احتفل الفلسطينيون في السابع عشر من نيسان/أبريل، كما في كل عام، بذكرى "يوم الأسير الفلسطيني"، الذي حلّ هذا العام والشعب الفلسطيني يواجه حالة من تصاعد عدوان الاحتلال الاسرائيلي عليه وتنفيذ المزيد من الجرائم والانتهاكات الممنهجة، تحت اشراف حكومة بنيامين نتنياهو ووزرائه الجدد.
ووفقًا لمصادر مؤسسة "نادي الأسير الفلسطيني"فإنّ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بلغ أربعة آلاف وتسعمائة أسيرًا/ة من بينهم (160) طفلًا ، تقلّ أعمارهم عن (18) عاما و(31) أسيرة، اضافة الى ما يزيد عن (1000) أسير إداريّ ، بينهم ستة أطفال وأسيرتان هن رغد الفني وروضة أبو عجمية. ويبلغ عدد الأسرى القدامى المعتقلين قبل توقيع اتفاقية أوسلو (23) أسيرًا ، أقدمهم هو الأسير محمد الطوس المعتقل منذ العام 1985. بالاضافة الى ذلك فقد أعاد الاحتلال عام 2014 (11) أسيرا من المحررين عام 2011 في صفقة "وفاء الأحرار"، أبرزهم الأسير نائل البرغوثي، الذي يقضي في سجون الاحتلال الاسرائيلي أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة الأسيرة، بواقع ثلاثة وأربعين عاما، قضى منها (34) عامًا بشكل متواصل. ومن المعطيات الواردة في التقرير يتضح أن عدد الأسرى الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن المؤبد (مدى الحياة) بلغ (554) أسيرًا بينما بلغ عدد شهداء الحركة الأسيرة منذ عام 1967 (236) شهيدًا، علمًا بأن سلطات الاحتلال ما زالت تحتجز جثامين (12) منهم وهم: الاسير الشهيد أنيس دولة الذي استشهد في سجن عسقلان عام 1980، والأسرى الشهداء عزيز عويسات الذي استشهد عام 2018 وفارس بارود ونصار طقاطقة وبسام السايح ،الذين استشهدوا عام 2019 وسعدي الغرابلي وكمال أبو وعر اللذان استشهدا عام 2020 ، والأسير سامي العمور الذي استشهد عام 2021 والاسير داود الزبيدي الذي استشهد عام 2022 ومحمد ماهر تركمان الذي استشهد في مستشفيات الاحتلال، بالاضافة الى الأسير ناصر أبو حميد الذي استشهد في كانون الأول من العام 2022 ، والمعتقل وديع أبو رموز الذي استشهد في مستشفيات الاحتلال في 28 يناير 2023.
من الواضح أنني أتقصّد كتابة هذه التفاصيل محاولًا تقريب القاريء الى واقع وهواجس ومعاناة ما نسميه "الحركة الفلسطينية الأسيرة" وإشعاره بمن وراء هذه التسمية ؛ فهذه الحركة هي من "لحم ودم" وهي أرواح تقاوم عتمة الزنازين وقمع السجان، وهي ارادات تصرّ على تجسيد أحلامها وأحلام شعبها بالانعتاق من نير الاحتلال ونيل الحرية وإقامة الدولة. انها حركة "أسيرة " لايمانها بأن لا ظلم يدوم، وهي أسيرة بقيود من أمل ومن فرح وعنفوان تشبه ما حكت عنه العواصف وما سكبته الغيوم. والاحتفال بهذه الذكرى، كما جاء على لسان "لجنة الطوارىء الوطنية العليا للحركة الوطنية الأسيرة" ليس مجرد "صور صمّاء وشعارات رنانة ، بل يوم لدقّ ناقوس الخطر بأنّ نزْفَ أعمارنا لم يتوقف، فلسنا مجرد أرقام وكشوفات في أدراج المكاتب؛ وخيارنا الوحيد هو الحرية، فعلى من يصله صوتنا أن يسعى من أجل أن ننال حريتنا" .
قرأت بيان "لجنة الطوارىء" المشار اليه وما جاء فيه من مواقف هامة ووعود صارمة ونداءات اعلنها الاسرى، بعد يومين من انتشار مشاهد اعتداءات قوات الاحتلال الاسرائيلية الوحشية على الكهنة العرب والمؤمنين المسيحيين الذين ملأوا أزقة القدس ومُنعوا من المشاركة في مراسم فيض نورها على سائر الأمم في يوم سبت النور.
قرأت البيان باهتمام وتعاطف بالغين، وكنت أتمنى ألا ينتهي قبل أن تقوم اللجنة بتضمينه أية التفاتة أو موقف من هذه الاعتداءات التي طالت أفواجًا من المواطنين الفلسطينيين العرب المسيحيين وغيرهم، واعتبارها، من قبل قيادات الحركة الأسيرة، جزءًا من الاعتداء على فلسطينية القدس، بالضبط كالاعتداء على المصلّين في المسجد الأقصى. قد يكون اغفال البيان لممارسات الاحتلال المدانة مجرد سهوة ! وقد يكون عاكسًا أو نتاجًا لحالة عربية/ اسلامية سائدة، لا في فلسطين وحدها، لا تقبل شراكة مسيحية في القدس، لان المسيحية عندهم هي "الفرنجة" والمسيحيون هم الصليبيون؛ أو هي الغرب وحكّامه الذي يتآمرون على فلسطين وعلى الاسلام والمسلمين.
كنت أتمنى لو التفتت الحركة الأسيرة - وهي كما أقول دائمًا: بوصلة وطنية ثابتة، ومنارة هادية لشواطىء الوطن لا يخبو نورها، وضابطًا لايقاعات النبض الوطني الفلسطيني الجامع - الى هذا المشهد، ولو من باب تأكيدها على أن رسالة الأسرى مرسلة الى "كافة أطياف شعبنا"، كما كتبوا وحيث أن قضيتهم "قضية جامعة ووحدتهم التي سطروها داخل السجون في مواجهة السجان تتطلب من الكل الفلسطيني انهاء الانقسام ومواجهة العدو موحدين في كل الساحات ، فلا خطوط حمراء سوى وصايا الشهداء ، ولا صوت يعلو فوق صوت الاشتباك مع الاحتلال، ولا ضرورة تتقدم على حتمية الوحدة الوطنية". أوَلم يكن من باب الصواب اعتبار هذه الاعتداءات على المصلّين المسيحيين ممارسة عدوانية على جزء حي من ابناء الشعب الفلسطيني وعلى مكانة القدس الفلسطينية، وضرورة تعبيرهم عن رفضها يأتي من باب الحرص على الوحدة الوطنية وتعزيز مشاعر الانتماء لدى المسيحيين الفلسطينيين المستضعفين من الاحتلال تارة، ومن رؤساء كنائسهم الاجانب تارة اخرى ؟ وهل لا تعتبر، لدى قادة الحركة الوطنية الأسيرة، الاعتداءات على الاماكن المقدسة المسيحية في القدس وحرمان المواطنين العرب من ممارسة حقهم في الحركة وفي العبادة ، شأنًا وطنيًا فلسطينيًا ورافدًا من روافد النضال الوطني الفلسطيني وعنصرًا في وحدة أطياف الوطن ؟
ومنعا لأي التباس أو تدافع المتسائلين حيال الرابط بين القضيتين، سبت النور ويوم الأسير، أؤكد أن الرابط يفرضه نص بيان الأسرى ذاته، لا سيما في بنده الخامس حيث جاء فيه ما يلي: "سعى عدونا، ولا زال يسعى، للاعتداء الغاشم الدائم وبرابط ملفت على الأسرى والمسرى، وبفضل الله تعالى نجح الأسرى بصمودهم وصبرهم ومساندة شعبنا في رد العدوان، وتمكنت مقاومتنا الباسلة وقيادة شعبنا من لجم عدوان الاحتلال على الأسرى وعلى مسرى رسول الله".
لا يستطيع عاقل أن يتجاهل مخططات الاحتلال الاسرائيلي تجاه مدينة القدس كلّها واصراره على تهويدها؛ وهو لا يحاول اخفاء شهيته على ابتلاعها وتفتيت مجتمعها وضرب هويتها الفلسطينية. وقد نجح، في العقدين الأخيرين، في الاجهاز وابتلاع عدة مرافق وقطاعات كانت فلسطينية الانتماء والوشم تمامًا، ولم تعد. وكمن رافق مراحل انفلات العربدة الاسرائيلية في القدس الشرقية أعرف، مثل كثيرين غيري، أن جهات اسرائيلية عديدة سعت من أجل تغيير عناصر الصراع في وعلى القدس وذلك من خلال تغليبها للبعد الديني وتكريسه كجبهة صدام شبه وحيدة، وحصره في منطقة المسجد الأقصى وما أسموه منطقة "الحوض المقدس" . لست في معرض تقييم مقاسات النجاح الاسرائيلي أو فشله على جبهة القدس، لكنهم فعلوا ما فعلوه بعد قيامهم بضبط مدروس وخبيث لعلاقاتهم مع الجهات المسيحية في العالم الغربي، كنسية كانت أو شعبية، وتركيزهم في نفس الوقت، كجزء من تلك السياسات، على تحييد أهمية المجتمعات الفلسطينية المسيحية المحلية، وابقائها في حالة اغتراب وجودية مع كنائسها، المرؤوسة، في الغالب، من اكليروسات اجنبية؛ وفي حالة خوف أو تشكك مع أكثرية أبناء نفس المجتمعات، المسلمين. وهنا في هذه الخانة بالذات يتوجب على من كان في مواقع التأثير والقيادة توخي الحذر وابداء الحساسية بدرجات من اليقظة المميزة والمسؤولة.
لا أعرف اذا كان عدم التطرق من قبل الحركة الأسيرة لوحشية قمع المواطنين والكهنة، كما شاهدناه في يوم سبت النور، في بيان ربط، في أكثر من موقع، بين مكانة الحركة الأسيرة والمسرى، سهواً أو طبيعيًا وعاديًا؛ لكنه سيضاف، بدون شك، إما بشكل تلقائي وإما من قبل بعض المغرضين، إلى قائمة الشواهد والعوامل التي من شأنها أن تؤثر على مشاعر العداء الطائفي أو اغتراب المواطنين الفلسطينيين المسيحيين عن مجتمعاتهم ، خاصة في عالم عربي لا يعرف معظم مواطنيه أن هنالك عربا مسيحيين، وفي فلسطين على وجه الخصوص.
أقوم منذ اكثر من أربعة عقود بالدفاع عن مقاتلي الحرية الفلسطينيين، وقد رافقت الحركة الأسيرة في معظم محطاتها، في مجدها وفي ضعفها، في نجاحاتها وفي اخفاقاتها. ولأنني أعرف واقعها عن قرب، كتبت ما كتبت في هذه العجالة؛ لأني أدرك أن فلسطين بحاجة إلى وحدة هذه الحركة، واعرف، كذلك، أن فلسطين اليوم بحاجة إلى ريادتها والى اضطلاعها بدور المنقذ الأمين والقيادة الصحيحة الواعية. مثل هذه القيادة وغيرها يجب أن تعرف أننا اذا قلنا الفلسطينيين قلنا جميع أبنائها مسلمين ومسيحيين؛ وإن قلنا مقدسات القدس قلنا القيامة والاقصى وأخواتهما.
نور ذلك السبت في الايمان المسيحي هو نور الخلاص والانعتاق والحياة؛ وذكرى يوم الأسير هي فرصة لبعث الأمل والتمسك بالحرية والانعتاق الفلسطيني.
وسيبقى الرابط فلسطين ، أسراها ونورها المرتجى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق