النورس الفينيقي: على هامش اجتياح 1982 للبنان*/ الدكتور عدنان الظاهر




اولا. نُذُرُ الحرب


الطير العربيُّ الفينيقيُّ اللؤلوء في عينيهِ

والطير العربي الفينيقيُّ لألئه تتصدرُ قائمة الانباءِ المجهولة

الريشُ الكث على  كلتا عينيهِ

والطُحلبُ والتعتيمُ مروجٌ تتعسكرُ من حول الأُذُنينِ

الطيرُ البيروتيُّ قوادِمُهُ المرمرُ من لبنان

وخوافيهِ سهامُ الفتحِ الاسلاميّ وأسيافُ الرومانِ

الطير الفينيقيّ الابيض نورسُ بحر الدنيا

يتوسط هذا العالمْ

والطيرُ اللبنانيّ بلا عينين يحدّق في أمواج البحرِ

كسروا حدّة عينيه

جعلوا المسمار الفولاذي إطاراً أممياً للاحداقِ

قصّوا الريش الذهبيَّ - الثلجيّ الزاهي

فتبعثر قشاً يقطر قاراً مغليا

وتناثر في البحر الى الاعماقْ.

النورس مخنوقٌ مذبوحٌ

المقلةُ لا نورٌ فيها لا ومض لا إشعاع

الطير النورس لا عشَ ولا زوجَ ولا اهل له

والنورس مقطوع الاصل سوى صوتِ الجيرانِ

منكوبٌ تتقاذفه الانواءُ الجوية والمعسول من الانباءِ

الريش أكفُّ الاطفال وأذرع قتلانا

من يرحم هذا الانسانَ التعبانا ؟

النورس ماتت في عينيه حبيبات الرمانِ

والنورس لحن الناقوس الكنسيّ المتذبذب في امواج الشيطانِ

لا يعبر إلاّ جسراً دموياً من أحزانِ

فالآتي أكبر مما تتحمله ذاكرة الانسانِ.

النورس مفقوء العينينِ

والنورس مقطوع الأرجل والايدي

طير اسطوريٌّ فينيقيٌ جاب الشطآن وحيداً إلاّ المجدافْ

يضرب في نوء الدنيا ارشق من اسماك القرشِ

وحيتان البحر الطامي

في عينيه البللورُ الازليّ الصافي

وعقيق التيجان الملكية ثم كريم الماسِ.


تَرَفٌ ما تسمعه يا إنسانُ

كذبٌ ما تسمعه عن لبنانْ.

صُوُرٌ في خير واللهِ يغازلها المرفأُ والساحل والكثبانُ  

صُوُرٌ سور العرب الادنى

قلعة هذا التاريخ العصريِّ

تصد الريح من الاسفل والاعلى

صُوُرٌ سوّرها الرحمن وحصّنها المولى ...

كذبٌ ما تسمعه يا إنسانُ

دجلٌ ما تسمعه عن لبنانْ

المسرح مفتوح مائةَ يومٍ في الشهرِ

تعالَ تفرجْ يا سكرانُ

إفتح عينك يا إنسانُ

فمصائرنا تترنح في رأس الغثيانِ

والجيل القادم مسمومٌ منذ الآنْ

باعته العرب العاربة الشماءُ مهيناً وذليلاً

باعوه مع النفط المتوهج قنديلاً.


ثانيا. النبي داوود في الجنوب


داوودُ الملكُ الطالوتُ ترفرف نجمته هولاً في صيدا

وملوك الطين تصفّق للطائر والعابر والساقط والهارب والنعسانِ

إرفع صوتك يا إنسانُ

ما من عار فوق القمة اكبر من هذا العارِ

صيدا ساحلك الرمليّ بلا ماءٍ إلاّ الاشلاءُ

يقضمها الموج الابدي العاتي

ويسأل في شبق محموم اين الآتي ؟

الهجرة أمواج تدفعها الريح شمالاً

صفّاً

صفّاً

والريح مخالبها أمضى من حد السيفِ

البشر المهزوم مساكنه اضحت مأوىً صرفا

للجن وللغيلانِ

والبشر المطرود ضحية هذا الطوفانِ

من التصريحات الجوفاءِ

لا تشبعُ لا تروي ظمآنا

لا تنقذ حتى جرذٍ في حفرة نسيان .ِ

البشرُ البشر الملأ المظلوم المهمومُ المكلومُ

تقاعس عن درس التاريخِ

فأغمضَ عينيهِ ونام على ذيل الثعبانِ.


الحربُ الحربُ الريح العاتيةُ الصَرْصَرْ

وصلاح الدين عساكره في قعر اليمِ

مدافعه صدئتْ

والرياتُ المقلوبة ما من أحد يرفعها للأعلى

فتهيأْ لبنانُ لكارثةٍ لا تُبقي للموتِ سوى

حفنة أقزام مأبونين ومنبوذين مقاعدهمْ

من إعصارٍ أو من نارِ

خذهم يا موتُ فهل بعد النكبة من عارٍ

اكبر من هذا العارِ؟؟


ثالثا. الحرب في بيروت

بيروتُ مآذنُها اضحت وكراً للغربانِ

هدفاً سهلاً للطائر والغائر والمتفجّرِ

والمتفسفرِ من آلات الموت المكتوب على لبنانْ.


بيروتُ مقاهيها غلّقت الابوابَ

وأغفى الحانوتيُّ جريحاً ظمآناً جوعانا

والبرج تفّلق فسفوراً مصهورا

وحديداً مغلياً ودخانا

والبارجةُ السوداءُ تفحّ فحيحَ الحيّات السودِ

وناباها بالسمِ الاصفر منتفخانِ.


بيروتُ الساعةُ ها قد حانتْ

فإغتسلي بالضوء الضاربِ في قلب الاعصارِ.


من ذا يصرخ في الليل العاتي؟

إمرأةٌ تبحث عن طفليها حيث هوت جدرانُ الدارِ

من ذا يمشي بين الأنقاضِ؟

طفلٌ يبحث عن ابويهِ؟

من هذا الجاثم مصفرّاً من فرط الإعياءِ؟

شيخٌ يرأسُ عائلةً وصلت تواً من صيدا

من هذا؟

هذا ياسرُ عَرَفاتْ.


بيروتُ جنائزُ لا حَصْرَ لها

والموت يدق عليها باباً بابا

بيروتُ مقابرُ لا عدَّ لها

ومساكنها أنقاضٌ فوق الاحبابِ.

الحربُ إلهي

رُحماك إلهي

إرحمني من ظلم شقيقي الانسانِ 

العبد المؤمن يستغفر يستعظم ماضيهِ

والعبد المؤمن يستصرخ يستنجدُ لكنْ

مَن يحميهِ؟

بيروت موانيكِ البيضُ صواريها مقلوبةْ

بيروتُ الربانُ بلا بوصلةٍ شق اليما

وأمواج الريح وكثبان الحيتانِ

والصقرُ الساميُّ مدافعهُ وا أسفا

أفواهٌ دُرْدٌ جوفاءُ

والسهلُ الموتُ مروجٌ من غيلانِ

أ أنا دون الانسانِ؟

أ أنا أصغر من قنبلةٍ في الميدانِ؟


الموت يخطّطُ للرائح والغادي

والنكبة لا شكلَ لها

والرعبُ يدق على الحيطانِ بلا إنذارٍ أو إخطارٍ واستئذانِ

وعناقيدُ الأجل الأصفر والأخضر والأسودِ والأحمرْ

تتطايرُ من هول الرعبِ شظايا

أجسادا وأكفا ورؤوسا وطقوسا

وجيادا ورجالا ونساء وفؤوسا ...

ما أعظمَ سيماكَ وأنت تُهانُ

ما أكبر قتلاك تلّظى فوق النيرانِ

ما أروع هذا الانسانُ.


رابعا. الفاتحة

لبنانُ الشجرُ الزيتونُ المتوهجُ نوراً عُلْويا

مشكاةُ الكون وطعمُ العنبر والسكّر والتفاحِ

أزليُّ الهيكل والمعصمُ زنبقةٌ تتفتح فجراً

قبل الأصباحِ

والجدول نهرٌ في جنَّةِ عَدْنِ

ومزاجُ الماءِ المتألقِ كافورا

الكرمةُ تحت الارض يعتّقها الرهبانُ دهورا

كأساً مسحوراً وبخورا

والجبلُ العالي يحدّقُ في ماء البحرِ

طيوباً و خُزامى وعطورا ...


لبنانُ الآنَ خرابُ

ودموعٌ ودماءٌ وسرابُ

والنورسُ مقتولٌ مرميٌّ تحت الأعقابِ

فإقرأْ

فاتحةَ الأحياءِ الموتى

واقرأْ فاتحةَ الموتى الأحياءْ.

دكتور عدنان الظاهر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق