الشَّاعر الفلسطيني موسى حوامدة
ينقشُ الشَّاعرُ الفلسطيني موسى حوامدة، حرفَهُ بأبهى ما في صفوةِ الشِّعرِ الخلَّاقِ من إبداعٍ فوقَ خارطةِ الشِّعرِ والحداثةِ الشِّعريّةِ، وكأنَّهُ يبني وطناً رحباً عبرَ قصيدةٍ متميّزةٍ في إشراقاتِها الشَّاهقةِ في كلِّ ديوانٍ من دواوينِهِ، الًّتي توَّجَتْ مكانةً راقيةً لقصيدةِ النَّثرِ، بعيداً عن تأثيرِ قصيدةِ النَّثرِ الغربيّةِ في فضائِهِ الإبداعي، مُنطلِقاً من ذاتِهِ المبدعةِ في بناءِ عالمِهِ الشِّعريِّ من خلالِ تجربتِهِ الأنينيَّةِ الفسيحةِ، الممتدَّةِ على مدى عقودٍ خصبةٍ من الابتهالِ الشِّعري بأبهى جموحاتِهِ، مجسِّداً رؤىً وآفاقاً حداثويّةً جديدةً على السّاحةِ العربيّةِ، مرسِّخاً ومؤكِّداً للمتابعينَ والمتابعاتِ أنَّ قصيدةَ النَّثرِ تغوصُ عميقاً في ترجمةِ المشاعرِ الفيّاضةِ عن الشّاعرِ بكلِّ تدفُّقاتِهِ وصورِهِ المنبعثةِ من تجلِّياتِ بوحِهِ من خلالِ تجربتهِ ومماحكاتِهِ وإبعادِهِ وابتعادِهِ عن مراتعِ الطّفولةِ والشَّبابِ والطِّينِ الأوَّلِ، وغدَتْ قصيدَتُهُ تهدهدُ الآفاقَ الخلّاقةَ، لما تجمحُ عالياً بإمكانيّاتٍ باذخةٍ في رهافةِ انبعاثِها وانبجاسِها كإشراقاتٍ شعريّة شامخةٍ شموخَ الجبالِ المظلَّلةِ بالأشجارِ الباسقةِ فوقَ ثغورِ الجبالِ، جنباً إلى جنبٍ معَ شعراءِ الحداثةِ العربيّةِ الأفذاذِ.
تبرعمَتْ عوالمُ الشَّاعرِ موسى حوامدة من ذاكرةِ شَتاتٍ مثخّنةٍ بالجراحِ والانشطارِ والانكسارِ وجرعاتٍ طافحةٍ بمذاقِ الشَّوقِ والحنينِ والآهاتِ المكتنزةِ بالأحلامِ المتجلِّيةِ معَ تلألؤاتِ النّجومِ، ليشيِّدَ لنا وطناً شامخاً في عطاءاتِهِ الخَّلاقةِ رَغمَ كلِّ الانكساراتِ والفواجعِ الحارقةِ الّتي رافقتْهُ على مدى تشَتُّتِهِ وغربتِهِ وهجرانِهِ عن مسقطِ رأسِهِ، عبرَ فضاءاتِ لغةٍ متعانقةٍ معَ زرقةِ البحرِ ونضارةِ السَّماءِ في أوجِ صفائِها وسموِّها، مستنبطاً من طفوحِ حرفِهِ وطناً مرفرِفاً على أجنحةِ أملٍ باسقٍ من نكهةِ عطاءاتِ غيومِ الخيرِ، وطناً سامقاً كأشجارِ السِّنديانِ، ومخضوضِراً كأغصانِ الزَّيتونِ ومرصرَصاً بشهقاتِ الحنينِ إلى ظلالِ البيتِ العتيقِ، مُترجِماً طموحاتِهِ ورؤاهُ المسربلةَ في حنايا روحِهِ التوّاقةِ إلى الحرّيّةِ والفرحِ والعطاءِ والسَّلامِ فوقَ ترابِ وطنِهِ على مساحةِ ذاكرتِهِ المفروشةِ بالأشواكِ ولهيبِ النِّيرانِ المتأجِّجةِ في لبِّ الأحلامِ، مجنَّحاً بكلِّ شغفٍ نحوَ إنسانيّةِ الإنسانِ بأصفى ابتهالاتِ حروفِهِ اللّمَّاحةِ، مُحوِّلاً انكساراتِهِ المتتاليةَ إلى انتصارِ القصيدةِ على أوجاعِهِ الحارقةِ، كأنَّهُ في حالةِ سباقٍ لتتويجِ القصيدةِ نجمةً ساطعةً فوقَ كينونةِ الكونِ، وفوقَ جبينِ الحياةِ، غيرَ مبالٍ إلَّا بغنى الحرفِ والكلمةِ المرفرفةِ بأجنحةِ الشُّموخِ، معتبراً الحرفَ بكلِّ تجلِّياتِهِ ذهباً محلولاً ومن أنقى هدايا الكونِ، وسيبقى الحرفُ ساطعاً وسامقاً على أنغامِ القصيدةِ وإيقاعِ إشراقةِ الصَّباحِ!
يتميّزُ الشَّاعرُ موسى حوامدة برؤيةٍ عميقةٍ في التَّجدُّدِ والتَّنوُّعِ في المواضيعِ الَّتي يجسِّدُ تشابكاتِ فضاءاتِها عبرَ انبعاثِ اخضرارِ القصيدةِ، مستلهماً حبقَ الشِّعرِ الصَّافي من خبراتِهِ العميقةِ في همومِ الحياةِ، ومماحكاتِهِ الغزيرةِ في خضمِّ العمرِ الممتدِّ على رحابةِ شهقاتِ الشَّهيقِ، راصداً بتأمُّلٍ شفيفٍ قلقَهُ الدَّائمَ فيما يُحيطُ بوطنِهِ المشروخِ وبالعالمِ من انكساراتٍ، محاولاً عبرَ مملكةِ الشِّعرِ أن يبلسِمَ الجراحَ المستفحلةَ فوقَ وجنةِ الوطنِ ووجنةِ الإنسانِ أينما كانَ، فنجدُهُ يحلِّقُ تارةً فوقَ خدودِ غيمةٍ متساميةٍ في قبَّةِ السَّماءِ، وتارةً أخرى فوقَ نسائمِ اللَّيلِ العليلِ، شوقاً إلى مرامي الطُّفولةِ وظلالِ البيتِ العتيقِ والدَّالياتِ المتعانقاتِ معَ أغصانِ التِّينِ حتَّى اكتمالِ مواسمِ الحصادِ في ذروةِ جمْعِ الغلالِ، واقفاً بكلِّ ثباتٍ وشموخٍ، موشِّحاً حرفَهُ بشغفٍ كبيرٍ فوقَ انبعاثِ موجةٍ متناغمةٍ معَ حبورِ تماوجاتِ نوارسِ البحرِ، وإشراقةِ الشَّمسِ فوقَ مآقي الدُّنيا، بحثَاً عن السَّلامِ والحبِّ الآفلِ خلفَ جشاعةِ إنسانِ هذا الزَّمان!
ينبعثُ نصُّهُ من ذاتٍ رهيفةٍ في تجلِّياتِها، ومن مخيالٍ متشابكٍ معَ أنضرِ الأحلامِ المعرِّشةِ بأغصانِ القلوبِ العطشى لضياءِ الغدِ الآتي، ومن تجربةٍ ممهورةٍ بأصفى المشاعرِ، ومتناغمةٍ معَ خصوبةِ خيالٍ متجانسٍ معَ حبقِ انبعاثِ القصيدةِ. تولدُ قصائدُ الشَّاعر موسى حوامدة بعدَ إرهاصاتٍ منبجسةٍ من مراراتِ الواقعِ الَّذي مرَّ فيهِ، ووشّحَتْ مقلتيهِ على مساحاتِ اشتعالِ عمرٍ محفوفٍ بالآهاتِ، ولم يجدْ أجدى من الشِّعر كي ينتشلَهُ من لهيبِ الاشتعالِ المتتالي، فراحَ يناغي الحرفَ، وينسجُ شعرَهُ على إيقاعِ وهجِ الانبعاثِ كأنَّهُ في حلمٍ مفتوحٍ على أشهى مرامي الحنينِ. لا يستهويهِ ما هو مألوف بقدرِ ما يستهويهِ ما هو غيرُ مألوفٍ، لأنّهُ يميلُ إلى كسرِ ما هو تقليديٌّ وعاديٌّ، فيرسمُ صورَهُ الشِّعريّةَ المخبوءةَ في أعماقِ الخيالِ، والمتناثرةَ فوقَ غمائمِ الحياةِ. يصوغُ فضاءَهُ بطريقةٍ حلميّةٍ وكأنَّهُ في غمارِ رحلةٍ موغلةٍ في منعرجاتِ الأساطيرِ، أو في جولةٍ استكشافيّةٍ لِمَا يعتري صحارى الرُّوحِ من أشواقٍ إلى البحارِ الدَّافئةِ، مُسربلاً بوهجِ القصيدةِ كأنّها أمُّهُ الرَّؤومُ، فقد اتّخذَ من القصيدةِ صديقةً أزليّةً، يبوحُ لها بأسرارِهِ الدَّفينةِ ثمَّ يذرفُ دمعةَ شوقٍ من ألقِ الابتهالِ كي يخفِّفَ من لظى الاشتعالِ!
يحلِّقُ عبرَ فضاءاتِ ديوانِهِ: "سلالتي الرِّيح، عنواني المطر" نحوَ تجسيدِ معاني الانتصارِ ويوغلُ في الإمعانِ في خرابِنا المصحوبِ بمراراتِ الانشراخِ. أدهشتني فضاءاتُهُ الّتي جسَّدَها عبرَ رؤيةٍ شعريّةٍ، مُلملماً كلَّ التّنافراتِ والتّصارعاتِ، وينسجُها في سياقاتٍ مُفاجِئةٍ. لا يكتبُ نصَّهُ من خلالِ حَدَثٍ أو فكرةٍ أو موقفٍ أو حالةٍ مريرةٍ أو ذكرى ما، بلْ يكتبُ من خلالِ تداخُلِ كلِّ هذهِ الحالات، فيرى نفسَهُ معلَّقاً في اللَّامكان واللّازمان، معلّقاً في تلافيفِ الهواءِ، وفي أغصانِ القصيدةِ المتشظِّيةِ من شفيرِ التِّيهِ المندلقِ من شهوةِ الخياناتِ بكلِّ احتراقاتِها، تبدو لهُ الحياةُ كذبةً كبيرةً في حيثيَّاتِها، ولا يرى حيثيَّاتِها ذاتَ أهمِّيةٍ، فقد ضاعَتْ بوصلةُ العبورِ في لبِّ الحياةِ عن مرأى الإنسانِ، فتاهَ إنسانُ هذا الزّمانِ عن جوهرِ العمرِ، فأمسكَ الشّاعرُ موسى حوامدة بهذا التِّيهِ، وبدأَ ينقشُ حرفَهُ فوقَ فضاءِ التِّيهِ، ولم يرَ إلَّا سراباً طافحاً بالغبارِ، فوقفَ ممعناً النّظرَ في رحلةِ العمرِ، وشعرَ كأنَّ حياتَهُ حياتُنا، وهي أشبه ما تكونُ خرافةٌ ما بعدَها خرافةٌ، لِمَا فيها من تنافراتٍ غريبةٍ، ولم يجدْ أجدى من القصيدةِ تلملمُ كل هذه التَّنافراتِ وتفرشُها عبرَ خيالِ الشَّاعرِ فوقَ براري الرُّوحِ الهائمةِ في دنيا من بكاءٍ!
يغوصُ الشّاعرُ عبرَ خيالهِ عميقاً في ماهيةِ الشِّعرِ، لكنّهُ يرى أنَّ الشِّعرَ له مساحاتٌ أعمقُ من اللُّغةِ، ولا تستطيعُ اللُّغةُ الإحاطةَ بماهيةِ الشِّعرِ، لِما فيهِ من آفاقٍ شاهقةٍ عبرَ جموحاتِ الرُّوحِ المنبثقةِ كتدفُّقاتِ الشَّلَّالاتِ من أعالي الجبالِ، ويبقى انبعاثُ الشِّعرِ مفتوحاً على مساحاتٍ لا يصلُ إليها الشّاعرُ عبرَ اللّغةِ، ولا عبرَ الصُّورِ ولا عبرَ الحلمِ، لأنّ الشِّعرَ أشبهُ ما يكونُ كينونةَ روحِ الكونِ، فهلْ مِنَ المُمكن أن يحيطَ الشّاعرُ بكينونةِ الكونِ عبرَ لغةٍ لا تستطيعُ أن تسبرَ غورَ شاعريّةِ الرّوحِ الممتدّةِ على رحابةِ شهيقِ الكونِ منذُ الأزلِ.
القصيدةُ عندَ الشَّاعرِ موسى حوامدة من جذرِ الغيومِ المتهاطلةِ فوقَ مخيالِ الشَّاعرِ دونما إنذارٍ مسبقٍ، هي إشراقةٌ عناقيّةٌ معَ دندناتِ الرُّوحِ والقلبِ، وتبدو القصيدةُ لدى حوامدة "أجملَ من الوطنِ"، على حدِّ قولِهِ حيثُ يراها خاليةً من الأشواكِ والنّتوءاتِ والشّوائبِ، تولدُ بعذوبةٍ كأنّها مقتطعةٌ من أرضِ بكرٍ، أو منبعثةٌ من حنينِ الأزاهيرِ إلى عناقِ نسيمِ اللَّيلِ العليلِ، فهوَ يبحثُ عن وطنٍ خالٍ من لهيبِ الاشتعالِ، لأنَ وطنَ الشّاعرِ هو قصيدةٌ مرفرفةٌ فوقَ خصوبةِ الحياةِ بأبهى جموحاتِ التَّجلِّي.
يرى الشَّاعرُ أنَّ الطَّبيعةَ تجدِّدُ ينابيعَ الشِّعرِ، وتحميهِ مِنَ الوقوعِ في روتينِ الحرفِ، وتمنحُهُ وهجَ الانبعاثِ على مدى رهافةِ الانبهارِ المتجدِّدِ على مساحاتِ الفصولِ، مركِّزاً على خدودِ البحرِ، ومستوحياً "من جهةِ البحرِ"، جهةَ القصيدةِ، فوجدَ البحرَ كأنَّهُ رحيقُ القصيدةِ الأشهى وهو القصيدةُ بعينِها وراحَ ينسجُ شعرَهُ مهدهداً أمواجَ البحرِ كأنَّهُ في رحلةِ عناقٍ مع اهتياجِ البحرِ في أوجِ ابتهالاتِهِ!
يكتبُ القصيدةَ ولا يبالي بمنعكساتِ ما سيأتي من شموخِ الشّعرِ، لأنَّ القصيدةَ عندَهُ طفولةٌ ممراحةٌ، تحلِّقُ عالياً مثلَ الأشجارِ على إيقاعِ دندناتِ مزاميرِ الرُّوحِ. يمسكُ قلمَهُ ويرسمُ هيكلَ القصيدةِ من حبرِ الرّوحِ وشرايينِ القلبِ، متمرِّداً على كلِّ مَن يخالفُ بهجةَ الطُّفولةِ، والفرحِ وحرّيّةِ التَّنفُّسِ في ظلالِ البيتِ العتيقِ، موغلاً في دهاليزِ الموتِ، معبِّراً عن هذهِ الفضاءاتِ الرّحبةِ بإشراقاتٍ خاطفةٍ، وعميقةٍ كما في ديوانِ: "موتى يجرّونَ السَّماءَ"، فنراهُ يكتبُ شعرَهُ كأنَّهُ في أقصى نشواتِ بوحِ الرُّوح!
تطوفُ روحُهُ المجنَّحةُ في معراجِ انبلاجِ القصيدةِ، نحوَ مرافئِ الإنسانِ وإنسانيّةِ الإنسانِ، بتكثيفٍ رهيفٍ على إيقاعِ قبلةِ الشَّمسِ لخدودِ الأرضِ، وكأنَّهُ يعيشُ حالاتٍ شعريّةً في كلِّ آنٍ، ويترجمُ هذهِ الحالاتِ عبرَ ابتهالاتِ بوحِ القصيدةِ، فتولدُ القصيدةُ عندَهُ مشبّعةً برحيقِ الحياةِ في أصفى انبعاثِها!
ستوكهولم: آذار (مارس) 2021 مسودة أولى
نيسان (أبريل) 2022 صياغة نهائيّة
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق