الحرمان/ غسان منجّد



 في حياتي خزائن أحزان 

ووجه يضحك من دموعه 

في فمي أسئلة كثيرة لذكريات لم تعد ذكريات 

وضحك منها نسيان 

حياتي شبابيك مشرّعة لعطش وطين 

وشطآن رياح

وهضاب حرمان 

وانهار بدون ضفاف 

عصري قاحلّ ويحكمه تراب مرفرف

فوق قبور له نكهة غربه ودروب مائله

انا الغريب في صمت ميناء 

مراياه صارت حطاما

وتوالت نكباته مع جراد زاحف 

تكاثر مع لعنة صفحات إسودّت واصبحت 

سيدة متعجرفه 

انا الكلمات التي لطمتها حرائق لم 

تشمخ هاماتها 

انا المغارة المفتوحة لم تلبس حرائر اضواء 

بل أسكتتها طعنات تكدّست في اصوات منتحرة

ومقطّبة الافواه 

اناالغربة المقطّعة الاوصال تدور كآلات صدأت 

لفّها الغبار ولم تمش إلا في خريف عمري 

انا الموت الممثّل بحياة بُدّلت ولم 

تسطّر إلا حفر لاحياء ذبلت وإنهارت حقيقتها

وقُرأت عليها آيات التواصل مع نار الهجره 

أنا الرسائل التي لم تصل والتي قبض عليها شلال الاحزان وضاع في غفلة الشلل 

انا الاضلع الذي اكلها الجسد الراحل والمتشرّد 

في اعصاب الغفله المضروبة من اعصار الزمان والمكان 

انا الجيل الذي لم انتم ِله وتغافل عني 


المصلحة الإسرائيلية في السلطة الفلسطينية/ د. حسن العاصي



مع تواصل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، وما شهده القطاع من عمليات قصف، وقتل، واعتقالات، وتهجير قسري للسكان، وتدمير المساكن والمدارس والمشافي ودور العبادة. وقطع كامل للمياه والكهرباء والاتصالات. تشهد المدن في الضفة الغربية اعتداءات متصاعدة من قبل المستوطنين وقوات الاحتلال التي أغلقت الضفة بالكامل وقطعت أوصالها ومنعت العمال من الوصول إلى أماكن عملهم. حيث قام الجيش الإسرائيلي باعتقال أكثر من ثلاثة آلاف أسير، وقتل ما يزيد عن ثلاثمائة شهيد خلال الشهور الأخيرة. وما زالت القوات الصهيونية تقتحم المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية يومياً، وتقوم بأعمال القتل والاغتيال وهدم المنازل، وتدمير البنية التحتية وتخريب الطرقات، في أعمال ثأر انتقامية وحشية من الشعب الفلسطيني.


كل هذا يحصل على بعد أمتار فقط من مقر إقامة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومن أماكن إقامة قيادات السلطة الفلسطينية، التي لم يصدر عنها للآن سوى بيانات الشجب والإدانة ومطالبات للمجتمع الدولي بوقف هذه الاعتداءات، وهو ما أثار حالة من السخط من قبل الفلسطينيين الذين وصفوا هذا الموقف بـ"المتخاذل"، والذي لا يرقى بحال إلى حجم العدوان الذي تقوم به إسرائيل.

يطالب الشارع الفلسطيني بصورة مستمرة قيادة السلطة أن تأخذ دورها والالتحام مع الشعب في مواجهة ما يتعرض له في كل مناطق وجوده. ويوجه انتقادات كبيرة لطريقة التعامل الرسمية مع أربعة عشر ألف عامل من قطاع غزة تقطعت بهم السبل في الضفة الغربية دون مأوى أو عمل. ولم تقدم القيادة الفلسطينية حتى الآن على خطوة تبين انحيازها للشعب والشارع الفلسطيني، حتى أنها لم توقف التنسيق الأمني، ولم تعلن الانسحاب من الاتفاقيات التي تربطها مع الاحتلال، وقبل ذلك لم تقوم بإطلاق سراح المقاومين الذين تعتقلهم وتمنعهم من مقاومة الاحتلال. بالرغم من وجود فرصة حقيقية حالية لدى السلطة وقيادتها للتكفير عن سنوات التنسيق الأمني مع الاحتلال.


في خدمة إسرائيل

واجهت السلطة الفلسطينية ـ منذ تأسيسها كنتيجة اتفاق أوسلو ـ سياسات صهيونية أدت إلى تقزيمها، وجردتها من كل سلطتها، وأفرغت الاتفاق البغيض من محتواه. فلا دولة فلسطينية، ولا حتى صلاحيات سياسية للسلطة الفلسطينية. لا اقتصاد ولا أمن. ولا إمكانية للعمل سواء على الساحة الخارجية أو الداخلية. وتواصل بناء المستوطنات فوق الأرض الفلسطينية. واستمر الجيش الإسرائيلي بانتهاك حدود السلطة عبر اقتحامه مدن وقرى الضفة الغربية على الدوام، والقيام بأعمال القتل والتفجير والاعتقالات. والأدهى من هذا كله التلويح الإسرائيلي المستمر والتهديد العلني والمبطن بتفكيك السلطة وإنهاء عملها. وحين تُعلن إسرائيل إنها ستعيد أموال الضرائب الفلسطينية المسروقة إلى السلطة، في خطوة رمزية لمنع انهيار السلطة، يخرج اليمين الصهيوني الديني المتشدد برفض مثل هذه الإجراءات على لسان "بتسلائيل سموتريتش" و"ايتامار بن جفير"

في تصريح سابق له الشهر المنصرم، قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي "تساحي هنغبي" إن انهيار السلطة الفلسطينية لا يخدم المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية "بسبب الدور الأمني المهم الذي تلعبه". وحدد هنغبي مهمة السلطة قائلاً: "حسب الاتفاقات الموقعة بيننا وبينهم، فإن الدور الرئيس المكلفين به هو مكافحة الإرهاب" والمقصود بالإرهاب هنا هو المقاومة الفلسطينية.

بموازاة المصلحة الإسرائيلية لبقاء السلطة الفلسطينية، هناك أزمة ثقة عميقة بين الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بسبب طابع الوظيفة الأمنية التي تؤديها لصالح إسرائيل، في حين لا تحرك ساكناً لوقف عدوان جيش الاحتلال وتغول المستوطنين اليهود على البلدات والقرى الفلسطينية الواقعة في تخوم المستوطنات في أرجاء الضفة الغربية. ولأنها عاجزة تماماً عن فعل أي شيء في مواجهة العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، وغير قادرة على اتخاذ أبسط المواقف بإنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، وإعلان إنهاء التزامها ببنود اتفاقية أوسلو من جانب واحد، وهو أضعف الإيمان.

في استطلاع للرأي أجراه حديثاً المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ـ مركز مستقل  في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة الواقعة بين 6 ـ 9 أيلول/ سبتمبر 2023 توصل إلى نتائج كان من أبرزها ما يلي:

 87%  يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية.

62%  يقولون أن السلطة الفلسطينية أصبحت عبء على الشعب الفلسطيني.

63%  يؤيدون تخلي السلطة عن اتفاق أوسلو.

68%  يقولون أن اتفاق أوسلو قد أضر بالمصلحة الوطنية.

حوالي الثلثين يقولون إن الوضع الآن أسوء مما كان قبل أوسلو.

60%  من الفلسطينيين يطالبون بوقف التعاون الأمني مع إسرائيل، إذ إن 79% منهم يرى أن السلطة لم توقف التعاون الأمني رغم إعلانها ذلك، في حين أن أكثر من 80% منهم يرفضون أن تسلم حركات المقاومة في الضفة أسلحتها للسلطة الفلسطينية، فضلا عن أن 77% يرون أن على رئيس السلطة محمود عباس الاستقالة فورا.


كيف ولدت هذه السلطة، وبأي طريقة، وفي أية ظروف، وكيف تشكلت، وإلى أية مآل انتهت؟


أواسط السبعينيات

بعد حرب عام 1973 بدأت تظهر بوادر تحركات دولية باتجاه السعي لإيجاد حلول سياسية للنزاع الفلسطيني العربي- الاسرائيلي.

وقد انشغلت الساحة الفلسطينية في تلك الفترة الزمنية التاريخية بجدال سياسي حول قضايا مصيرية مثل الاعتراف بالقرارين الدوليين242 و 338 ومحاولة البحث عن حلول مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية، تكون حلولاً مرحلية ،بديلاً عن ما هو تاريخي واستراتيجي في الأجندة الوطنية لكفاح الشعب الفلسطيني .

فبرز في البيت الفلسطيني تيار تبنى ما أطلق عليه "الواقعية" في تحقيق أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ونادى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجري دحر الاحتلال الإسرائيلي عنها .

وبعد نقاش فكري وسياسي عميق تحول إلى صراع بين مختلف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها امتد قرابة عام، تمكن التيار الواقعي من تعزيز مواقعه في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وداخل أطر م ت ف، وتحول من تيار كان يمثل الأقلية إلى تيار الأغلبية.

ولاحقا نجح في تحويل أفكاره من الحيز النظري داخل غرف الاجتماعات وتحويلها إلى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974 برنامج “النقاط العشر”، والذي عرف في حينها “ببرنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”.

منذ ذلك الوقت رفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا البرنامج في مواجهة الاتهامات التي كانت توجهه لهم بأنهم متطرفين وغير واقعيين. واستخدموه في التدليل على مرونتهم وواقعيتهم، وعلى استعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية عادلة وواقعية للصراع مع إسرائيل.

وفي حينها اعتقدت قيادة م ت ف ومعظم القيادة الفلسطينية أن الظروف والأوضاع الدولية مهيأة لانبعاث الكيان الفلسطيني الجديد، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الأرض الفلسطينية .

لقد أكدت الأحداث اللاحقة ومسار الأحداث في المنطقة والعالم ،أن القوى الدولية المقررة، وبخاصة قطبي الحرب الباردة حينذاك الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لم يكونا جادين في ايجاد حلول واقعية وعادلة لقضايا المنطقة وصراعاتها المستفحلة.

وإن كل منهما كان يسعى في تلك الفترة لتوظيف الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه ومواقعه في المنطقة. كما أكدت أيضا أن ظروف وأوضاع أهل المنطقة أنفسهم لم تكن ناضجة للتوصل إلى أية حلول جدية لصراعاتهم العميقة.


اتفاقية أوسلو

في ربيع العام 1991 أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مبادرة يدعو فيها أطراف الصراع الفلسطينيون والعرب وإسرائيل ، إلى مغادرة ميادين القتال والحروب، واعتماد طريق السلام من خلال التفاوض المباشر لحل النزاعات المزمنة في المنطقة .

وهذا ما حصل، فقد التقى العرب في مدريد، ولاحقاً التقى وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية سراً مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وتوصلوا بعد مفاوضات عسيرة إلى اتفاق ” إعلان مبادئ” حول ترتيبات حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية، عرف هذا الاتفاق فيما بعد باتفاق أوسلو

جوهر هذا الاتفاق بشكل أساسي هو إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة خمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة على اساس قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338.

وهكذا في أجواء احتفالية غير مسبوقة، تم التوقيع في أيلول العام 1993 على هذا الاتفاق الشهير بين الفلسطينيين وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، على أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي بعد ثلاث سنوات وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه .

غير أن هذا الاتفاق أغفل وضع جداول زمنية محددة للانسحاب الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة، كذلك سقط من الاتفاق أية آلية دولية تلزم إسرائيل لتنفيذ استحقاقاتها من الاتفاق، أنتج هذا الأمر وضعاً غريباً، فقد أغرق الجانب الفلسطيني في ما يسمى معالجة التفاصيل قبل معالجة جوهر المشكلة، وكان الاتفاق ملزماً للفلسطينيين بينما تنصلت إسرائيل من التزاماتها، الأمر الذي كرس الاحتلال بدلاً عن إزالته .

طوال الأعوام الماضية ظل رجال السلطة الفلسطينية يلهثون بسعار خلف جزرة الحل النهائي الذي لم يتحقق من بنوده شيء، بل على العكس تماماً، تنصلت إسرائيل من كافة التزاماتها من اتفاق أوسلو وكأنه لم يكن.

إن جزء من الشعب الفلسطيني الذي اعتقد أن تشكيل السلطة أنجاز لابد من حمايته والدفع به لتحقيق إنجازات أخرى، اكتشف أن هذا الاتفاق الذي أبرم مع إسرائيل لا يعبر عن أمنه ومصالحه ولا عن أهدافه الوطنية ، بل على العكس، وجد المواطن الفلسطيني نفسه أنه يعاني من سلطتين، سلطات الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية التي ألزمتها إسرائيل بالتنسيق الأمني معها ضد كافة النشطاء والمناضلين الفلسطينيين الأمر الذي أدى إلى اغتيال عشرات من خيرة أبناء شعبنا الفلسطيني ، واعتقال الآلاف منهم .


سلطة المنافع والمصالح

لقد أعادت السلطة الفلسطينية إنتاج نظام التنفيع الذي ورثته من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدلاً عن المضي في بناء مؤسسات لمختلف القطاعات واعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة، أصبحت علاقات المنفعة والمصالح الشخصية والولاءات هي السياسة المعتمدة لهيكل السلطة، وأصبحت هذه الطريقة أداة قوية وفاعلة في الاستيعاب للمنتفعين والمتسلقين والانتهازيين، >ووسيلة أيضاً لإقصاء الشرفاء والمناضلين وأصحاب الكفاءة .

إن السلطة الفلسطينية أخذت تعمل على كسب ولاء الناس من خلال الحصول على مورد اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تضخم شديد في القطاع الحكومي العام للسلطة حيث وصل عدد موظفي السلطة حوالي 170,000 موظف تعتمد رواتبهم بشكل أساسي على المعونات الدولية. المصيبة أن 44 % منهم يتبعون الأجهزة الأمنية وبالتالي يستحوذون على حوالي نصف الميزانية، بينما يا للسخرية لا يتم صرف سوى واحد في المائة على قطاع الزراعة ، وساهمت هذه السياسة في مأسسة الفساد وانتشاره، وهو ما كانت إسرائيل تريده من خلال إنشاء سلطة بعد أوسلو تكون منتفعة وضعيفة تتحكم فيها إسرائيل من خلال  الموارد المالية.

فتم توزيع المناصب في هيئات وإدارات السلطة على المحسوبيات والمقربين، حتى المعارضة السياسية من مستقلين ويساريين وإسلاميين لم تستثنى من هذه الامتيازات، فتم دمج الآلاف منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومنحوا مناصب في القطاع الحكومي مقابل ولائهم السياسي .

من جهة أخرى برزت في النظام السياسي الفلسطيني في الداخل ظاهرة زواج المصلحة بين رجال الأعمال ورجال السلطة وهو الشكل الأكثر انتشاراً للفساد، يستمد قوته من تمتع النخب بالحصانة السياسية والاجتماعية والقانونية، فامتلأت الحسابات المصرفية لآلاف الفاسدين بالمال الفاسد .

كما أن استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية وعشائرية يشكل ظاهرة واضحة في مؤسسات السلطة، إبرام صفقات مشبوهة، استخدام موارد السلطة والوزارات للأغراض الشخصية، سرقة الممتلكات الوظيفية وإهدار المال العام ، حتى أن إحدى عمليات التدقيق والرقابة في بداية الألفية أثبتت أن حوالي %40 من ميزانية السلطة قد أسيء استخدامها .

إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الفساد، بل على العكس هي تساهم في تعزيز هذا الفساد في السلطة الفلسطينية وتحسن استغلاله فيما بعد، وتحاول إشغال الرأي العام بهذا الفساد كي تصرف أنظار العالم عن الآثار المدمرة التي تلحقها سياساتها العدوانية بالبنية الاقتصادية والتنمية الفلسطينية، وما تقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج للاقتصاد الفلسطيني.


تراجع الشعارات والأهداف الثورية

لقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى جملة من التغيرات في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها التي انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من الضعف والهشاشة، وتراجع الشعارات والأهداف الثورية التي طالما تغنى بها الشعب الفلسطيني وميزته عن باقي شعوب الأرض التي استحق احترامها وتقديرها ومساندتها نتيجة لكفاحه والتضحيات التي قدمها عموم الشعب الفلسطيني في طافة أماكن تواجده وجعلته يحظى بكل تلك الهالة المقدسة التي كان يعتز بها .

لكن الفلسطيني ذاته أخذ يشعر بالغضب والحزن والإحباط الشديدين بسبب ما وصلت إليه قضيته الوطنية التي أصبحت تهمة للمناضلين، ومطية للمتسلقين الانتهازيين من الفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم، كما تحولت القضية إلى ميدان للمزايدات لدى البعض، وفرصة لشتم وتحقير الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعداد محاسن إسرائيل لدى البعض الآخر .

ثمة مفارقات عجيبة تحصل في خلفية المشهد السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يزداد حجم ومستوى التضامن الأوروبي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نشهد تراجعاً عربياً ملحوظاً على المستويين الرسمي والشعبي في التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ودعم قضيته الوطنية ، التي هي بالأساس قضية العرب الأولى وقضية عموم المسلمين .

فما لذي أوصل أهم قضية تحرر وطني في التاريخ إلى هذا المستوى الذي لا يسر أحداً ولا يدلل على عافية، ولماذا جنح بعض العرب إلى مستوى غير مسبوق من الحقد على الفلسطينيين، وهل نحن أمام واقع جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية ، أم أنه برزت أولويات جديدة أمام الشعوب العربية، أم أنه انعكاس طبيعي لواقع الحال الفلسطيني والعربي الذي يشهد حالة متعاظمة من التردي والسقوط والانحدار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، الأمر الذي جعل زيارة وزيرة العدل الإسرائيلية ” تسيبي ليفني ” سراً إلى إحدى عشرة دولة عربية لتطلب منهم عدم تقديم أية تبرعات مالية إضافية للسلطة الفلسطينية، يبدو خبراً طبيعياً حين تم تسريبه، وتعاملت الدول العربية معه بصمت وتجاهل بعد أن انصاعت الحكومات العربية إلى المطالب الإسرائيلية دون خجل، وهكذا وضع الأشقاء العرب قرارهم بدعم القدس العربية بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية، ولم يكلف الأمين العام للجامعة العربية نفسه عناء تكذيب هذا الخبر حفاظاً على ماء وجه العرب .


الدور السلبي لقيادة السلطة الفلسطينية

مما لا شك فيه أن هناك أسباب ومسببات عديدة ومختلفة وراء إيصال قضية سامية وعادلة كالقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، إلا أنه أيضاً كل تلك الأسباب والعوامل ما كانت لتكون مؤثرة وفاعلة لولا الدور السلبي للقيادة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وسعيها وراء السلطة وامتيازاتها بدلاً من تعزيز ودعم فكرة النضال والكفاح ضد المغتصب، وبالرغم من أننا لسنا في وارد تقييم تجربة الثورة الفلسطينية ، إلا أن ما نشهده اليوم من إحباطات وانهيارات وانسدادات أمام القضية الوطنية الفلسطينية لم يكن وليد المتغيرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، إنما هو نتيجة طبيعية وكارثية لكل السياسات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية والخيارات التي اقدمت عليها منذ انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في منتصف ستينيات القرن الماضي .

إن مجمل هذه السياسات أدت فيما أدت إلى تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف العامل الفلسطيني برمته، وتحويل قضية فلسطين الوطنية إلى حائط مبكى، وظهور قيادات فلسطينية ضعيفة ومخترقة من قبل العديد من أجهزة المخابرات وخاصة الأمريكية والإسرائيلية، أنيطت بهذه القيادات مسؤولية الحل والربط فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، وهم المسؤولين مسؤولية مباشرة عن تقليص الحقوق الفلسطينية وضياعها، من خلال حجم التنازلات المرعب الذي قدمته هذه القيادة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي بدءًا من التنازلات التي قدمت للوصول إلى اتفاقية أوسلو الملعونة ، وصولا إلى كافة التنازلات التي مازالت تقدمها القيادة الفلسطينية في سبيل محافظتها على مناصبها وامتيازاتها على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني وتضحياته، هذه التنازلات جعلت إسرائيل تتنمر على السلطة الفلسطينية بل وتتجرأ بكل وقاحة وتطلب ويا للعجب من القيادة الفلسطينية الضعيفة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل !!

هذه القيادة التي تستقوي على شعبها وعلى الفصائل الأخرى بالأنظمة العربية التي كانت داعم رئيسي لنضال الشعب الفلسطيني ولقضيته الوطنية مالياً وسياسيا، فأصبحت الثوابت الفلسطينية والعربية تجاه الصراع مع إسرائيل تُنتهك وتحذف بمباركة عربية استعاضت بها القيادة الفلسطينية لغبائها عن الغطاء الشعبي الفلسطيني لتمرير سياسات التنازل والاستسلام، تلك الأنظمة العربية مغلولة اليد أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي لا تريد سوى السلامة حتى لو كانت على حساب القضية الفلسطينية، لكنها تصبح شرطي بعصا غليظة حين تستقوي بها السلطة الفلسطينية لكسر إرادة قوى المعارضة الفلسطينية الرافضة لكل سياسات السلطة التنازلية، هذا الاستقواء في الحقيقة -إضافة إلى عوامل أخرى- هو ما جعل الأنظمة العربية نفسها تستقوي على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وإلى إخضاعهم إلى التجاذبات المتنافرة في السياسة العربية .

لقد سقطت السلطة الفلسطينية في مستنقع الفساد والاستنفاع، وانكشفت عورتها أمام الجميع، وكل أوراق التوت والتين لا تستطيع ستر عورات سلطة هجينة، وليدة اتفاقيات مذلة، وحولت جميع الحقوق الثابتة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى” مشاكل قابلة للتفاوض” وحولت قضية وطن محتل ومغتصب إلى خلاف على تقاسم نفوذ فيما بينها، وتتبنى سياسة التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، هي العقلية ذاتها التي تطاولت بالكلام بداية على المناضلين والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية عام 1988 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى تحت شعار “هجوم السلام الفلسطيني” وتحول هذا الهجوم فيما بعد إلى تآمر لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، وقامت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المحترمة باعتقال قيادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية، وتعاونت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال مناضلين.

إن السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على نفسها اساساً، هي ليست أكثر من أداة وظيفية لدى الاحتلال الإسرائيلي، وقد أصبحت حاجة إسرائيلية لضرب المشروع الوطني، فاتفاقيات أوسلو التي أنجبت السلطة أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الاحتلال نفسه، وبينما انشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية، تحول الاحتلال إلى استعمار نظيف قليل التكلفة حيث تتولى أجهزة السلطة الفلسطينية كافة الملفات القذرة، تتابع إسرائيل مصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض.


إسقاط السلطة ضرورة وطنية

لذلك لا بد من إسقاط هذه السلطة لإنهاء عبثية مسار التفاوض مع إسرائيل الذي اثبت عقمه، ولوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كاملة كسلطات احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، وحتى تكف السلطة عن كونها غطاء لهذا الاحتلال.

ومن جهة أخرى لوضع المجتمع الدولي والأطراف الراعية لعملية السلام أمام استحقاقاتهم الموضوعية في فشل مسار التسوية السياسية، وهذا يجب أن يؤدي إلى اعتبار أن شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال ومن حقه مقاومة هذا الاحتلال وفق المواثيق الأممية.

إسقاط السلطة سوف يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي قزمها رجال السلطة وجعلوها ظل عديم الفعالية تابع لهم بعد أن قاموا بإفراغ المنظمة ومؤسساتها من دورها الوطني باعتبارها حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني .

وهذا من شأنه أن يساهم في تقوية الموقف الفلسطيني الذي أضعفه زج السلطة بالرقم الفلسطيني في مفارقات العرب السياسية، فانتقلت القضية الفلسطينية بقدسيتها من حالتها في الضمير والوجدان العربي والأممي إلى رقم ضعيف في الجامعة العربية .

إن هذه السلطة المتخمة بالفساد السياسي والأمني والسلوكي والأخلاقي، التي حولت القضية الفلسطينية إلى ممسحة لبعض الأنظمة العربية وسياساتهم وصفقاتهم، سوف يذكرها التاريخ على أنها سلطة متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته الوطنية، في عالم لم تعد تعنيه كثيراً قضايا الضمير والحق والعدل، بل يلتفت إلى من يملك قوة الفعل والتأثير في مجريات التاريخ.

قيثارة الأمنيات/ الدكتورة بهية أحمد الطشم



يرسم عقلي خارطة أحلامي,

ويترنّم أملي على ايقاع السّحر الجاذب.......

تصدح نغمات طموحي من قيثارة الأمنيات البهيّة,

وتذيع أحلامي صدى رجائها من أبواق العزيمة الصّنديدة.

...............................................

تنادي عيون قلبي أفقاً شاسعاً ,

وتهمس نبضاته في أُذن الايام أقدس أسرارها لالتماس عبق رجائها.

ترتدي خلايا نفسي ثوب الحكمة ,

وتنتشلني بصيرتي من زوايا السأم ابّان عواصف الحياة ,

فيحتفي حدسي المتوقد بنار التغيير الخلاّق لتنصرف الآلام عني ,

وترقص ارادتي كنحلة جذلِة حول أبهى الزهور..............

التطور التكنولوجي بين التشاؤم والتفاؤل/ د زهير الخويلدي



مقدمة

التكنولوجيا هي مفهوم واسع يتعامل مع استخدام الأنواع ومعرفتها بالأدوات والحرف اليدوية، وكيف تؤثر على قدرة الأنواع على التحكم في بيئتها والتكيف معها. وفي المجتمع البشري، هو نتيجة للعلم والهندسة، على الرغم من أن العديد من التطورات التكنولوجية سبقت هذين المفهومين. إن التعريف الدقيق لـ "التكنولوجيا" أمر بعيد المنال: يمكن أن يشير إلى الأشياء المادية ذات الاستخدام البشري، مثل الآلات أو الأجهزة أو الأدوات، ولكن يمكن أن يشمل أيضًا موضوعات أوسع، بما في ذلك الأنظمة وأساليب التنظيم والتقنيات. يمكن تطبيق المصطلح بشكل عام أو على مجالات محددة: تشمل الأمثلة "تكنولوجيا البناء" أو "التكنولوجيا الطبية" أو "أحدث التقنيات".لقد أثرت التكنولوجيا على المجتمع والمناطق المحيطة به بعدة طرق. وفي العديد من المجتمعات، ساعدت التكنولوجيا في تطوير اقتصادات أكثر تقدماً (بما في ذلك الاقتصاد العالمي اليوم) وسمحت بظهور طبقة الترفيه. تنتج العديد من العمليات التكنولوجية منتجات ثانوية غير مرغوب فيها، تُعرف بالتلوث، وتستنزف الموارد الطبيعية، على حساب الأرض وبيئتها. تؤثر التطبيقات المختلفة للتكنولوجيا على قيم المجتمع، وغالبًا ما تثير التكنولوجيا الجديدة أسئلة أخلاقية جديدة. وتشمل الأمثلة ظهور مفهوم الكفاءة من حيث الإنتاجية البشرية، وهو مصطلح ينطبق في الأصل على الآلات فقط، وتحدي المعايير التقليدية.


التعريف والاستخدام

تعود أصول التكنولوجيا إلى الكلمة اليونانية "technologia" و"τεχνοlectογία" - "techne" و"τέχνη" ("حرفة") و"logia" و"κογία" ("القول"). بشكل عام، التكنولوجيا هي العلاقة التي تربط المجتمع بأدواتها وحرفها، وإلى أي مدى يستطيع المجتمع السيطرة على بيئته. يقدم قاموس ميريام وبستر تعريفًا للمصطلح: "التطبيق العملي للمعرفة خاصة في مجال معين" و"القدرة التي يمنحها التطبيق العملي للمعرفة". قدمت أورسولا فرانكلين، في محاضرتها التي ألقتها عام 1989 بعنوان "العالم الحقيقي للتكنولوجيا"، تعريفًا آخر لهذا المفهوم؛ إنها "الممارسة، الطريقة التي نؤدي بها الأشياء هنا". غالبًا ما يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مجال معين من التكنولوجيا، أو للإشارة إلى التكنولوجيا المتقدمة أو الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية فقط، بدلاً من التكنولوجيا ككل. يعرّف برنار ستيجلر، في كتابه التقنيات والزمن،، التكنولوجيا بطريقتين: "السعي وراء الحياة بوسائل أخرى غير الحياة"، و"مادة غير عضوية منظمة". يمكن تعريف التكنولوجيا على نطاق أوسع بأنها الكيانات، المادية وغير المادية، التي يتم إنشاؤها عن طريق تطبيق الجهد العقلي والجسدي من أجل تحقيق بعض القيمة. في هذا الاستخدام، تشير التكنولوجيا إلى الأدوات والآلات التي يمكن استخدامها لحل مشاكل العالم الحقيقي. وهو مصطلح بعيد المدى قد يشمل أدوات بسيطة، مثل المخل أو ملعقة خشبية، أو آلات أكثر تعقيدا، مثل محطة فضائية أو معجل الجسيمات. لا يلزم أن تكون الأدوات والآلات مادية؛ وتندرج التكنولوجيا الافتراضية، مثل برامج الكمبيوتر وأساليب العمل، ضمن هذا التعريف للتكنولوجيا. يمكن أيضًا استخدام كلمة "التكنولوجيا" للإشارة إلى مجموعة من التقنيات. وفي هذا السياق، فإن الحالة الراهنة لمعرفة البشرية هي كيفية تجميع الموارد لإنتاج المنتجات المرغوبة، أو حل المشكلات، أو تلبية الاحتياجات، أو إشباع الرغبات؛ ويشمل الأساليب الفنية والمهارات والعمليات والتقنيات والأدوات والمواد الخام. عند دمجه مع مصطلح آخر، مثل "التكنولوجيا الطبية" أو "تكنولوجيا الفضاء"، فإنه يشير إلى حالة المعرفة والأدوات في المجال المعني. تشير عبارة "أحدث التقنيات" إلى التكنولوجيا المتقدمة المتاحة للبشرية في أي مجال. يمكن النظر إلى التكنولوجيا على أنها نشاط يشكل الثقافة أو يغيرها. بالإضافة إلى ذلك، التكنولوجيا هي تطبيق الرياضيات والعلوم والفنون لصالح الحياة كما هو معروف. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ظهور تكنولوجيا الاتصالات، التي قللت من الحواجز أمام التفاعل البشري، ونتيجة لذلك، ساعدت في إنتاج ثقافات فرعية جديدة؛ إن صعود الثقافة السيبرانية يعتمد في أساسه على تطور الإنترنت والكمبيوتر. ليست كل التكنولوجيات تعزز الثقافة بطريقة إبداعية؛ يمكن للتكنولوجيا أيضًا أن تساعد في تسهيل القمع السياسي والحرب عبر أدوات مثل الأسلحة. باعتبارها نشاطًا ثقافيًا، تسبق التكنولوجيا كلاً من العلوم والهندسة، حيث يضفي كل منهما طابعًا رسميًا على بعض جوانب المساعي التكنولوجية.


العلوم والهندسة والتكنولوجيا

إن التمييز بين العلوم والهندسة والتكنولوجيا ليس واضحًا دائمًا. العلم هو التحقيق المنطقي أو دراسة الظواهر، بهدف اكتشاف المبادئ الدائمة بين عناصر العالم الظاهري من خلال استخدام تقنيات رسمية مثل المنهج العلمي. لا تعد التقنيات عادة منتجات علمية حصرية، لأنها يجب أن تلبي متطلبات مثل المنفعة وسهولة الاستخدام والسلامة. الهندسة هي عملية موجهة نحو الهدف لتصميم وصنع أدوات وأنظمة لاستغلال الظواهر الطبيعية لوسائل إنسانية عملية، غالبًا (ولكن ليس دائمًا) باستخدام نتائج وتقنيات من العلوم. قد يعتمد تطور التكنولوجيا على العديد من مجالات المعرفة، بما في ذلك المعرفة العلمية والهندسية والرياضية واللغوية والتاريخية، لتحقيق بعض النتائج العملية. غالبًا ما تكون التكنولوجيا نتيجة للعلم والهندسة، على الرغم من أن التكنولوجيا كنشاط بشري تسبق هذين المجالين. على سبيل المثال، قد يدرس العلم تدفق الإلكترونات في الموصلات الكهربائية، باستخدام الأدوات والمعرفة الموجودة بالفعل. ويمكن للمهندسين بعد ذلك استخدام هذه المعرفة المكتشفة حديثًا لإنشاء أدوات وآلات جديدة، مثل أشباه الموصلات وأجهزة الكمبيوتر وأشكال أخرى من التكنولوجيا المتقدمة. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار العلماء والمهندسين على حد سواء تقنيين.


دور في تاريخ البشرية

بدأ استخدام الجنس البشري للتكنولوجيا بتحويل الموارد الطبيعية إلى أدوات بسيطة. أدى اكتشاف القدرة على التحكم في الحرائق في عصور ما قبل التاريخ إلى زيادة مصادر الغذاء المتاحة، كما ساعد اختراع العجلة الإنسان في السفر والتحكم في بيئته. أدت التطورات التكنولوجية الحديثة، بما في ذلك المطبعة والهاتف والإنترنت، إلى تقليل الحواجز المادية أمام الاتصال وسمحت للبشر بالتفاعل على نطاق عالمي. ومع ذلك، لم يتم استخدام كل التكنولوجيا للأغراض السلمية؛ لقد تطور تطوير الأسلحة ذات القوة التدميرية المتزايدة باستمرار عبر التاريخ، من الهراوات إلى الأسلحة النووية.


العصر الحجري القديم (2.5 مليون – 10000 قبل الميلاد)

كان استخدام الأدوات من قبل البشر الأوائل عملية اكتشاف جزئيًا، وجزئيًا عملية تطور. لقد تطور البشر الأوائل من سلالة من البشر الذين كانوا يبحثون عن الطعام وكانوا يسيرون على قدمين، وكان دماغهم أصغر من دماغ الإنسان الحديث. ظل استخدام الأدوات دون تغيير نسبيًا في معظم تاريخ البشرية المبكر، ولكن منذ حوالي 50000 عام، ظهرت مجموعة معقدة من السلوكيات واستخدام الأدوات، يعتقد العديد من علماء الآثار أنها مرتبطة بظهور لغة حديثة تمامًا.


أدوات حجرية

استخدم أسلاف الإنسان الحجر والأدوات الأخرى منذ فترة طويلة قبل ظهور الإنسان العاقل منذ حوالي 200 ألف سنة. يعود تاريخ أقدم الطرق لصنع الأدوات الحجرية، والمعروفة باسم "صناعة أولدوان"، إلى ما لا يقل عن 2.3 مليون سنة مضت، مع العثور على أقدم دليل مباشر على استخدام الأدوات في إثيوبيا داخل وادي الصدع العظيم، والذي يعود تاريخه إلى 2.5 مليون سنة مضت. . يُطلق على عصر استخدام الأدوات الحجرية هذا اسم العصر الحجري القديم، أو "العصر الحجري القديم"، ويمتد طوال تاريخ البشرية حتى تطور الزراعة منذ حوالي 12000 عام. لصنع أداة حجرية، يتم ضرب "قلب" من الحجر الصلب ذو خصائص تقشر محددة (مثل الصوان) بمطرقة. أنتج هذا التقشر حافة حادة على الحجر الأساسي وكذلك على الرقائق، ويمكن استخدام أي منهما كأدوات، بشكل أساسي في شكل مروحيات أو كاشطات. ساعدت هذه الأدوات البشر الأوائل بشكل كبير في أسلوب حياتهم القائم على الصيد وجمع الثمار لأداء مجموعة متنوعة من المهام بما في ذلك ذبح الذبائح (وكسر العظام للوصول إلى النخاع)؛ تقطيع الخشب؛ تكسير المكسرات المفتوحة. سلخ الحيوان من أجل جلوده؛ وحتى تشكيل أدوات أخرى من مواد أكثر ليونة مثل العظام والخشب. كانت الأدوات الحجرية الأولى خامًا، ولم تكن أكثر من مجرد صخرة مكسورة. في العصر الأشويلي، الذي بدأ قبل حوالي 1.65 مليون سنة، ظهرت طرق تشكيل هذه الحجارة في أشكال محددة، مثل الفؤوس اليدوية. شهد العصر الحجري القديم الأوسط، منذ حوالي 300 ألف سنة، إدخال تقنية النواة المجهزة، حيث يمكن تشكيل شفرات متعددة بسرعة من حجر أساسي واحد. شهد العصر الحجري القديم الأعلى، الذي بدأ منذ حوالي 40 ألف سنة، إدخال التقشير بالضغط، حيث يمكن استخدام الخشب أو العظم أو قرن الوعل لتشكيل الحجر بشكل ناعم للغاية.


النار

كان اكتشاف النار واستخدامها، وهي مصدر طاقة بسيط له استخدامات عديدة وعميقة، نقطة تحول في التطور التكنولوجي للبشرية. ولا يُعرف التاريخ الدقيق لاكتشافها؛ تشير الأدلة على عظام الحيوانات المحترقة في مهد البشرية إلى أن تدجين النار قد حدث قبل مليون عام قبل الميلاد؛ ويشير الإجماع العلمي إلى أن الإنسان المنتصب كان يسيطر على النار ما بين 500 ألف قبل الميلاد. و400000 ق.م.[13] سمحت النار، التي تغذيها الحطب والفحم، للبشر الأوائل بطهي طعامهم لزيادة قابلية هضمه، وتحسين قيمته الغذائية وتوسيع عدد الأطعمة التي يمكن تناولها.


الملابس والمأوى

ومن التطورات التكنولوجية الأخرى التي حدثت خلال العصر الحجري القديم الملابس والمأوى. لا يمكن تحديد تاريخ اعتماد كلتا التقنيتين بالضبط، لكنهما كانتا مفتاحًا لتقدم البشرية. مع تقدم العصر الحجري القديم، أصبحت المساكن أكثر تطورا وأكثر تفصيلا. في وقت مبكر من 380 ألف قبل الميلاد، كان البشر يقومون ببناء أكواخ خشبية مؤقتة. الملابس، المقتبسة من فراء وجلود الحيوانات التي تم اصطيادها، ساعدت البشرية على التوسع في المناطق الباردة؛ بدأ البشر بالهجرة من أفريقيا بحلول عام 200000 قبل الميلاد. وإلى قارات أخرى، مثل أوراسيا. بدأ البشر في صناعة العظام، والقرون، والجلود، كما يتضح من المدافن والمراكن التي تم إنتاجها خلال هذه الفترة.


العصر الحجري الحديث حتى العصور القديمة الكلاسيكية (10.000 قبل الميلاد – 300 بعد الميلاد)

بدأ الصعود التكنولوجي للإنسان بشكل جدي فيما يعرف بالعصر الحجري الحديث ("العصر الحجري الجديد"). كان اختراع الفؤوس الحجرية المصقولة بمثابة تقدم كبير لأنه سمح بإزالة الغابات على نطاق واسع لإنشاء المزارع. سمح اكتشاف الزراعة بإطعام أعداد أكبر من السكان، كما أدى التحول إلى نمط الحياة المستقر إلى زيادة عدد الأطفال الذين يمكن تربيتهم في وقت واحد، حيث لم تعد هناك حاجة إلى حمل الأطفال الصغار، كما كان الحال مع نمط الحياة البدوي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأطفال المساهمة بالعمل في زراعة المحاصيل بسهولة أكبر مما يمكنهم المساهمة به في أسلوب حياة الصيد وجمع الثمار. مع هذه الزيادة في عدد السكان وتوافر العمالة جاءت زيادة في تخصص العمل. ما الذي أدى إلى التقدم من قرى العصر الحجري الحديث المبكرة إلى المدن الأولى، مثل أوروك، والحضارات الأولى، مثل سومر، ليس معروفًا على وجه التحديد؛ ومع ذلك، يُعتقد أن ظهور الهياكل الاجتماعية الهرمية بشكل متزايد، والتخصص في العمل والتجارة والحرب بين الثقافات المتجاورة، والحاجة إلى العمل الجماعي للتغلب على التحديات البيئية، مثل بناء السدود والخزانات، قد لعبت دورًا في ذلك.


الأدوات المعدنية

أدت التحسينات المستمرة إلى إنشاء الفرن والمنافيخ ووفرت القدرة على صهر وتشكيل المعادن الأصلية (التي تحدث بشكل طبيعي في شكل نقي نسبيًا). كان الذهب والنحاس والفضة والرصاص معادن مبكرة. وسرعان ما ظهرت مزايا الأدوات النحاسية على الأدوات الحجرية والعظمية والخشبية للبشر الأوائل، وربما تم استخدام النحاس الأصلي منذ بداية العصر الحجري الحديث (حوالي 8000 قبل الميلاد). لا يوجد النحاس الأصلي بشكل طبيعي بكميات كبيرة، ولكن خامات النحاس شائعة جدًا وبعضها ينتج المعدن بسهولة عند حرقه في نيران الخشب أو الفحم. وفي نهاية المطاف، أدت معالجة المعادن إلى اكتشاف سبائك مثل البرونز والنحاس (حوالي 4000 قبل الميلاد). يعود تاريخ أول استخدام لسبائك الحديد مثل الفولاذ إلى حوالي عام 1400 قبل الميلاد.


الطاقة والنقل

وفي الوقت نفسه، كان البشر يتعلمون كيفية تسخير أشكال أخرى من الطاقة. أول استخدام معروف لطاقة الرياح هو المراكب الشراعية. يظهر أقدم سجل لسفينة تبحر على وعاء مصري يعود تاريخه إلى عام 3200 قبل الميلاد. منذ عصور ما قبل التاريخ، ربما استخدم المصريون الفيضانات السنوية "قوة النيل" لري أراضيهم، وتعلموا تدريجيًا تنظيم جزء كبير منها من خلال قنوات الري المبنية خصيصًا وأحواض "التجميع". وبالمثل، تعلمت الشعوب المبكرة في بلاد ما بين النهرين، السومريون، استخدام نهري دجلة والفرات لنفس الأغراض تقريبًا. لكن الاستخدام الأكثر شمولاً لطاقة الرياح والمياه (وحتى البشرية) كان يتطلب اختراعًا آخر. وفقًا لعلماء الآثار، تم اختراع العجلة حوالي عام 4000 قبل الميلاد. ومن المرجح أن العجلة قد تم اختراعها بشكل مستقل في بلاد ما بين النهرين (في العراق الحالي) أيضًا. تتراوح التقديرات حول متى حدث هذا من 5500 إلى 3000 قبل الميلاد، ويضعه معظم الخبراء أقرب إلى 4000 قبل الميلاد. تعود أقدم القطع الأثرية ذات الرسومات التي تصور عربات ذات عجلات إلى حوالي 3000 قبل الميلاد؛ ومع ذلك، ربما كانت العجلة مستخدمة لآلاف السنين قبل عمل هذه الرسومات. هناك أيضًا أدلة من نفس الفترة الزمنية على استخدام العجلات لإنتاج الفخار. (لاحظ أن عجلة الخزاف الأصلية ربما لم تكن عجلة، بل كانت عبارة عن لوح غير منتظم الشكل من الخشب المسطح مع منطقة صغيرة مجوفة أو مثقوبة بالقرب من المركز ومثبتة على وتد مثبت في الأرض. وكان من الممكن تدويرها بواسطة قاطرات متكررة بواسطة الخزاف أو مساعده.) ومؤخرًا، تم العثور على أقدم عجلة خشبية معروفة في العالم في مستنقعات ليوبليانا في سلوفينيا. أحدث اختراع العجلة ثورة في أنشطة متباينة مثل النقل والحرب وإنتاج الفخار (الذي ربما تم استخدامه لأول مرة). لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لاكتشاف إمكانية استخدام العربات ذات العجلات لحمل الأحمال الثقيلة، كما مكنت عجلات الخزافين السريعة (الدوارة) من إنتاج الفخار بكميات كبيرة في وقت مبكر. ولكن استخدام العجلة كمحول للطاقة (من خلال عجلات المياه، وطواحين الهواء، وحتى المطاحن) هو الذي أحدث ثورة في استخدام مصادر الطاقة غير البشرية.


التاريخ الحديث (0 م -)

وتشمل الأدوات كلاً من الآلات البسيطة (مثل الرافعة والمسمار والبكرة)، والآلات الأكثر تعقيدًا (مثل الساعة والمحرك والمولد الكهربائي والمحرك الكهربائي والكمبيوتر والراديو والمحطة الفضائية، من بين عدة آخرين). ومع زيادة تعقيد الأدوات، يزداد أيضًا نوع المعرفة اللازمة لدعمها.

تتطلب الآلات الحديثة المعقدة مكتبات من الأدلة الفنية المكتوبة للمعلومات المجمعة التي تتزايد وتتحسن باستمرار - غالبًا ما يحتاج المصممون والبناؤون والمشرفون والمستخدمون إلى إتقان عقود من التدريب العام والخاص المتطور. علاوة على ذلك، أصبحت هذه الأدوات معقدة للغاية لدرجة أن البنية التحتية الشاملة من الأدوات والعمليات والممارسات الأقل أهمية القائمة على المعرفة التقنية (أدوات معقدة في حد ذاتها) موجودة لدعمها، بما في ذلك الهندسة والطب وعلوم الكمبيوتر. هناك حاجة إلى تقنيات ومنظمات التصنيع والبناء المعقدة لبناءها وصيانتها.

لقد نشأت صناعات بأكملها لدعم وتطوير الأجيال القادمة من الأدوات المتزايدة التعقيد. تتميز علاقة التكنولوجيا بالمجتمع (الثقافة) عمومًا بأنها علاقة تآزرية، وتكافلية، ومعتمدة، ومؤثرة، وإنتاج مشترك، أي أن التكنولوجيا والمجتمع يعتمدان بشكل كبير على بعضهما البعض (التكنولوجيا على الثقافة، والثقافة على التكنولوجيا). . ويُعتقد عمومًا أيضًا أن هذه العلاقة التآزرية حدثت لأول مرة في فجر البشرية مع اختراع أدوات بسيطة، وتستمر مع التقنيات الحديثة حتى اليوم. اليوم وعلى مر التاريخ، تؤثر التكنولوجيا وتتأثر بقضايا/عوامل مجتمعية مثل الاقتصاد والقيم والأخلاق والمؤسسات والمجموعات والبيئة والحكومة وغيرها. يسمى التخصص الذي يدرس تأثيرات العلوم والتكنولوجيا والمجتمع والعكس بالعلم والتكنولوجيا في المجتمع.


التكنولوجيا والفلسفة والمجتمع

نشأت نقاشات فلسفية حول الاستخدام الحالي والمستقبلي للتكنولوجيا في المجتمع، مع وجود خلافات حول ما إذا كانت التكنولوجيا تعمل على تحسين حالة الإنسان أو تفاقمها. اللودية الجديدة، والبدائية اللاسلطوية، والحركات المماثلة تنتقد انتشار التكنولوجيا في العالم الحديث، مدعية أنها تضر بالبيئة وتنفر الناس؛ يرى أنصار أيديولوجيات مثل ما بعد الإنسانية والتقدمية التكنولوجية أن التقدم التكنولوجي المستمر مفيد للمجتمع والحالة الإنسانية.

في الواقع، حتى وقت قريب، كان يُعتقد أن تطور التكنولوجيا يقتصر على البشر فقط، لكن الدراسات العلمية الحديثة تشير إلى أن الرئيسيات الأخرى وبعض مجتمعات الدلافين قد طورت أدوات بسيطة وتعلمت نقل معارفها إلى أجيال أخرى.


التقنية

بشكل عام، التقنية هي الإفراط في الاعتماد أو الثقة المفرطة في التكنولوجيا باعتبارها فاعل خير للمجتمع. يجادل البعض، إذا أخذنا الأمر إلى أقصى الحدود، بأن التقنية هي الاعتقاد بأن البشرية ستكون قادرة في نهاية المطاف على التحكم في الوجود بأكمله باستخدام التكنولوجيا. وبعبارة أخرى، سيتمكن البشر يومًا ما من التغلب على جميع المشكلات وربما حتى التحكم في المستقبل باستخدام التكنولوجيا.

 ويربط البعض، مثل مونسما، هذه الأفكار بالتنازل عن الدين باعتباره سلطة أخلاقية عليا. والأكثر شيوعًا، أن التقنية هي انتقاد للاعتقاد الشائع بأن التكنولوجيا الأحدث والمطورة حديثًا هي "الأفضل". على سبيل المثال، تعد أجهزة الكمبيوتر التي تم تطويرها مؤخرًا أسرع من أجهزة الكمبيوتر القديمة، كما تتمتع السيارات التي تم تطويرها مؤخرًا بكفاءة أكبر في استهلاك الوقود وميزات أكثر من السيارات القديمة. ولأن التكنولوجيات الحالية مقبولة عموما باعتبارها جيدة، فإن التطورات التكنولوجية المستقبلية لا ينظر إليها بحذر، مما يؤدي إلى ما يبدو وكأنه قبول أعمى للتطور التكنولوجي.


التفاؤل

يتم تقديم افتراضات متفائلة من قبل أنصار أيديولوجيات مثل ما بعد الإنسانية والتفردية، الذين ينظرون إلى التطور التكنولوجي على أنه له آثار مفيدة بشكل عام على المجتمع والحالة الإنسانية. في هذه الأيديولوجيات، يعتبر التطور التكنولوجي أمرًا جيدًا من الناحية الأخلاقية.

 يرى بعض النقاد أن هذه الأيديولوجيات هي أمثلة على العلموية والطوباوية التقنية ويخشون فكرة التعزيز البشري والتفرد التكنولوجي التي يدعمونها. وقد وصف البعض كارل ماركس بأنه متفائل بالتكنولوجيا.


التشاؤم

على الجانب المتشائم إلى حد ما، هناك فلاسفة معينون مثل هربرت ماركوز وجون زرزان، الذين يعتقدون أن المجتمعات التكنولوجية معيبة بطبيعتها بداهة. ويشيرون إلى أن نتيجة مثل هذا المجتمع هي أن يصبح تكنولوجيًا على نحو متزايد على حساب الحرية والصحة النفسية (وربما الصحة البدنية بشكل عام، مع انتشار التلوث الناتج عن المنتجات التكنولوجية). كثيرون، مثل اللوديين والفيلسوف البارز مارتن هايدجر، لديهم تحفظات جدية، وإن لم تكن تحفظات معيبة مسبقة، حول التكنولوجيا. يقدم هايدجر مثل هذا الرأي في "السؤال المتعلق بالتكنولوجيا": "وبالتالي لن نختبر أبدًا علاقتنا بجوهر التكنولوجيا طالما أننا نتصور التكنولوجيا وندفعها للأمام، أو نتحملها، أو نتهرب منها. في كل مكان نبقى فيه" غير أحرار ومقيدين بالتكنولوجيا، سواء أكدنا ذلك بحماس أو أنكرناه." تم العثور على بعض من أكثر الانتقادات المؤثرة للتكنولوجيا في ما يعتبر الآن كلاسيكيات أدبية بائسة، على سبيل المثال ألدوس هكسلي عالم جديد شجاع وكتابات أخرى، أنتوني بيرجيس البرتقالة الآلية، وجورج أورويل ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون. وفي رواية "فاوست" لجوته، غالبًا ما يتم تفسير بيع فاوست روحه للشيطان مقابل السيطرة على العالم المادي، على أنه استعارة لتبني التكنولوجيا الصناعية. إحدى الأطروحة المناهضة للتكنولوجيا بشكل علني هي المجتمع الصناعي ومستقبله، الذي كتبه ثيودور كاتشينسكي (المعروف أيضًا باسم المفجر) وتم طباعته في العديد من الصحف الكبرى (والكتب اللاحقة) كجزء من جهده لإنهاء حملة قصف البنية التحتية الصناعية التكنولوجية.


التكنولوجيا المناسبة

ومع ذلك، فقد تم تطوير فكرة التكنولوجيا المناسبة في القرن العشرين (على سبيل المثال، انظر عمل جاك إيلول) لوصف المواقف التي لا يكون من المرغوب فيها استخدام تقنيات جديدة جدًا أو تلك التي تتطلب الوصول إلى بعض البنية التحتية المركزية أو الأجزاء أو المهارات المستوردة من مكان آخر. ظهرت حركة القرية البيئية جزئيًا بسبب هذا القلق.


ملاحظة ختامية

يعد استخدام التكنولوجيا الأساسية أيضًا سمة من سمات الأنواع الأخرى غير البشر. وتشمل هذه الحيوانات الرئيسيات مثل الشمبانزي، وبعض مجتمعات الدلافين، والغربان. كانت القدرة على صنع الأدوات واستخدامها تعتبر في السابق سمة مميزة لجنس الهومو. ومع ذلك، فإن اكتشاف بناء الأدوات بين الشمبانزي والرئيسيات ذات الصلة قد تجاهل فكرة استخدام التكنولوجيا باعتبارها فريدة من نوعها للبشر. على سبيل المثال، لاحظ الباحثون أن الشمبانزي البري يستخدم أدوات للبحث عن الطعام: بعض الأدوات المستخدمة تشمل أوراق الإسفنج، ومسبار صيد النمل الأبيض، والمدقات والرافعات. تستخدم قردة الشمبانزي في غرب إفريقيا أيضًا المطارق الحجرية والسنادين لتكسير المكسرات.


المصادر والمراجع:


Crump, Thomas. A Brief History of Science. London, UK: Constable, 2001.

Ferraro, Gary. Cultural Anthropology: An Applied Perspective. Belmont, CA: Thomson Higher Education, 2006.

Franklin, Ursula M. The Real World of Technology. House of Anansi Press, 1999.

Gere, Charlie. Art, Time and Technology: Histories of the Disappearing Body. Oxford, UK; New York, NY: Berg, 2005.

Haviland, William A. Cultural Anthropology: The Human Challenge. Belmont, CA: Thomson Wadsworth, 2004.

Heideiger, Martin. The Question Concerning Technology and Other Essays. New York, NY: Harper & Row, 1977.

McGrew, W.C. Chimpanzee Material Culture. Cambridge, UK; New York, NY: Cambridge University Press, 1992.

Monsma, Stephen V. Responsible Technology: A Christian perspective. Grand Rapids, MI: W.B. Eerdmans Pub. Co., 1986.

Oakley, K.P. Man the Tool-Maker. Chicago, IL: University of Chicago Press, 1976.

Patterson, Gordon M. The Essentials of Ancient History. Piscataway, NJ: Research and Education Association, 1995.

Popper, Popper. From Technological to Virtual Art. Cambridge, MA: MIT Press, 2007.

Stiegler, Bernard. Technics and Time, 1: The Fault of Epimetheus. Stanford, CA: Stanford University Press, 1998.

Villa, Paola. Terra Amata and the Middle Pleistocene Archaeological Record of Southern France. Berkeley, CA: University of California Press, 1983.

الراعي والريح والغنم/ رحال لحسيني



في فيافي بعيدة، مالت شجرة باسقة مع ريح هوجاء ترفع وتطيح بكل شيء. راع يحاول الإمساك بها حتى لا تجرفه العاصفة.

أغنام تتطاير كبالونات هواء عذب، جرو حراسة يعوي في كبد السماء ثم يسقط فوق كومة تراب فقدت عشبها الأخضر للتو.

الراعي يتفقد أكباشه ونعجاته وخرافه الصغيرة ويلملم قرابه وعصاته ونايه بعد هدوء الهرير القوي. 

ينظم صفوف قطيعه ويستعد للمغادرة.

الجرو خلف شجرة أخرى، لا زال يئن من شدة الاصطدام.



باي مايا .. فكانت بداية النهاية/ صبحة بغورة

  


الحياة لا تلتفت في دورانها فدروب الحرية طويلة وعسيرة، والصعب أن نفسر أو نشرح ، إن ما يحدث في فلسطين هي وشوشة في غرف مغلقة لا يسمعها إلا من يدّعون أنهم دعاة سلام ، سلام صنعته حكومات تخدم مصالح دول طاغية ، ظالمة، فهمت كتائب القسّام في المقاومة الفلسطينية الدرس التاريخي جيدا، إن ما اخذ بالقوة يسترجع بالقوة ، وإما الحرية أو الشهادة ،وفي كلتا الحالتين هو النصر الأكبر ، إنه السيرعلى خطوط جمر الحياة ، أما الصهاينة فقد عهدنا كفرهم بكل الخطوط المستقيمة، يعشقون الطرق الملتوية، 70 سنة ولم تنته حكايات شهر زاد، وقد ملت وجه شهريار الذي يطالبها كل مرة برسم النهاية التي تسعده رغم تعاسة الأحداث المروية ، لكن شهرزاد أرادت أن تضع نهاية حكاية الملاك والجلاد، جلاد سرق سوطا من أسواط جهنم وبسطه على أجساد فتيان وفتيات في عمر الزهور، إنهم لا يكبرون حتى يحققوا أحلامهم فقد  تحددت مسبقا وجهتهم، إما السجون أو القبور، لكن المقاومة قررت أن لن تبق قضيتها مشتتة مع من رحلوا ولم يحققوا الحلم طوال حياتهم، كاد الواقع الظالم أن يفترس حريتهم التي أوشكت أن يدركها السبات وأن تصبح قضية منسية ، فكم هم من ظلت جروحهم تنزف وأدركهم الممات ولما تدركهم الحياة بعد ، وتناسى العالم أن قضية فلسطين هي أم قضايا الكون، سؤال تطرحه الفتيات ، الأطفال ، النساء والشيوخ بسجون الصهاينة ، إلى متى ؟؟

للتضحية أكثر من اسم وأكبر من معنى فهي الكرامة والضرورة والحرية والتحرر من قيد المغتصبين، 7أكتوبر بداية القصة ، انتفاضة مقاومة تكسر القيود ، خطابا ألفته كل حناجر الفلسطينيين وحتى من هم في الأرحام ، كلهم بصوت عال ، الأرض أرضنا والسماء سماؤنا ، إنها تربة فلسطين المعبقة برائحة الليمون والزعتر ودم الشهيد المزكاةبالمسك والعنبر ، إنها الزيتونة التي تكبر مع مساجد الأقصى واجراس الكنائس، إنها غزة والخليل والضفة ، قررت القسّام وضع حد للجلاد، إنه كابوس العرب المزعج الذي أينما حل وقع الخراب فقد أفسد اليهود كل شيء جميل أوجده العرب والمسلمون على أرض فلسطين، لقد قرر الفرسان إنقاذ الفاتنة، خططوا ، دبروا لاسترداد حقهم المسلوب وأرضهم المغتصبة عنوة بكل الطرق، إنها الحقيقة التي رفضها الغرب ، كان هجوما لفئران في جحورها صنع منهم الغرب خيال المآتة لتعكير صفو العرب ، صمم البطل وثار، وكان ظن العدو الصهيوني أنه قد استحكمت قوته وهو يرى في ضحاياه مجرد حيوانات بشرية ، لكن يشاء الله أن يهب الأبطال القوة والإرادة والشجاعة فقاتلوا بشراسة واحترموا ما أمر به دينهم الحنيف ، أشفقوا على كبار السن ، وحافظوا على شرف الفتيات الأسيرات لديهم ، وأبقوا على حياة الأطفال ، ولكنهم كانوا أشداء على أعدائهم عساكرالطغاة ، إنهم الأصل والحقيقة والصهاينة مجرد سراب  ولأن لأصحاب القضية كل شيء مباح اقتادت كتائب القسّام  أسراهم إلى مكان ما بغزة وليس خارجها لأنه المكان الوحيد الحر الذي تجد فيه العزة والكرامة والإنسانية ، لا حاكم ولا محكوم، عاملوا أسراهم بما أمر به ديننا الحنيف واحترموا حقوق الإنسان ،فلم يكن أسرا بالنسبة للمخطوفين الذين اكتشفوا الحقيقة وتبين لهم حجم أكاذيب الطغاة عليهم التي غرسها الصهاينة في عقولهم ونفوسهم منذ أن تفتحت أعينهم على الحياة ، إنهم يعلمون جيدا تفاصيل ظروف الأسير عندهم في سجون المغتصب، يعذب ويضرب وتهان كرامته، ثم يموت،لقد تأكدوا أنهاحرب شرسة شنها اليهود على المواطنين الأبرياء لقد شاهدوا الآلاف من أجساد الضحايا الممزقة بعفل الحجم الكبير من القنابل التي ألقيت بدون تمييز على الأسر الأمنة في منازلهم حتى سقط قيد عائلات بأكملها من السجلات المدنية، لقد دمر الصهاينة كل ما وقعت عليه عيونهم ، وقتلوا كل كائن لمحوه يتحرك ، فالعدو من طبعه عندما ينهزم في الميدان أمام الأبطال يلجأ للتعبير عن كبريائه وتأكيد قوته بقهر النساء واعتقال الأطفال وقتل كبار السن ، كان دوي القنابل والانفجارات وصراخ المصابين يبلغ مسامع الأسرى الإسرائيليين ، نال الخوف من إحدى المسنّات منهم وعبرت عن فزعها الشديد ، وأشفقت في الوقت نفسه على من تسقط هذه القنابل على رؤوسهم ، لقد تملكها الخزي والعار، هزت إحدى المقاومات رأسها مؤكدة لها إنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، لأنهم شهداء.

تمر الأيام ويزيد اهتمام المقاومة بالأسرى للحفاظ على حياتهم وقد زاد عددهم أكثر، لا إهانة ولا مذلة ، لقد شكلوا عائلة مؤلفة من السجين والسجّان، لم يشهدها التاريخ الإنساني من قبل إلا التاريخ الإسلامي.

المقاومة تدمر آليات الجيش الصهيوني ومدرعاته وخسائره البشرية تتعاظم والأخبار تحمل البشرى لكل الحاضرين ، لقد ثبت جبن العدو عندما أمطر المدنيين بمدينة غزة بالقنابل ، وعلى الأرض حصحص الحق .

 داخل أسر المقاومة كان هناك عالم آخر تعود عليه أطفال العدو وألفوا سماع القصص وذكريات المقاومة كل ليلة ، ونعموا برعاية صحية مسؤولة وبمراقبة طبية منتظمة ، ومنهم كانت الفتاة الحسناء التي أصيبت في ساقها بجروح بليغة وأحاطها المقا ومون بالرعاية وأجريت لها عملية جراحية دقيقة ، وسهر على تضميد جرحها باستمرار أحد المقاومين يتمتع بخبرة طبية موثوقة ، حرص وهي في شدة مرضها وإعيائها على إعطائها الدواء بانتظام وعلى إطعامها ، لقد انتبهت الفتاة إلى طبيعة حياتهم ودماثة أخلاقهم وطيب تصرفاتهم وراقبت نظامهم الجيد المحكم ، وأدركت أن من نشأت فيهم وكبرت بينهم قد سرقوا منها المشاعر الطيبة ، وضيعوها وسط أكاذيبهم ،ظلت الفتاة غارقة في تأمل ما حولها عن بعد ، وتحاول تفسير الأمور من منظورها، أنستها الأجواء الأمن والاستقرار لماذا هي في الأسر!!غمرتها لأول مرة مشاعر لم تألفها من قبل ودفعتها للتوجه بالسؤال إلى سيدة معها في الأسر عن سر سعادة ابنتها وهي تستمع كل ليلة إلى قصة من احدي  فتيات المقاومة ، جاء رد السيدة هادئا يعكس مقدار الاتزان والثقة بالنفس أن السر يكمن في حالة الاطمئنان التي تسود العلاقات الإنسانية التي يعاملون بها ، عادت الفتاة إلى عالم تأملاتها التي أوصلتها إلى الحقيقة المؤكدة أنها وسط قوم يتميزون عنهم  بالنبل والصدق الذي حرموا منه وسط بني جلدتها، إنها قيم  يجب أن يعيش تفاصيلها اليهودي والمسيحي والمسلم ، لا يفرق بينهم قضبان ولا تقيدهم أصفاد ولا تجرحهم انتهاكات للحرمات المعنوية والجسدية ، أخبرت احدى السيدات الأسيرات الفتاة الحسناء أن  ابنتها صارت  امرأة حيث بلغت في الأسر ولم تجد حرجا أن تطلب  فوطا صحية من احدى المقاومات التي أمّنت لها الحصول على ما تريد في سرية حتى لا تحرج أحدا ولم تعلم الأم بأمر ابنتها إلا من هذه المقاومة، لقد اعتبرت ما حدث نموذجا في النبل ، صمتت الفتاة الحسناء و كانت قد لاحظت هذا النبل في تصرفات أفراد المقاومة وكانت تريد في نفسها تصديق ما تراه وتسمعه من آخرين ، وكأنها لا تصدق نفسها ، لقد اكتشفت أكاذيب ما تعلموه في المدارس، وخجلت من كونها صهيونية ومن بشاعة قومها وما يفعلون بأصحاب الأرض والحق ،   الآن بدأت تستوعب الأحداث المحيطة بها ،وعبرت سرا عن إحباطها لفتاة أخرى معها ، وصارحتها بأنها تحاول التحرر من الافتراءات والتخلص من الأكاذيب التي رسخت في ذهانها سنين بطول عمرها ، تأكدت أنها الآن تعيش الحقيقة لأول مرة منذ ولادتها ، وتقطع حزما أن هناك أشياء تستحق الانتباه ، لقد اعتادت المكان وصارت تعشقه ، مكان أسرها، وتغيرت ملامح وجهها وانبسطت تقاسيمه واختلف ضوء عينيها ، أخبرتها أخريات أن أطفالهم سعداء وغير مستعجلين للعودة ، وأنهم سيشتاقون لمثل هذه اللحظات الدافئة التي لم يشعروا بها كلهم من قبل ، إنه سلام نفسي لطالما بحثوا عنه وسط قوم جروهم إلى مستنقع التحايل والافتراءات  التي لا تنتهي ويبدو أنها لن تنتهي ، سيبقى المكان أجمل صورة ستعلق في أذهانهم وأذهان أطفالهم ، انزوت الفتاة الحسناء تهمس من أعماق نفسها أنها ستبقى أسيرة نظرات شخص أحبته وعشقته ، تمنت لو أنه خبأها بين مقلتيه وهي تعده بأن لن تغادرهما أبدا ، كم كانت شطآن قلبها باردة قبله ، ولكن يبدو أن وجع عشقها لن ينتهي ، فهو لم يعد تحت سيطرتها ، إنه المشهد السحري الجميل الذي تريد أن تغمض عينيها عليه لكي لا ترى غيره، من بعده ، تنهدت تنهيدة عميقة ، أثارت انتباه سيدة بجانبها سألتها عن ما يدور بخلدها ويستحق كل هذه التنهيدة ، كان رد الفتاة غير متوقعا للسيدة حين سمعتها تدعو أن يكون هذا المشهد الجميل في حياتها هو الأخير، لقد كانت تتمنى أن لا تكون هناك هدنة بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة " حماس" ، فلقد عشقت أسرها ، وتلك اللقيمات اللذيذة التي يتناولها السجين مع سجانه وطيبة رشفة الشاي التي حملت معها عشرات الحكايات صحّحت مفاهيم مضللة ومعلومات مغلوطة ، لقد أحست الفتاة أنها إنسان بقلب أبيض طاهر نظيف وأنها في مكان لا يسكنه إلا الشرفاء والأنقياء ، لقد تأكد لدى بعض من معها أنهم كانوا يعيشون وسط قوم يضرون أصحاب قضية لإرضاء مقاصد وطمع نفوسهم  المريضة ، في الأثناء حضر عنصر المقاومة المكلف برعاية الفتاة الجريحة ليغير ضمادتها ، اسـتأذنها بأدب جم ، وأقبل نحوها فبادرته بأن التاريخ سيوثق هذه اللحظة الجميلة التي تعيشها وتمر بها ، صارحته أنهم فرضوا شجاعتهم ووجودهم بكل احترام وإنسانية ، أكد لها أنه يبقى الإنسان إنسانا مهما كان دون تمييز والألم هو الألم عند أي إنسان والفرحة هي الفرحة عند كل البشر ، المهم أن نشعر بآلام الغير وهمومهم ونراعي ضعفهم ، وأن  يدرك الناس أن الحق أحق أن يتبع والباطل باطل ، والظلم ظلمات في الآخرة، لقد لمست الفتاة في الشاب المقاوم صدقا في قوله وهو يحدثها أن المقاومة لا تؤذي الأسرى وأن كل ما يريدونه هو استرجاع أرضهم ، إنهم متصالحون مع أنفسهم وواثقون بعدالة قضيتهم مكملا نحن نقدّر أوطاننا بتقدير ذاتنا التي هي تركيبة من تراب وهواء وماء فلسطين، أخبرها بدون تمهيد أن هناك مفاوضات على الهدنة وعلى تبادل تسليم الأسرى ، وبشرها بأنها ستعود إلى أهلها قريبا ، حينها علت وجهها مسحة حزن لم تخفيها ، إن ما قاله يعني أنها ستفارق هذه العيون الملائكية التي ظلت نظراتها تلاحقه، ولم تكن هذه النظرات تخفى عليه وعلم أنها تتواصل معه بصمت وبلا لغة، ، لقد فضحتها عيونها وامتد جسر الحب من قلبها إلى أبعد من بيوت القدس العتيقة إلى دفء حضنه هاربة من ذكريات مزيفة ، وناس بلا لون، لقد أجزمت أن الحياة  مستحيلة بعيد عن هذا السلام ، أعادت النظر إليه متأنية فيه ، تأملت توازنه المنفرد وفريقه الذي لا يتقنه إلا النبلاء ، فهي ومن معها تعلموا أشياء كثيرة ومفيدة لهم ، تعلم أطفالهم آداب الإسلام في التعامل وأصول النظافة وتجنب الكلام البذيء، وكان شغف الأطفال الأكبر هو السماع في كل وقت للقصص ومعانيها التي يرويها المقاومين كحفظ الأمانة والإيثار والفرق بين الحق والباطل ، وبين العزة والمذلة ، والشرف والوفاء ، تعلق الأطفال بالقصص بلغ حد عدم النوم إلا بعد سماعها أملا أن يأتي يوم يحكمون فيه بعيدا عن الغل والحقد وكذب آباؤهم وأجدادهم ، وذات ليلة بدرت احدى السيدات عنصر المقاومة قبل أن يسرد قصته التي تنشر السلام النفسي بداخلهم أن أجدادهم يقولون أن اليهود هم شعب الله المختار ، فرد عليها أن الدين الإسلامي يقول أنهم خير أمة أخرجت للناس ، والفرق أن المسلمين يحمدون الله  في كل الأوقات ويشكرونه في الخطوب والملمات، لقد انتشرت كلمة " الحمد لله" في كل شعوب العالم لأنها رسالة الإيمان والتوحيد ،أما اليهود فمهما رزقهم الله من فضله كانوا ينقمون ويفترون على الله بالكذب ، إن الإنسان يبقى أخ للإنسان مهما كان دينه وعرقه ووطنه ، أما القوة والعظمة فهي لله رب الكون الذي لا إله إلا هو. إن المرونة في الحياة ليست ضعفا ولا تنازلا في موقف يتطلب المواجهة أو تخاذلا في موقف يحتاج القوة أو نفاقا للوصول إلى غاية، المرونة هي السبب الحقيقي الكامن وراء ذكاء وتفوق وتميز أشخاص يؤمنون بأن لا تعلو على كلمة الحق كلمة أخرى، واصل المقاوم حديثه بعدما لاحظ شدة انتباه الحاضرين له فأكد على أن الوجود في الحياة يتطلب التمييز ولو بالفطرة بين ما هو الشيء الذي يرضي الله وتعيش به ضمائرنا بسلام ، إن الامتنان والشكر هي من صفات المسلم ، والمقاومة تحمد الله على الظروف التي أحيت  القضية من جديد ، فبحجم الأذى والضرر الكبيرين الذي أوجدته إسرائيل لكنه كان اعلاء الشعب لكلمة الحمد والشكر لله. لم تفوت الفتاة الحسناء عينيها عن الشاب المقاوم ، ولم تغب نظراتها عن من ألفته إلى جانبها حتى أصبح جزء من كيانها، تنام على صورته ، وتستفيق على صوته الطيف وتستقبل نهارها على حسن رعايته الطبية لها ، لم يصدر عنه أي تصرف أخلاقي يمكن أن يثير حفيظة النساء الأسيرات، برغم اعترافهم بأن مجتمعهم تحكمه الغرائز والكذب والترهيب والاغتصاب، وفي زحمة الأفكار علا صوت الفتاة  فجأة وأخبرتهن بشجاعة أنها الآن علمت أن المجتمع اليهودي إرهابي ، يسرق الأراضي ويغتصب البنات الأسيرات في السجون الإسرائيلية ويعذب الفتيان في عمر الزهور ويهدم المنازل والبيوت فوق رؤوس أصحابها ، أصحاب الحق فيها ، وعاهدت نفسها لو كان لها عمر ستناصر قضية فلسطين ، وسيكون عليها فضح أكاذيبهم ، لقد آن الأوان أن تتوقف هذه المهزلة ، تتوقف سرقة أراضي العرب ، وسرقة ثقافتهم  وهويتهم ، وتحريف دينهم ، أن تتوقف عمليات سلخ جلود الشهداء واستئصال أعضاء قتلى المسلمين في السجون الإسرائيلية التي تبيحها السامية ، حذرتها أحدى رفيقاتها في الأسر من صعوبة تفسير أو شرح ما يحدث حولهم ، فسلطة الاحتلال لن تتيح لهم هذه الفرصة ولن يصدقهم أحد، وهي إن أرادت التغيير فعليها أن تغير بصمت وإلا سوف يلقون بشرهم عليها، فليس لهم صديق ولا حبيب ، أما هي وأطفالها فسوف يسيرون على النمط الذي ألفوه في الأسر ، في هذه الجنة ، الرحمة ، و يالها من رحمة غمرت قلوب الأمهات والأطفال رغم اختلاف الدين واللغة ، الأسيرات اعترفن بالفضل وبأنهن سيكملون طريقهن في الحياة بهذا النهج الإنساني الرائع ، لقد تعلموا أن يومهم كان أفضل من أمسهم ،. حضر العشاء واجتمع الرهائن مع أفراد المقاومة حوله وهم يتبادلون الأحاديث الودية  في ظل احترام متبادل بينهم . لاحظ بعض عناصر المقاومة حزنا كبيرا في عيون الأسيرات فأرادوا التخفيف عنهم وصارحوهم أن موعدهم غدا ، سيطلق سراحهم  وسيعودون إلى ذويهم ، لم تتمالك الفتاة الحسناء نفسها فأوضحت أن حزنهم بسبب فراقهم ، لقد ألفوا المكان والأحاديث الشيقة التي يريدون سماعها منهم  مرارا وتكرارا ،وبعد انقضاء ليلة طويلة قضوها في السمر ، طلبت الفتاة الحسناء قلما وورقة وكذلك فعلت الأسيرات الأخريات، كتبت كل واحدة منهن مشاعرها بكل صراحة المطهرة بعيدا عن شوائب الحقد  الماضية المسمومة ، كانت مشاعر عفوية صادقة ، ، أما الفتاة الحسناء فكانت مهمومة ،تفكر كيف سيكون حالها بعيد عن تلك الراحة النفسية  التي تعودت عليها، لم تنزعج لرؤية شباب يحملون السلاح ولا يغفلون عن صلاتهم وعن تحضير أدق لوازم الأسيرات وأشدها حساسية و إحراجا ، كانوا يأكلون من نفس الطعام ، لا يهم أصناف المأكولات بقد ما كان يهم السلام بينهم ، إنه شعور الاختلاف العميق الذي يفتقده المجتمع الإسرائيلي، كتبت الفتاة رسالة مطولة وهي في غمرة سعادتها.

صباح اليوم الذي سيفرج فيه عن بعض الأسيرات سلمت كل واحدة رسالتها لمن أحسن معاملتها وترك أثرا طيبا في نفسها، فلم يسبب لها أي صدمة أو جرح نفسي، إنه بالعكس لقد كانوا عائلة واحدة لا تشوبها شائبة من عقدة نقص أو سوء فهم ، اقترب الشاب المقاوم مجددا من الفتاة لتغيير الضمادة على الجرح فسلمته الرسالة على استحياء، كانت عيونه تؤكد له أنه قد طرق بقوة أبواب قلبها، ، لقد أرهقها العشق على مدى 50 يوما بذكريات مخبأة في زوايا قلبها ، إنه لحن المحبين يصر على البقاء ، تسلم الرسالة وخبأها شاكرا لها تأدبها معه ومشاعرها الطيبة نحوه .

خرجت الأسيرات في كامل أناقتهن وزينتهن مع أطفالهن وسط حراسة مشددة لتسليمهن إلى الصليب الأحمر الدولي  وكانت الفتاة الحسناء بينهم تسير متكئة على عكازين وسط عنصري المقاومة وكان الشاب المقاوم أحدهما ، حملت كل خطوة تخطوها نحو سيارة الصليب الأحمر حزنا عميقا ترجم ألم الفراق، كان ودها أن ترجع للخلف خطوات لتطيل المسافة  فتبقى إلى جوار الشاب المقاوم وقتا أطول ،  لكن هذه هي الحرب ، وهذا هو الاتفاق ، اقترب منها بعدما ركبت السيارة ، لمحته وقد غمرها الحب واختلط  بالأسف على الفراق، فضحتها نظراتها ، لقد فهمت من عيونه برغم الوشاح حول رأسه أن القلوب تتواعد على لقاء مع الحرب أو بعد الحرب بين أحياء او أموات بين المعجزات والكرامات ، أخبرته عيونها الناعسة واستسلامها لمشاعر الحب تسري في كامل جسدها بالكثير من الكلام الذي لا يفهمه سواهما ، تمددت في السيارة وابتعد هو قليلا للخلف ملوحا بيده قائلا :باي مايا ، فردت بكل الحب :باي وشكرا .

                                                                                                                 يتبع

                         

مساحة شخصية (7) فيروز ودخولها معمعة الحرب/ فراس حج محمد

 


مساحة شخصية مسروقة رغماً عن الحرب في يومها السادس والأربعين، لنحتفيَ قليلاً بفيروز، ونتذكر عيد ميلادها الثامن والثمانين (21/11/2023). نستعيد الصورة القديمة لفيروز لنقول لها كل عام والفن بخير "والغضب الساطع" المتوهج بغزة والعالم الحر بخير، و"القدس العتيقة" والطفل وأمه مريم بخير، "وجهان يبكيان لأجل من تشرّدوا/ لأجل أطفال بلا منازل"- أطفال غزة، أطفال فلسطين الذين تناثر لحمهم في الفضاء، وصاروا أشلاء بين يديْ أمهاتهم وآبائهم أمام الكاميرات الفاضحة، ليراها العالم العاجز، بل المتواطئ من أجل أن يهدم غزة على رؤوس ساكنيها، ولكن "يأبى الله إلا أن يتمّ نوره" في أرض المعارك، و"لله الأمر من قبلُ ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله".

في الـعشرين من نوفمبر، قبل يوم من عيد ميلاد السيدة فيروز، صادف يوم الطفل العالمي، والمحتل ومؤسساته الثقافية يهدون العالم "أغنية أطفال" أداها أطفال بسن ما قبل المراهقة (6-12) سنة، عمل فني إرهابي بكل ما تعنيه الكلمة، تنضح كلماته بالعنف والفجور والموت، فهذا المحتل يكشف عن بنية خبيثة في تشكيل الوعي لدى الأطفال، ليكونوا معبأين بالكراهية ضد الأغيار، وضد الفلسطيني والعربي بشكل خاص.

نحن في فلسطين لا نعلّم الأطفال كراهية اليهود لأنهم يهود، بل نثقّف أبناءنا بما يجب أن يتخذوه من مواقف حيال المحتل، القاتل، وليس من الأطفال والنساء والشيوخ. معجمنا التربوي مع أطفالنا مختلف تماماً، فنحن غير معبئين بشهوة القتل ضد كل ما هو يهودي أو صهيوني، بل نسير وفق إستراتيجية مغايرة ونقيضة، لذلك ثبت تاريخيا أننا نحن، الفلسطينيين، العرب، المسلمين، متقدمون أخلاقيا على كل الاحتلالات التي عانينا منها في كل بقاع الأرض العربية في ليبيا، ومصر، وسوريا، وفي فلسطين، وفي العراق، فليس هناك من مقارنة بين ثقافتين، واحدة تنحو نحو المحو والإزالة، وثقافة تنحو نحو إزالة الشر عن نفسها ودفع الخطر عن أبنائها لينالوا حق الحياة الكريمة. وثمة صورتان متقابلتان بين دين يطالب فيه الإله بقتل كل من وجدوه في طريقهم، وبين إله الإسلام الذي وجه الناس نحو الرحمة والرأفة والعدل. ثمة فارق بين التوحش والدم، وبين العدل والسلام، لذلك فإنهم هم من قتلوا السلام كما قالت فيروز: واستشهد السلام في وطن السلام/ وسقط العدل على المداخل". فليس لدينا مشكلة مع الناس مهما كانوا، ولذلك نتسامح مع الآخرين، ونحسن ضيافتهم، بل إنهم مع الزمن سيصبحون جزءا منا، لأن ثقافتنا وبنيتنا الذهنية لا تقومان على العنصرية وإلغاء الآخر، كما هو حال المحتل.

ليس هذا خطاباً عنصريا تمجيديا للذات القومية أو الذات الجمعية الفلسطينية العربية أو الإسلامية، بل هذا توصيف تاريخي فكري ثقافي يشهد عليه التاريخ، ولا يحق لأحد أن يزوّره أو يتلاعب به، ولا أن يسلبنا حقّ أن نذكّر العالم فيه، هذا العالم الذي تدوس آلة الشر فيه يوميا على كل الشرائع والقوانين، ولا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكرا، ودنّست كل المقدسات في العالم أجمع، ولا شيء يعلو فوق مصالحها، ولو أدى ذلك إلى القتل والإفناء والتدمير، واستخدام الأسلحة المحرمة، بل لا يوجد عندهم في عرفهم ما هو محرّم، فكل شيء متاحٌ لديهم مباح عندهم من أجل تأمين مصالحهم، فهم أولا وأخيرا، والعالم كله فليبتلعه الطوفان. هذا هو منطق الاستعمار والاحتلال على مر التاريخ وتعاقب الأجيال.

فيروز في هذا السياق وضعت لتقول الحقيقة، وتعيد الأمور إلى نصابها، حتى وهي ممتلئة غضبا وعنفواناً صارخة بقوة "الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان" فإنها مع هذه الموجة الغاضبة لم تفقد بوصلة العقلانية، بل إنها متسقة مع التاريخ والثقافة لهذه الأرض المجيدة الساعية إلى الحب والسلام والعدل والرحمة، فكل ما نادت به فيروز هو أنها تريد أن تهزم وجه القوة. يا له من تعبير إنساني عظيم في وجه الغطرسة القاتلة المتوحشة.

فيروز في معمعة غضبها الساطع آتية لتصلي، فقط لتصلي، لا لتقتل أو تدمر، أو تفني الشجر، أو تبيد الحضارة، فقط جاءت من أجل الله الواحد، ومن أجل مدينة السلام، هذه المدينة التي لم تنعم بالسلام منذ احتلها الغاصبون الأشرار، "فحين هوت مدينة القدس تراجع الحبّ/ وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب"، ولذا فإنه ليس أمامها إلا الغضب الساطع لتحظى بما تريد وتحقق أمنياتها "وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية/ وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية". 

إن هذا العمل الفنيّ لفيروز بديع جدا، في دلالاته على استراتيجيتنا نحن العرب في هذه البلاد، إنها فقط تريد أن تمحو أثار القدم الهمجية، أثار الاحتلال، وما هو أثر الاحتلال سوى القتل والتدمير وحروب الإبادة والفناء.

وأما في أغنيتها الأشهر عن فلسطين "أجراس العودة فلتقرع" فإنّ فيها ذلك النفس المناضل القويّ للعودة إلى الديار، ومن حقّ أي إنسان أن يناضل من أجل بيته وبلده وسيادته ويدفع بالنار النار. إنه لشرف كبير أن يناضل الإنسان من أجل كرامته الوطنية، بل إنه "شهيد" مقدس، فمن قاتل دون مالِه، فقُتل فهو شهيد، ومن قاتل دونَ دمِه، فهو شهيد، ومن قاتل دونَ أهلِه، فهو شهيد"، وكل هذه الدوائر من الحرب واضحة في فلسطين وفي غزة اليوم، فلا بد لنا من أن نقاتل بكل ما نستطيعه من أجل أن نعيش بحرية وكرامة. 

هذا هدف نبيل، ولن يرحم التاريخ شعباً تخاذل أو تنازل عن حقه، ولن يذكر التاريخ- إلا بما يليق به- قائد أمة رضي بالذل والهوان وتعامل مع المحتلين وسالمهم. غزة اليوم تستعيد ما قالته فيروز مؤكدة العودة وحق العودة، ولا شيء غير العودة، ففلسطين وطننا، وليس لنا بديل سواه. لذلك فكلنا نردد مع فيروز:

سيف فليشهر في الدنيا ولتصدع أبواقٌ تصدعْ

الآنَ، الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرعْ

أنا لا أنساك فلسطينُ ويشدّ يشدّ بيَ البعدُ

أنا في أفيائك نسرينُ أنا زهر الشوك أنا الوردُ

سندكّ ندكّ الأسوارَ نستلهم ذات الغارْ

ونعيد إلى الدارِ الدارَ نمحو بالنار النارْ

فلتصدعْ... 

فلتصدع...

أبواقٌ، أجراسٌ تقرعْ... 

قد جُنّ دم الأحرارْ

نعم لقد جُنّ دم الأحرار بعد خمسة وسيعين عاماً من الانتظار، يكفي "لقد طال الشتاتُ وعافت خطونا المدنُ"، من حقنا أن نقاوم، ومن حقنا أن ننتصر، ومن حقنا أن نحطم وجه القوة، ومن حقنا أن نمسح دمعة البكاء عن وجهي عيسى ومريم، وكل أمٍّ فلسطينية وطفل فلسطيني، وأن نغتسل بمياه نهر الأردن لتعود الحياة جديدة نظيفة من أحزان الاحتلال ورجس البطش الهمجي.

تحية لفيروز في عيد ميلادها، ميلاد الحياة والفن والجمال والمقاومة والعزة والشرف والمجد، وتحية للمقاومة التي لم تدخر وسعاً من أجل أن نستعيد الفرح الغامر، وتحية لفلسطين الحضارة الباقية منذ آلاف السنين، وتحية لغزة التي تناضل اليوم من أجل الغاية الكبرى، العودة، ومسح الذل والهزيمة، وترمم الوجوه التي خدّدها الحزن وتعيد البسمة تشرق في "الصباحات الندية"، صباحات فيروز، لتشدو لنا جميعاً:

عم إكبَر وتكبَر بِقلبي

وإيّام اللّي جايي جايي

فيها الشّمس مخبّايِة

إنتْ القوي، إنتْ الغني... وإنتْ الدّني

يا وطني

فكل عام وأنت بخير يا فيروز، وأنت بخير يا فلسطين، وأنت بخير أيتها المقاومة العنيدة التي تقول بملء روح مناضليها: "الغاضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان". وصباح المحبة أيتها المدينة الشامخة، صباح الخير يا غزة.


الحِكمة والمستقبل في كفّ اليد اليمنى/ ترجمة ب. حسيب شحادة



Wisdom and the Future Are in the Palm of the Right Hand

A Story by the High Priest Ya˓qūb Shafīq al-Ḥiftāwi (1899-1987)


جامعة هلسنكي


בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך ב’ עמ’ 379- 388.  


الصحفيّ السامريّ الأوّل

أنتَ تقول إنّي أُعبّر عن نفسي بالعبريّة كما أفعل بالعربيّة؟ نعرف كلانا أنّ في الأمر مبالغة معيّنة. عبريّتي، هي التي تعلّمتها في المدرسة العبريّة. لا، لم أكن تلميذًا في المدرسة العبريّة في نابلس، لأنّي آنذاك، كنت أكبرَ من العمر، بل في مدرسة المحْسن وارن، هناك تعلّمتُ، العبريّة القديمة وليست الحديثة، والعربيّة وقليلًا من الإنچليزيّة. معلّمو المدرسة العبريّة كانوا أصدقائي، داڤيد ميلر وأبْراهام روزين رحمها الله، والمعلّم موشي نيساني، الذي يسكن في نتانيا حتّى اليوم، أطال الله عُمره.

صحيح، العبريّة التي تعلّمتها منهم، لم تُسعفْني في الكتابة بسلاسة. لقد تعلّمت الكثير من صديقي يتسحاك بن تسڤي، رحمه الله، الذي أصبح لاحقًا رئيسَ دولة إسرائيل الثاني. ولكن، كلّ ما تعلّمته غير كافٍ لي، في رأيي. أعتقد أنّه لن يفوت الأوان للتعلّم أبدا. اليوم، في العام 1985، أنا ابن ستّ وثمانين عامًا وكاهن أكبرُ للطائفة السامريّة الصغيرة. جسمي ضعيف وعيناي تعبتا جدّا. لكنّي لن أتوقّف عنِ الاستمرار في تعلّم العبريّة عن طريق القراءة في أعداد الصحيفة/الدوريّة  أ. ب.، التي تمنحونني إيّاها. إنّي أقرأ كلّ كلمة بكلّ لغات المجلّة. هذا يهمّني جدّا، هذه بالنسبة لي طريقة أخرى في مواصلة التعلّم.


قراءة الكفّ

في البداية، كما تعلم، عملتُ مراسلًا في صحف الصباح العبريّة في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن العشرين، واعتشتُ من ذلك. بعد حرب العام 1948، جلست في بيتي، نبشت ونبشت في كتب الفكر والبحث وتعلّمت حِكمة قراءة كفّ اليد، وما لم أتعلمه منها، أتممته بالتجربة في هذه الصنعة المبنيّة أساسًا على الحكمة وتجارب الحياة. زاولت هذه المهنة سنواتٍ كثيرة، فيها كنت بعون الله أزجي النصائح الحسنة لطالبيها الكُثر.  ومنذ أصبحتُ كاهنًا أكبرَ، توقّفت عن هذا العمل، ولا حاجة له إلا نادرا.

لستُ بحاجة لأحكي لك عن شُهرتي مطبّقة الآفاق، التي كانت لي في هذه الصنعة، لا سيّما بعد حرب العام 1967، عند قدوم الكثيرين من اليهود (في الأصل: بنو يهودا) الذين طلبوا منّي قراءة مستقبلهم الكامن في كفّ اليد.

تسألني في ما إذا كانت هنالك بركة في هذه الصنعة؟ ليكن الله في عوني، ويشهد عليّ أنّني لم أشكُّ قطّ بخصوص  قدْر الدخل،  وكلّ ما حصلت عليه من هذا العمل استثمرْته في أولادي. عدد مؤيّدي هذه الصنعة أقلّ بكثير من عدد معارضيها، ويرون بها خديعة وذلك، كما يبدو، جهلًا، ففيها الكثير من البركات من حيث التجربةُ الجمّة التي أثرتْني في تعرّفي على طبيعة البشر، مشاكلهم وأخطائهم، عند مجيئهم إليّ طالبين منّي قراءة كفّ اليد. نعم، تعلّمتُ كثيرًا عن طبيعة الإنسان من صنعتي الخاصّة.

أتودّ سماعَ بعض القصص؟ في جعبتي الكثير منها. لقد أمسكت بيدي اليمنى أيادي يُمنى كلّ هلقدّة كثيرة بكلّ الألوان، الأشكال والأحجام. وعليك أن تعرف، هنالك في عالمنا رجال ونساء كثيرون كلّ هلقدّة، يرون في قراءة الكفّ  وتخمين مستقبلهم، مخرجًا لكلّ مشكلاتهم وأسقامهم. كانت أيّام، أسابيعُ وأشهر، لم تنقطع فيه رِجل الإنسان من مكتبي في نابلس حتّى للحظة واحدة. ولكن اليوم، لا أمارس هذه الصنعة، وعدد القادمين إلى نابلس أسبوعيًّا بالكاد يصل إلى عشرة. 


ولدان اختفيا

بماذا تذكّرني؟ نعم، قصّة تلك المرأة التي حلّت بها مصيبة، اختفاء ولديها الصغيريْن. بُذلت جهود كثيرة على مدى أيّام كثيرة، لمعرفة مكان هذين الولدين، ولكن بلا نتيجة. لم يتوقّف أمل الأمّ  في العثور على ولديها في آخر المطاف.

توجّهتْ إلى كبار الحاخامات ليصلّوا من أجلهما. ذهبت إلى السحرة والعرّافين المنتشرين في هذه البلاد. كلّ واحد منهم قال لها أنّه سيُعثر على الولدين قريبا. آخ، كم كانت مسكينةً هذه المرأة. ذهبت إلى كلّ الأماكن التي ذكرها العرّافون لها، مؤكّدين لها بوجود ولديها هناك، إلا أنّها عادت بخُفّي حنين. لم يُعثر عليهما. اهتزّت كلّ البلاد؛ بقي موضوع الولدين المختفيين شغلَ الصحافة الشاغل. توقّعوا كلَّ يوم رجوعَهما إلى البيت بسلام.

يئستِ الأم من كلّ المنجّمين، والسحرة والمشعوذين وخبيري أوراق اللعب، وقارئي الأبراج.اِنتابها اكتئاب شديد للغاية، وبكلّ ما تبقّى من قوّتها، تابعت تقاريرَ الراديو والتلفاز بصدد ولديها المفقوديْن بعيون ممتلئة بالدموع. آخ، كم تعيسة كانت هذه المرأة، ليرحمنا الله برحماته الكثيرة. لا أتمنّى لأيّ عدوّ ما شعرت به هذه الأمّ الخاصّة.

يد الله جمعتني بهذه الامرأة. إنّك حتمًا تذكر كيف أنّنا دُعينا اثنانا ذاتَ يوم، للاشتراك في برنامج تلفزيونيّ بعرافة يَرون لُنْدن ”صاحبنا“ (في برنامج: عَلِي كوتيرِت، 1981، التلفزيون الإسرائيليّ). اِستغلّ مقدّم البرنامج فرصة استجابتي للمشاركة في برنامجه، فوضع كفّه بيدي كي أقول له شيئًا عن مستقبله. هذا البثّ قد أشهرني بشكل غير عاديّ، لدرجة أنّني لم أجد وقتًا للراحة مدّة شهور عديدة. الأمر الأساسيّ، هو أنّه من بين مشاهدي البثّ، كانت هذه المرأة التي لم يتمّ العثور على ولديها بعد، وانتشرت شائعات تقول بأنّ جهة معاديةً قد تكون قد خطفتهما.

أذكُر تسلسلَ الأحداث. لن أنسى لقائي بهذه الامرأة أبدًا، بالرغم من شيخوختي المتقدّمة. اِتّصلتْ بكَ [ּأي: الأمين/بنياميم صدقة، محرّر أ. ب. أخبار السامريّين] أوّلًا مستفسرة عن كيفيّة الوصول إليّ. في آخر المطاف، وصلت رأسًا إلى مكتبي في نابلس، وأنت اهتممتَ بإبلاغي عن قدومها سلفًا.

هذه الامرأة، كانت فريدة من نوعها. على الرغم من ظهرها المنحني حزنًا على فُقدان ولديها، بدا في عينيها الأملُ بأنّي قادر على مدّ يد العون لها، كشف مكانهما. جلستْ قُبالتي منفعلة، هائجة، متألّمة. شفِقتُ عليها. عرفتُ بأنّني بعون الله فقط، أستطيع إيجاد الإجابة المرضية لها.

مدّت إليّ كفّها اليمنى. شرحتُ لها معنى خطوط كفّ اليد. خطّ الحظّ وخطّ طول العمر، خطّ الخصوبة وخطّ الشبه. على حين غِرّة، بينما كنت أفحص كفّ يدها، رأيتُ بين هذه الخطوط الجواب عن سؤالها غير المنطوق (الأخرس) بخصوص ولديها. تجربتي المديدة علّمتني بعد جهد كبير كظم انفعالي. اِنتظرتْ ما سينطق به فمي.

لم  أنوِ  أن أقول لها شيئًا إذا كانت الإجابة محزنة. كانت معنويّات (إيمان) الامرأة في الحضيض لدرجة أنّ إفشاء الحقيقة لها كان سيقضي عليها.

ماذا تقول لي عن ولديّ الصغيريْن يا سيّدي الكاهن؟ حثّتني الامرأة.

قلتُ لها: لا أستطيع أن أقول لكِ شيئا، سوى أنّ الله الطيّب يعرف الجواب لمحنتك ويساعدك برحماته الوافرة. اِذهبي بسلام وناظر الكلّ يرى حالتَك، ويعينك في ساعتك الأصعب.

ربّتُّ على كتفها وعزّيتها بكلمات مشجّعة. الجواب الصحيح كان في رأسي، إلّا أنّه ما كان ليشجّعها. غادرت مكتبي والشكّ في عينيها أخذ بالتضاؤل. في اليوم التالي، أعلنت وسائلُ الإعلام عن  العثور على الولدين، غارقين في بِركة مهجورة بالقرب من مكان سكنهما. لقد عرفتُ عن موتهما من رؤية كفّ يد أمّهما.

نعم يا بِيني (بنياميم، الأمين)، هذا هو بيت القصيد، كفّ اليد اليمنى، تزوّد كلَّ من يهتمّ بنفس الإنسان واستشراف مستقبله بالمعلومات الكثيرة. في الكفّ تفاصيلُ كثيرة عن الماضي، لا سيّما، تفاصيل يحاول إبعادها إلى ما وراء وعيه. أمور تعلو وتطفو في وعيه في اللحظات العصيبة.


قراءة كفّ يد وزير الخارجيّة الأردنّي

ما أودّ أنّ أقصّه عليك هي قصّة مثيرة جدًّا للاهتمام، حول كيف من الممكن رفع رؤساء حكومة وعزلهم عبر رؤية كفّ يد واحدة. هذه القصّة الخاصّة حدثت معي قبل العام 1967. وكنتُ آونتَها أيضًا ذائعَ الصيت في أرجاء المملكة الهاشميّة، إذ أنّني أمارس قراءة الكفّ منذ أكثرَ من ثلاثين سنة.

في ساعة مبكّرة من صباح ذات يوم، وقفتْ قُبالة مكتبي سيّارة فاخرة جدًّا، وبدا عليها أنّها لأحد وجهاء حاشية المملكة. في السيّارة كان السائق فقط. سألني، هل أنا الكاهن يعقوب شفيق/بن عزّي، جاوبته بالإيجاب. لا تسألني أيّ شيء- ردّ السائق، لقد أُمِرتُ بأن أُقلّك إلى فِناء المملكة في عَمّان؛ جهِّز نفسك؛ غدًا قبل شروق الشمس سآتي لأقلّك  بحسب ما كُلّفتُ به.

عرفتُ حال رأيته مَن مُرسل السائق من سيّارته. أَحبّ سيّدُه السفرَ بسيّارة فاخرة  وبالطراز ذاته دائما. وعندما رأيته تذكّرتُ زيارة سيّده.  لن أذكر اسمه احترامًا له،  ولكن في تلك الأيّام، عند زيارته لمكتبي شغل الرجل منصب وزير الخارجيّة في حكومة الملك حسين. تعرفُ أنّ آلافًا من الناس زاروني في مكتبي، وحتمًا ليس بمقدوري تذكّرهم كلّهم، ولكن زيارة وزير خارجيّة شيء آخرُ لا يُنسى بسرعة. على كلّ حال، أذكر زيارة وزير الخارجيّة الأردنّي لمكتبي، وكأنّ  ذلك حصل البارحة فقط.

نظر إخوتي الكهنة باندهاش شديد، كيف يتكبّد وزير الخارجيّة الأردنّيّ عناء المجيء إلى باب مكتبي. أوّلًا كان عند الكاهنين الشقيقيْن عِمران وصدقة اللذيْن عرفهما جيّدًا، وطلب منهما أن يجمعاه بالكاهن أبي شفيق الخبير بقراءة كفّ اليد، بحسب ما علِم من أصدقاء زاروني.

أرسل الكاهن صدقة ابنَه يوسف ليخبرَني عن نيّة وزير الخارجيّة الأردنّيّ لزيارتي في مكتبي. بلا أيّ تأخير، وقفت لاستقباله عند باب المكتب. فحص اليافطة أمام المكتب وداخله  بفضول، ثم التفت إلي وابتسم.

لقد سمعتُ عنك من أصدقاء في عمّان، عن خبرتك الثريّة في تخمين مستقبل الشخص، وَفق كفّ يده. دعنا نرى ماذا تقرأ في كفّ يدي. ضحك وزير الخارجيّة، أمّا أنا فشعرت بإرباك ما لإطرائه الجمّ. خشيت لئلّا يرشدني الله في ذاك اليوم لإنجاح مهمّتي. تمتمت بعض كلمات عن أنّ كلّ شيء متعلّق بإرادة الله، إلا أنّ هذا الرجل الثريّ بالتجارب، أنهى كلامي بابتسامة خفيفة.  حتمًا، سمع ذلك الكلام من آخرين زارهم بهذا الشأن وتوقّع منّي مفاجأة حقيقيّة. 

عرّفتُ زوجتي عفاف على وزير الخارجيّة، وتكريمه بما أعدّت ممّا لذّ وطاب كعادة الشرق. بعد كلمات شرح قليلة لحالة الطائفة، إذ أنّني حرِصتُ على أن يسمع رأيي حول ما يمكن مساعدة إخوتي السامريّين، مدّ ضيفي الوجيه كفّ يده اليمنى. فحصت بعناية وجهَ الكف. كانت هذه الكفّ كثيرة جدًّا بالخطوط، التي خبّأت قصصًا كثيرة وتجاربَ على مدى حياته. سردت له ما أجده عن ماضيه، عن حاضره وعمّا يخبئه المستقبل.

قلتُ له بحذر: إن أرشدني الله إلى الطريق السليم، ها كلّ ماضيك ومستتقبلك خفيّ بكفّ هذه اليد. كفّ يدك تقول لي بأنّك قد تزوّجت امرأة أحببتها كثيرًا في البداية، إلّا أنّ حبَّك لها برد بسبب قصّة حبّ تعيشها اليوم. بالرغم من أنّك متقدّم في السنّ، ثمّة حدثان رائعان في حياتك. بالنسبة لحياتك الشخصيّة، من المتوقّع أن تطلّق زوجتك ابنة شعبك وتتزوّج من حبيبتك الأجنبيّة. وفي حياتك العامّة تنتظرك فترة أوج، وظيفتك الحاليّة ستكون أدنى من الآتية. سيرفعك الملك حسين إلى الأعلى، إلى الأعلى. هكذا يُرشدني الله تعالى بقراءة كفّ يدك.

كفّ يد وزير الخارجيّة الأردنّيّ رجفت وهي بكفّ يدي. نظر إليّ بعدم تصديق واضح مرّةً، وبدهشة كبيرة مرّة أُخرى.

حقًّا، صدقتَ بصَدَد رغبتي في تطليق زوجتي ابنة شعبي، وسبب ذلك قصّة حبّي مع حبيبتي الأمريكيّة. لكن لا أحدَ يعلم بذلك سوانا، أنا وهي، والآن وصلك الخبر من الله، إلا أنّي لا أُصدّق شيئًا واحدا. ها أنا أشارف على عام السبعين من عمري، فما هو المنصب الذي يُعدّه لي الملك حسين كما تقول. ها أناعلى عتبة التقاعد النهائيّ، من منصبي كوزير خارجيّة؟

بوُسعي أن أقول لك فقط، إنّ كفّ يدك لا تشي بالمنصب، لكن إذا دخلنا في التخمينات>  فإنّي لن أُفاجأ إذا كان ذاك المنصب رئيس الحكومة - قلت ذلك بتردّد كبير، وقبل أن أُنهي حديثي صرخ وزير الخارجيّة غير مصدّق. 

ماذا تقول، فهذا غير ممكن، لماذا سيختارني أنا العجوز من بين كلّ المحيطين به والأصغر سنًّا منّي؟

يبدو لي أنّ تجربتك الثريّة هي التي تجذب اهتمام الملك، أجبتُ وزيرَ الخارجيّة.

صافحني وزير الخارجيّة بحرارة شديدة مودّعًا إيّاي، وفمه ينطق بكلمات عدم التصديق. وفجأة، جلس كمن يودّ إضافةَ شيء ما.


عرّاف خدّاع من لندن

هيّا أقول لك، أنّ هذه التجربة التي عايشتها في مكتبك اليوم، لا نظيرَ لها في حياتي. في أثناء مُكوثي في لندن ببعثة الملك في لندن، طلبت ألّا تكون لي لقاءات، فخرجت للتجوّل برفقة موظفيّ الكبار في شوارع المدينة العِملاقة. في ما كنت متمتّعًا بتَجوالي في شارع أُكسفورد، من أطول شوارع لندن، لفت نائبي الماشي بجانبي انتباهي، إلى يافطات ملوّنة على بيت كبير فاخر، في رُكن شارع جانبيّ متصالب مع شارع أُكسفورد.

رُسمت على اليافطات دعاياتٌ، توجِّه الناظر إلى قاعات الطابق الأوّل في العِمارة، وتعلن عن مسكن ”أكبر الخبراء في العالَم في قراءة كفّ اليد“. وقرأت في اليافطات، أنّ نسبة دقّة قراءة كفّ اليد هي 100% نجاح. وقد كُتب في إحدى اليافطات: مقابل دفع مبلغ محترم، يقرؤون لك مستقبلك حسنَ السُّمعة من خلال كفّ يدك.

بالطبع، أُثير حبُّ استطلاعي على الفور. كلّفتُ مرافقيّ أن يُمهّدوا طريقي إلى مكتب الخبير في الطابق الأوّل. تبيّن أنّ الطريق إلى غرفته لم تكن ميسّرة. جيش من السكرتيرات استقبلنا عند دخولنا القاعة في الطابق الأوّل.  دور طويل من الزبائن، الذين ضربوا موعدًا منذ شهرين، ينتظرون دعوة الخبير. عُلّقت على الجدران جداول ومخطّطات مشفوعة بشروح تفصيليّة، لكل خطّ وخطّ في كفّ اليد. وهنالك في جداول أُخرى، داخل إطارات كبيرة، رسوم بيانيّة وتفاصيل إنجازات الخبير، التي تبرِّر بحسب رأيه أن يكون ”الخبير الأشهر في العالَم في قراءة اليد“.

اِنتظرتُ قليلًا وأنا أنظر بتردّد على دور المنتظرين الطويل. كان ذلك يوم زيارتي الأخير للندن. لم يخطر ببالي مطلقًا أنني سأفوِّت فرصةَ مقابلة الخبير العظيم. استخدمت الوسيلة المعروفة. بابتسامة لطيفة وبمبلغ ماليّ محترم، مُهّدت طريقي أخيرًا إلى غرفة المتخصّص، مصحوبة بتذمّر المنتظرين.

دخلت إليه وحدي، إذ أنّ الأمر برمّته مبنيّ على الخصوصيّة. لقد شرحتْ سكرتيراته له مقدّمًا من أنا إلخ. ليتركّز بقراءة الماضي وبتخمين المستقبل فقط. فحص كفّ يدي وقارن ما رآه مع عدد من الجداول المعلّقة على الجدران. بعد ذلك، قال ما قاله بثقة كبيرة لدرجة أنّي بالكاد تماسكتُ ولم أُقهقه.

سرعان ما تبيّن لي، أنّ الرجُل مخادع ومتخفّ. لقد أسهب في الهُراءات. كلّ ما قاله عن ماضيّ لم يمُتّ للواقع بأيّة صلة. بالطبع، لم أصدّق ما قاله عمّا ينتظرني في المستقبل القريب والبعيد. أستطيع أن أقول لك بثقة كبيرة، إنّ الرجلَ كذّاب. لو كانت أوقاتي بيدي، لقمت أنا ورجالي بقلب مكاتبه عليه، ورفع دعوى قضائيّة ضده في وزارة الخارجيّة البريطانيّة.

لذلك عجبي منك عظيم، ختم وزير الخارجيّة الأردنّيّ كلامَه. أنتَ، بدون كلّ الجداول والرسوم البيانيّة، وبلا تحديد أجرة تعبك، قلتَ لي بدقيقتين هذا الكمَّ الهائل، من الحقائق عن ماضيّ وعن حاضري، وأدهشتني بما يخصّ مستقبلي، لدرجة أنّي أتركك بحَيرة عظيمة.

مدّ يده إلى جِزْدانه، حاولتُ ردَّها، ولكنّه أصرّ أن يدفع بسخاء. بعد أن منح ما منح، صافحني ثانيةً ودخل سيّارته.

ما لكَ؟ سألني سائق وزير الخارجيّة،  والآن السائق الشخصيّ لرئيس الحكومة - ألم تسمع كلامي جيّدا؟

سِر في طريقك! قلتُ له، سأكون جاهزًا للسفر غدًا باكرا.

الحياة بلا امرأة أصعبُ من الحياة معها

وفى السائق بوعده، فوصل مدخل مكتبي في الساعة المحدّدة.  دقّت ساعة الحائط الكبيرة العتيقة التابعة لجدّي يعقوب، خمس دقّات عند خروجي إلى السيّارة. جلست في المقعد المنجَّد بقُماش مُخمليّ أزرقَ ذي ملمس لطيف جدّا. وعلى ظهر مقعد السائق، بار صغير للمشروبات الباردة والساخنة. بالطبع، لم أُفكّر في استعماله. سيّارة البويك الأمريكيّة كانت أشبه بسفينة أحلام طويلة وسماويّة الزرقة (على زَراق). هذه السيّارة الفاخرة، التهمت بدون جُهد محسوس للمحرِّك، الطريقَ بين نابلس وجسر أَلِلنْبي، على نهر الأردن. 

لم أطلب من أيّ فرد من عائلتي أن يرافقني. كبار أولادي العشرة، جاؤوا وقبّلوا يدي اليمنى، متمنّين لي رحلة موفّقة، على الطائر الميمون، والعودة بسلام، وكذلك زوجتي (زوجة حِضْني، في الأصل). إنّ ساعاتِ السلام التي عِشتها معها، تعادل آلاف الأيّام من عدم الارتياح التي عرفتها بدونها.

اِعرف يا بيني (بنياميم/الأمين) أنّ العيشَ مع امرأة عقبةٌ كأداء، وثمّة محنة أشدّ منها وهي العيش بدونها. هم عرفوا، بأنّي سأتغيّب بضعة أيّام، وما سموّ مكانة الرجل الذي استدعاني لقصره في عمّان. هم عرفوا أنّه رئيس حكومة الأردن بلحمه وشحمه.

هكذا كنت أهجِس،  والسيّارة مسرعة بجانب مخيّمات اللاجئين المبنيّة من الطين والوحل البنّي. بدأتِ الشمس تعلو وتعلو. الصباح كان حارًّا، مع أنّي لم أحِسّ بالحرارة لوجود تهوية منعشة في السيّارة. السائق لم ينبِس ببنت شَفة طوالَ كلّ الطريق. يبدو لي أنّه سلك بموجب تعليمات تلقّاها، وأنا من جهتي لم أحاولِ استدراجه للحديث.


ثلاثُ غانياتٍ إسرائيليّات

كانت لديّ أفكاري الخاصّة، حولَ مهنتي غير العاديّة بامتياز. إن أردتَ، هذه عمل، وإن أردتَ فهي تجربة حياة، وإن شئتَ فهي وسيلة تعرُّف على أُناس كثيرين جدّا.

في بعض الأحيان، حدثت لي حوادث اتّسمت بالتسلية. تعلمُ، ذات يوم، دخلت بيتي على الجبل ثلاث حسناوات إسرائيليّات. واحدة شعرها أسودُ كلون الغراب، الثانية شقراءُ والثالثة شعرها عسليّ. كنّ جميلاتٍ لدرجة أنّي أستطيع أن أقول لك، إنّ خمسَ بناتي فقط تفوقهن جمالًا، نعم، نعم، لا أنسى ذكرَ خمسة أبنائي.

وضعتْ كلّ واحدة منهنّ كفّ يدها الغضّة بكفّ يدي، مفعمة بالخشية، ومرتجفة ممّا سأقول لها عن ماضيها، حاضرها ومستقبلها. تعرف يا بيني، الأعمى هو الوحيد الذي ينكِر الجمال الذي خلقه الله. تحدّثتِ الثلاث بالعبريّة الحديثة عن تجاربهنّ بصوت عالٍ، وبالضحك الخافت على ما قرأته في يد كلّ واحدة منهنّ. 

اِنجرفتُ، دون أن أدري، مع حديثتهنّ وتبادلنا الكلام عنهنّ وعن مسقط رأسهنّ. كلامي وأسئلتي أثارا ضحكهنّ المدوّي. هنّ لم يتوقّعن أنّ كاهنًا سامريًّا ابن الشرق، كيّس جدّا، في السبعينيّات من عمره، أن يتصرّف بشكل غير تقليديّ. وسُرعان ما انجذبتُ لضحكهنّ وبدأت أُقهقه.

توقّف ضحكي دفعةً واحدة، عند سماع صوت زوجتي عفاف التي أطلقت من المطبخ تنهداتٍ بصوت عال، مقلّدة ضحكي، فأعادتني إلى أرض الواقع. اِنتبهتِ الحسناوات الثلاثُ لتنهّدات زوجتي، وبما تبقّى من حيْلهن، بعد أن دفعن لي بيد سخيّة، غادرن بيتي وهنّ متشنّجات بضحك مكظوم. 


السَّفَر إلى رئيس الحكومة الأردنّيّ

في آخر المطاف، الوجهاء، أصحاب المكانة المرموقة، همُ الذين لا يُنسَوْن. السؤال الثاقب الذي يُشغلني كثيرًا هو: ما الذي يجعل أشخاصًا ناجحين جدًّا، ووضعهم متين وثابت، يأتون إلى مكتبي طالبين معرفة حظّهم المرسوم بيد الخالق في الكفّ الداخليّة ليدهم اليمنى؟ الله أعلمُ!

كلّما كثرت وتكرّرت هذه الحالات، بدأت أجد جوابًا ولو جزئيًّا عن هذا السؤال. في حالات ليست بالقليلة، كلّ الجمال والنجاح، الغِنى والمكانة المرموقة، كانت بمثابة غطاء وهميّ لنفوس مفعمة بالإحساس والعذاب. إنّ كفّ يدهم حكت لي قصصًا حزينة، وأكدت لي بأنّ ما في الإبريق مختلفٌ تمامًا ممّا تراه عيناي.

لكن، ما بي أُمطرك بأفكاري الفلسفيّة؟ إنّك ترغب في معرفة ما كان مصير ذلك السفر إلى عمّان. وصلنا إلى وِجهتنا  في الساعة التي فيها سخّنت شمس الظهيرة الساخنة، أسْطحَ قصور جبل عمّان، تلّة مساكن الملك ووزراء الحكومة.  

أسرع السائق ليفتح الباب الخلفيّ. انتظر قُدومي موظّفان يرتديان بدْلتين أوروبيّتين، مَخيطتيْن جيّدًا واستقبلاني بالتحيّة المألوفة: أهلًا وسهلًا. هززت رأسي مُرحّبًا بهما فأشارا لي إلى الطريق. دخلت بوّاباتِ القصر الفاخر، مسكن رئيس الحكومة.

دخلت غرفة إثر غرفة، حتّى الغرفة الأخيرة، حيث وقف شخص قُبالتي، مدّ يده لمصافحتي وأخبرني بأنّه من مساعدي رئيس الحكومة الكبار، واستفسر عن حالي وفي ما إذا كنت أشعر بإعياء ما بعد السفر الطويل. هززت رأسي يمينًا ويسارا، شاكرًا له الاستقبال اللطيف. شرح لي أنّ رئيس الحكومة قد كلّفه أن يُحضرني إليه حالَ وصولي شرطَ ألّا أكون  تعبانًا من السفر. أجبتُ مجدّدًا بأنّي غير متعب، وأنّي مستعدّ للقاء رئيس الحكومة فورا.

شكرني المساعد ورافقني إلى غرفة رئيس الحكومة. وقبل أن ألاحظ رئيس الحكومة الذي نهض عن كرسيّه متوجّهًا نحوي، كنت جدّ مندهش من منظر الغرفة. كنت أتوقّع أن أشاهد غرفة مؤثثة بأفضل طراز يصمّمه الخيال الشرقيّ، لكن بدلاً من ذلك استقبلتني غرفة مؤثثة على الطراز الغربي، تتميّز بخطوط حادّة ومربّعة، دمجٌ منَ النيكل والزجاج الشفّاف.

قابلني رئيس الحكومة بابتسامة عريضة، أسرعت إليه وتعانقنا بحرارة. كان هذا الرجُل نفسه، ذو الطلعة الوقورة والمثيرة للإعجاب، الذي زارني في نابلس حينَ كان وزير الخارجيّة. بالرغم من أنّه كان أكبرَ سنًّا منّي بسنوات غير قليلة، بدا أصغرَ سنًّا منّي. سُرعان ما غُصنا في محادثة حيّة عن أخبارنا منذ زيارته لي في مكتبي في نابلس. قلتُ له إنّي تابعتُ أخبار القصر الملكيّ عن كثَب. سعِدت عند سماعي بأنّ تنبّؤي حول تعيينه رئيسًا لحكومة الملك، قد تحقّق. 

وكذلك أعربتُ عن فرحي بأنّ ما قلته له عن حياته الخاصّة، قد غيّر رأيه بشأن تطليق زوجته. إنّّه قرّر إبقاءها معه في الوقت الراهن، رغم أنّه لم يقطع علاقته مع حبيبته الأمريكيّة، وكذلك اهتمّ بتلبية كلّ احتياجاتها وأسكنها في بيت فاخر بالقرب منه. زوجته عرفت ذلك وقبلت على مضض بـ-”تمرّده/عصيانه“. يجوز للمسلم أن يكون مع أكثرَ من امرأة، بحسب القرآن وهنالك مسلمون كثيرون يمارسون ذلك.


زوجة رئيس الحكومة الأردنّيّ

في النهاية، بعد أن كشف هامسًا بأذني كلَّ ما كان دفينًا في قلبه، أفصح لي عن سبب دعوته لي لبيته. هو عامل زوجته، أم ابنه باحترام كبير، إلّا أنه لم يُحبّها كما في البداية. وفي الآونة الأخيرة لم تكن على ما يُرام. اِستدعى لها خيرةَ الأطبّاء من الشرق والغرب، ولا أحد تمكّن من تشخيص حالتها، إلى أن طرأ بمخّه أن يستدعيَني لبيته، لعلّ الجواب عن سبب عدم نومه ونوم أفراد بيته يكون كامنًا في كفّ يدها. 

أجبتُ، سأُلبّي رغبتهم، وليكن الله عوني ليرشدَني إلى الإجابة الصحيحة. بينما كنا نتحدّث، دخلت زوجته. لم أرها قطّ، ولكنّي شعرت بأحاسيسي المرهفة بأنّها موضوعُ حديثنا.

قدّمها لي رئيس الحكومة. حقًّا كانت زوجته. حافظتْ على رباطة جأشها، وردّت بأدب شديد على تحيّاتي. شرح رئيسُ الحكومة لها ولابنها الذي أتى معها، غايةَ مجيئي. ابتسمتْ غير مصدّقة وبملامح رافضة كأنّها قالت: ماذا يستطيع هذا أن ينفع بعد؟ 

هي تركتْنا. قال لي رئيس الحكومة، بأنّهم يفضّلون أن أرى كفّ يدها في غرفتها الخاصّة للحفاظ على كامل سريّة الموضوع. لا حاجة لأن يعرف أحدٌ الغرضَ من زيارتي. ابنها رافقني إلى غرفتها.

 كانت كفّ يدها مثيرة للإعجاب، ككفّ زوجها. لم أكن بحاجة للانتظار طويلا. خطوط يدها روت لي قصّتها. موقفُ زوجِها المتحفِّظُ، هو الذي تسبّب في روحها العاصفة. شرحتُ لها بهدوءٍ بأنّ زوجها يحترمها جدًّا، ولن يتركها. كما قلت لها إنّ خطوط كفّها، تهمِس لي بأنّ روحها الهائجة ستهدأ قريبًا. وبدا لي، أنّ كلامي كان كالبلسم لنفسها المنهَكة. 

دخل اِبنُها طويلُ القامة مذعورا؛ أقسم بأنّ أحدًا في القصر، لم يسمع منذ مدّة مديدة، ضحكَ أُمّه. لقد ضحكت ثانيةً وقدّمت لي الحلويات . 

هلّا ألقيتَ نظرةً على كفّ يد ابني؟ قالت. مدّ يدَه بقلق. نظرتُ إليها وذُهلت. كانت شبيهةً جدًّا لكفّ يد أبيه.

ستصبح رئيسَ حكومة،  قلتُ. 

ما الذي يجعلك تفكِّر هكذا، سيّدي الكاهن؟ سأل.

حقًّا، هكذا كان، عندما قلتُ.