مِن أوجعِ أشعارِ المُناجاةِ وأشدّها مَضَاضةً، على رأي طَرَفَة بْن العَـبْد، هي تلك المُطَعَّمَة بِنِسْغِ عَـتَـبِ الـمُحِبّ، حيث يتضاعف وقع الألم إذا كانت الكلمات منطلقة من مهجة مُغترب، ومُوجَّهة لربوع الوطن بالطريقةِ التي يصدح بها شعر شربل بعيني في هذه الترنيمة:
صَوتِي مَـبْحُوحْ وْحْـنْجِرتِي
نِـشْـفِـتْ مِنْ هَـبَّات غْـبَارِكْ
وِالـغِـنِّـيِّـه الْــ كانِتْ إنْـتِي
انْدَبْحِتْ وِانْـشَـلْحِتْ عً حْجَارِكْ
رِدِّي الغِـنِّيِّه يَا بْلادي
وِالضِّحْكِه لِشْـفافْ زْغَارِكْ.
لله دَرُّ شاعرنا ودَرُّ لَطيفِ عِـتابِه، وللهِ مدى ما تحمل تلك المناشدة النوستالجية الوجدانية من حنين لمرابع الطفولة واسترجاع صُوَر الماضي، بما فيها من تَمَنٍّ عميق كي يتحوَّلَ الزمنُ كتاباً نُـقَـلِّبُ صَفحاته كَما نَشاء ونشتهي، إلى الوراء وإلى الأمام، نرى وجوهَ أحبّاء غابوا ونخاطبهم، نستحضر ساحاتِ قُرانا وأزقتها كما كانت، والأشجار التي كانت فيها وذهبت، كما نسترجع ساحات بيروت وشوارعها التي راحت إلى غير رجعة، وحلَّ مكانها مساحات صَمَّاء جميلة الهندسة والعمران، إنّما دون جاذب، كما لو أنها شُـيِّدت كي نتفرَّجَ عليها فحسب، ما يُذكِّـرنا بهذه الأبيات الشعرية :
"عَـبَـثاً دَوام الدَّهْرِ أفْراحاً وسُكَّـرْ
لَـيْـتَهُ كانَ سجِـلًّا
لَـيْـتَـهُ أوراقُ دَفْـتَـرْ
نَسْتَعِـيد عَـبْـرَهُ المَاضي السَّعِـيدْ
مِنْ سَحِيقٍ
وَقريبٍ
وَبَعـيدْ
نَسْتَعيد عَـبْـرَهُ حُـلْـوَ الصُّوَرْ
لَـيْـتَـهُ كانَ سجِـلًّا
لَـيْـتَـهُ أوراقُ دَفْـتَـر"
ولكن واحسرتاه ! أين المفرّ، نحن الآن بين الغربة وأسوأ نماذج الأوطان، الذي لا يساوي حذاءً عند المواطن الحافي، كما يقول محمد الماغوط.
وبالتزامن، سوفَ نحتفظ بالقليلِ من العقلانيةِ والمَنطق طِبقاً لعقلانية ومنطق هنري وادزورث لونغفيلو " دعنا نتصرف بما نملكه ما دمنا لا نملك ما كنا نتمناه".
وفي قصيدة "كَمشْـتَـين فْـلُوس" يتناهى إلى دخيلة مشاعرنا صوت وديع الصافي "يا مهاجرين ارجعو" ، وبالتزامن يدعونا شربل بعيني للعودة إلى الوطن قبل أن تغربَ شمسُنا في الغربة:
لا تْمُوتْ هَـونْ بْغربتَـك لا تْموتْ
وتِـتْـرُك تْـرابَـكْ يِـلعَـنَـك بِالقَـبْـرْ
رُوحْ قَـضِّي عُمْرَك بْـبَيرُوتْ
وْنَـفِّـضْ جْـناحَكْ مِنِ غْـبارْ القَـهـر.
صحيح وصحيح جدا ما ذهبتَ إليه يا شاعرنا، ما أروعك يا شربل وأنت تذكرنا بما قاله المتنبي قبلك عن ضرورة فصل الكيان عن المادة:
" (....) أين الأكاسِرةُ الجَّبَابِـرةُ الأُلى
كنزوا الكنوزَ فما بَـقينَ وما بَـقوا
(....) المَوتُ آتٍ والنُفوسُ نَفائسٌ
والمُسْتَعِـزُّ بِما لَديهِ الأحمَقُ"
في هذه البيوت الشعرية يطلب منا كل من أبي الطيب وشربل، وكل بأسلوبه، بأنّنا قَـلَّـما ننتبه إلى أنَّـنا لسنا سوى قُـزع غيومٍ عابرة، وبأننا مجرد نواطير بالمجّان على ما نتوهَّم بأننا نملك، ولكننا، وللأسف، نتقاتل، فـنَـقـتُـلُ ونُـقْـتَـل، على مِتاع الدنيا كما لو أنها هي الزائلة ونحن الباقون.
وإلى اللقاء في مقالٍ قادم عن "قدموس" و "جنون"
، عيحا في : 08 / 04 / 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق