حين تطفو الأزمات، ترتقي الذكريات، تشتد زوابعها، تطوف قاسية كسعير ريح صرصر عاتية، تخترق ذهنك، تشد رحالها بين صدغيك، تذهب وتجيء كهواء صيف ساخن.
تعاركها، تبسطها، تفتتها وتجمعها. تؤنبها ثم تضمها إلى حضنك كطفلة باسمة تحبها بعطف أبوي.
لا تفارقك الأشجان، تبعدها عنك بجلد وصبر نبيل، تشغل خيالك بأشواق طرية مغايرة ممكنة، لكنها لا تنفك أن تقترب من هوى مسامعك وأنفاسك، تشم رائحة حرائقها في روحك. كأنها لا تريد المغادرة.
تسأل نفسك:
لماذا... ؟
لماذا يقع لك هكذا؟
ولماذا أنت؟
تشعر كأنك عرضة لضربات ملتبسة لجهات ما، ظاهرة أو خفية، أو أنك مستهدف من طرف "قدر غامض"، حتى وإن كنت لا تؤمن بذلك، قد تصاب للحظات بدوار مثل هذه الأسئلة الكامنة في ثنايا "حظك العاثر" الناتج عن وهم استهدافك أو تلقائية تصرفك أو سوء تفاعلك مع ما يحيط بك.
الصداقة، الصحبة الوافرة الظلال، العلاقات الإنسانية عموما لا يمكن التحكم في مساراتها بمنطق ما تمنحه من ود جميل وعطاء دافئ، أو ما تبذله من جهد أو تضحيات باذخة.
قد تعصف بها أية برهة تذمر، أو ردة فعل من عدم القدرة على التحمل أو لحظة إزعاج أو غضب عابرة، وترمي بطيبتك في مهب الريح (قد تكون أنت كذلك أقل من انتظارات أشخاص آخرين منك).
قد يتبخر كل شيء أمامك، حتى الهدوء الذي راكمته في زاوية ما من روحك لتلجأ إليه، "كلما اشتقتَ إليكَ"، قد لا تجده في ثوب مكانه المطرز بالحب.
* * *
على عكس اتجاه متمنيات وأحداث الليلة السابقة، وتوقعاته وأشواقه بأن تجنح أخيرا للسكينة والهدوء، بعد حروب صغيرة أنهكت جسده وروحه. لم يجد لها من داع، إلا تحمله الوفير لشغبها السخي ومراوغاتها الغنية واستعدادها لنسف ما يعتقد أنه عشق مرير لها.
بعد ليلة صاخبة بالحلم، جامحة البهجة والفرح المشتهى. "شهرزاد" تتكئ على جانبها، أصابع يدها اليمنى تلعب بخصلات شعرها المسدل كنهر جارف، كأنها تنسج منها حكايتها الجديدة، وتواصل سرد عباراتها الباردة.
ترسم ابتسامة غامضة على شفتيها وتفاصيل وجنتيها. يدها اليسرى تغطي ملامح جسدها بثوب يسقط عنها كل حين. وكأنها تريد ان تزرع شجنا ساطعا في عينيه، كقمر مشع في سماء ليلة كئيبة، تصر على وأد ما تبقى من قدرة احتمال ممكن لديه، كأنها غير معنية بما تغرسه في خاطره من حزن. كأنها تخاطب شخصا لا تؤلمه، لا تضع قلبه الطفولي تحت قدميها الناعمتين وتتسرب بحفيفهما كأفعى وسط حشائش خضرة ربيع ناعم في غابة الخيال.
تواصل سرد وصيتها على مسامعه: "قد تهتز سكينتك من حيث لا تريد، لكنك مطالب بأن تتحدى خيباتك لتجاوز صدمات نكران الجميل أو الخيانة أو الهجر..".
حاول مقاطعتها، لإعادة ترتيب سياق حكايتها. أوقفته بلطف واضافت: "تذكر أزمات سابقة حلت بك أو بمحيطك.. ومرت. ربما اعتقدت أنها لن تمر، وكأن وجودك ينتهي في حضورها..".
ثم مشت فوق منافذ فؤاده تفجر ينابيعه الهادرة.
5 أكتوبر 2023
(يتبع)
////
● حظ الليلة العاشرة 2/2 [ العشاء الأخير ]
"شهريار" ينفلت من مرمى سهام جراحه، الأحزان لا تتعب إلا في بدايتها، بدايات كثيرة قاسية مرت في حياته، لم يعد يلتفت إليها.
مهما عصفت به خيبات أو طافت أوجاع خيانات مفترضة بقلبه المتعب من ثقل شوقه الجامح، وبراءة طيبته الفتية التي لا تكبر، ولا تنضب ولا تشيخ. يسترجع شريط مطبات أخرى غيرها "ألمت به.. ومرت" وطابت جراحها على شط ذاكرة الروح "كان يعتقد أنها لن تمر"، كما قالت.
"شهرزاد" تعيد تكرار ما قالت: "تذكر أزمات سابقة حلت بك أو بمحيطك.. ومرت"، "ربما اعتقدت أنها لن تمر، وكأن وجودك ينتهي في حضورها..."
ربما اعتقدت أنه لم يستوعب سعيها للجفاء، وأنها تمده بزاد مواساة، كأنها تخاطب شخصا غيره.
(تفتك بفرحه وتتقدم لمنبر تأبين شوقه البهي!).
صرير بوابة غرفة الضيوف الغامضة، الحرس والخدم والحشم يجيئون ويذهبون بخفة متناهية، يوقدون الشموع وينثرون الورد ويذرفون الدموع ويعدون "العشاء الأخير".
"شهريار" يستل جلبابه التقليدي (البزيوي) الشفاف وطربوشه الأسطواني الأحمر وسلهامه السلطاني الأبيض ونعله الأصيل الأصفر (بلغته)، يرتب عاتقيه وحاجبيه وهامته الباذخة.
يتردد قليلا في الانصراف، ينظر في ما يتركه خلفه من عطر وحب، يمد خطواته الأولى المتعثرة فوق سجاد خيالها، يستجمع أنفاسه المتناثرة في زحام حلمه، ويغادر ضوء غرفتها الفاتنة المخملية.
يتسلل بلين بين معارج دروب روحه المعلقة في قصر حكاياتها... ثم يغادر قبل الصباح.
***
يقطع طريق مظلم مجهول الممرات، سرمديا لا ينتهي، يستنير بأزمات مدمرة ومروعة تماما، حلت بشعوب برمتها تعرضت للغزو أو الوباء أو الجوع أو الاضطهاد أو التمييز، أو تفجرت أوضاعها الآمنة في حدود ما.
تمزقت قبائل قادتها وطوائفها، تجرفت حقول بواديها وعمارة مدنها، وتشردت أحلامها. انتهكت حرمات نسائها، جاع رضعها، حبلت طرقات التيه بدموع طفلاتها وأطفالها وثقل خطوات شيوخها.
نفقت ماشيتها وكواسرها وهاجت بحارها وهاجرت عصافيرها وأمانيها... فر شبابها، لم يتصد منهم لمآسيها إلا مغامرين شجعان، ومضطرين وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام خطر محدق بهم.
"بعض النائبات امتدت وطالت آثارها لسنوات، أو عشرات أو مئات السنين لكنها صنعت شعوب قوية حضاريا وإنسانيا، تقدر العيش المشترك والطيبة والاحترام وترفع من قيمة المعرفة والتضحية وجدوى الحب".
"شهرزاد" لا تهوى المقارنة بين حياة الأفراد ومسارات الشعوب، تقيس العالم بما تراه أو تشتهيه عيونها.
حياة الأشخاص قصيرة جدا، لكن قدرتهم على هزم أزماتهم بسكينة وهدوء حين يستطيعون التفكير بلطف "بعد اشتعال نيران مطبات عارمة في تلابيب عروق تكاد أن تجف" في تنمية ألق ملكة التجاهل الممتعة والنبيلة لديهم، حين لا يكون هناك جدوى من المواجهة "وإبعاد سعير حريقها من دواخلهم" ودفع كربها خارجا، كأنها لا تعنيهم.
مرت ليال وهي تصغي لحكاياته المرتبكة، حاول أن ينعشها بشغفه الدائم بها. ربما لا تشتهي الحب.
كان يعتقد أنها سكونه الذي يشتهي.
كانت تظنه خزائنها التي تستحق.
6 أكتوبر 2023
-------------------------------------------------------
* العشاء الأخير: آخر ما احتفل به يسوع مع تلاميذه، قبل أن يتم اعتقاله ومحاكمته وصلبه (وكيبيديا).
** الجلباب البزيوي: أرقى انواع الجلباب التقليدي المغربي تنسجه في الأصل النساء بجماعة بزو (بإقليم أزيلال) يحظى بشهرة واسعة، يوصف بملك الأزياء التقليدية الخاصة بالرجال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق