من المفروض ان تجري الاتنخابات للسلطات المحلية في اسرائيل بتاريخ 31/10/2023 ومن المفروض أن يشارك فيها، بطبيعة الحال، المواطنون العرب حيث سيقومون بانتخاب ممثليهم لرئاسة ولعضوية تلك المجالس في كل مدينة وقرية.
تتميز هذه الانتخابات عن سابقاتها بعدة عوامل وعناصر جوهرية؛ فهي ستجري في ظل نظام قانوني اسرائيلي عنصري متطرف تقف على رأسه حكومة تحركها عقائدها القومية والدينية المطلقة، ويؤمن معظم عناصرها بفوقيتهم اليهودية العرقية، وبضرورة ممارسة مضامينها وتطبيقها علينا، نحن المواطنين العرب. وستجري، أيضا، في غياب دور الأطر السياسية العربية المسؤولة والقوية، كتلك التي كانت، قبل تضعضع مكانتها، بمثابة البوصلات التي وجهت ضمائر الناس نحو مصالحهم الصحيحة، المدنية والسياسية، وكانت، كذلك، اليواطر التي نجحت بتثبيت هؤلاء الناس وحمايتهم في مرافئ الأمان والسلامة . وستجري، أيضا، في واقع لا يشعر فيه المواطنون بالأمن الشخصي ولا بالأمان المجتمعي، بل تسود بينهم مشاعر الخوف المتزايدة بعد أن تفشت في مدننا وقرانا مظاهر العنف والقتل والفوضى، وغدت المجالس المحلية احدى أهم محركات ذلك العنف وأكبر مولّداته الخطيرة والواضحة. لا داع لتناول هذه العناصر بالتفصيل، فما يهمنا، في هذه المقالة، هو امكانية شروع قطاعات شعبية واسعة بمقاطعة الانتخابات المحلية المقبلة. من الصعب في الظروف الحالية ان نتكهن فيما اذا نحن نقف أمام ظاهرة متنامية أم لا.
لقد أعلن مصعب دخان، مرشح الرئاسة في مدينة الناصرة، قبل بضعة أيام عن انسحابه من المعركة الانتخابية، بعد أن كان قد تعرض مؤخرًا الى عملية اطلاق نار مباشرة عليه؛ ومن المعلوم أن إعلان مصعب دخان لم يكن الأول في هذا السياق، فقد اعلن قبله مرشحون آخرون عن انسحابهم من المعركة الانتخابية مثل اعلان مرشح الرئاسة في قرية كفر ياسيف، الدكتور هلال خوري والى جانبه ممثلي خمسة قوائم انتخابية. لقد جاء في منشورهم الموجه لأهالي القرية ما يلي: "حفاظًا على اسم كفر ياسيف التاريخي وإرثها الحضاري المشرف، وعلى ضوء الاوضاع الراهنة ورؤيتنا لتداعيات الآفات السائدة في المجتمع وما تشهده قريتنا في الآونة الاخيرة، نعلن وبالنيابة عنا وعن ناخبينا أننا ممتنعون من المشاركة وخوض الدورة الانتخابية القادمة على صعيد العضوية والرئاسة وندعو ناخبينا وأهالينا عدم المشاركة والتصويت".
ما جرى ويجري في قرية كفر ياسيف الجليلية، وهي مسقط رأسي والمكان الذي ولدت وكبرت فيه أحلامي، يعدّ بلا شك مؤشرًا محزنًا على حالة الحضيض التي وصل اليها مجتمعنا العربي ككل؛ فكفر ياسيف، لمن لا يعرف، كانت تعدّ في التاريخ الفلسطيني العصري احدى القلاع الوطنية الحصينة وأم العلم والثقافة والتنوير؛ وهي "البيت" الذي أحبه الشعراء والادباء، وقالوا من على منابرها أجمل المعاني والكلام. فهي كما كتب عنها الشاعر محمود درويش، الذي تخرج من مدرستها الثانوية، وعاد اليها، كالعاشقين، ليملأ رئتيه بالزنابق، وليستعيد دفء أيام خوال، قائلا : "في تلك الأيام دلتنا كفر ياسيف على بوصلة الشمال وعلى أول الوعي وعلى أول الطريق وعلى أول الخطوات وعلى السجن الاول وعلى حرياتنا الصغرى وعلى طموحاتنا الاولى وخياراتنا الصعبة وعلى اول الكتابة وعلى ما يدلنا اننا جزء من جماعة قومية أيام كان انتماؤنا لمصلحة الشعب العامة لا للعائلة أو القبيلة أو الطائفة " (من مقطوعة "البيت والطريق" التي قرأها في احتفالية خاصة أقيمت له في القرية عام ١٩٩٩، ثم نشرها في كتابه "حيرة العائد" صفحة 31) .
لم يكن كلام "الدرويش" عن كفر ياسيف جزافًا ولا محض "تشبيب" عارض بفتاته، ولم أخترها أنا كعينة حيّة لفداحة مصاب مجتمعنا العربي ولجسامة فقدنا الجمعي بالصدفة أو لإنني أحبها فقط ؛ فالقرية عرفت دور المؤسسات الاجتماعية والسياسية والتثقيفية منذ قرنين من الزمن؛ ولعبت ، في زمن الانتداب وبعد زواله، دورًا بارزا في حضانة الثقافة الوطنية والانسانية، وكانت دفيئة لبلورة معالم الهوية الأصلية للأقلية الباقية في الوطن. لقد تأسس مجلسها المحلي عام 1925، ويعدّ من أوائل المجالس القروية المحلية في فلسطين إن لم يكن أولها؛ وكان له دورا في تنظيم حياة أهل القرية وعصرنتها وفي تنمية الحس الإداري وأهميته في بناء الحياة السليمة وغير ذلك من قيم الالتزام والتفاني والتكافل. أما مدرستها الثانوية التي تحمل اسم "يني يني" فهي معلم تثقيفي هام بادر الى بنائه في مطلع خمسينيات القرن الماضي رئيس مجلسها، يني يني، وسعى الى تحويلها لقلعة علم ونور والى مرجل لبناء الهوية القومية. استوعبت المدرسة الطلاب الوافدين اليها من عشرات القرى الجليلية ومن مدينة عكا، وخرّجت أجيالا وراء أجيال .
لم يكن صراع أبائنا، الناجين من النكبة الباقين في الوطن، مع اسرائيل سهلا؛ بيد ان قيادات ذلك الزمن عرفت كيف تواجه مكائد قادة الحركة الصهيونية وسياساتهم العنصرية واضطهادهم المستمر، فنظموا أنفسهم بدراية وبحكمة حتى نجحوا في أواخر خمسينيات القرن الماضي بتأسيس "الجبهة الشعبية العربية" ، كتنظيم شامل غير حزبي يجمع كل القوى والجهات العربية المحلية المناضلة ضد سياسات الحكومة الاسرائيلية؛ واختير رئيس مجلس كفر ياسيف "يني يني" ليكون رئيسا للجبهة. شكل تأسيس الجبهة حدثًا استثنائيا وطلائعيا ومن قرارتها في عام 1959، على سبيل المثال، كان دعوتها لخوض الانتخابات البلدية من خلال "اقامة قوائم شعبية تمثل القوى العربية المناضلة ضد الاضطهاد القومي". ساهمت "الجبهة الشعبية العربية" وسائر القيادات الشيوعية والقومية، التاريخية التي برز دورها في تلك السنوات، ببناء وعي الناس بهويتهم وبانتمائهم، وبضرورة إنضاج تنظيمهم الجمعي، حتى اختمرت، بعد سنوات من النضال الشعبي العنيد، بين عدد من رؤساء المجالس العربية فكرة اقامة "اللجنة القطرية للرؤساء" وكان ذلك في مطلع سبعينيات القرن الماضي. لعبت اللجنة القطرية دورا هامًا في مأسسة العمل البلدي وفي الدفاع عن مصالح المواطنين والوقوف في وجه سياسات حكومات اسرائيل العنصرية، فكان شعار اللجنة في بداية الطريق "المساواة ولا أقل من المساواة". ثم جاء بعده شعار "بلديات ومجالس خدمات وكرامات" الذي أصبح الشعار الناظم والعاكس لرؤية قيادات العمل السياسي الشعبي لأكثر من عقدين من الزمن، فوثق المواطنون بقياداتهم والتفوا حولها.
سأقفز عن جميع فصول حكايتنا منذ نهاية التسعينيات واحداث عام الفين، كي أعود الى كفر ياسيف. ففي بداية الستينيات رحل يني يني وانتُخب، رئيسا بديلا له في الموقعين، في المجلس المحلي وفي "الجبهة الشعبية العربية"، علمٌ آخر من ابنائها هو المرحوم فوزي عبدالله خوري. ثم مضت عشر سنوات أخرى من المخاضات والسير نحو العلا، فانتخبت كفر ياسيف رئيسة لمجلسها المحلي السيدة فيوليت خوري وكانت رئيسةً لمجلس كان كل اعضائه رجالا،ً وأول امرأة تتبوأ هذا المنصب في الشرق الأوسط. كانت فيوليت خوري زوجة فوزي خوري وكان المرحومان والديّ الدكتور هلال خوري، الذي أعلن وخمسة من رؤساء القوائم عن سحب ترشيحاتهم وعدم المشاركة في الانتخابات، بعد أن ازدادت مظاهر العنف ضد المرشحين، في كفر ياسيف وفي عشرات المواقع الاخرى، وبعد ان اطلقت النيران على بيته وعلى بيوت مرشحين آخرين.
قد نجد في هذه المفارقة لنا عبرة.
لم تكن كفر ياسيف، التي جاءها يومًا الشاعر راشد حسين وأنشد في ساحة عينها: "اليوم جئت وكلنا سجناء، فمتى أعود وكلنا طلقاء"، أول المواقع المصابة بالمكاره والآفات التي حلت في مجتمعنا، ولا أول القلاع التي سقطت؛ لكنها في النهاية أصيبت مثل سائر أخواتها وعانت مثلهن من شر الهزائم. عندما بدأت تتصدع جدرانها أهبنا بقيادات مجتمعنا وصرخنا في وجوههم على الملأ وقلنا: انها كفرياسيفكم/ بيتكم وطريقكم؛ لكنهم لم يسمعوا - فسقطت. واليوم أقول لهم : وإن سقطت أخيرا فلا بد من انقاذها اولا لأنه اذا نجحتم/نا وانقذناها من الخراب فقد ننجح في إنقاذ سائر أطراف الوطن، واذا فشلتم/نا فسيكتب الدم روايتها ولن "يأتها الشعراء" كما وعدها راشد حسين. فمن كفرياسيف، هكذا قال المحمود، وكتب "من كفر ياسيف ، من الجليل، بدأ اول الطريق الى وضع الهاجس الشخصي والسؤال الذاتي في مكانه من السؤال العام واتضح الوعي الاول بالتلاحم التلقائي بين الذاكرة الجمعية والذكرى الشخصية حيث كانت هذه القرية/البلدة تحمل من الإشارات والمعاني اكثر من مساحتها الجغرافية ". قال وصدق؛ فكفر ياسيف أولا كان الشعار ، نعم ولكن يجب ألا تبقى وحيدة؛ فإذا كان لا بد من مقاطعة الانتخابات البلدية القادمة، وهذه مسألة بحاجة الى دراسة وترتيب فلتكن مقاطعة شاملة ومؤثرة، وموجهة في الاساس ضد سياسات حكومة اسرائيل وللضغط عليها، وليشارك فيها، ليس في كفر ياسيف وحدها، كل من قلوبهم على بلدهم/ بلداتهم ، وصرختهم صرخة "جبهة شعبية عربية" لا ترضى بالذل ، وهو، كما نعرف، ان وقع من ذوي القربى يكون أظلم وأوجع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق