كريم يونس كان حرًا.. صار حرًا/ جواد بولس



بعد أربعين عامًا كاملات تحرر أمس الأسير كريم يونس من سجون الاحتلال الاسرائيلي. من المستحيل أن يتخيّل أي انسان، لم يعش هذه التجربة، مهما اتسع إدراكه أو اتقد فكره، كيف يشعر كريم في هذه الساعات والأيام ؛ وأعتقد أنه حتى هو لا يعرف كيف سيواجه "عالمنا" الذي لا يشبه عالمه، أو كما باح بنفسه، من خلال رسالته الأخيرة التي  نشرها في مطلع هذا الاسبوع تحت عنوان "سأغادر زنزانتي" قائلًا : "سأترك زنزانتي، والرهبة تجتاحني باقتراب عالم لا يشبه عالمي، وها أنا أقترب من لحظة لا بد لي فيها إلا وأن أمرّ على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي ، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم، أو الخذلان ، ودون أن أضطر لأن أبرهن البديهيّ الذي عشته وعايشته على مدار أربعين عامًا، علّني أستطيع أن أتأقلم مع مرآتي الجديدة، وأنا عائد لأنشد مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي..".  لا أجد مكانا، في لحظات ولادة الأمل الفلسطيني الحاضرة، لاستحضار هواجس المستقبل ولا إثقالاته المحتملة، ولا حاجة لتذكير كريم، وهو يراقص القمر فوق سماء قريته، بقوائم المآسي والأزمات التي تعصف بمجتمعنا وتهدد هويته ووحدته وآماله؛ فكريم في تحرره، بعد أربعين عامًا من الأسر، يرسم على صفحة البشرية مشهدا ملحميًا فريدًا تطل من ثناياه كل معاني التضحية والاصرار والفداء والوفاء والأمل الفلسطينية. قد لا يقدّر البعيدون عن فلسطين المحتلة حقيقة ما أقوله، لكن الفلسطينيين العاديين، الذين أعرف كثيرين منهم، يعيشون منذ شهور فأسابيع فأيام فساعات على نبض الفرح، ويحسبون الوقت، كما يفعل كل الأحرار، وفق ساعات الموت والأمل.

أربعون عامًا عاشها كريم في زنزانته حرًا في أعماقه، لا تشغله إلا قضايا البقاء والحرية الكبرى: كيف يحافظ، هو ورفاق الاسر، على أحلامهم من الموت، وكيف لا يتحوّلون، كما يريدهم السجان، إلى مسوخ بشريه بائسة أو الى مجرد طفيليات سائبة. أربعون عامًا عاشها ذاتًا ذائبة في جسد منيع، سمّاه التاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية، وعرف مثل رفاقه انهم فقط "عندما تصير الحياة طبيعية سوف يحزنون كالآخرين، لأشياء شخصية".  واليوم وقد مضت الأربعون ووقف كريم على عتبة "حياته الطبيعية" مثقلًا بشوق سرمدي سمح لنفسه أن يتساءل، على غير عادته ويقول: "سأترك زنزانتي، والافكار تتزاحم وتتراقص على عتبة ذهني وتشوش عقلي، فأتساءل محتارًا على غير عادتي إلى متى يستطيع الأسير أن يحمل جثته على ظهره ويتابع حياته والموت يمشي معه، وكيف لهذه المعاناة والموت البطيء أن يبقوا قدره إلى أمد لا ينتهي في ظل مستقبل مجهول وأفق مفقود وقلق يزداد مما نشاهد ونرى من تخاذل.." هكذا يتساءل المناضلون الأنقياء ولا ينتظرون الجواب من أحد.

قبل سبعة أعوام كتبت في أعقاب زيارتي لكريم في سجن "هداريم" مقالًا نقلت من خلاله خلاصات زيارتي لمناضل لا يشيخ كالغيم. واليوم وأنا أستذكر تلك الزيارة أعرف أن كريماً سوف يجتاز عاصفة الحب الشديدة التي ستحاصره في أيام حريته الأولى بفرح وبصبر وباتزان، وسوف يعرف كيف يتعامل مع مرايا مجتمعه، المحطمة منها والسوية، كذلك بوجع وبحكمة وبإصرار، وسوف يداري جراح قلبه بمصاحبة الندى وشدو العنادل. وسيتعرف بعد حين على حقيقة واقع مجتمعاتنا وأزماته وعلى ورطاتنا مع سياسات الحكومة الاسرائيلية؛ وأتمنى بعد كل ذلك، ألا يقنط وألا يخذل وألا يشيخ؛ فهو الكريم الحر، كما كتبت في حينه:    

زيارة للحر كريم يونس : في الصباح كان مزاجي متعكّرًا؛ لا أعرف ما السبب، فبعض الأيام، في شرقنا، تولد خالية من شهيّتها للضوء، وتُبقي روحك ثقيلة كظلمة. تركت البيت متجها الى سجن "هداريم" لأزور الأسير كريم يونس. بعد ساعة وصلت إلى باحة سجن "هداريم"، الذي صار، مع السجون الاخرى الملاصقة له، يشبه قرية صغيرة تذكرنا بمنشأة في أفلام الخيال، حيث يتحرك السجانون في جمع مرافقها وساحاتها كروبوتات استنسخت في نفس المختبر. 

لم تكن تلك زيارتي الأولى لسجن "هداريم"، ولكن في كل مرة كنت أقرر فيها زيارة السجن، كنت أكتشف أنني لم أشفَ من رعشة اللقاء الأول، وأن سنين عملي الطويلة لم تساعدني على ترويض قلبي الذي كان يستعيد، في هذه "الرياض"، صباه،

سألته، بعد أن تبادلنا ما يقتضيه الحال من أسئلة روتينية وتقارير لازمة، كيف يقضي ساعات يومه وهو ينهي عامه الثالث والثلاثين في الأسر؟ توقعت كل الأجوبة، إلّا ما أجابني به، فتحوّل سؤالي الى حوار لم أتمنى أجمل وأثرى منه، خاصة بعد بدأت صباحي برمادية ناعسة وفكر شريد.

"إنني أشكو من ضيق الوقت"، قالها بهدوء، وبدون أن يشعر أنه يوقظ مسامات جلدي! ثم أردف وقال: "أتمنى لو كان النهار أطول، فعلاوة على ما أقوم به من تمارين رياضية ضرورية ودراسة منهجية حثيثة للقب الجامعي الثاني، ألتزم مسؤوليتي، كأمين لمكتبة السجن التي تزود زملائي الأسرى بالكتب وغيرها".

توقف حين لاحظ أنني سرحت وغبت عنه. كنت، في الواقع، أحدّث نفسي وأتساءل كيف يمكن للسجان، مهما كان عربيدًا وقاهرًا، أن يكسر روح هذا الكريم؟ بعد برهة قصيرة عدت إليه مستفسرًا، "من أين تأتي يا كريم بهذا الأمل؟". كان لدينا كل الوقت والشهية على الكلام، فمضى يشرح لي عن بداياته، حين اعتقل وهو طالب في السنة الدراسية الثالثة في جامعة بن غوريون، وحكم عليه في مطلع العام ١٩٨٣ بالسجن المؤبد. وقتها، هكذا فهمت من حديثه الموزون والمتأني، كان فتى يقف على الريح ويريد أن يطير كنورس نحو جزيرته البعيدة. كان يفتش عن حلم فيما وراء المدى، ويخشى اليوم على ضياع البيت والوسائد.  

"هل ظل قي قلبك مكان للحب؟" سألته، وتابعت: "وما هو أكثر شيء تشتاقه وسيكون أول ما او من تريد ان تراه أو من تلقاه؟". لم يصبر ولم يتردد. استل جوابه بتلقائية وبدفء عاشق، فقال: " لا أعرف كيف يبدو العالم الخارجي اليوم. سيكون التأقلم صعبًا علي، ولكنني أشتاق للحرية، لحريتي، وشوقي اليها ورغبتي بالحصول عليها تمداني بكل أسباب رغبتي بالحياة وبالصمود وبقدرة الانتظار .. " ثم أضاف، بعذرية قلب مناضل عتيق: "لم أجرّب ذلك الحب، إن كنت تقصده، وللحقيقة لا أعرف إن كان موجودًا وكيف يكون؛ لكنني أعرف الحب بمفهومه الأعمق والأشمل وهو ذلك الشيء الذي يملأني اليوم أكثر من الماضي بالأمل وبالأحلام وبالإصرار . .".            

كنت أنظر مباشرة إلى وسط وجهه، وأطابق حركات شفتيه مع كلامه الذي يتساقط في أذني كوشوشات فجر. لاحظت على خديه تورد أنيق، وفوقهما عند حافة المقلتين كانت كرات بلورية صغيرة تحاول أن تفر. لم يتركها تسقط فسالته: "هل تحاول أن تحجب ماء العزة عن خدك ؟"                        

 كان صريحًا ككمان؛ فأفهمني أن السجن قد غيّره كثيرًا، وأن العالم، من موقعه يبدو مختلفًا وقد تغير كثيرًا، وأضاف أن الزمن علمه أن يكبت عواطفه ويحكّم عقله، ثم حكى لي كيف، بعد هذه السنين، صار يفهم معنى "الواقعية" ومعنى "المصلحة الوطنية"، وما الفارق بين النضال المأمول وبين النضال الممكن وبين النضال الخاسر، وشرح لي بروية لماذا صوّت للقائمة المشتركة في انتخابات الكنيست، (عام 2015). تحدثنا حتى نسينا الدنيا.  

في طريقي إلى خارج السجن سألني السجان المرافق عن لقائي، وكان يعرف من يكون كريم يونس، فأجبته : "دعني أوجز لك القصة بحكمة تعلمتها اليوم من هذا الحر؛ فهو يؤمن، أنه ما دام الموت ليس خيارًا عندك، فإما أن تعيش الحياة بحفاوة وبكرامة، وإما أن تمضي أيامك ذليلًا ولاهثًا وراء السراب في عالم من عدم ويباب" 

أصغى السجان لما قلته لكنني شعرت، هكذا بدا عليه، انه لم يفهمني مع أنه كان عربيًا. حاولت أن أبسّطها له فأوضحت أن كريمًا أكد لي على ما تعلّمه من حكمة أحرار كبار سبقوه، على أن: "لا أحد يستطيع أن يمتطي ظهرك إلا إذا وجدك منحنيًا". قلتها وكنت أسبقه بخطوتين. سمعت غضبه يصرخ في صمت وأحسست بسهام عينيه تناوش صفحة ظهري. تركته والسجن، وكنت مبتسمًا.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق