كان جدِّي/ جورج عازار



 جدِّي أسطورةٌ من زمنٍ مضى، لكنّه يرتسم في الوجدان، يموج في الخيالِ، في عصرٍ يندر فيه الفرسان، بشاربه الأبيض وجبهته اللَّامعة وعينيه الزَّرقاوين، وشعره الأشيب المغطَّى بعقالٍ وكوفيةٍ بيضاء، وشبح ابتسامةٍ لا يفارقُ شفتيه وهمسات مداعبةٍ لجيشٍ من الأحفاد. جدِّي طيف يجوب في الآفاق، تارةً محارب يدافع عن ترابِ قريته الصَّامدة أمام جحافل الغزاة، يصون شرف النِّساء في مواجهة الذِّئاب الهمجيّة الشّاردة في بداياتِ قرن الحروب الَّذي مضى حيث لا حقّ سوى للسيف والنَّار، وتارةً نراه فلَّاحاً مجدَّاً يكدُّ في حقله، يربت فوق غصن الكرمة كأنّها ابنته الّتي لم ينجبها أبدأ أو يرنو بنظرةِ حبٍّ إلى شجرةِ التِّين الوارفة عربون شكرٍ وامتنان.

فما زالت في الذَّاكرة والأذهان صورة الأحفاد وهم يستقبلون الجدّ والجدّة القادمين من تلك البلدة في زيارة للابن والأحفاد، محمَّلين بسلال قصبٍ ضخمةٍ مملوءةٍ بعناقيدِ العنبِ الشَّهيّة، وثمار التّين الطَّازجة بلونيها الأخضر والأسود ومغطّاة بأوراق العريشة الخضراء. يتنهد الاثنان من تعبِ المشوارِ وسفر ساعتين من الزَّمن، ثمّ يحتضنان كومةً من الأحفادِ في عناقٍ حميم ومداعبات حنونةٍ تذهب عنهما تعب وعناء السّفر٠

 وعندما يرخي الظَّلام سدوله، تطيب أمسيات السَّهر في عصور ما قبل التّلفاز، فجدُّنا العزيز ملك الأقاصيص وسيّد الحكاية وخير رواتها وأفضل من يتقن حبكتها، ولهذا يسارع الجميع لإتمام مشاغلهم على عجلٍ، في محاولةٍ لكسب المكان الأقرب إلى الجدِّ مشكِّلين حلقةً واسعةً من حوله، مؤلِّفة من مجموع أفراد الأسرة وبعض الضّيوف من أقارب وأصدقاء كباراً وصغاراً.

يلتفُّون حوله وأمامهم أكواب الشَّاي السَّاخن، يرتشفون بضع رشفاتٍ منه ثمَّ ينصتون صامتين، وفي منتصفِ الحلقة يتربّع الجدّ العزيز حنّا، يتنحنح عدّة مراتٍ يبتلع ريقه يداعب رفيقة دربه والّتي يندر أن تفارق يديه، سبّحة الكهرمان البرتقاليّة اللَّون والمحبَّبة إليه وهي تصدر طقطقات رتيبة حين يتوالى تدفُّق حبَّاتها بين أصابع يده المرتعشة، يتمعَّن في الوجوه الصَّامتة الَّتي تمعن النَّظر في عينيه في انتظارٍ ولهفةٍ.

 يشرد لبضع لحظات، متأمِّلاً وهو يستجمع تفاصيل الحكاية، وحالما يتحقَّق له ذلك يبتسم بعذوبةٍ ويبادرُ بسردِ خيوط القصَّة بأسلوبِهِ المشوَّق الأخَّاذ مفتتحاً إيَّاها بعباراته المعتادة قبل أن يدخل إلى عنوان الحكاية المختارة لتلك الأمسية الجميلة، تتعلَّق العيون به وهو يجمع أطرافها ببراعة وينسجها بساطاً مديداً جميلاً منقوشاً ومزيّناً بأحلى التَّعابير، تتلون حكاياته عن ملوكٍ عظام وأمراء أغنياء وفرسان ميامين، عن ابنة السّلطان، والشجاع الفقير، عن بطولات الرِّجال وحسن النِّساء... عن قيم الإنسان وصراع البشر الَّذي لا يعرف النِّهايات، وهو يروي وأذهان الجميع تتخيَّل الشّخوص وتزور الأمكنة وتتوه مع أحداث  الحكاية لتجعلها أجساداً من لحمٍ ومن دمٍ، وهكذا رويداً رويداً تصل الحكاية إلى أحداث الختام وبأسلوب محترف ينهي  حكايته بحكمةٍ بليغةٍ أو بدرسٍ مفيدٍ يلحقه بالتَّعابير المعروفة لإسدال ستارة الانتهاء قائلاً: وجئنا من هناك ولم يعطونا شيئاً. يقصد أن ما حصل في الحكاية قد ترتَّبت نتائجه على شخوصها فحسب، أما نحن فليس لنا سوى الحكمة والعبرة٠ وعندما  يتنبه الجميع إلى عبارات الختام تتحرَّك العيون باتجاهاتٍ مختلفةٍ بعدما كانت مثبَّتة على وجه الجدِّ الصَّبوح وهو يقصُّ حكايته، ثمَّ ينظر البعض إلى البعض الآخر لاستكشاف الأثر الَّذي خلَّفته تلك الحكاية في نفوس الآخرين، فيما ترتفع بعض الاحتجاجات إذا ما كانت الحكاية قصيرةً نسبيَّاً، لم تشفِ غليلهم من متعة الإصغاء وتعلو أصوات مطالبة بحكايةٍ جديدةٍ، والأمر يتوقَّف على مدى تمكُّن سلطان النّعاس من عيون جدِّنا الحبيب٠

وتطيب زيارة بيت الجدِّ والجدّة في بلدته الوادعة في عرينه ديريك 

الّتي شهدت معظم سنوات عمره، وآنذاك تشرق الفرحة في أعماقه  

ويفيض نبع الحنان في عينيه. ويحلو لنا اللَّهو في جنبات بيت جدِّي البسيط، تارةً نتقافز كالقرود فوق تلك الأريكة الخشبية العتيقة وهي تصدر أنّات احتجاجٍ تحت وطأة أقدامنا الماكرة وتارةً نتسلَّق أعمدة السَّرير النّحاسي المرتفع، وإذا ما أنهكنا اللّعب نهبط فوق حصيرة القصب لنلاعب قطّة البيت الأليفة فتستكين المسكينة لأناملنا وهي تداعب فروتها فتغمض عينيها تارةً وتارةً تفتحهما فينساب عبرهما ضوء مصباح الزَّيت المعلّق قرب الباب فتشعُّ عيون القطة ببريقٍ يخطفُ الأنظار٠

  وتمرُّ السُّنون وتحلّ ليلة شتاءٍ كئيبةٍ، يرحل فيها جدِّي فتتيتَّم الحكايا وتغيب عذوبة البسمة في الأعماق، ويبقى بعده سيفٌ عتيق ٌوعقالٌ وكوفيةٌ ومسبحة كهرمان برتقاليّة لامعة أسيرة صندوق خشبي عتيق تفتقد أنامل جدِّي ولمسات أصابعه الدَّافئة. جدِّي شجرة سنديان وارفة من عبقِ الأرضِ الخصبة، من حقول الكرمة، من وجع الأرض العطشى وسحر الماضي المرتسم في الوجدان. ذاكرة حيّة، جدِّي سيف وفأس وظلال حبٍّ تملأ الكون وتشغل الدُّنيا. جدِّي صوت الصَّدى المعجون بتراب الأرض الَّذي لا يفنى. جدِّي أنشودة فخرٍ لا يعنيها زمن الموت، ولا تعرف للنهايات هويّة٠


 -ستوكهولم السويد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق