رجل الدولة - أياً كان، حتى لو كان مستبداً - يمكن أن تعتمد فقط على الإرهاب الذي يمارسه، أو التهديد الذي يلوح به. أظهر لابوتي هذا مرة واحدة وإلى الأبد: لا يمكن لأي ملك أن يفرض سلطته على أساس دائم إذا لم يوافق رعاياه، لأسباب أكثر أو أقل معترف بها، على سلطة يعتبرونها، رغم كل الصعاب، شرعية أو مفيدة تمامًا. إن قوة الطغاة هي ثمرة سذاجتنا، وقد تم إنتاجها وتعزيزها بعد ذلك بقرون من الاستسلام الذنب واللامبالاة: "هل نطلق على هؤلاء الاشخاص الخاضعين حقير وجبناء؟ إذا كان اثنان، إذا كان ثلاثة، إذا أربعة استسلموا لواحد، فهذا غريب، لكنه لا يزال ممكنًا؛ يمكن للمرء أن يقول بعقل: إنه خطأ من القلب. ولكن إذا كان مائة، إذا عانى ألف من اضطهاد شخص واحد، فهل يقال إنهم لا يجرؤون على مهاجمته، أو أنهم لا يريدون ذلك، وليس هذا جبنًا، بل احتقارًا أو ازدراءًا؟ أخيرًا، إذا لم نر مائة، ولا ألف شخص، بل مائة دولة، وألف مدينة، ومليون رجل لا يهاجمون من يعاملهم جميعًا مثل العديد من الأقنان والعبيد، فكيف نؤهل ذلك؟ هل هو جبن؟ (...) أي رذيلة وحشية هذه ، التي لا تستحق حتى لقب الجبن ، الذي لا يجد اسمًا قبيحًا بما فيه الكفاية ، والذي تنكره الطبيعة وأي لغة ترفض تسميته؟ "[8]

يذهب مونتين في نفس الاتجاه ، ولكن بطريقة أخف ، في فصل مقالاته [9] بعنوان "ديس أكلة لحوم البشر". يقول إن ثلاثة منهم جاءوا لمقابلة الملك تشارلز التاسع ، الذي لا يزال طفلاً ، في روان. بعد هذه المقابلة ، يتساءل آكلي لحوم البشر عن سبب عدم قيام الحراس الأقوياء والمسلحين جيداً الذين رافقوه بإسقاطه وبدلاً من ذلك اختاروا واحداً من بينهم ليأمروا به؟ ولماذا عانى حشد المتسولين المتجمعين عند بوابات القصر من هذا الظلم بدلاً من "الاستيلاء عليهم من الحلق" و "إضرام النار في منازلهم". إجابة مونتاني، التي لم تتم صياغتها، يسهل تخيلها: فقط غباء و "جبان" الرعايا (للتحدث مثل لابوتي) ينتج ويديم سلطة الطغاة. هذا لا ينبع من قوة جسدية أو معنوية حقيقية، ولكن من بناء وهمي إلى حد كبير: "الأمير يجسد الخيال الذي تخصصه له وظيفته في المجتمع" [10]. إن شرعية الحكومات منسوجة إلى حد كبير من الخيال، والعنف والوحشية والقسوة التي يمكن لأشدها شراسة أو قسوة أن تظهر، تأتي في ظروف معينة، لتعزيز هذا التمثيل الخاطئ للسمات. السلطة. لكنها ليست الأساس الحقيقي، لأنه لا توجد شرعية، مغتصبة أو دائمة، بدون شكل من أشكال الموافقة.


حالة الشمبانزي

في طرفي طيف العنف الشديد نجد منطقًا مختلفًا للإرهاب تشترك فيهما أنها تقدم مزايا غير مباشرة للجماعة الإجرامية: حتى "الجبناء"، حتى لو حصلوا دون قتال، فإن انتصارات المعتدين تجعل من الممكن فرض سيطرتهم على إقليم ما والقضاء على منافسيهم يأخذون أقل قدر ممكن من المخاطرة. الهدف من اللعبة هو الاعتراف بسيادة الفائز. كانت جين جودال ، أول عالمة رئيسيات تراقب الشمبانزي في بيئتها الطبيعية على مدى فترات طويلة من الزمن ، هي أول من توصل إلى هذا الاكتشاف المؤلم: في بعض الأحيان تعثر مجموعة من الشمبانزي على نفس الشاب المنفرد ثم تهاجم دون سبب بوحشية لا تصدق [11 ]. نحن نعلم اليوم - بعد ثلاثة عقود - أن العدوان المميت هو جزء من الذخيرة "الطبيعية" لسلوك الشمبانزي. في مثل هذه الظروف، التي لا تزال غير متكررة، لا تقاتل الشمبانزي بشكل مباشر من أجل الغذاء أو غزو الإناث للإناث. ومع ذلك، نجح عالم الرئيسيات ريتشارد دبليو راغام - طالب من جين جودال - استنادًا إلى العديد من البيانات التي تم جمعها حول التركيبة السكانية وبيئة الشمبانزي، في إثبات أن مجموعة القتلة يمكن أن تستفيد من مثل هذه التسلسلات. بفضل الميزة العددية، تسيطر العصابة بطريقة ما على الإرهاب من أجل احتكار الوصول إلى الطعام والإناث في منطقة معينة لمصلحتهم الخاصة. الدرس المستفاد من هذا النوع من الملاحظة ذو شقين: مرتكبو هذا العنف الشديد يعتمدون في تفوقهم على قوتهم، لأنهم يهاجمون الضحية المنعزلة التي يقضون عليها دون المخاطرة. ومع ذلك، فإن هذه الاعتداءات تجلب لهم فائدة من خلال التأكيد لهم على الأقل على التفوق المؤقت بناءً على الخوف الذي تسببوا فيه. ومع ذلك، فإننا نرى أن نفس المنطق بالضبط يعمل في عمليات الإكراه البشري، من الإعدام خارج نطاق القانون في كو كلوكس كلان إلى الإبادة الجماعية الأرمن والغجر واليهود في القرن العشرين. إن العنف، الذي ليس مظهرًا من مظاهر الشجاعة، ليس سمة من سمات القوة، ولكنه غالبًا ما يحل محله: "شعوب ما قبل الدولة تقضي أيضًا على أعدائها، ليس أثناء معركة ضارية، ولكن في بعض الأحيان نصب الكمائن والغارات الخفية. يتميز الكثير من العنف البشري بجبنه: ضربات منخفضة، معارك غير متكافئة، ضربات استباقية، غارات ما قبل الفجر، تصفية المافيا للأرقام، إطلاق نار من مركبة متحركة "[13]. ولا طيار الطائرة بدون طيار الذي يضغط على زر قبل أن يسحق هدفه أظهر أي قوة معنوية معينة في هذا التمرين. إن أعنف أعمال العنف اللاإنسانية والأكثر تدميراً في القرن الماضي - مثل إلقاء القنبلة الذرية - تشهد على المستوى التكنولوجي العالي للدول التي نفذتها؛ ولكن ليس من جرأة أو جرأة أولئك الذين أطلقوا العنان لهم. فكيف يكون العنف الذي ينقذ أي مواجهة ، أي قتال ، علامة على قوة من يستخدمه ، عمداً أو يائساً؟ يمكن أن تتأسس القوة وتتجدد، في حين أن "العنف هو فقط الإرادة الشيطانية للشيء، والتي ليست أقل من الوجود، بل اللاوجود"، كما كتب يانكيليفيتش [14].


الإرهاب

في الطرف الآخر من الطيف، يوجد الإرهاب المعاصر و"الهجمات العشوائية" المروعة، التي يصفها الإعلام والسياسيون بانتظام بأنها "حقيرة" و "غير إنسانية" - ولكنها أيضًا "جبانة". ومع ذلك فإن معظم هؤلاء المقاتلين يفضحون أنفسهم. إنهم لا يخشون الموت لإنجاز مهامهم، فالبعض ينتحر عندما يفجرون أنفسهم في نفس الوقت مع أهدافهم. إن مذابح المدنيين، التي تم تحديدها أحيانًا لجرائمهم المفترضة (مثل صحفيي شارلي إبدو) أو للرمز الذي يمثلونه (مثل أطفال تولوز اليهود) ، مجهولة المصدر أحيانًا ، كما هو الحال في مذبحة نيس ، هي مع ذلك "جبانة" ، ولكن في بمعنى مختلف تمامًا. الإرهاب بامتياز هو العنف الذي يمارسه الضعيف ضد كل من هم أضعف منه، حيث يجب نزع سلاح الأهداف ومهاجمتها على حين غرة. لا يستطيع المرء أن يتخيل اغتيالاً أكثر حقارة من اغتيال انسان، كما فعل محمد مراح، يلاحق طفلاً ليطلق عليه رصاصة في رأسه [15]. ومع ذلك، فإن هذه الجرائم تستجيب لاستراتيجية صريحة: "الجهاد الشامل" يلف هذا الامتداد، السخيف وغير المحدود، لمحيط الأهداف المراد تدميرها. في النهاية، فإن العنف المُستحث هنا هو حرفيًا لانهائي، مطلق لأنه يأخذ نفسه في النهاية. وهذا ما يقوله الجهادي س.ك.مالك صراحةً في المفهوم القرآني للحرب: "إن ضرب قلب العدو بالإرهاب ليس وسيلة فحسب ، بل هو أيضًا غاية في حد ذاته (...). هذه هي النقطة التي تلتقي فيها الغاية بالوسائل وتندمج معها "[16]. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن الإرهابيين الإسلاميين ليسوا من اختصاص" الجبناء "أو حتى العنف الأعمى. في نظرية الطائرات بدون طيار، يتساءل غريغوار شاميو إذا كان بإمكاننا التحدث عن "الحرب" عندما لا تكون المخاطر متبادلة، عندما يتم تقليص المجتمعات بأكملها إلى حالة الأهداف المحتملة، عندما لا يقاتل المقاتلون ولكنهم يكتفون بتنشيط الروافع ... هل الحرب أن تكون أقل قسوة، سيعترض المرء، إذا قتل الجنود أعدائهم في قتال متلاحم؟ على الاغلب لا. ومع ذلك، يلاحظ مؤلف هذا المقال أنه قد يكون لدينا أحكام أكثر تفكيرًا حول الأعمال المميتة إذا توقعنا بشكل صحيح التكلفة في الأرواح البشرية للقتال من أجل قواتنا، كما هو الحال في نوع تقليدي من الصراع. لا شك أنه من الطبيعي ألا نرغب، قدر الإمكان، في تعريض قواتنا للخطر. ومع ذلك: "يجب أن نشعر بالقلق من أن عدم وجود عواقب يمكن تحديدها بالنسبة لنا يقودنا إلى قصف خفيف للشعوب" [17].


نزع فتيل العنف

إذا كان العنف هو ترجمة استحالة التصرف بطريقة منفتحة ومخلصة، وبالتالي، في الحالة الأخيرة، أعراض شكل من أشكال الضعف الخفي، فسوف نسأل أنفسنا منطقيًا ما هي أساليب القوة التي يمكن أن تضعها بشكل فعال والحد من العنف بشكل مستدام. هناك العديد من الإجابات، بعضها أثبت نفسه - هذه هي تلك التي كانت في صميم السياسة كما اخترعها الأثينيون. كانت فكرة الإغريق، كما أوضحت جاكلين دي روميلي في كتاب بعنوان اليونان القديمة واكتشاف الحرية [18]، تحويل العنف إلى سياسة. اليوم، غالبًا ما نعتقد أن المجال السياسي هو مشهد كل العار، من الخيانات الصغيرة إلى أكثر المخططات الإجرامية. على النقيض من هذا التمثيل الفاضح وغير البناء، حرص الإغريق، مما قبل سقراط إلى أرسطو، على التمييز بعناية بين الأساليب المختلفة للسياسة. هناك حس نبيل بالسياسة، والذي يقوم على فكرة أن العداء وحتى العداء بين البشر (ما أسماه كانط اجتماعنا الاجتماعي غير المنفصل) يمكن قبوله وإدارته في ظل ظروف معينة. التوافق - الذي يجب أن نهدف إليه - لا يمنع المواجهات أو المحاكمات. لكن هناك العديد من أشكال الصراع أو الصراع، بعضها يجب تجنبه، بينما البعض الآخر قد لا يكون مقبولاً فحسب، بل مفيد بكل الطرق. المواجهة في حد ذاتها ليست عنيفة ("المواجهة" تعني "السير بجرأة أمام الخصم" ، "الشجاعة" ، "الكشف عن الذات والوجه"). المواجهة التي يشارك فيها خصمان أو مجموعتان من المصالح أو فريقان في ملعب رياضي ليست عنيفة. من ناحية أخرى ، فإن أسوأ أشكال العنف - العبودية ، والتعذيب ، وقتل الأطفال ، والقتل الجماعي المخطط له ، والتفجيرات ، والاغتيالات "المستهدفة" بواسطة الطائرات بدون طيار - لا تنطوي على أدنى مواجهة. الملاحظة - الصراع ليس ضارًا ولا هائلاً في حد ذاته - تساءل الشعراء (هسيود ، هيراقليطس ، إلخ) والاستراتيجيون اليونانيون عن كيفية تلطيف العنف دون القضاء عليه. لقد اعتقدوا أن الخيار الأفضل هو تعزيز العداوات والقتال الأقل حدة، وذلك لكي تميل، في المرحلة الثانية، إلى استبدال العنف المباشر بشكل منهجي، وربما الدموي، بأشكال أقل راديكالية من المواجهة. تم تحويل "الحل اليوناني" على المستوى السياسي، إلى نقل "الجدل" (الصراع، الصراع) والعداء (من المضيفين، العدو) إما من خلال تقديمه كمنفذ لصراعات مؤطرة ومخلصة (على سبيل المثال في الملاعب) أو، من الناحية المثالية، الجدالات: المعارك الخطابية التي سلاحها الوحيد هو الحجج. في الرياضات القتالية، تهزم خصمك دون قتله. وبالمثل، في المسابقات الخطابية، "يقتل" المرء خصمه بشكل رمزي فقط. كتبت هانا أرندت: "يبدو الأمر كما لو أن الإغريق قد فصلوا القتال - ... 19] لكنها توضح أن هذه الطفرة التي تمد القتال من خلال منح العدو صفة العدو (لا يقتل أو يهين الخصم) لا يمكن أن تحدث إلا بعد تهيئة الظروف لإطار حقيقي للتعايش السلمي. ومع ذلك، فإن شروط ظهور مثل هذا الفضاء من المواجهة المهذبة، التي تضمن الاحترام المتبادل، هي المحبة التي توحد الرجال الأحرار والمتساوين. ومع ذلك، اتضح أن المواطنين في أثينا فقط هم من يمكنهم المطالبة بمثل هذا الوضع. وبالتالي، فإن نظير هذا المثل الأعلى للأخوة هو، في الواقع، تحويل العنف تجاه الأجانب أو الأعداء: البرابرة (الاشخاص غير الأحرار) أو العبيد (الأسرى في الحرب). وبهذا المعنى، يظل نجاح الطريقة اليونانية نسبيًا جدًا، حيث لم يكن العنف هناك متصاعدًا وخفيفًا فحسب؛ تم نقله أيضًا بل وتم تقييمه خارج إطار المدينة. تسير الإمبريالية الأثينية جنبًا إلى جنب مع الديمقراطية، كما يتضح، على سبيل المثال، من المكانة الراسخة للاستراتيجي العظيم بريكليس.


بناء الخلاف

كانت فكرة الإغريق لا تزال موعودة بمستقبل مشرق. وجدناها متراجعة في العديد من المجالات، وأعيدت صياغتها من قبل عدة مؤلفين. دعونا فقط نقتبس من كانط الذي اعتقد أيضًا أن ما يسمى "الخلاف" يمكن قبوله بشرط أن يتم تأطيره من أجل توجيه العداء للتوترات العدائية داخل الشعوب، مع إقناعهم بالخضوع لقوانين قسرية لمصلحة الجميع [21]. يتم تطبيق هذا البرنامج لإدارة الخلاف وإدارة الصراع الحضاري على نطاق واسع في معظم الديمقراطيات، على الرغم من النجاحات المتفاوتة. أعظم النجاحات في هذا المجال هي تلك التي حققتها الديمقراطيات الاجتماعية الأوروبية، التي نعرف تأثير ثقافة التسوية الاجتماعية فيها. لكن كل تجارب المصالحة التي تمت بعد الحروب والصراعات المميتة، كما حدث في جنوب إفريقيا أو مؤخرًا في رواندا، هي جزء من هذا المنظور نفسه. على أي حال، لا يتعلق الأمر بخنق الخلافات أو إخفاء العداوات، بل بتسميتها من خلال تقديم أسلوب تعبير لا يتعارض مع الاعتراف بمظالم الطرفين ". قاتل أعدائك، لكن احترمهم "(مارتن لوثر كينج). تحويلها ضد نفسها لأغراض التهدئة، يجب أن يكون قادرًا على تطبيقه على نطاق دولي. هذا ما اقترحه في مشروعه للسلام الدائم (1795). مشروع يمكن أن يجعلك تبتسم إذا وضعت في اعتبارك حالة العالم ليس فقط في القرن العشرين ولكن حتى اليوم، عندما تلاحظ اندفاع الموجة الشعبوية القومية (عام 2019). لكن كانط كان محقًا في التأكيد على أن ما هو جيد من الناحية النظرية هو بالضرورة كذلك في الممارسة. على الرغم من كل شيء، فإن الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية التي تقدم للدول، إن لم تكن "أعداء"، في أي حالة تكون مصالحها معادية، فإن فرصة "الجلوس حول طاولة" للمناقشة والسعي إلى حلول وسط قد تسببت في نزع فتيل العديد من النزاعات منذ عام 1945 [22]. وعندما لا يمنعونهم، فإنهم يعرضون المحادثات و [23] الحلول لوضع حد لها، وهو أمر بعيد المنال.


ما يخص الإنسان ليس العنف بل الفكر

على مستوى مختلف تمامًا، وفي سجل آخر، فإن استراتيجيات اللاعنف في العمل لعدة عقود الآن في توسع كامل، وهي بعيدة جدًا عن إعطاء المقياس الكامل لفعاليتها. تتفق الفلسفات التي تدعمها على مبدأ أخلاقي يفترض مسبقًا أن ما هو ملائم للإنسان ليس العنف - حتى لو كانت هذه إحدى خصوصياته - بل نقيضه، أي التمكن الذي يغلف وحده ويعبر عن قوة أصيلة، روحية وأخلاقية على حد سواء. على الصعيد النفسي، يكون الإنسان "قوياً" عندما يكون قادراً على مقاومة كل أنواع الضغوط وعدم الاستجابة للاستفزازات. من وجهة نظر سياسية، يكون المجتمع صلبًا عندما يكون قادرًا على التغلب على أزماته والتعامل مع النزاعات دون تمزيق بعضه البعض بشكل لا يمكن إصلاحه. في الواقع، كل شيء يتناسب مع ما يمكن تسميته بالنموذج اليوناني: يمكن للفكر فقط أن يشكل ترياقًا دائمًا للعنف. ومع ذلك، فإن مثل هذا التأكيد لا يكون ذا صلة إلا إذا تم تحديد أن هذا المصطلح "فكر" له عدة معانٍ. غالبًا ما يعرف الفطرة السليمة فقط معنى واسعًا جدًا وغامضًا جدًا، مما يشير إلى ممارسة نشاط تجريدي ومتطور إلى حد ما، والذي يمكن أن يخدم كلاً من الأهداف العقلانية والمشاريع الإجرامية أو الوهمية. "فكر" المنظرون النازيون (بهذا المعنى)، مثلهم مثل نشطاء النازيين الجدد اليوم أو القتلة المتسلسلين المعروفين بمنهجية وعقلانية. يحتفظ الفلاسفة والشعراء وعلماء الأخلاق والحكماء بشكل عام بمعنى آخر لهذه الكلمة، موروث أيضًا، جزئيًا، من التقليد الفلسفي اليوناني. لا يقتصر التفكير على التفكير أو التوقع أو حتى التخطيط لسلوكه أو تعهداته، مهنة لـ مثال. إن تكوين المشاريع مهما كانت طبيعتها، متواضعة أو كبيرة، سخية أو إجرامية، لا يكفي لوصف "الفكر". تطور السيارة ذاتية القيادة الموجهة بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي ( ج ب س) استراتيجيات متطورة للوصول إلى وجهتها مع تجنب الاختناقات المرورية ... والمشاة. لن نقول إنها "تفكر" في كل ذلك. نشاط الذكاء الاصطناعي الذي يرتب الخوارزميات هو أيضًا ترتيب مختلف تمامًا. الفكر - بالمعنى الدقيق للكلمة - والذي لا يمكن فصله عن الوعي الذاتي - هو نشاط ينطوي على الازدواجية، والانفصال الحميم، وحتى نوع من الازدواجية التي يمكن أن تنتهي بسوء نية ("أنا أنا ولست ما أنا عليه" "). يفصل الموضوع عن نفسه، ينادي على نفسه بطريقة ما، ويسأل نفسه، منذ سن مبكرة، أسئلة وجودية: ما الذي يعلمني انعكاس وجهي في هذه المرآة عن نفسي؟ ستؤدي الأسئلة الفلسفية اللاحقة فقط إلى إطالة أسئلة الطفولة. لدرجة أن السخرية من كاليكليس الموجهة إلى سقراط [24] - "الفلاسفة هم أطفال متخلفون فقط" - ليست بلا أساس تمامًا. من أنا؟ ماذا اعلم؟ كيف أبقى صادقا مع نفسي؟ هل الظلم أفضل من معرفته؟ نهج سقراط نموذجي وراديكالي لأنه يفصل الفلسفة عن الذكاء والمعرفة وسعة الاطلاع. بعد أن فهمنا هذا الدرس جيدًا، سيعلمنا أفلاطون أن الاستبصار يمكن التوفيق تمامًا مع أكثر السخرية غير المقيدة. الفضيلة ليست علمًا، ولا تأتي من أي نوع من المعرفة - إذا كان الأمر كذلك، فيمكن تدريسها. لكن حتى أكثر البشر فضيلة لا يعرفون كيف ينقلون حكمتهم إلى أطفالهم. من ناحية أخرى، يعرف جميع البشر جيدًا كيفية تحضر الحيوانات الأليفة [25]. غدًا، ستكتسب السيارات والروبوتات الذكية أساسيات الأخلاق الأولية ("إعفاء المشاة بدلاً من تجنب إتلاف هيكل السيارة") التي غالبًا ما يفتقر إليها العديد من إخواننا البشر. وبالتالي، فإن إنسانية الإنسان ليست ثقافة عالية (والتي يمكن التصالح مع النازية ولا يزال مع الأيديولوجيات القاتلة) ولا الذكاء (الذي يمكن تصنيعه) ولكن الفكر. الفكر وحده لا يخص الحيوانات بشكل مباشر أو غير مباشر - بعضها ذكي بشكل ملحوظ - أو الآلات، مهما كانت بارعة. يقول آلان إن التفكير يعني قول لا لما تؤمن به. لكن إذا كان هذا صحيحًا، فهل يمكننا اعتبار أن كل البشر يفكرون؟ مثل عندما أدلوا بأصواتهم لمرشح يميني متطرف؟ من المحتمل أن يجيب سقراط بأن جميع البشر لديهم القدرة على التفكير، لكن البعض، بسبب نقص التعليم أو الظروف المواتية، يمارسونها فقط من حين لآخر، أو لا يمارسونها على الإطلاق. "بقلم لورانس هانسن لوف، مؤلف كتاب ببساطة البشر، أوب، 2019


الاحالات والهوامش

[1] الطاهر والنجس ص. 726. في الفلسفة الأخلاقية، طبعة فلاماريون ، 1998.

[2] عن جيل دي رايس (المفترس الجنسي الهائل في القرن الخامس عشر) كتب جورج باتاي ، "ما يثير اهتمامنا هنا هو ما يربطنا بالوحشية التي يحملها الجميع تحت اسم الكابوس منذ طفولته الأولى "مأساة جيل دي رايس" ، الأعمال الكاملة ، الكتاب العاشر ، طبعة غاليمار ، 1983.

[3] "هاوية اللاإنساني" هو تعبير عن جان بول سارتر في المواقف، طبعة غاليمار ، 1964 ، ص. 76.

[4] فجأة كتلة الهاوية، ساد، غاليمار، 1994.

[5] مارك كريبون وفريديريك وورمز ، الفلسفة في مواجهة العنف ، إصدارات المركز، 2015 ، ص. 49.

[6] القسوة كمبدأ من مبادئ الحكومة. أمراء النهضة الإيطالية "المارقون" في مرآة الرومانسية الفرنسية، باتريك بوشرون ميديفاليس 1994، ص. 95-105

[7] باتريك بوشرون ، المرجع نفسه ،

[8] إتيان دو لابويتي ، خطاب حول العبودية التطوعية ، (1548) بايوت ، 1985 ؛ ص 177

[9] الكتاب الأول ، الفصل 31 ، مكتبة البلياد ، طبعة غاليمار، (1595) 1961 ، ص 255.

[10] كلود ليفورت ، عمل العمل ، مكيافيلي 1972 ، ص. 434.

[11] "اثنان من المهاجمين سيجمدون الضحية ، بينما يضربه الآخرون ، ويغير ذلك في أصابع قدمه أعضائه التناسلية ، ويمزق أشلاء اللحم ، ويلوي أطرافه ، ويشرب دمه ، وسنقوم بتمزيق الخندق منه" جين اقتبس جودال من قبل ستيفن بينكر ، مرجع سابق ، ص 69.

[12] تطور القتل من قبل التحالف ، الكتاب السنوي الأنثروبولوجيا الفيزيائية ، 42 ، 1999 أ ، ص 1-30. انظر ستيفن بينكر ، مرجع سابق ، ص. 69

[13] ستيفن بينكر ، مرجع سابق ، ص. 632.

[14] فلاديمير يانكلفيتش ، مصدر سبق ذكره ، ص. 729.

[15] هجمات مارس / آذار 2012 في فرنسا ، أو عمليات القتل في مارس / آذار 2012 في تولوز ومونتوبان ، هي سلسلة من الهجمات التي وقعت في مارس / آذار 2012 ، وأسفرت عن مقتل سبعة أشخاص: ثلاثة جنود ، اثنان منهم مسلمان وأربعة مدنيين ، بينهم ثلاثة أطفال من مدرسة يهودية.

[16] الجهادية: عودة الذبيحة ، جاكوب روجوزينسكي ، ديسكلي دي بروير، 207 ، ص 43.

[17] غريغوار شاميو ، نظرية الطائرة بدون طيار ، طبعة لا فابريك ، 2013 ، ص ؛ 263.

[18] كتاب الجيب ، طبعات فالوا ، 1989.

[19] مدخل إلى السياسة ، ص 108.

[20] "اليونان حصان غير مدرب ، لا يعرف سوى الحرية. تنضم كراهية الاستبداد إلى كراهية الملوك الشرقيين وتنبع من نفس الشعور الحاد بالحرية السياسية" جاكلين دي روميلي. اليونان القديمة لاكتشاف الحرية ، غلاف عادي ، 1989. ص 43 و ص. 50

[21] "يريد الإنسان الانسجام ، لكن الطبيعة أفضل ما هو جيد لجنسه: إنها تريد الفتنة" الفكرة العالمية من وجهة نظر عالمية ، طبعة بورداس ، الصفحة 16.

[22] نجاحات الأمم المتحدة

[23]: https://tpe-onu-03.webself.net/.

[24] في جورجياس.

[25] حول هذا الموضوع ، راجع فيلم جزيرة الدكتور مورو للمخرج إيري سي كينتون (1932) المستوحى من رواية ويلز من عام 1896.

الرابط

https://la-philosophie.com/faiblesse-de-la-violence


حبّ وزجاج/ سعيد نفّاع

 


قصّة أسيرة سبق مولدها نورها ستّ سنوات!

أن يختلط الحبّ والفرح والألم والكره في عينين مرّة واحدة، أو أن ترى عيناك في عينين حبّا وفرحًا ما تفتأ أن تراهما ألمًا وأحيانًا كرهًا، اجتمع ما ترى أو تفرّق تراه وإكليله الصبر والتحدّي. أن ترى كلّ هذا الخليط ليس أنّك تعاني حالة لا تفسير لها وإن كنت أنت والمعاناة رفيقيّ عمر، وإنّما ترى ذلك لأنّ لا مكان في عينيك في الأقفاص الزجاجيّة للعيون الجذلى. 

هذا ما كان يجول في خاطري وأنا أرشف كلمات "جلال" وهو يحاول أن يقرأ عليّ الألم المتحدّي وقد استولى على كلّ بارقة في كيانه وهو يصف ما كان حلّ به ذاك اليوم بعد أن ترك القفص الزجاجيّ (1) إلى قفص الزرْب الحديديّ (2)، وظلّ يرافقه وهو يسير في الكُمّ (3) وبعض رفاقه وخلفهم سجّان وأمامهم آخر، الكمّ الواصل بين الأقفاص والقواويش الزنزانيّة (4). 

لم تكن تلك "الرحلة" هي الأولى له عبر الأقفاص والأكمام ذهابًا وإيابًا وما كانت لتكون الأخيرة، فالرحلات مثلها لا تعدّ. ولكنه أبدًا لم يرَ قبلًا ما رأى ذاك اليوم في عينيّ أمّه في القفص الزجاجيّ وقد كان من المفروض أن يرى عينيّا غيره ذاك اليوم. وهذا الذي كان جعله يغيب عن جوّ زملائه الفرِح فرحًا من النوع الذي يتذوّقون طعمه فقط في مثل ذاك اليوم ومرّة في الشهر في الأحوال الاعتياديّة في الأسر، ولأنّه كذلك يصير أداة قمع في الأحوال غير الاعتياديّة وهي الغالبة، وحسب مزاج صاحب البيت. 

ذاك الغياب جعل النزلاء الزملاء يذهبون به شتّى المذاهب، خصوصًا وأنّ الأقفاص الزجاجيّة لا تأت دائمًا بالأفراح، ويا ما حمل زجاجها أحزانًا ودموعًا. وفّر الزملاء عليه، تفهّمًا، الأسئلة التقليديّة عن كيف الأهل وكيف... وكيف...، مكتفين بالقول التقليديّ؛ "مبروكة الزيارة"، متأكّدين أنّه سيفصح لاحقا عمّا جعله إثر الزيارة حاضرًا غائبًا عنهم، فأخبار عوائل النزلاء لم تكن مرّة من الخصوصيّات اللهم إلّا على ما ندر.

كانت "مريم" أمّ جلال امرأة في أوائل العقد الرّابع من عمرها ما زال الشباب يفور فورانًا من وجنتيها، وتدأب ألّا تغيب البسمة عن وجهها وهي تستمع إليه، وتحمل له باسمة كلّ ما تعتقد أنّه سيفرّج عنه همّ أيامه. لكن لا بريق عينيها المشارك ابتسامتها ولا كلامها استطاعا أن يخفيا ذلك الألم في بريق عينيها والذي أحسّ جلال وكأنه يراه للمرّة الأولى. حين كان الحبّ والفرح الممزوجين بالألم يُهاجَمان كرهًا لتتّسع المآقي منهما، لم يكن لا جلال ولا امّه بحاجة لاجتهاد لقراءةِ ما في الأعين، إذا كان هذا يحطّ فيها دوريّا بمرور السجّان خلفها أو الآخر خلفه من جانبي الزجاج يسترقان السّمع والنظر.

حين راح جلال في قيلولته الظهريّة ظلّت أفكاره في القفص الزّجاجيّ وهذا الاختلاط الذي رآه في عينيّ أمه رغم أنّها ليست المرّة الأولى التي يرى مثل ذاك الاختلاط. لكنّ ما أخرجه من عينيّ أمّه وعكّر عليه صفو القيلولة كانت العينان السوداوان الواسعتان من وراء الزجاج، واللتان تشابك سوادهما والبياض حولهما والأجفان والرموش الطويلة في لوحة رسّامها من دنيا غير دنيا، وقد كانت حملت اللوحة، وقد اخترقت الزجاج، جلال وإيّاهما بعيدًا إلى عليّ بن الجهم وعيون الْمَها، وعلى وعد.

كانت بدت ذاك اليوم العينان "غير شكل" وقد زاد عليهما بريقٌ أخّاذ جمالًا فوق جمال تحقيقًا للوعد، وهذا البريق هو الذي جعل اختلاط الحبّ والفرح والألم والكره سيّد عينيّ أمّه، وبالتالي عكّر فرحه وأقضّ مضجع قلبه وعقله.

كان سبق المونولوج أعلاه، ما صار يوم جاءني جلال، والذي كان أحد طلّابي في الصفّ الدراسيّ في السجن، يكلّفني مرافقة من يكلّف من النزلاء زملائنا لطلب يد ابنة "جهاد" زميلنا في القسم، لم أعرف كيف أتعامل حينها مع ما أسمع وقد تملّكني الذهول الباسم. ووجدتُّني والأسئلة والأجوبة اختلطت عليّ: 

كيف هذا؟! فأين الخطيبة؟! وكيف عرفها ومِن ورائه سنوات في الأسر، وأمامه سنوات أخرى أكثر؟! 

هل هي لوثة أصابت جلال دون سابق إنذار؟! 

لا يبان عليه من ذلك شيء! 

هل هي مقلب؟!

رغم زمالاتي وإيّاه في الأسر وكوني أستاذه، لم تبلغ العلاقة بيننا حدّ المقالب!

لم تأخذ منّي هذه الأسئلة إلّا لحظات وإن كان يمكن أن يخطر على البال كمّ من الأسئلة في موضوع هو الغرابة بذاتها. وفعلًا تمّت لاحقًا مراسم الخطبة ساعة "الفورة" (5) وكنت مع مجموعة من النزلاء الجاهة ومن تمّ تكليفه بطلب يد العروس "صابرين" من زميلنا جهاد أبيها والذي استقبلنا في نُزله مع من اختار من النزلاء أهلًا للعروس. جاءت موافقة جهاد دامعًا باسمًا دون تردّد وختم ردّه: "انشالله العرس قريب!"   

لم تخلُ المناسبة من "التّحْلاية" ممّا استطاع النزلاء، ذوو العريس وذوو العروس، إليه سبيلًا من "الكنتين" مقتطعين كرمى لجلال وصابرين من المخصّصات القليلة أصلًا. زُفّ جلال وأيّ زفّة وسط ذهول السجّانين دون أن يقووا على فعل شيء، أمام هذا السيل العرم من الغناء وجلال على الأكتاف جيئة وذهابًا في "الفورة"، اللهم إلّا أنّهم اكتظوا على شبابيك القسم الشائكة يتابعون الزفّة. 

بالمناسبة الغناء في الأسر ممنوع ولكن كان لا بدّ منه كرمى لجلال وصابرين وجهاد، وأيّا كان ما يمكن أن يترتّب على ذلك من إجراءات، وفي حقّ أيّ كان. ولذا كان السؤال الجائل في جوّ القسم دون أن يُطرح، هل سيمرّ ذلك عليهم وكانّ أمرًا لم يكن؟!        

عند العدّ المسائيّ وقبل أن تقفل الأبواب، أُخِذ جلال ولم يعد إلّا بعد أسبوع قضاها في الزنزانة الانفراديّة.

ظلّت الأسئلة التي تراودني في غياب جلال وحضوره كثيرة، خصوصًا وكنت عرفت أن جلال وصابرين ليسا ابني قريّة واحدة ولا حارة ولا حيّ، ولكنّ أحد تلك الأسئلة ظلّ الطاغي: كيف؟! ولماذا؟!

خطر في خياليّ "الكاتبيّ" أنّ قفصًا زجاجيّا رغم اختناق الأجواء فيه، يمكن أن يكون أوسع من قرية وأرحب من حارة وأكبر من حيّ، ولكن لم يشفِ هذا غليلي ولم يشفِ جلال غليلي رغم أنّ كل ما كتبت في المقدّمة كان إقرارًا منه في ساعة صفا وإن كنت ربّما أعملتُ به بعض خيال كاتب، ولكنّ غليلي ظلّ عطِشًا إذ جاءت إجابته عن أهمّ ما في الحكاية، الألم والفرح والحبّ والكره في عيني أمّه، مقتضبة، ولكن وجدّتني حين رحت أفكّر فيها وجدتُّني أرتوي حتّى الثمالة بما تحمل الإجابة في طيّاتها، إذ كان أجاب: "هؤلاء هنّ بنات ونساء شعبنا!"

______________

(1) غرفة التقاء الأسرى في زيارة ذويهم من وراء زجاج.

(2) نقطة تجميع الأسرى قبل الزيارة في قفص (زريبة).

(3) الطريق من القسم إلى الزريبة وثمّ القفص، وسُمّي كذلك كتشبيه بالكم وهو المحاط بالأسلاك من كلّ الجهات.

(4) مهجع الأسرى الأوسع قليلًا من الزنازين. (رجل قوش\ قاووش \فارسيّة: ضئيل الجسم)، ربّما لضآلة المهجع. 

(5) الفورة من الناس: مجتمعهم. في الأسر هي الساحة ما بين القواويش وفيها يجتمع الأسرى قليلًا من نهاراتهم. وصار معناها وكأنها الفرصة. 


أواخر نيسان 2022  


حاجتُنا إلى نقدٍ موضوعي في مجال أدب أطفال/ الدكتور حاتم جوعيه

 


 

     اليوم أصبح كلُّ كاتب وكلُّ شاعر فاشل ( شويعر وَمُستكتب ) محليًّا لا يعرف قواعد اللغة العربية وصرفها ونحوها وكتابة الإملاء بشكل  صحيح  وسليم يكتبُ قصصا للأطفال.. وقد  تراكمت وتفاقمت  كتاباتُ  وإصدارات هؤلاء المرتزقين المتطفلين والدخيلين على عالم  الشعر والأدب والإبداع.. والأدب والإبداع بريىءٌ  منهم . وهذه الإصداراتُ أصبحت مربحة وتجارة مضمونة لها سوق واسع  ومزدهر محليًّا لأنّ  كتب وقصص أدب الأطفال تُباع  في  جميع المدارس  العربيَّة ، وخاصَّة الكتب  التي  دون  المستوى  المطلوب..وسياسة أجهزة التعليم عندنا في الداخل ومن يقف وراءها معنيَّة بالترويج ونشر مثل  هذه  البضاعة  والإصدارات  التافهة  التي  دون الحدِّ الأدنى للمستوى المطلوب.وأنا بدوري مُلمٌّ بأدب الأطفال وكتبتُ الكثير من الدراسات  والأبحاث الواسعة  والشاملة  لكتب وإصدارات قيّمة محليًّا  في  مجال أدب الأطفال ، ونشرتُ هذه الدراسات في الكثير من وسائل  الإعلام والمواقع : المحلية والعربيَّة  والعالميَّة.. وحققت هذه  المقالات والدراسات  شهرة وانتشارا واسعا عربيا وعالميا..لدرجة أن أحد الطلاب الجامعين  في إحدى الدول  العربية  ويتعلم  في  جامعة  مرموقة  ومشهورة  قد أخذ عدة  دراسات لي  منشورة  في  بعض المواقع  وقدمها  للجامعة  بحذافيرها مع بعض الإضافات البسيطة   ( أي  أكثر من 90  بالمئة  من  مواد  الوظيفة والأطروحة للجامعية هي لي ) وأعطوه على هذه الدراسات والأبحاث التي سرقها عني شهادة الماجستير ( m. a ) بامتياز وتفوق..ولم أشتكِ أنا عليه  لأن هذا الموضوع  سيطول جدا وخاصة  من دولة لدولة وسأحتاج  لمحام  دولي.. وأقصى حد عندما أثبت أن المواد والوظيفة التي قدمها ذلك الطالب للجامعة هي  لي  سوف  يلغون  له الشهادة  وأنا سأدفع الكثير من الأموال للمحامين وللمحاكم مقابل ذلك حتى أثبت الحقيقة.. وأريد أن أضيف : إنني لم أفكر مرة واحدة حتى الآن أن أستفيد ماديًّا  من  هذا المجال  لأنَّ الكتابة عندي قبل كلِّ  شيىء هي رسالة إنسانيَّة واجتماعيَّة وأخلاقيَّة ووطنيّة  بحدِّ ذاتِها سواء كانت مُوجَّهة للكبار أو للصغار. والجدير بالذكر أن معظم دور النشرالمحلية تتهافت على طباعة كتب وقصص للأطفال تكون غالبا  دون المستوى  والتي  لا تحمل  أية  رسالة : تثقيفيَّة  ووطنية  وقومية  وإنسانية  وفكرية وحتى ترفيهيَّة .. وأما قصص الأطفال التي على مستوى فنيٍّ عال  وراق جدا  وفيها  البعد الوطني  والإجتماعي  والإنساني  وأيضا الدواوين الشعرية والكتب الأدبية التي على مستوى عال وراق جدا فترفض طباعتها لأنها لا تباعُ وتُسوَّقُ في المدارس محليا – حسب سياسة المناهج التدريسية والمسؤولين عنها من فوق  - والسبب معروف للجميع  .  وأنا شخصيا لي تجربة  مع  إحدى دور النشر المحليَّة حيث وعدوا بطباعة كتاب لي ، وهو دراسات في أدب الأطفال المحلي ..وفي النهاية  رفضوا طباعته...والسبب معروف.. وإنه لأمر مؤسف  ومقرف في  نفس الوقت... وهذا هو الوضع المزري  والمُخزي الذي  وصلت إليه الحركة  الأدبية  والثقافية المحلية .. فالأديب والكاتب والشاعر الكبيرالوطني الملتزم والشريف محليًّا  يشعر انه مُهَمَّش ووحيد لا يوجد له أيُّ دعم مادي وحتى معنوي أيضا ومحاصر من جميع الجهات ...وحتى الإعلام المحلي على جميع  أشكاله وماركاتهِ عندنا في الداخل معظمه مذدنب  وعميل  ومأجور يُعتِّمُ على كلِّ أدب  وفكر وفنٍّ وأبداع محلي راق  وملتزم  يحمل رسالة إنسانية ووطنية هادفة  وسامية .. وأيضا بعض المنتديات والجمعيات  والأطر محليًّا التي تدَّعي خدمة الثقافة  الأدب والفن المحلي هي مأجورة ومذدنبة وعميلة وتقوم بنفس الدورالسَّلبي والخطير مباشرة  أو من  وراء وبشكل غير مباشر وهدفها  وسياستها  هو تدمير ووأد الفكر والأدب والثقافة والأدب المحلي الراقي والملتزم .. ولهذا يضطرالكاتب والشاعر المبدع أن يطبع كتبه وإبداعاته على حسابه الخاص ومن جيبه .. وهذه  الطامة والمأساة  يُعاني منها  معظمُ  الكتاب  والشعراء الكبارالمحليين والمُمَيَّزين .


على هامش يوم الكتاب العالمي (24 أبريل): لمن يكتب الكتّاب كلّ هذه الكتب؟/ فراس حج محمد

 


سؤال يُلحّ عليّ اليوم كلما تجولت في مكتبة عامّة أو خاصة، أو متجر لبيع الكتب أو البسطات المعنية بالكتب المقرصنة وغير الشرعية، مئات العناوين، وملايين الأفكار، متى سيجد الإنسان وقتا لكل هذا الكم الهائل من الصفحات ليُقرأ، أعتقد أن هناك ملايين الكتب في العالم منشورة ولم يقرأها سوى مؤلفيها أو الناشرون، حتى الناشرون لم يقرؤوا كل الكتب التي نشروها، أكّد لي ذلك أصدقاء ناشرون لا يكذبون، قد يقرؤون منها وليس كلها. على الكتّاب أن يكفّوا عن الكتابة. وعليهم أن يقرؤوا كل ما كُتب من كتبٍ أولا. هل من جديد باقٍ في عقول الكتّاب الحاليين والمحتملين، حتى هذه المقالة، لا بد من أن أحدهم في مكان ما وزمان ما قد سبقني وكتبها. فلا يفرح أحد ويدعي أسبقيته وأحقيته بأي فكرة أو أي موضوع.

يا ألله كم أكون محبطا من منظر الكتب كلما رأيتها تتصافّ على الرفوف وتتراصّ نزقة تشعر بالملل! كثيراً ما أشعر بعدم الجدوى من الكتابة، نكتب ولا قرّاء، ما الفائدة؟ هل يفيد في ذلك أن نعزي أنفسنا بالقول "يكفينا قارئ واحد" كما تقول ملهمتي لي دائماً؟ بالتأكيد لا يكفينا. كم نويت أن أشتري مجموعة من الكتب أختارها وأتراجع عن ذلك من شدة ما يصيبني من الإحباط. يزيد من هذا الإحباط زيارتي عدة مكتبات في اليوم الواحد، لاسيما المكتبات العظيمة. آلاف من الكتب في كل المواضيع. يتحشرج السؤال في حنجرتي، وتتلبد سحابته أمام عيني، لمن تطبع هذه الكتب؟ من سيشتريها؟ من سيقرؤها؟ ماذا فيها من أفكار؟ كل ما يفكر فيه الناس مكتوب، الأفكار العظيمة مكتوبة والتافهة أيضاً، كل ما يخطر في البال مكتوبٌ مكتوبٌ، مكتوب.

يا ألله كم هي خسارة فادحة أن تكتب في فكرة مسبوقة، وتعيد صياغتها. الجاحظ شخص رؤيوي عندما قال الأفكار مطروحة في الطريق، ولو شاهد الانفجار في عالم الكتب اليوم لقال أيضا إن الأساليب مطروحة في الكتب. كم هو متعب البحث عن فكرة طازجة وأسلوب غير مستعمل. هل يوجد فعلا أسلوب كتابي غير مستعمل؟ أشكّ في ذلك كل الشكّ، بل إنني على يقين أن كل الأساليب منتهكة، وأصبحت قوالب بالية، بدءا من وحداتها الصغرى وانتهاء بالتركيبة الكلية للنصوص. غدت مهمة الكتّاب الاجترار والتكرار.

لا شك في أن هناك الكثيرين من الذين يشبهونني من الكتّاب، أنا ضائع بينهم، عليّ أن أجد نفسي بينهم، عليّ أن أقرأ كل ما كُتب لأعرف أشباهي لأقتلهم فيّ. هذه هي مهمتي ككاتب أولا أن أغرّب نفسي عن أشباهها، يا لتلك العملية كم هي صعبة، وصعبة للغاية بل إنها مستحيلة. عليّ أن أقرأ كل كتب العالم، بكل لغات هذا العالم. يا ألله! وهل من وقت لكل تلك الكتب؟ مرعبة هذه الفكرة ومحبطة أيضاً.

مع الوقت، توالدت لديّ فكرة مهمة أن الفكرة الجيدة هي "الفكرة غير المسبوقة"، وأن الأسلوب الجيد هو "الأسلوب غير المنتهك". هل يمكن أن يكون هناك أفكار وأساليب غير مسبوقة وغير منتهكة؟ هل بقيت أفكار عذراء لم ينتهكها الكتاب حول العالم ولم يكتبوها وبما لا يحصى من الأساليب؟ أنا أعرف أن الكُتّاب- وأنا واحد منهم- يتغاضون عن هذه الحقيقة؛ لأنهم لا يريدون أن يقرؤوا، فالقراءة متعبة وشاقة، وقد تتحوّل إلى مرض أو هوس. إذاً، الكتابة هي الأسهل! وأقرب سبيل للغرق في وهم المعرفة هو الكتابة، وليس القراءة. هكذا يقول الواقع المقلوب.

في تأمل عالم الكتابة، سنكتشف جميعاً أننا "أغبياء" فعلا، وندفن رؤوسنا في الرمل، ليس من حل إلا التمادي في هذا الغباء المطلق. أن تكتب شيئا جديداً هو أكبر أوهام الكتابة حضوراً. لو كنت صاحب سلطة لمنعت إصدار أي كتاب جديد لمائة عام قادم. ولعملت على تبويب الكتب جميعها في العالم، وإن وجد ساعتئذ كتاب لم يكتب مثله، فليكن! ولكن هل سيقتنع الكتّاب "العظماء" بأفكاري، إنهم سيرمونني عن قوس واحدة ويشتمونني على الرغم من أنهم لن يضيفوا جديدا حتى في شتمي، من المؤكد أن آخرين قبلهم قد فعلوها في هذا العالم وشتموا آخرين غيري بالألفاظ والأساليب نفسها وبكمية الحقد ذاتها، وبالإيماءات والإشارات عينها.

من قال: إن الكتابة إبداع؟ إنها في ظل هذا الكم الهائل من جنون الكتابة عمل عبثي وكارثي وليست إبداعا مطلقاً، رضي من رضي وسخط من سخط. الله جل قدره، وهو العقل الكليّ لهذا الكون، لم يكتب إلا كتابا واحدا، ونسخ كل الكتب السابقة، فالله لم يرد أن يعترف الناس له إلا بكتاب واحد فقط، بعد أن ألغى كتبه السابقة وطلب من الناس إهمالها وعدم الاهتمام بها. لقد سبق الكتّابُ ربَّهم، في كثرة ما يكتبون. وهذا ما يجعلهم يتمادون في الغباء. لا تظنوا أنني لست من هؤلاء، بل إنني أشد منهم غباءً، لأنني أعرف هذه الحقيقة، وها أنا أكتب دافناً رأسيَ في الرمل، مدّعياً أنني آتٍ بجديد كلّما مارست الكتابة.

أستراليا: حملات التخويف الانتخابية/ عباس علي مراد



تساءلت صحيفة ذي سدني مورننغ هيرلد في أفتتاحيتها(17/4/2022) عن مصير الديمقراطية في أستراليا. لم يأتي طرح الصحيفة للموضوع من فراغ مع ان الصحيفة ركزت على موضوع التبرعات الانتخابية حيث من المتوقع ان يصل الانفاق على الحملة الأنتخابية الحالية الى 500 مليون دولار.

الذي تقدم يجعلنا نتساءل عن هذه التبرعات الانتخابية وما الهدف منها

اولا، من أين وكيف تأتي الاحزاب الاسترالية بهذه المبالغ؟

ثانياً، هل القانون الحالي للتبرعات السياسية فيه كفاية من الشفافية، وهل يشكل ذلك اسلوب لشراء الاصوات بطريقة مواربة؟

ثالثاً، هل يتبرع المتبرع حسنة لوجه الله وما هي الخدمات التي سيتلقاها مقابل تلك التبرعات؟

الى جانب هذا الموضوع المهم والحساس، هناك قضايا لا تقل أهميةن من حيث تأثيرها على المسار الديمقراطي في البلاد والاحزاب خصوصاً الحزبين الكبيرين الاحرار والعمال يتحملون المسؤولية عما وصلت اليه الأمور، حيث يتدخل الحزب حتى بتسمية المرشحين وانزال مرشحين مقربين من القيادة الحزبية على حساب الاختيار عبر الانتخابات  الحزبية وتهميش اعضاء الحزب.

على سبيل المثال العمال انزلوا بالمظلة كريستينا كينلي كمرشحة في مقعد فولرفي غرب سدني، وحزب الأحرار انزل كاثرين ديفيز مرشحة عن مقعد وارنغا في شمال سدني، وقد أثارت هذه التعيينات مشاكل وصلت الى المحكمة العليا في ما عرف بالحرب الأهلية داخل حزب الأحرار في ولاية نيو سوث ويلز.

مع بداية الأسبوع الثالث من الحملة الأنتخابية، نرى ان هذه الحملة ما زالت تسيطر عليها حملات التفاخر والتباهي والزلات والتخويف، وان لم تخلو كلياً من بعض المشاريع التي تعرضها الاحزاب والتي لم تستطع أقناع 25% من الناخبين المتأرجحين باتخاذ قرار حاسم لمن سيقترعون أذا ما أخذنا نتائج المناظرة الاولى التي جرت الأسبوع الماضي بين رئيس حكومة تصريف الأعمال سكوت موريسن وزعيم المعارضة انثوني البانيزي كدليل ( 40% لصالح البانيزي 35 % لموريسن و25% متأرجحين).

الموضوع الآخر، والذي لا يقل اهمية من حيث الدلالة على فقدان الثقة بالسياسين هو المطالبة بتشكيل هيئة او مفوضية فيدرالية لمكافحة الفساد، والتي كانت وعداً انتخابياً قدمه موريسن عام2019  ولم يرى النور، بسبب تهرب موريسن من تشكيل مفوضية بصلاحيات جدية والتي وصفها موريسن (كمحكمة الكنغارو) رغم ان اعضاء من حزب الاحرار يؤيدون تشكيل هكذا هيئة بصلاحيات جدية، بالأضافة الى تأييد النوب المستقلين لتشكل هذه المفوضية الى جانب حزبي الخضر والعمال، وهذا ما يقودنا الى التساؤل فعلاً لماذا نريد هكذا مفوضية إذا كان ممثلو الشعب يلتزمون بالقوانين؟!

وهناك مشكلة أخرى تواجه الديمقراطية، فرغم ان الانتخاب أجباري  في أستراليا(او على الاقل شطب الاسم) لكن هناك ظاهرة برزت مؤخراً ان نسبة 55% من الذين بلغوا سن الانتخاب لم يسجلوا انفسهم للمشاركة والتصويت في في انتخابات 21/5/2022 وقد عزى سكوت موريسن الامر خلال المناظرة الى وسائل التواصل الاجتماعي عندما سئل عن الموضوع!

وقد عبر عن هذا الاستياء روب بيليو نجل تيد بيليو رئيس ولاية فكتوريا السابق (احرار)، في اعنف هجوم على حزب الأحرار وقال:كان والدي رئيس الوزراء الليبرالي ، لكن لا يمكنني دعم حزبه ويضيف بيليو قائلاً: لا فرق بين المحافظين والمعتدلين داخل الحزب كلهم انانيون، و يستخدمون الجمعيات الخيرية والمؤسسات العامة لتعزيز قضاياهم السياسية.

وتحدث عن ارث جكومة موريسن فرايدنبرغ قائلاً:

إرث سكوت موريسون وفريدنبرغ هو توقع تريليون دولار من الديون ، وركود قطاع الطاقة ، وتراجع أستراليا في مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية ، وتعزيز ما أعتقد أنه أسوأ ثقافة سياسية عرفناها على الإطلاق. هذه ليست إنجازات الأشخاص المحترمين

مهما يكن من امر، فقد حان وقت العمل الجدي والهادف، من اجل النهوض من جديد وحماية النمو المستديم والمكتسبات الديمقراطية لاستمرار ازدهار البلاد، وهذا ما يتطلب ذهنية مختلفة وبمقاربة مختلفة، ذهنية وطنية ليست ذهنية سلطوية هدفها الوصول الى السلطة بأي ثمن، لقد حان الوقت للتركيز على النتائج وليس على المكاسب السياسية الرخيصة قصيرة المدى، لان الأمور ليست كما يصورها السياسيون وهذا ما حذر منه صندوق النقد الدولي الذي وصف الميزانية الاسترالية بانها تنزف حبرا احمر، الميزانية الاسترالية تعاني اكبر انهيار او تراجع في العالم المتقدم حسب صندوق النقد الدولي (س م ه 20/4/2022).

وهذا ما تؤكده الارقام، حيث ان الدين العام الأسترالي وصل الى أعلى نسبة منذ خمسينيات القرن الماضي، في نفس الوقت الذي يروج  رئيس الوزراء سكوت موريسن لنفسه انه الاقدر على إدارة الإقتصاد الأسترالي، علماً ان حزبه الذي تولى السلطة عام 2013 ورث نسبة من الدين 20% وصلت اليوم الى 42.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويتوقع ان يرتفع الى 44.9 بعد عامين.

طبعاً هناك فوائد تدفع لخدمة هذا الدين (18 مليار حالياً)، وسيرتفع هذا المبلغ في حال ارتفعت أسعار الفائدة والتي أصبحت مؤكدة ( وحسب توقعات الميزانية سيصل المبلغ الى 26 مليار خلال 4 سنوات) وقد يلجأ البنك المركزي الى رفع سعر الفائدة في اوئل أيار القادم وقبل الانتخابات الفيدرالية للجم الارتفاع الحاد بسنبة التضخم.

ومن مظاهر الفشل السياسي لحكومة موريسن، توقيع الصين اتفاقية امنية مع جزر سليمان، التي تعتبرها أستراليا جزءاً من امنها القومي لانها تعتبر شريان بحري حيوي لحركة التجارة في الوقت الذي يتلهى موريسن باتهام  حزب العمال بـ "الانحياز إلى جانب الصين" هذا الاتهام الذي وصفه زعيم المعارضة أنتوني ألبانيز "بالافتراء الشائن".


وقد وصف بيتر هارتشرمحرر الشؤون السياسية في الهيرالد موريسون بأنه فشل فشلاً ذريعاً في الوظيفتين الفيدراليتين الأساسيتين التي يدعي انه يحسن ويبرع في إدارتهم  الاقتصاد والامن القومي(23/4/2022).

على الضفة السياسية الأخرى، فإن حزب العمال والذي دخل زعيمه في حجر منزلي بسبب إصابته بالكورنا، والذي كان له زلة كبيرة في الاسبوع الاول حيث فشل بمعرفة ارقام البطالة وسعرالفائدة، ما زال الحزب يقارب الامور بحذر شديد خشية تكرار سناريو انتخابات عام 2019، رغم انه وعد بأجراء إستفتاء للاعتراف بالسكان الاصليين بالدستور، وتحسين الوضع في قطاع رعاية المسنين، ورعاية الأطفال، وزيادة المساعدات لجزر الباسفيك وقد وجد الحزب فرصته في فشل موريسن بمنع جزر سليمان توقيع الاتفاقية الأمنية مع الصين وحمل مورسن وحكومته المسؤولية عن هذا الفشل.

وقد وعد العمال بفرض صرائب على الشركات المتعددة الجنسيات ولكن الحزب لم يعد في حال وصوله الى السلطة بالحد من الانفاق مما بعني زيادة الدين.

 إن استراليا تعاني من مشكلة بنيوية سياسية واقتصادية سيتبين عمقها بعد ان تنجلي غبار الحملة الانتخابية، حيث سنكون امام حقائق لا تبشر بالخير، مالية (زيادة الدين وتضخم) وسياسية (برلمان معلق)، ولذلك نرى ضرورة مصارحة الناخبين ووقف التلهي بحملات التخويف والتشهير والافتخار بانجازات ماضية والتركيز على الزلات، لاننا نريد ان نعرف ما هي مشاريعكم وخططكم المستقبلية.

وبهذا الخصوص، يرى الكاتب في الهيرلد جيمس ماسولا، ان موريسن والبانيزي يحاولان تأطير الانتخابات القادمة (21/5/2022)  على أنها استفتاء على السنوات الثلاث الماضية، وقد وصل ماسولا الى هذا الاستنتاج بعدما عرض لمقالين نشرتهما الهيرالد  لكل من موريسن والبانيزي في 24/4/ 2022عرضا وحهتي نظرهما لمستقبل البلد.

سدني

Email:abbasmorad@hotmail.com    



مستقبل أتمتة الصحافة الرقمية/ عبده حقي



أدى التساؤل عن دور البيانات الضخمة (البيغتادا) والخوارزميات في المجال الصحفي إلى الاهتمام بالصحافة الآلية (أو "الصحافة الروبوتية") ، أي إنتاج المقالات بواسطة البرامج بناءً على المعالجة الحسابية لكتل كبيرة من البيانات. يبدو أن الصحافة الروبوتية أصبحت تثبت نفسها على أنها نموذج "للموضوعية" وهي ماضية في تسلق ذروتها نحو إقصاء أكثر لدور الصحفي في مراقبة ورصد الواقع . 

ومن الأمثلة على هذا التحول غالبًا ما يتم الاستشهاد بصحيفة لوس أنجلس تايمز التي كانت تنشر مقالات منذ 2014 حول النشاط الزلزالي في كاليفورنيا باستخدام برنامج كاكيبوت روبوت الذي يستخدم بيانات المسح الجيولوجي الأمريكي. 

وإذا كان احتمال وجود هيئة تحرير بدون صحفيين مثيرا للقلق ، فإن هذه الصحافة الآلية تعتبر واعدة أكثر في المستقبل . من بين هذه الوعود إمكانية مضاعفة المقالات لتلبية المطالب المتخصصة والتعامل مع الموضوعات التي لم يكن طاقم التحرير قادرًا على تغطيتها . وبالتالي ، فإن هذه المغامرة في استخدام الصحفيين الآليين يجب أن يحرر الصحفيين الآدميين من المهام المتكررة لتكريس أنفسهم للتحقيقات أو المشاريع التي لن يتمكن الذكاء الاصطناعي من القيام بها.

وبالتالي، فإن هذه الوعود التي تجد مقاومة من جانب الصحفيين الذين حددهم الباحث الأمريكي مات كارلسون في النقاش الذي صاحب إطلاق شركة ناراتيف ساينس في الولايات المتحدة ، وهي الشركة التي كانت السباقة إلى دعم الصحافة الآلية . أن لا تكون مثل عمل الصحفي . في مقدمة هذه المقاومة ، هناك التساؤل حول انعكاس العلاقة بين العرض والطلب في إنتاج المعلومات. 

يمكن تعريف الصحافة أولاً وقبل كل شيء من خلال العرض ، وخيارات التغطية التي يتخذها مكتب التحرير ، أي اختيار المعلومات التي تستحق لفت انتباه الجمهور ، والتي تعتبر ذات أهمية إخبارية" . يقع اختيار المعلومات هذا في قلب السلطة الصحفية ، التي تفترض هنا دورها في "حفظ البوابة". وعلى العكس من ذلك ، فإن مؤيدي البيانات الضخمة (البيغ داتا) سوف يشجبون أوجه القصور في الوساطة الصحفية ، مع خياراتها البشرية ، والتي تعارض الخوارزميات معرفة أكثر بالتفصيل باحتياجات المستخدمين ، أو "الصلة" أو "الملاءمة" لاستجاباتهم لاستبدال منطق التحرير. من وجهة النظر هذه ، ستشكل البيانات الضخمة تتويجًا لعملية أعطت منذ التسعينيات أهمية أكبر في الخيارات التحريرية : بعد الضرورة الإعلانية ومقاييسها سيتم فرض الطلب باسم ملاءمة المعلومات المحددة ، أي باسم ادعاء معرفي من شأنه أن يجعل الخوارزميات ناقلة معلومات وعلم جديد للجماهير وتوقعاتهم.

كما تتعلق الخلافات بحالة الوقائع لأنها جزء من واقع معقد ، يجب أن يتم وضعها في سياقها وتفسيرها أكثر فأكثر ، مما يمنع إنتاج وصف مطهر للواقع ، مما يجعل الموضوعية معيارًا مقصودًا . بالنسبة لهذا التفسير الصحفي للحقائق ، المشتبه في أنها تترك مجالًا لخطر التحيز الأيديولوجي ، ستعارض الصحافة الآلية إمكانية تحييد وعزل أي شكل من أشكال الذاتية في معالجة المعلومات من خلال تطبيق عمليات موحدة. من الواضح أن التوترات المعرفية تتجلى ، من ناحية ، بين الخبرة الصحفية وعلاقتها التفاوضية بالواقع ، ومن ناحية أخرى ، مطالبة الخوارزميات بإخراج الحقائق بطريقة موحدة من قواعد البيانات العملاقة.

مترجم بتصرف

جمعة القدس الحزينة/ جواد بولس



لن يسمع العالم ، بأغلب الظن، بتفاصيل القضية التي رفعَتها يوم الثلاثاء الفائت مجموعة صغيرة من المواطنين العرب المسيحيين المقدسيين، بالنيابة عن بعض المؤسسات الأرثوذكسية المقدسية وبالأصالة عن أنفسهم، ضد قرار شرطة إسرائيل القاضي بتحديد أعداد المشاركين في احتفالات عيد الفصح التي ستجري في رحاب وداخل كنيسة القيامة، وأهمها صلاة "الجمعة العظيمة"وصلاة سبت "فيض النور" ، وقداس "أحد القيامة".

أكتب مقالتي قبل صدور قرار المحكمة العليا التي لجأ اليها الملتمسون باسم الدفاع عن حرية العبادة والحركة في مدينة محتلةٌ كل أركانها؛ وذاك لأنني أفترض أن هذه المحكمة ستبقى، كما كانت، بعيدة عن احقاق العدل مع الفلسطينيين، ولأنني على قناعة بأن مشكلة المواطنين الفلسطينيين المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه الكنيسة اليونانيون - الذين يتسيّدون على كنيسة القيامة وعلى أهم الكنائس المسيحية الأخرى في "الأرض المقدسة"، ويبسطون على جميعها سلطتهم المطلقة - وتنتهي في مواجهة قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بذريعة المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.

لن أستعيد، في عجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل البلاد العرب المسيحيين وبين من استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة السياسيين وتعاون رجال إكليروس عاجزين، وتواطؤ حفنة من أبناء هذه الكنيسة المنتفعين؛ لكنني أؤكد على مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة أحيانًا، التي تنتاب كل مسيحي حر حين يدخل هذه الكنائس التي يتحكّم فيها كاهن أو كهنة يونانيون، خاصة في كنيستَي القيامة (أم الكنائس) والمهد. وهذا هو بيت القصيد في هذه الحكاية .

فالقضية، إذًا، أكبر من كونها معركة على ضمان حرية العبادة والحركة لسكان حارة النصارى أو للوافدين إلى البلدة القديمة في هذه الأيام. ورغم أهمية هذه المعركة القضائية التي يخوضها بعض الغيورين على القدس، يجب أن نتذكّر أن الفصح، عند مسيحيي الشرق يُعدّ من أهم الأعياد، لا بل هو العيد الكبير، عيد الأعياد وموسم التهاليل والفرح العظيم؛ وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يعتبر القبلة المشتهاة عند جميع المؤمنين من مسيحيي العالم.

لقد دافع الكثيرون من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم الإنسانية وعن هويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وحاولوا، رغم جميع العراقيل التي واجهوها، تحرير كنائسهم وحماية عقاراتها وأوقافها ؛ لكنهم فشلوا لأسباب عديدة،، فبقيت معظم تلك الكنائس وممتلكاتها، الروحية والمادية، تحت حكم أغراب مستعمرين جاؤوها في حقب تاريخية رمادية وفي ظل أزمات عانت منها مجتمعاتنا المحلية، فأسروا صليبها واستحوذوا على مسيحها؛ على مهده وعلى قبره، وتنمّروا على رعاياها العرب من اهل البلد.

ليالي شرقنا طويلة، "فكليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصب" ؛ هكذا كتبت قبل أكثر من عقد وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني، وأمانينا كالنجمات معلقة على أهداب السحاب. لم نحب النابغة أكثر من أترابه من فحول ذلك الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه "أشعر الناس إذا رهب" وأنه "لا يرمي إلا صائبًا" وهو الذي أجاد ووصف "ليلنا البطيء الكواكب". لقد كنا في الأمس صغارًا وكانت صباحاتنا كصباحات صغار اليوم، كلّها نزوات؛ وكبرنا فصارت ليالينا، كليالي كبار الأمس، كلّها شهوات، وبقيت جُمعاتنا كجمعة الذبياني حزينة وعظيمة وأمانينا معلقة على حدبة العمر.

لا حاجة لتغيير ما كتبت حينها، قبل أكثر من عقد؛ فالخلاصات في أرضنا السليبة تبقى مثل "بنات الجبال" ؛ و"جمعة القدس" تأتينا منذ ألفي عام بفرحها الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في زمن توقف منذ دُقّت المسامير في راحتي “ابن الإنسان” بعد أن علّقه الرومان، أباطرة ذلك العصر، على خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا فنالوا.

لقد كانت أيام خَلِّ وما زالت؛ ففتشوا عن الحكمة في هذه الرواية وستجدوا أبناء فلسطين يتجرعون اليوم خلّ الطغاة كما تجرّعه ابنها بعد ان اتهموه بالكفر وبالتمرد وسجنوه وعذبوه وحاكموه، فمات مصلوبًا لتروي دماؤه قحل الزمن ولتبقى كلماته نورًا في الأرض وغرسًا في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء.

لقد وقف أسير فلسطين، ابن ناصرة الجليل، ولم يعترف بشرعية محكمته وقد اتهموه بجناية "التجديف" فاضطروا الى نقله لبلاط الوالي الروماني كي يقاضيه هذا بتهمة التمرد على سلطة قيصر؛ وذلك بعد ان تبين للكهنة اليهود أعضاء "السنهدرين" أن روما لن تقبل اتهامه بجناية التجديف لكونها تهمة مبنية على المفاهيم الشرعية لتلك الطائفة اليهودية .

لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم تعذيبه، التعاطي مع "المحكمة". لن أسترسل بتفاصيل أسبوع الآلام ونهايته بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وكان يعرف بأن الاجراءت بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على سلطتهم ومواقعهم فلفقوا القضية ضده. لم تكن أحلام صاحب الفصح من شوك ولا تعاليمه سفسطة، وقد أوجزها بموعظة صارت تعرف "بموعظة الجبل" التي وصل صيتها حتى أورشليم، فجاء أهلها "رقاق النعال" يستقبلونه بالريحان على مشارفها وبالأهازيج وبالسباسب، وهي سعف النخيل في لغة النابغة الذبياني وأهل عصره.

لقد أسموه عيد الفصح ؛ عيد العبور، عيد التجاوز والانعتاق، عيد “القيامة”، فمن يسر على درب الخير وعمل الصالحات ينجو ويعش اسمه إلى الأبد.

هكذا آمنا صغارًا، من باب الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه المجهول والمطلق. فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددوا فصار “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به”. ثم كبرنا ولم يبقَ في صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني البسيط، فأسكنا "القيامة" في بيضة وأعطيناها للاطفال كي يلهوا ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك فحوّلناه كعكًا من قمح هذه الأرض فطحناه وعجناه وحشونا بالتمور وبالجوز والسكر. وإسفنجة الخل استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها بأجواء كلها إلفة عائلية معمولا ليؤكل ويمحو طعمه، ولو ليوم واحد، طعم الخل والعلقم . إنها تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم المنقول كوسائل إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم القيامة عليها عسيرًا أو عصيًا .

عيدنا اليوم كعيد الذبياني، ولا يختلف عنه عيد "أبي الطيب": فرح حامض وبهجة عابرة؛ همٌّ ينام ولا يترك وسادة لنوم حامله.

إنه عيد الحياة والفداء والتضحية؛ عيد الحب والصفح؛ تمامًا كما أوصى وهو على ذاك الجبل: “أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا لمبغضيكم”. لقد قالها ومشى إلى أورشليم، والنهاية كانت كما جاء في الكتب

واليوم، في هذه الجمعة الحزينة، تبكي عذارى أورشليم على دروب الآلام كما بكت قبل ألفي عام، وكما بكت معهن مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتلون دستور الايمان عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض والكعك والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم.

لقد ذهبت روما وبقي "قوس بيلاطس البنطي" في القدس البهية شاهدًا على محاكم الظلم وعلى معاني الفداء، وبقيت فلسطين، في الفصح، كما كانت: بحة المدى وصاحبة فجره الدامي، وقطرة الندى؛ وان غفا على جفونها الوعد حتمًا ستصحو ذات نيسان ليحتضن أبناؤها "قاف" القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.

فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.

الشفافية/ عسان منجد



 دوائر

مسافات 

ولا ترتيب للافق إلا في ظل شمس شفافه 

نجوم 

كواكب 

والحاجة عمياء 

 ذباب 

طنين احمق 

وتمحى الخطوات في بحيرات آسنه 

هل يحالفه الحظ ويقترب من 

ضمير الاختيار 

انسانيته سفينة نجاته 

وإطار جميل لحريته 


ديمقراطية على جدار مائل 

والعبودية تجلس على كرسي هزاز

عابر مع الاهثين 

ويلفه الصدى 

ضجيج في غابة 

وغربان ميته 

متى يراقص المطر السماء 

وتنجلي العاصفه 

هل يتوقف الدوران في عاصفة راحله 

ويخرج الضوء من زرقة سماء 

ملفوف بالضجيج ويعبره الصمت 

يطرق الابواب 

العتبات مكسرة والنوافذ مغلقة 

والريح الملعب 

وتبقى العيون مغلقة لا يلاعبها الرماد

هم في القاعة 

لم يخرجوا 

شبه منهك وشفه الاختناق 

لم يأخذه العجب عندما إنحدر في 

فم السماء 

وكأن الهاوية حجاب لبيت اسود 

هل انكشف الحجاب عنه 

ولم تعتقله التعاسه 

هل قرأ ما لم يكتبه 

ام خنقه الكلام 

وكأنه مختلط بنظام كلماته الهجينة 

وكأن كلماته لم تؤالف بين الترجمه 

وخجله 

طال انتظاره على رصيف الانتظار 

حتى صار هو النتظار

يتحجب بسقف غيمة

ويبكي المطر 

المجتمعات الفردية.. الدنمارك نموذجاً/ حسن العاصي

 


هل تتنصر الهوية الاستهلاكية على الهوية الوطنية؟

تنشأ المجتمعات وتتغير ليس فقط نتيجة للظروف الاقتصادية والمادية، ولكن نتيجة لتبدل الظروف الثقافية وهياكل السلطة أيضاً. نظراً لأن الأيديولوجيات السياسية تعكس المصالح الاجتماعية المختلفة وعلاقات القوة، فإنها تحمل أيضاً وجهات نظر مختلفة عن المجتمع.

وبالتالي، هناك تناقضات بين النظرة الليبرالية للمجتمع، والآراء الأكثر جماعية للمجتمع التي تم اختبارها في الاشتراكية، والأفكار المحافظة الكلاسيكية، بالإضافة إلى النسخ الأحدث المعدلة لهذه المواقف.

عندما نتحدث عن "المجتمع البريطاني" على سبيل المثال، فإننا لا نفكر في بريطانيا العظمى كدولة، بل نفكر في المجتمع الذي يشكله سكان البلاد. أي مجموعة الأشخاص الذين يعيشون في بريطانيا، ويرتبطون معاً من خلال المصالح المشتركة، والتعاون، والاعتماد المتبادل فيما بينهم.

يمكن إرجاع فكرة المجتمع ككيان متماسك ومحلي وشبيه بالشبكة - كجماعات - إلى العصور القديمة، حيث كانت الشرطة اليونانية تعتمد على المزارع العائلية الموجودة حول المدينة، في ولايات مثل أثينا وسبارتا.

كانت هذه مجتمعات صغيرة يمكن إدارتها، وكانت مختلفة اختلافاً كبيراً عن المجتمعات الكبيرة المعقدة اليوم. ومع ذلك، فقد أسسوا لخلق نموذج مثالي لما يجب أن يكون المجتمع عليه في المستقبل.

لم يميز اليونانيون بين المجتمع الاجتماعي والسياسي. كان المجتمع والدولة متشابهين لأن حكم الشرطة كان يمارسه جميع الأفراد المعترف بهم كمواطنين.

وبكونه مواطناً أدرك الفرد طبيعته الحقيقية. كان هذا هو رأي أرسطو الذي استند تفكيره الاجتماعي إلى دولة المدينة اليونانية، وكانت هذه هي الخلفية لنظرته للإنسان ككائن اجتماعي وسياسي.

الفردية:

الفردية، هي الإدراك المجتمعي الذي يؤكد حق الفرد في المجتمع (على عكس الجماعية)، وكذلك تنمية الفرد لتميزه الشخصي.

منذ ظهور هذا المفهوم في فرنسا في أوائل 1800 تم استخدامه للدلالة على مجموعة متنوعة من المعاني، مع اختلافات محلية كبيرة.

يعود مفهوم الفردية وكذلك الظاهرة نفسها إلى اليونان الكلاسيكية، حيث على سبيل المثال، يُظهر نقد أرسطو لأفلاطون بداية وجهة نظر تميز الفرد عن المجموعة الاجتماعية.

إن تطوير "الرواقيين والأبيقوريين" Stoics and Epicureans لفكرة مكانة الإنسان في ترتيب الطبيعة كان له تأثير عميق على تركيز المسيحية على الفرد.

منذ حوالي سبعة قرون ادعى أول منظّر سياسي مسيحي بارز  الإنجليزي "جون سالزبوري"   John Salisbury أن الحرية الشخصية ضرورية لتطوير الفضائل. شهدت تلك الفترة العديد من الأمثلة على أن الفرد أصبح أكثر فأكثر في المركز، حيث يتم إضفاء الطابع الفردي على العلاقات الإيمانية.

في شكله الحديث، لا يشير هذا المفهوم إلى الإصلاح، الذي مارس تأثيراً حاسماً من خلال التأكيد على حق الفرد في تحدي المعتقدات والمؤسسات الهامة. كما أكد كلاً من الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" Immanuel Kant والفيلسوف واللاهوتي الدنماركي "سورين كيركيغارد" Søren Kierkegaard بشكل خاص على المسؤولية الشخصية للفرد.

تم استخدام كلمة الفردية في فرنسا بداية لوصف ما يعتبره نقاد الرومانسية عبادة مفرطة للفرد، مما قد يؤدي إلى الفوضى والاضطراب الاجتماعي. تم تقديم تفسير مؤثر للغاية من قبل عالم الاجتماع الفرنسي البارز "ألكسيس دي توكفيل" Alexis de Tocqueville الذي جادل بأن الفردية كانت من أصل ديمقراطي، وسوف تنتشر بما يتماشى مع المساواة المتزايدة بين الافراد، كما انها يمكن أن تؤدي إلى فقدان المواطنين الاهتمام بالشؤون العامة تماماً، وتكريس أنفسهم للخصوصية والضياع في الأنانية الخالصة.

يرتبط هذا التفسير بمصطلح "المذهب الذري" atomism في النظرية السياسية والاجتماعية، إنه يعني ضمناً تصور المجتمع على أنه مكون من أفراد، بحيث يمكن ضمان تحقيق الأهداف الفردية بشكل أساسي، حيث إن حقوق الفرد لها الأولوية، وهي موجودة قبل تكوين أي مجتمع. ويتم ضمان هذه الحقوق من خلال إبرام العقد الاجتماعي.

كان الفيلسوفان الإنجليزيان "توماس هوبز" Thomas Hobbes و"جون لوك" John Locke ممثلين نموذجيين لمثل هذا الرأي.

 نفس الأفكار تكمن وراء ظهور الليبرالية الاقتصادية، التي تم توسيعها من قبل الاقتصادي والفيلسوف الأسكتلندي "آدم سميث" Adam Smith الذي جادل بأن المصلحة الذاتية للفرد المطورة بحرية، كانت للصالح العام.

في إنجلترا، كان استخدام كلمة الفردية يميل إلى عدم المطابقة في الأمور الدينية من جهة، وإلى للثقة بالنفس والاستقلال اقتصادياً واجتماعياً من جهة أخرى. لقد استلزم الحد الأدنى من تدخل الدولة مقابل الاشتراكية والجماعية. الممثل الأكثر تطرفا لهذا الاتجاه كان الفيلسوف الاجتماعي الإنجليزي "هربرت سبنسر" Herbert Spencer.

في الولايات المتحدة، أصبحت الفردية مرادفة  للمشروع الحر تقريباً. أي السعي وراء مؤسسة خاصة في ظل حكومة محدودة، وبحرية شخصية واسعة النطاق.

في المجال الثقافي الألماني، كان استخدام كلمة الفردية مستوحى من عصر النهضة، وتأثر بالمفهوم الرومانسي للفردانية، التي تُفهم على أنها تفرد الفرد كأصالة وإدراك للذات.

الممثل البارز لهذا الاتجاه كان الفيلسوف الألماني "فيلهلم فون هومبولت" Wilhelm von Humboldt الذي تأثر بآراء وأفكار الفيلسوف الإنجليزي "جون ستيوارت ميل" John Stuart Mill ومنحه مكانة بارزة في كتابه "على الحرية" On Liberty الذي أصدره في عام 1859، وتضمن تصوره الكلاسيكي لليبرالية.

في الثلث الأخير من عام 1800 تعرضت الأفكار الفردية لانتقادات متزايدة، ليس فقط من الجماعات الاشتراكية والمحافظة، ولكن من الليبراليين الاجتماعيين الجدد أيضاً، ومُنحت المعارضة الفردية الجماعية مكانة بارزة.

خلال النصف الأخير من القرن العشرين ظهرت الأفكار الفردية مرة أخرى لتتمتع بشعبية أكبر، مع التركيز على الجوانب الاقتصادية، أي اقتصاد السوق لدى البعض، والاهتمام بالشخصية التنموية، الخاصة أو الثقافية العامة لدى البعض الآخر. لعب هنا مفكرون مثل الاقتصادي الليبرالي النمساوي "فريدريش فون هايك"  Friedrich von Hayek والفيلسوف البريطاني من أصل نمساوي "كارل بوبر" Karl Popper والروائي والمنظر السياسي الفرنسي "أندريه مالرو"  André Malraux وعالم الاجتماع الفرنسي "ريموند آرون"  Raymond Aron  وعالم الاجتماع البريطاني من أصل روسي "إشعياء برلين" Isaiah Berlin  دوراً هاماً في تبني هذا الاتجاه والتنظير له.

مجتمع الأفراد الأقوياء في الدنمارك

عززت النزعة الفردية المتزايدة تماسك المجتمع الدنماركي، هذا ما كتبه المؤرخ والكاتب الدنماركي "بو ليديجارد" Bo Lidegaard في قصته عن الدنمارك في القرن العشرين.

من وجهة نظر  بوليديجارد كان لأشخاص مثل السياسي الدنماركي الراديكالي الذي شغل منصبي وزير الدفاع والخارجية "بيتر روشيجون مونش" Peter Rochegune Munch، والديمقراطي الاجتماعي، وزير التعليم سابقاً "هارتفيج فريش" Hartvig Frisch، ورئيس الوزراء السابق، الديمقراطي الاشتراكي "ثوركيلد ستونينج"  Thorkild Stauning

دوراً رئيسياً وفاعلاً خلف اتباع الدنمارك سياسة الحياد خلال الفترة الممتدة، من الحرب العالمية الأولى إلى الاحتلال الألماني للدنمارك. وكان لقيادتهم الأثر الهام في تطوير دولة الرفاه الاجتماعي في الدنمارك.

العصور الحديثة

ورد في كتاب بو ليديجارد "قصة الدنمارك في القرن العشرين" أن الدنمارك الحديثة ولدت من هزيمة عام 1864، التي اعتبرها ـ إذا جاز التعبير ـ المفتاح الأساس لفهم التاريخ الدنماركي خلال القرن العشرين.

كانت سياسة دوقية "شليسفيغ"  Slesvig المحاذية لألمانيا، الوطنية الليبرالية هي التي قادت الدنمارك إلى حافة الهاوية في عام 1864. وشكلت هذه الهاوية فيما بعد إحدى الدعائم  الأساسية في السياسة الدنماركية لأكثر من 100 عام.

فقد كانت لعدة قرون جزءًا من مملكة الدنمارك. وفي عام 1864 احتلت مملكتا بروسيا والنمسا دوقية "شليسفيغ" وحكمتا المنطقة بشكل مشترك حتى الحرب النمساوية البروسية عام 1866 حيث استحوذت بروسيا على "شليسفيغ". انضم البروسيون إلى "شليسفيغ" مع المنطقة الواقعة إلى الجنوب مباشرة، وخلقوا مقاطعة "شليسفيغ هولشتاين". استمرت المقاطعة عندما انضمت بروسيا إلى دول أخرى لتصبح الإمبراطورية الألمانية في عام 1871.

في نهاية الحرب العالمية الأولى، تم إجراء استفتاء عام في منطقة "شليسفيغ" في عام 1920 لتحديد الحدود بين ألمانيا والدنمارك. تم تقسيم منطقة استفتاء "شليسفيغ" إلى منطقتين: المنطقة الأولى وهي الجزء الشمالي والأكبر من "شليسفيغ"، كانت مأهولة بأغلبية من الدنماركيين العرقيين. والمنطقة الثانية تقع في وسط الدوقية، تتألف من حوالي 80 ٪ من الألمان. كانت هناك منطقة ثالثة في الجنوب، ولكن نظراً لأن المنطقة كانت مأهولة بالأساس من قبل العرق الألماني، لم يتم إجراء تصويت فيها. تسبب رسم الحدود بين المنطقتين في جدل كبير ونقاش ساخن بين الدنمارك وألمانيا، ولكن في النهاية تم الاتفاق على حل وسط على أساس عدد السكان، وكانت النتائج كما كان متوقعاً. اختارت المنطقة الأولى بأغلبية ساحقة أن تصبح جزءًا من مملكة الدنمارك. واختارت المنطقة الثانية البقاء مع ألمانيا.

عندما تولى الشعب

خلال أول خمسون صفحة من كتاب "بو ليديجارد" تدور الأحداث حول القرن التاسع عشر، وبشكل أكثر تحديدًا عن الفترة من 1864 إلى 1901. وخلال هذه الفترة وضع الفلاحون والعمال، الأساس للدنمارك الحديثة. وحدث ذلك تحت شعار "ما يضيع في الخارج يجب كسبه من الداخل".

 لقد تم إنشاء الكليات والجامعات، وإنشاء التعاونيات لمنتجي الألبان واللحوم. ومع تغيير النظام السياسي عام 1901، تولى الحزب الليبرالي المسؤولية السياسية لقيادة البلاد.

منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي، تولى العمال الدنماركيون تحت شعار "طالب بحقك وقم بواجبك"  دور القوة الطليعية للمجتمع. وبالتعاون الوثيق مع اليسار الراديكالي، بدأ الاشتراكيون الديمقراطيون في بناء دولة الرفاهية، التي جاءت انطلاقتها الأخيرة في السبعينيات. في الوقت نفسه، ظهرت النساء في الميدان بفعالية كقوة دافعة في زيادة تطوير المجتمع الدنماركي.

 لم يكن انضمام الدنمارك إلى السوق الأوروبية المشتركة في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول عام 1972، ثم إلى الاتحاد الأوروبي هو الذي شكّل بداية حقبة جديدة، بل كانت أيضاً استقالة "ينس أوتو كراج" Jens Otto Krags  من منصب رئيس الوزراء في الثالث من أكتوبر بنفس العام.

وخلافاً لوجهة النظر واسعة الانتشار، يشير "بو ليديجارد" إلى "ينس أوتو كراج"  باعتباره مدافعاً شرساً عن تقاليد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، على عكس خليفته "أنكر يورجنسن" Anker Jørgensen الذي مثلت فترة رئاسته للحكومة قطيعة مع تقاليد الحزب.

الشيء الهام في سرد "بو ليديجارد" ليس اعتباره أن "الشعب" هم الفلاحون أولاً، ثم العمال الذين يُنظر إليهم على أنهم القوة التي شكلت الدنمارك، خلال معظم القرن العشرين. بل نظرته إلى أن الدنمارك هي نتاج عوامل داخلية وخارجية. حيث تم تأسيس الدنمارك الحديثة، ليس فقط من قبل الأشخاص الذين يعيشون فيها، ولكن من قبل الأشخاص الذين يعيشون في الخارج أيضاً، وفي المقام الأول من قبل أقرب الجيران )ألمانيا(.

الجبهة الداخلية

النقطة الحاسمة في الكتاب، هي أن قدرة الدولة الدنماركية على الحفاظ على سيادتها خارجياً يعتمد على تنظيم الدولة للمجتمع داخلياً، على سبيل المثال، كيف يمكن للمجتمع إنشاء مجموعة من القيم المشتركة، وكيفية ضمان ولاء الأفراد، وإحساسهم بالمواطنة، والمحافظة عليهم، هو السؤال الأساسي في فن حنكة الدولة.

من وجهة نظر "بو ليديجارد" كان لأشخاص مثل وزير الدفاع والخارجية السابق، اليساري الراديكالي "بيتر روشيجون مونش"، وزير التعليم سابقاً "هارتفيج فريش"  Hartvig Frisch، ورئيس الوزراء السابق، الديمقراطي الاشتراكي "ثوركيلد ستونينج"  Thorkild Stauning دوراً خاصاً في تلك المرحلة. لقد فهموا أهمية بناء مجتمع وطني وديمقراطي، وجبهة داخلية يمكن أن تصمد أمام تهديد خارجي وربما احتلال.

مع هزيمة عام 1864، أصبحت الدنمارك دولة صغيرة في أوروبا، وجارة لأقوى قوة عسكرية في العالم، في شكل ألمانيا الموحدة. فكيف تعيش مع هذا الجار؟ الجواب على هذا السؤال، هو القاسم المشترك في قصة الدنمارك في القرن العشرين.

بينما كانت منطقة "شليسفيغ" Slesvig  وخاصة الجزء الذي نسميه "جوتلاند الجنوبية" Sønderjylland التي انضمت إلى الدنمارك فيما بعد، كانت في تلك المرحلة مشكلة ساخنة للغاية استمرت حتى الحرب العالمية الثانية.

 كانت جزيرة "جرينلاند" Grønland التي استعمرتها الدنمارك عام 968، وتقع بين القطب الشمالي والمحيط الأطلسي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي، وتُعتبر أكبر جزيرة في العالم، هي التي احتلت تدريجياً على مكان "شليسفيغ". إذ لا يُنظر إلى مصالح الولايات المتحدة في "جرينلاند" على أنها تهديد للسيادة الدنماركية، بنفس الطريقة مثل مصالح ألمانيا السابقة في "شليسفيغ."

قرن الازدهار

يُقدم الكتاب أمثلة مهمة على تفرد البرلمان الدنماركي باتخاذ قرارات هامة أحياناً، دون أن يُشارك السكان في القضايا الحيوية المتعلقة بالسيادة الدنماركية. على سبيل المثال، حصل في عام 1906 أن تولى رئيس الوزراء الليبرالي "ينس كريستيان كريستنسن" Jens Christian Christensen إيفاد نواب دنماركيين إلى برلين، لإجراء مفاوضات سرية للحصول على ضمان ألماني، بهدف أن تظل الدنمارك محايدة.  وفي عام 1957 قام رئيس الوزراء الاشتراكي الديمقراطي "هانز كريستيان هانسن" Hans Christian Hansen بعقد اتفاقية سرية، سمحت الدنمارك بموجبها للولايات المتحدة استخدام "ثول" Thule في جريلاند كقاعدة للطائرات النووية.

ترسم قصة "بو ليديجارد" عن الدنمارك في القرن العشرين، صورة لما يقرب من مئة عام من التقدم المستمر. لم يُفض هذا التقدم إلى زيادة الازدهار المادي فحسب، بل أدى إلى زيادة الفردية في المجتمع أيضاً.

 إن دولة الرفاهية هي التي ساهمت إلى حد كبير في هذه الفردية. هذه الدولة، التي يتهمها العديد من النقاد بأنها مشروع اشتراكي وجماعي، قد حررت ـ من وجهة نظر بو ليديجارد ـ الفرد من قيود الأزمنة السابقة، إلى درجة يصعب العثور عليها في أي مكان آخر في العالم.

على عكس الحكمة التقليدية، يدعي "بو ليديجارد"  أن الفردية لم تؤد إلى أنانية مدمرة اجتماعياً، بل على العكس من ذلك، أعطت الفردية في مجتمعات الرفاهية في الشمال تماسكاً أكبر مما هو موجود في العديد من المجتمعات الأوروبية الأخرى.

قوة التماسك

يقول "بو ليديجارد" في الفصل الأخير من الكتاب: "نحن مجتمع من أنصار الفردية الأقوياء". ومع ذلك، يقوم بالتحذير أيضاً. لأنه على الرغم من أن زيادة النزعة الفردية قد ساهمت في زيادة التماسك في الدنمارك، إلا أنه ليس من المسّلم به أنه يمكن الحفاظ على هذا الارتباط، لأنه يقع تحت ضغط من "عدم الرضا عن التوقعات المتزايدة".

الإجماع الوطني والتوافق على كل شيء، يبدو أنه يشكل عائقاً أمام الازدهار، مما أدى إلى نضال الجميع ضد الجميع من أجل "مزيد من الحرية، وواجبات أقل وفرص استهلاك أكبر".

 وبالتالي، يُشار إلى أن التهديد الأكبر للديمقراطية الدنماركية يأتي الآن من انتصار الهوية الاستهلاكية على هوية المواطن.

في النهاية، يستخلص "بو ليديجارد" من التاريخ الدنماركي في القرن العشرين فيما يلي: بدلاً من الاعتقاد بأن هناك نموذجاً دنماركياً فريداً، يجب أن يستمر في الدنمارك خلال القرن الحادي والعشرين، يجب أن نبني على التجارب الفريدة التي قُمنا بها من خلال بناء المجتمعات على أساس التماسك، والرفاهية، والديمقراطية.