رحِم الله الوالد الحاج شاهر علي مسلماني "أبو شوقي"، ورحم جميع موتاكم وموتانا، إنّما أسطر معدودات عن الراحل الوالد: لم يكن يكره مثلما كان يكره المذهبيّين والعنصريين، أحبّ عدداً من زعماء جبل عامل القدامى والجدد، ليس لأنّهم شيعة، وهو المسلم الشيعي، إنّما لما توسّمه فيهم من وطنيّة للناس جميعاً، كما أحبّ جمال عبد الناصر، وهو العربي المسلم السنّي لأنّه زعيم مصر العروبة أيضاً، وكان رحمه الله يردّد القول الشائع: "كلّ إنسان على دينه الله يعينه"، كانت علاقته بربّه عموديّة، صَلاتُه وصِلاته لله حبّاً ولخلاصه، ولم يربطها بنزعة تحدّد علاقته بالآخرين لا سياسيّاً، ولا غير ذلك، كما في هذه الأيّام المؤسفة.
كره إسرائيل كما كرهها العامليّون، ففضلاً عن احتلالها لفلسطين وقتل أهلها وتشريد شعبها في أربع أصقاع الأرض هي مسؤولة أولى عن تخريب لبنان وحياتنا وخصوصاً في جنوب لبنان وتحديداً أكثر في قرى وبلدات ما عُرف ولا يزال يُعرف بالشريط الحدودي مع فلسطين المحتلّة، وكان مع الوالدة المرحومة الحاجّة أم شوقي مهنّا مسلماني التي سبقته إلى الأبديّة قبل خمس سنوات تقريباً كلّما شاهدا ما تفعله إسرائيل بحقّ أهلنا في فلسطين يقولان، رحمهما الله، كما أهلنا في جنوب لبنان: "الله يهدِّك يا إسرائيل".
إجتماعيّاً كان مجاهداً، والجهاد ليس أن ترفع السيف أو البندقيّة بوجه المعتدي وحسب، الجهاد أيضاً وفي الإسلام كما في اللغة العربيّة البليغة هو ألاّ نعطي ظهورنا للناس في الداخل فيما تنهش بلحومهم ذئاب، والجهاد حقّاً يشمل كلّ مناحي الحياة، وليس أهونُها تنشئة الأسرة الكبيرة ـ جميع أفراد أسرة الوالد مولودون في لبنان ـ وهم أحد عشر فرداً ـ كيف كان يُعيل هذه الأسرة الكبيرة في الوطن الأمّ لبنان الذي وُسِمت أطرافه بالحرمان وتزنّرت عاصمته بيروت بأحزمة الفَقْر؟، كيف حمل أسرته الكبيرة هذه إلى أستراليا في المقلب الآخر من الأرض، وفيها شرعَ من جديد يؤسّس لحياة جديدة؟، أليس عمله هذا هو جهاد، كما عمل معظم الآباء من مجايليه، فيما كثير من الأجيال الجديدة في أستراليا ـ دولة الرفاه ـ وعلى رغم كلّ التيسيرات والتسهيلات والتعليم والطبابة المجّانيّة الكريمة الهائلة والكثير من مثل ذلك يجدون أنفسهم بالكاد قادرين على القيام بأود أسرة صغيرة جدّاً؟.
بدأ الوالد الحاج أبو شوقي حياته بائع خضرة ـ في سوق الخضرة ـ بيروت ـ بالمفرّق، وتحسّن حاله بفضل إخلاصه مع اعتماد عدد من مطاعم وسط بيروت ـ 1969 ـ له مزوّداً إيّاها بالخضار، لكن سرعان ما نشبت الحرب الأهليّة المشؤومة سنة 1975 لتعطّل مسيرة نجاحه الصاعد، وحين انتقل إلى سيدني سنة 1977 كانت النيّة هي الهجرة لا أكثر من ستة أشهر، وعلى الأكثر لسنة، وهو والوالدة، رحمهما الله، لفّا اللّحف والشراشف والفرش بالنفتالين، المادّة الحافظة من العتّ أو التسوّس، وجمعا الأواني الزجاجيّة في صناديق وحفظوها جانباً، ولكنّ الحياةَ والأقدار كانت لها مشيئات مختلفة.
أكثر من 40 عاماً عاش الوالد في سيدني، اختارته رابطةُ أبناء العرقوب ـ أسترالياً ـ أباً مثاليّاً لعام 2015، وعلى رغم ذلك كان دائم لإشتياق لمسقط الرأس، للوطن الأمّ لبنان، وكم تمنّى لو يغمض عينيه ويسلم الروح فيه، واستاح أخيراً إليه، ورآه ثلاث ليالٍ، وأغمض عينيه في كونين، التي أوّل ما تفتّحت عيناه فيها، مرّة وإلى يوم الدينونة، هنئياً له.. كما تمنّى تماماً.
رحم الله موتاكم وموتانا، راجين ألاّ يصيبكم مكروه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق