كما في كل عام، منذ واحد وعشرين عامًا، يحل شهر أيّار/مايو على القدس ومعه تذكارات من رائحة الملح المخبأ في شقوق الزمن، وأصوات نايات حزينة تنساب همسات خافتة في عروق حجارة أسوارها. القدس، مأوى الملائكة ومساكن الغضب، لا تعرف طعمًا للحزن ولا كيف يكون الندم؛ إنّها ابنة ذاك الأزل، تغفو على زنوده السماوية المقدّسة وتصحو كغزالة الأساطير المذعورة بعد صخب حفلة صيد وحشية.
هي القدس، أعود إليها في أواخر كل ربيع متعبًا من غدر الفصول ووداع الأحبة؛ وأيار ينسلّ، بقهقهاته مختالًا، إلى حيث محارق الأمل، تاركًا على أسوارها تناهيد فجرها المذبوح وتمتمات الأرامل وعذاباتها. كان أيارنا، عندما كنا نزوّج المطارق للمناجل، بئرًا لعرق الفقراء والبسطاء والكادحين، وشريانًا لدمائهم الطاهرة، فصار، مذ "أكل أهل الشرق أثداءهم" شهر القهر والردى، يأتي ليذكرنا بجهالتنا وبالحكمة الغائبة، ولينكأ جرح القدس المفتوح، منذ سافر فيصل الحسيني، حامي أحلامها وناطور قلاعها، في رحلته الأخيرة نحو تلك الصحاري الغادرة.
سيبقى لذكرى رحيل فيصل الحسيني وهو في قمة نشاطه وعطائه طعم من المرارة المتجدد؛ وذلك ليس لأننا توقعنا، في حينه، أن خسارته الفادحة لن تعوّض وحسب، بل لأننا شعرنا أن تغييبه، في الظروف المعقدة التي كانت تواجهها مدينة القدس تحديدًا، فرض تساؤلًا منطقيًا حول الذين كانوا المستفيدين من واقعة رحيله والتخلّص من دوره المفصلي في التصدي الناجح لمعظم المكائد التي حيكت ضد القدس وضد مكانتها كعاصمة فلسطينية فرضها فيصل والمقدسيّون معه على وجدان العالم وفي الحياة اليومية.
لم يكن ذلك الأمر ممكنًا لولا ما تحلّى به فيصل من خصال مميزة ورؤية ثاقبة ومصممة على ضرورة بناء الهوية المقدسية الفلسطينية الوطنية الجامعة واسباغها على جميع سكان المدينة، الذين تسربلوها، برضا وبعزة، وتصرفوا بحمايتها ودافعوا عنها في وجه الاحتلال الاسرائيلي، وأمام جميع أعدائها من الخارج والمدسوسين. فلماذا فيصل؟
من السهل أن نجيب على ذلك، كما فعل الكثيرون مرارًا؛ لأنه كان إنسانًا نقيًا بامتياز، ومحاورًا سياسيًا دمثًا وحذقًا وحكيمًا، ومناضلًا شرسًا وعنيدًا من أجل كرامة المقدسيين وحرّياتهم. لقد شهدَت لفيصل شوارع القدس كلها وساحاتها؛ وعرفته جميع المنابر الدولية التي كان يستقبل فيها ببالغ الاحترام وبحفاوة ظاهرة، تمامًا كما يجب أن يستقبل القائد الذي يعرف كيف يسخّر جميع جوارحه ومجساته في سبيل الفوز في المعركة أو في تفادي الهزيمة المتوقعة.
لقد تحلّى فيصل بجميع تلك الصفات، لكنّه تعمّد تخصيبها بمزايا "فيصلية " إضافية هي التي أدخلته إلى قلوب الفلسطينيين، وجميع المقدسيين طبعًا، ومكّنته حتى أصبح فارس القدس المحبوب وحامي مظلتها الأمين وضابط مسطرتها الوطنية، التي "بشفرتها" رسمت الحدود بين الخيانة وعكسها.
ومن تلك المزايا كانت قناعته بأن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين هي ظاهرة طبيعية ومقبولة، شريطة ألا تتحول هذه الاختلافات الى خلافات تعبث بالجسد الفلسطيني الواحد وتهدم أسس نضاله الذي يجب أن يبقى موجهًا وموحدًا ضد الاحتلال الاسرائيلي. لقد سعى فيصل بحنكته وباستقامته وبنزاهته إلى تجسيد تلك القناعة في القدس، ونجح بتجميع جميع الفصائل والقوى السياسية، الوطنية والاسلامية، تحت مظلة واحدة تجلّت أهميتها في رحاب "بيت الشرق" الذي قضّت مكانته، بين الأمم والفلسطينيين، مضاجع حكّام إسرائيل.
لقد مارس فيصل قيادته بهدي ما يسمى في عالم السياسة العصرية "كيانية الدولة العليا"، أو الممارسة الفوق فئوية أو حزبية؛ أو ما يعرف اصطلاحيًّا بحالة (statehood) ، وهي من المصطلحات غير المألوفة في حياة الشعوب والأنظمة العربية، وذلك لأسباب مفهومة طبعًا.
ولأنه كان يؤمن بحيوية العمل وفق هذا المبدأ وتقديمه على جميع المحفزات التقليدية، تعمّد، خلال مسيرته السياسية، ألّا يستغل تأثير نسبه العائلي المرموق، وأن يظهر دومًا بشخصه المستقل كفيصل الحسيني، علمًا بأنه كان فخورًا بأبيه المناضل القائد المعروف عبدالقادر وبتاريخ عائلة الحسيني، المشهود لها عبر العقود. وحتى "فتحاويته" كانت عبارة عن هوية سياسية كفاحية مجرّدة من أي مراهقة فصائيلة متشاوفة. لقد اختار فيصل أن يكون ابن كل فلسطين وخادم قدسها والمسكون بها أبدًا، وقائدًا شعبيًا متصدرا واجهات الميادين، كالترس وكالرمح معًا؛ لأنه كان يؤمن، ببساطة، بأن من يخاف ويتذيل الصفوف مستجيرًا بصدور شباب فلسطين وهي تتحدى عارية غطرسة الاحتلال، غير جدير بأن يكون قائدًا لهم.
فيصل ونظرية الردع ورفع العلم الفلسطيني
لا أعرف كم من أولئك الذين تتطرقوا إلى ظاهرة التوحّش الاسرائيلي، البوليسي والعصاباتي الشعبي، ضد من يرفع العلم الفلسطيني في القدس وداخل إسرائيل، يعرف تاريخ هذه الظاهرة ومحطاتها الفارقة. لكنني سوف أستذكر، في هذه العجالة، احدى تلك المحطات الجميلة، لاسيما ونحن نكتب عن ميزات عهد "الفيصلية ".
لقد واجه فيصل سياسة إسرائيل في القدس الشرقية على عدة جبهات وبعدة وسائل؛ وقد اعتمد ميدانيًا على اتباع ما كان يسميه بمنهج "الردع الايجابي"، الذي أدّى إلى إجهاض العديد من مخططات اسرائيل العدائية. قد تكون المعركة ضد أمر إغلاق "بيت الشرق" في العام 1999 أبرز تلك الحالات التي اثبتت فيها القدس أهمية جاهزيتها الحقيقية لمقاومة الاحتلال ومعنى التفاف أهلها حول فيصل الحسيني ورفاقه في القيادة. لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى تلك الحادثة وسأكتفي بالاشارة إلى أن الردع المقصود يتطلب أحيانًا أن تكون مبادرًا في التحرش الموزون بعدوك وألّا تكتفي بردات الفعل وحسب. وهذا يعتمد أيضًا على مبدأين أساسيين، كان فيصل يرددههما أمام الاسرائيليين: الأول يقول: "لا تخطئوا الحساب ! فمن يستطيع فرض الهدوء والأمن والأمان في شوارع القدس الشرقية يستطيع إشعال النيران وايقاظ المارد من قمقمه" وكان يقصد بالطبع أن بيت الشرق وقيادته هي التي تتحكم في نبض الشارع المقدسي. والثاني يقول: "إن كان عدوّك يجيد المصارعة أو الملاكمة فلا تنازله بما يجيد، بل حاول أن تستدرجه إلى رقعة أنت فيها أبرع وأكثر مهارة، فإن أجدت لعبة الشطرنج مثلًا ، فاستدرجه إلى رقعتها، فحظوظك فيها ستكون أوفر". وهو ما حاول أن يفعله مرارًا.
لقد فشلت حكومة نتنياهو أمام صمود المقدسيين وتراجعت عن قرارها باغلاق "بيت الشرق" وذلك بعد أن فهمت معنى استعداد فيصل والمقدسيين للدفاع عن قدسهم أو اشعال ضفتي المدينة.
وكان أن أعلن الفاتيكان، بعد أشهر من تلك المعركة، عن قرار البابا يوحنا بولس الثاني زيارة الأردن واسرائيل وفلسطين وبضمنها القدس. قام ممثلو الفاتيكان بتنسيق تفاصيل الزيارة مع كل دولة على حدة؛ أما فيما يخص زيارة البابا للقدس فكان عنوانهم "بيت الشرق" ورئيسه فيصل الحسيني. لقد عقدت في بيت القاصد الرسولي في حي "الصوانه" عدة اجتماعات لتنسيق كل كبيرة وصغيرة تتعلق بترتيبات الزيارة، وذلك حسب طلب الفاتيكان ورغم اعتراض إسرائيل واحتجاجاته. رفض البابا المبيت في فنادق القدس الغربية وأصرّ أن يبقى في بيت القاصد الرسولي، وأن تبدأ زيارته للقدس من هناك، ثم مباشرة إلى باحات المسجد الأقصى. أعلنت المؤسسات التعليمية الفلسطينية المقدسية عن ايفاد طلاب المدارس ليقفوا محيّين البابا على جنبات الطرق من الصوانة وحتى باحات الأقصى. ولقد اعترضت إسرائيل على القرار، لكن فيصل والقدس أصروا على تنفيذه؛ فعبّر البابا عن ارتياحه من ذلك. قمتُ بالتواصل مع قائد الشرطة الاسرائيلية ونقلت له على لسان فيصل: "إما أن يصطف المرحبون وإما لا أمن ولا أمان لأحد". فهمت الشرطة مغزى الرسالة، وكان قادتها يدركون أن فيصلًا قادر على تنفيذ تهديده؛ فوافقوا شريطة أن يحمل الطلاب المرحبون الورود فقط وألا يرفعوا أعلام فلسطين. رفض فيصل قبول شرطهم وأصر على أن يرفع كل شبل وردة وترفع كل طفلة علم فلسطين. غضب الجانب الاسرائيلي وارتاح الفاتيكان، مرّة أخرى، فقمت بنقل رسالة ثانية من فيصل إلى قائد الشرطة ومفادها: "سنحمل العلم لا محالة، وعليكم أن تختاروا، فإما العلم وإما الحجر". رضخ الاسرائيليون، تفاديًا لفضيحة القاء الحجارة على موكب البابا الذي سار، وفق الاتفاق، على طرقات فلسطينية يحميها أطفال فلسطين المزينة أياديهم بالورود وبأعلام فلسطين. وكانت زيارة بنكهة فيصيلية وقدسية.
بعد الزيارة بعام سافر فيصل إلى الكويت ولم يعُد. وبقية الحكاية يكتبها شباب القدس، أبناء فيصل، وترويها صفرة العشب المهمل في ساحات "بيت الشرق" المغلق بأمر شرطة إسرائيل، صدر بعد أفول حقبة قد يسميها المؤرخون، ذات يوم، زمن القدس الذهبي، أو " عهد الفيصلية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق