"هزمتك يا موت الفنون جميعها.." هكذا قال محمود درويش
لم تعد أخبار إلغاء النشاطات الفنية على أنواعها في مدننا وقرانا العربية حدثًا يسترعي أي التفات مجتمعي، لا ولا بحدّه الأدنى. وتمرّ هذه الأخبار، على الأغلب، من دون أن تحدث ضجّة أكبر من ضجة سقوط شجرة عالية في غابة بعيدة، لا يسكنها بشر.
من المؤسف أننا كمجتمع ناضل وما زال يناضل من أجل نيل حرّياته الأساسية، ومن ضمنها، تاريخيًا، حرية الابداع والكتابة والانتاج الفني، قد استسلمنا لظاهرة القمع الخطيرة؛ فما زال ابناء جيلي يتذكرون كيف لاحقت المؤسسة الإسرائيلية الأمنية جمهرة المبدعين المحليين في محاولات لم تنجح، رغم قسوتها، باخراس أصوات "شعراء الحب والمقاومة"، أو قمع المسرحيين الأوائل، أو اسكات المغنيين الشعبيين، سواء كانوا حداة استنفرت حناجرهم أكف الشباب وحميّتهم دفاعًا عن الكرامة والعزة وضد الطغيان، أو كانوا مطربي أفراح يستحضرون الفرح العربي الشقيق ويرقّصون الليل على أغان كتبت أصلًا في مديح الأرض والثورة وحب الوطن. كنا مجتمعًا يحب الحياة ولا يقدّس الموت وثقافته.
قد يحسب البعض أن التطرق لهذا الموضوع ونحن على أعتاب خوض معركة الانتخابات للكنيست الاسرائيلية هو اجتهاد غير موفق من ناحية التوقيت، وإن كان يُجزي صاحبه أجراً واحداً؛ وقد يفتي غيرهم بأن التعاطي مع الفنون وقمعها ليس بالأمر الملحّ وأمامنا مهام جسام، في طليعتها مواجهة مأساة استشراء العنف في شوارعنا، وتفشي عمليات القتل على خلفياتها المعهودة: فامّا ثأر موروث، أو عرض مدّعىً، أو اجرام مستحدث ومستجلب إلى حواضرنا المنكوبة.
لا يستطيع عاقل وحريص أن يقبل بمثل هذين الادعائين أو ما يشبهما، وأن يترك، بسبب ذلك، قضية قمع الحريات الاجتماعية واضمحلال مساحات الحيّزات العامة ومكانة "ساحات البلد" في تراثنا المجيد؛ فمن يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع الدولة من أجل نيل حرّيته، فالأولى به أن يصونها داخل بيته وفي حاراته وداخل مجتمعاته، وأن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراهًا، مهما كانت المسمّيات والذرائع.
لا يمكن أن نجزّئ حالة الفوضى التي تسود مجتمعاتنا، فهي كلٌّ عضويّ متماسك بمتانة، يغذي طرفُه الواحد طرفَه الآخر؛ كذلك لا يكفي بأن نتمسك بإلقاء كامل المسؤولية على إسرائيل ومؤسساتها. فالدولة مسؤولة من بابي البداهة وواجبها تجاه مواطنيها؛ بيد أنها، كما نعرف وكما نتّهمها بحق، غير معنية بضمان سلامة مجتمعاتنا وغير قادرة على تأمين تلك السلامة.
ورغم أهمية ذلك، سأكتب اليوم عن الفرح وعن الرجاء، وسأترك "التنغيص" لمقالات قادمة؛ فتناول تبادلية العلاقات بين إسرائيل العنصرية وتقصيرها الممنهج بحق مواطنيها العرب، وبين واجبات مجتمعنا تجاه نفسه، سيبقى موضوعًا حيًّا، في الوقت الحاضر وفي المستقبل، وعلينا معالجته بجرأة وبمسؤولية تستوجبان تفكيك نقاط اشتباك تلك العلاقة مع عادات وأعراف مجتمعاتنا الاجتماعية المحافظة الموروثة طوعًا وابتهالا.
لن ننجح بتناول هذه الاشكالية بجدية مؤثرة من دون أن نخوض بموضوعية في مكانة أنظمة الثأر القبلي والعائلي التي ما زالت نافذة بيننا منذ تبنتها القبائل العربية قبل "قانون يثرب" وبعده؛ ولا أقلّ منها وجعًا جرائم قتل النساء باسم "شرف العائلة والقبيلة" المنتشرة في مواقعنا العربية؛ والسؤال ما علاقة الدولة وتأثيرها في هاتين المسألتين !
لن أكتب اليوم عن هذه المواجع، بل سأكتب عن الفن ومبدعيه الذين يحاولون بأدواتهم تحطيم تلك "الشواهد" وحث الناس على الغضب وعلى الا يستسلموا لليأس، ودعوتهم للثورة على واقعهم البائس.
دعاني مطلع شهر نيسان المنصرم الكاتب والفنان عفيف شليوط، مؤسس ومدير "مسرح الأفق" لحضور مسرحية بعنوان " أنتيغوني تنتفض من جديد"، التي كتبها وأخرجها بنفسه، وعرضت على خشبة مسرح حيفا. تحاكي فكرة هذه المسرحية الأساسية، حكاية أنتيجوني، بطلة مسرحية سوفكليس الخالدة، التي رفضت الانصياع لقرار ملك "كريون" وتحدّته مصرّة على التصدي لشرور الطغاة والمجرمين من خلال تسليط الضوء على مكانة القانون والحدّ بين حق الحاكم إزاء حق الشعب.
يعتبر لجوء المؤلف، عفيف شليوط، لايحاءات المسرحية الاغريقية و"موتيفاتها" مغامرة جريئة لما تتطلبه من إلمام وإحاطة بذلك الموروث الهام؛ فالعودة إلى أدب الاغريق العريق وحبكات مسرحيات كباره، كسوفوكليس، فيها من المخاطرة قسط ومجهود كبيران لاستعراض ممكن لامتزاج الثقافات، لا سيما فيما تركته القديمة من تجارب انسانية وقيم خالدة.
تطرقت المسرحية إلى أكثر من محور لامست هموم حياة مجتمعنا، وفي طليعتها قتل "انتيغوني الجليلية"، التي مثلت دورها الممثلة روضة سليمان، بيد شقيقها "دفاعًا" منه عمّا يسمّى "بشرف العائلة". تنتفض انتيغوني حيفا على عادات المجتمع البالية وتسعى من أجل نيل حقوقها وهي تعرف ما قد يكون الثمن. إنه قتل ككل القتل، فلا شرف فيه، بل انصياع أعمى لربة الظلام الدامس والعالم السفلي؛ هي "كاوس" عند الاغريق القدامى.
أما في الثلاثين من شهر تموز الفائت، فقد دعتني المخرجة مها الحاج، ابنة مدينة الناصرة، لحضور العرض الأول، في البلاد، لفيلمها الجديد "حمّى البحر المتوسط" الذي عرض مؤخرًا في مهرجان "كان" السينمائي، ونالت عليه، ضمن مسابقة "نظرة ما"، جائزة أفضل سيناريو. لقد تعرّف العالم على مها الحاج بشكل واسع بعد صدور فيلمها الطويل السابق " أمور شخصية"، عام ٢٠١٦، حيث لفتت من خلاله نظر النقاد والمتابعين، ونالت عنه جائزة " آرشي" في مهرجان فيلادلفيا السينمائي، وجوائز أخرى.
لن أفي، في هذه العجالة، حق مها الحاج وأبداعها المتميز، ولا عملها الحالي الفذ، ويكفي، تعبيرًا عن تجربتنا، ما شعرنا به حين خرجنا مع نهاية الفيلم، قرابة خمسمائة مشاهد. انسللنا الى خارج القاعة بخشوع، وكأننا نترك معبدًا، معبّئين بمزيج من مشاعر الغبطة والغضب والحزن. لم نحمل داخلنا يأسًا ولا مشاعرا بالضياع، رغم مأساوية مواضيع الفيلم.
كانت علاقة وليد، الكاتب المصاب بالاكتئاب الشديد، الممثل عامر حليحل، بجاره جلال، الرجل العابث بالحياة ظاهريا، والمتورط في الخفاء في عالم الاجرام، الممثل أشرف فرح، معقدة وغريبة؛ وقد مرّت بمحطات عديدة وقفنا معهما في جميعها لنتعرف الى دواخل نفسية الفلسطيني حين يصاب بالاكتئاب وأسبابه، ويبقى محبًا لعائلته ولوطنه؛ وانكشفنا، كذلك، على شخصية وقعت ضحية لعالم اجرامي قاس لا يعرف حدودًا، كما تعيشه مجتمعاتنا المحلية. حاول جلال أن يغرق وليد في شباك متاهاته، والتحايل، من جهة أخرى، على عبثية واقعه الحقيقي بتتفيهه وامتصاصه، دون أن يعرف، او ربما عرف، انه الفريسة، لكنه كان يؤمن "ان الموت لا يخيف بل هي الحياة التي تخيف" . أدّى الممثلون أدوارهم باقناع وقد تميّز بشكل لافت الممثلان عامر حليحل واشرف فرح.
لقد تعرضت مها الحاج - كاتبة سيناريو الفيلم أيضًا - إلى قضايا هامة يعيشها ويعاني منها المجتمع في حياته اليومية. ولولا حذاقتها المهنية بحبك العسير وبالاخراج، لكنا شاهدنا مقاطع متقطعة مصورة من يوميات مجتمع صغير يمضي أفراده أيامهم بهامشية بائسة عادية قد تتكرر في مواقع أخرى؛ لكنها، بمهارة المبدع الخلّاق، أجادت جدل ضفائر مرايانا بأسلوب "السهل الممتنع"، فتناولت رزمة من عناوين اجتماعية كبيرة وصهرتها ببوتقة أنيقة حتى تلقيناها، نحن المشاهدين بفرح عظيم. لم تتركنا نتيه عند مفترق ملتبس، ولا نغفل للحظة؛ فعندما سافرت داخل التراب الوطني "سيّلته" في نفوس أبطالها بطبيعية غير مقتحمة وغير مبتذلة، ثم رتقت عليه، ببراعة رسام ملهم، قصصًا حقيقية، كعلاقة الرجل بالمرأة ومكانة الدين في حياة الناس ودور المدارس في تنشئة أطفالنا وجمالية جغرافيا بلادنا وغيرها من المشاهد التي جمّعتها بانسيابية ورقّة مرهفة، فظهرت أمامنا كرسم بديع، أجمل من تلك" الجرة اليونانية".
لن استطرد في رواية أحداث الفيلم كيلا أفسد على القراء متعة مشاهدته عندما سيتاح للجمهور الواسع ؛ لكنني سأقفل مقالتي بما كتبته لمها الحاج مباشرة بعد خروجي من صالة العرض في حيفا، واستميحها عذرا لانني أفعل. قلت " أيّتها المها. شكرًا على دعوتنا لحضور العرض. ما زلت أحاول استيعاب روعة ما شاهدناه قبل أن أقول لك ما أرغب أن أقول لك. خرجت من الصالة مع شعور باعتزاز شخصي ومزهوًّا كأنني صاحب هذا الانجاز المشرّف، فلك الشكر. حاولت أن أضبط مشاعري أمام الحضور ففضحني قلبي، ووشت عيوني بما حبسته في صدري، فلك الشكر. فرحنا رغم الغصة، تماما كما يجدر بالإبداع أن يعمل بالنفس البشرية، فلك الشكر . فدومي للعطاء هبة وسيري على دروب الشمس والنجوم، وعانقي المدى هناك عند حفاف الورد والندى. نحبك."
كدت انهي مقالتي عندما وقعت عيناي على خبرين مزعجين متزامنين، الأول يفيد ان لجنة الطاعة في جامعة بن غوريون في بئر السبع ستنظر في شكوى ضد الطالبة العربية "وطن ماضي" بسبب قراءتها قصيدة لمحمود درويش خلال يوم ذكرى النكبة الفلسطينية الأخيرة؛ والثاني يفيد أن بلدية مدينة عربية قررت منع اقامة حفل للفنان "تامر نفار" ، ابن مدينة اللد، بسبب مضامين أغانيه التي لا تتوافق وذائقة المجتمعات المحافظة، حسب ما جاء في الخبر.
قرأت؛ حزنت وعدت لاحضان "انتيغوني "و"حمّى البحر المتوسط" وأملي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق