سيناريو مُتكرّر ركيك، أصبح مدعاة للسخرية والحنق في ذات الآن، لإنهاء إضراب سائقي الشاحنات والإضرابات الأخرى المتضامنة معها والمطالبة أيضاً بذات الحقوق المشروعة، أوّلها شرعية الإضراب بدلاً من تجريمها، أو إقحامها بثورات الجوار والربيع العربي الذي التفّت عليه هشاشة الأنظمة لمواجهتها بأسوار من الهراوات والقمع ووصفها بالمؤامرات، بدلاً من إحتوائها والتفاوض والإلتقاء معها لتحقيق مطالبها التي تُنصف المواطن ولا تجور على ميزانية الدولة المسروقة.
إضراب سائقي الشاحنات
أعلنت نقابة أصحاب الشاحنات والنقل البرّي في 4 ديسمبر/كانون الأول الحالي إضراباً عن العمل ليتوسّع إلى حافلات النقل العام وأصحاب التاكسي وسيارات الأجرة والنقل عبر التطبيقات الذكيّة، وحافلات المدارس، مطالبين بخفض أسعار المشتقّات النفطية ورفع أجور النقل، وتعنّت الدولة بالمقابل وتمسّكها بأسعار المحروقات وضريبتها، والوضع المتأزّم لأصحاب الشاحنات البالغ عددها نحو 21 ألف، وفق هيئة تنظيم النقل البري الحكومية في الجانب الآخر، هذا لأنّ الديزل يُشكّل 40 بالمائة من الكلفة في قطاع النقل العام؛ الأمر الذي يجعل إفلاس المصالح الصغيرة مهدّدة بالإقتران مع إرتفاع أسعاره، التي تفوق قدرة المواطن، كذلك أسعار قطع الغيار والزيوت والإطارات.
لقد تأثّر هذا الإرتفاع عالمياً، إضافة إلى ارتفاع أسعار سلاسل الإمداد والتأمين والتخزين، وهي الكلفة الإضافية على المشتقّ نفسه والضريبة المفروضة عليه.
إعادة النظر بضرائب المحروقات، تخفيضها أو تجميدها لمدّة محدودة - وهو ما حصل بأمر ملكي السبت 1 يناير/ كانون الثاني على «الكاز» بعد إخفاق الحكومة من احتواء الأزمة - ووضع سقف لأسعارها، وبالضرورة معالجة التشوّهات لإختلاف التكلفة بين الشركات هي الحلّ المثالي للخروج من المعضلة الحالية، إلى أن ينخفض السعر العالمي.
والجدير بالذكر أنّ أسعار المحروقات في الأردن بالمرتبة الرابعة عربياً، رغم الأسعار التفضيلية التي تحصل عليها الدولة، وأحياناً بسعر «البلاش»، لا بالعكس؛ آخذة بالإرتفاع، فمنذ عام 2020 وصلت إلى 36 بالمائة.
واللافت للنظر رفع الحكومة الأسعار رغم إنخفاضها في نوفمبر/تشرين الثاني مقارنة بالشهر الذي سبقه، أكتوبر/تشرين الأول، ومع حلول الشتاء، ليجتمع على الأردني «المستوي» البرد والفقر.
حلول ألمانية
الطرح الآنف ذكره حول خفض ضريبة المحروقات سبق وطبّقتها ألمانيا في العام الماضي، تزامناً مع وصول النفط لأرقام قياسية، فقد عملت على برامج عدّة؛ أهمّها تخفيض أسعار المحروقات 30 بالمائة لمدة ثلاثة شهور، فضلا عن طرح تذكرة المواصلات بقيمة 9 يورو للشهر الواحد لجميع انحاء ألمانيا طيلة الشهور الثلاثة، وتفعيل ذات الفكرة لهذا العام بدءاً من ربيع أول/مارس بقيمة 49 يورو وتسمّى «تذكرة 49» أو «تذكرة ألمانيا» لمدّة عامين تماشياً مع إرتفاع نسبة التضخّم في الدولة.
الحلول موجودة إذا حضرت رغبة الحكومة الأردنية، وهذه الأمثلة تُحاكي ذات الأزمة، ولا أقدّم ألمانيا كمقارنة مجحفة مع الأردن، إنّما وصفات نجحت وتغلّبت على إرتفاع أسعار المحروقات الأعلى في تاريخ الدولة لمساعدة المواطن واحتواء الغضب الشعبي.
إضراب الشاحنات والنقل والمطالبات أيضاً بتحسين الطرق المؤدّية إلى مناجم الرشيدية، والشارع الخلفي المخصّص للشاحنات في العقبة يُسبّب لا محال خسائر ضخمة للعديد من القطاعات؛ على رأسها القطاع الصناعي، والصادرات الصناعية الأردنية، التي حقّقت نمواً كبيراً منذ بداية العام الحالي، وحسب مسحٍ أجرته غرفة صناعة عمّان في الأيام الأولى من الإضراب فإنّ 160 شركة صناعية لديها 1200 حاوية مدخلات إنتاج عالقة في العقبة، وما يقارب من 750 حاوية تنتظر النقل للتصدير.
ولهذا يبقى الإضراب الأداة الوحيدة لإخضاع الحكومة لمطالب المواطنين المشروعة، ويُحسب هذه المرّة بالدرجة الأولى لمدينة معان وجنوب الأردن؛ استطاع كشف عورة الحكومة ليتفاعل الملك بدلاً منها.
اجتماعات الكيك والقهوة
لم تُفلح المحاولات الحكومية الخجولة والبرلمانية الركيكة لإنهاء الإضراب، فعلى المستوى البرلماني ومجلس الأعيان تصريحات لا تتجاوز الحنجرة، يرافقها فنجان قهوة وقطعة «كيك» بضرورة إبتعاد الحكومة عن جيب المواطن، وخلق قنوات حوارية بين جميع الأطراف ذات العلاقة، وإدراك المجلس بحجم الضغوطات الإقتصادية والمعيشية التي يعانيها المواطن؛ تزاحمها عدم جديّة الطرح وتقييم الأزمة والعمل عليها بإحترام سيادة القانون وأمن الوطن واستقراره.
خطابات تسويقية لا ترقى وحجم الأزمة الحقيقية التي تعانيها البلاد والمواطن في ذات الآن، قد تصلُح لصلحة عشائرية أو دعاية انتخابية، أو خطاب دوري لوزير يدعو فيه لتعزيز دور المرأة ليوهم الشّعب بنشاط وزارته.
عدم جدّية الحكومة بالتعامل مع الأزمة جعلها تُقدّم رجال الأمن العام لمواجهة الإضرابات السّلميّة، فجعلت منها بيئة خصبة لدخول الخارجين عن القانون ومهربي المخدرات المطلوبين بينهم، الشيء الذي خلّف مع الأسف بداية مقتل العقيد الدكتور عبد الرزاق الدلابيح، نائب مدير شرطة مدينة معان، الأمر الذي دعا لتحرّك الجهات الأمنية لمداهمة المكان المتواجد فيه المتّهمين، وبدلاً من اعتقال القاتل وتقديمه للمحاكمة وسماع دوافعه وذرائعه خلّف قبل أن تُنحّيه القوات الأمنية ثلاثة ضُبّاط بعمر الورد، رحمهم الله وصبّر ذويهم.
تفاقم الإضراب
تطوّرت هذه الأحداث تزامناً مع تفاقم وتيرة الإضراب، التي استجاب لها مواطنو المملكة، ودعوة خرجت من مدينة الكرك جنوبي الأردن، من المجلس البلدي لإضراب يوم الإثنين 19 ديسمبر/ كانون الأول، بالرغم من الضغوطات الرامية لتأجيلها، أو إلغائها بأحسن حال.
شمل الإضراب أيضاً معظم محافظات البلاد إن لم تكن كلّها، حيث أُغلقت المحال التجارية في الكرك ومعها بعض المدن الأخرى استجابة للإضراب وتنديداً بنهج الدولة برفع السلع وغلاء المعيشة عامّة والمحروقات، رافقتها مُطالبات برحيل الحكومة.
ومع تعالي الأصوات والمناشدات التضامنية للمحافظات الأخرى لإضراب يوم الإثنين، التي انطلقت من الكرك، بدأت معها مساء الأحد على ما يبدو اعتقالات احترازية، طالت الشيخ ياسر أحمد آل خطّاب، والناشط السياسي ورئيس بلدية معان الأسبق، المهندس ماجد الشراري، الذي أوقفه مُدّعي عام عمّان أسبوعا في سجن ماركا بتُهمة مقاومة رجال الأمن وإثارة النعرات وتهم بالإرهاب كافيه لإعدامه، أو سجنه بأخفّ الحالات مؤبّد.
تُهم مُعلّبة مُتناسخة جاهزة سهلة لتقديمها لأيّ شخص يُمارس حقّه في التعبير عن رأيه.
خانة اليّك
أصبحت الحكومة بعد مقتل العقيد الدلابيح مضطرّة للتفاعل، وهو مطلب وطني وشعبي وضرورة حتميّة لمواجهة العنف ضد رجال الأمن الأوفياء، لكنّها وجدت نفسها في «خانة اليّك»؛ مطالب عشيرة الدلابيح بني حسن، وهي العشيرة الأكبر في الأردن من الحكومة بالقاتل، وعلى الضّفّة الأخرى الإضراب الآخذ بالتفاقم حينذاك، وإذا بالخلايا الإرهابية هي ضالّة الحكومة، فقد فُجعنا صبيحة الإثنين 19 ديسمبر/ كانون الأوّل من العام الماضي بمقتل ثلاثة ضُبّاط أثناء مداهمة قوة أمنيّة خاصّة لخلية إرهابية في منطقة الحسينية بمحافظة معان، «بعد أن قادت التحقيقات، التي قام بها الفريق التحقيقي المكلّف بحادثة استشهاد العميد الدلابيح، وحصر الإشتباه بمجموعة من أصحاب الفكر التكفيري»، حسب المصادر الرسمية الأردنية، التي لا يثق بها أردني.
في الأثناء، قبل مقتل الضُبّاط وبعد مقتلهم - رحمهم الله - انتشرت الأخبار محلياً وعربياً عن ثورة ومؤامرة ضد الأردن، وعلى مستوى الإعلام الرسمي أو ذاك الذي يتحدّث بإسم الجهات الحكومية وبرسم الرسمي، وكأنّ المطالبة بالحقّ آلت إلى تواطؤ على الدولة؛ تستدعي حصراً تضامناً عربياً، كون الأمم الأخرى تعتبر حرّيّة التعبير أحد أهم ركائزها.
ما يدور الآن في الأردن ليس ثورة كما يروّج لها، ولا فوضى أو مؤامرة كما تستثيرها الحكومة لتقلب الطاولة على الشعب، لتساومه على قبول التنفّع والتنفّذ والتهالك الإقتصادي والتعليمي والصّحّي وحياة الإملاق، وبطالة تتزايد، حتى بلغت الأطباء والمهندسين والأكاديمين أصحاب الشهادات العليا، مقابل العيش الآمن ومصادرة الحرّيّات وتكميم الأفواه، لممارسة نظام بوليسي مقيت بذريعة التآمر.
ما يدور الآن هو إضراب مشروع، وحقّ يُمارسة المواطن رفضاً لأداء الحكومة المهترئ وأسعار المحروقات التي فاقت قدرة المواطن، وكردّة فعل حكومية تقابله بالدروع الأمنية؛ يختبؤون وراءها السّاسة وأصحاب القرار، بدلاً من الجلوس معهم للتفاوض بمدنيّة.
عندما أضربت المؤسّسات الطبية الألمانية العام الماضي ثلاثة شهور لم يُجابههم أحد ولم يُتّهموا بالتآمر على الدولة، لا بل بالعكس؛ وقفت وراءهم النقابة والمؤسّسات المدنية والإعلامية، فلماذا في الأردن والدول العربية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق