رسالة بولس وثمار الروح/ جورج عازار



عندما كان يُصدرُ أوامرَ الجَّلدِ بحقِ أولئك المساكين، الذين اختاروا طريق النُّور، كان بولس: يدعى شاؤول الطرسوسي، وعندما كان في طريقه إلى دمشق لاعتقال حنانيا، وسمع صوتاً يهتفُ به: شاؤول شاؤول، لماذا تضطهدني؟ حينذاك صار شاؤول بولس، وبين شاؤول وبولس، مسافةٌ قصيرةٌ، مُجرد خيطٍ رفيعٍ يفصل الَّليل عن النَّهار، ومنذ ذلك الحين صارت الحياة الأرضية عند بولس، مُجرد عبورٍ واستعداد للتطهير للحياة الحقيقية بعد الموت.

ولد بولس الرسول في طرسوس في ولاية كيليكية في آسيا الصغرى، من أعمال الإمبراطورية الرومانية، وكان روماني الجنسية، وقد مات حوالي سنة 67 م في روما، وقد لقّب بـ “بولس الرسول" و "رسول الأمم"، ويعتبر بحقٍ من أعظم رجال تاريخ المسيحية.

غيّر اسمه إلى الرسول بولس بعد ما كان اسمه شاؤول، وبقي من أنشط المبشرين بالمسيحية في القرن الأول، وقام برحلات متكررة من دمشق في الشرق الأوسط وأسّس عدة كنائس في آسيا الصغرى وأوروبا، فثار اليهود عليه ولاحقوه، ثم قبضوا عليه وسجنوه في دمشق، ولكن أتباعه قاموا بتهريبه عن طريق إنزاله في قفصٍ من فوق السّور لإنقاذه من بطش اليهود.

 أراد أن يعملَ للخبز الباقي، وأيقن أنَّ: "من يزرع في تُربة الجسد يحصدُ الفساد، وأن من يزرع في تُربة الرُّوح، يحصد ثمار الرُّوحِ، في هذه التربة يليقُ حصادُ الغِبطةِ".

ولأنَّه أراد أن يجد ذاتَه ضيَّعها: "حينما أنا ضعيفٌ، فحينئذ أنا قويٌ"، ولما عانقت جبهتُه الحقيقةَ ...تحرَّرَ، وبعدها خسر الموت شوکته: " أین شوكتك يا موت؟ أین غلبتُك يا هاوية؟".

 تعلَّم أول وأهم الدُّروس، وهو العيشُ بمحبةٍ فمارسها: "فالمحبةُ هي تكميلُ الناموس، المحبة تتأنَّى وتَرفق.. المحبةُ لا تحسِدُ.. المحبةُ لا تتفاخرُ، ولا تنتفخُ، ولا تطلب ما لنفسها.. ولا تحتدُّ ولا تطلبُ السوءَ ولا تفرحُ بالإثمِ، بل تفرحُ بالحقِ وتحتملُ كُلَّ شيٍ، وتصدقُ كُلَّ شيءٍ، وترجو كُلَّ شيءٍ، وتصبرُ على كُلِّ شيءِ.. المحبةُ لا تسقط أبداً".

عاش بولس كصخرةٍ راسخةٍ وسط البحر الهائج.. عانى من السَّجن والجَلد: "العادل كان مقيداً والمجرم كان يجلس على العرش"، قيَّدوه بالسلاسل سبع مرات ورجموه.. ولكن أبداً ما خارت قِواه ولا لانت عزائِمُه: "اذا كان الله معي فمِمّا أخشى؟"

لذلك خاطب "أونيسيموس" قائلاً: "لا تخف من العلامة التي كووا بها جبينك فالمكويون الحقيقيون هم الذين كووا أنفسهم". ويؤكد شيشرون ذلك حينما يقول: "من يهرب من ارتباطات الحياة مثلما يهربُ من سجنٍ، يعش عيشة حقيقية وحده.. فحياتكم هي موتٌ"

رغم أنَّ بولس كان حائكاً ينسجُ على النُّولِ، لكنَّه كان تاجر بضاعةٍ أبداً لا تَبورُ: "التقوى مع القَناعة فهي تجارة عظيمة" و"محبة المال أصلٌ لكُلِّ الشُرور".

أنكر بولس ذاته "ليس من مدح نفسه هو المُزَكَّى بل من يمدحه الرب"، ولأنَّ من يريد أن يكون منسجماً مع أفكاره، عليه أن يُقرنَ القولَ مع الفعلِ، "فالكثيرين يعترفون بأنَّهم يعرفون الله، ولكنَّهم بالأعمال ينكرونُه".

تعرَّض بولس للاضطهاد وللتعذيب من قبل اليهودِ، لأنَّه كان قد تجرَّأ على المقولات اليهودية المتزمِّتة، وألغى خصوصية المعتقد التوراتي، وتتالت أفكاره لتنزع عنهم ادعاءاتهم الزائفة: "ليس يهوديٌ ولا يونانيٌ... ليس عبدٌ ولا حرٌ.. ليس الختانُ بشيءٍ، ولا الغُرلَةُ بشيءٍ، لا فرق بين اليهودي واليوناني لأنَّ رباً واحداً للجميعِ"، ويُعلنُها صَراحةً:" ليس عند الله محاباة، والإنسان لا يتبرَّرُ بأعمالِ النَّاموسِ، بل بالإيمانِ".

 لم تستطع سنوات الأسر والسِّجن والمطاردةِ أن تُغيِّرَ شيئاً من قناعات بولس الذي صار مُبشراً للشرق والغرب. ولأن بولس أخذ بالمجان مجاناً أعطى: "طوبى للذي يعطي أكثر مما يأخذ".

حزن بولس كثيراً حينما تركه تلميذه ديماس فقال: "ديماس تركني إذ أحَبَّ العالمَ الحاضر". أمَّا بولس فأحبَّ الحياة الحقيقية: "أُجرة الخطيَّة هي موتٌ، وأمَّا هبةُ الله فهي حياةٌ ابديةٌ"، ولهذا نراه يصرخُ بلا خوفٍ: "من يُخلِّصُني من جسدِ الموت؟".

عاش بولس بتولاً، ما استطاعت مَلَّذاتُ العالم أن تُطَوِعَهُ، كان يدركُ أنَّ محصِّلة المعادلة في النهاية معروفةٌ: "لأنَّنا لم ندخل العالم بشيءٍ وواضح أنَّنا لا نقدرُ أن نخرجَ منها بشيءٍ"، 

ولذلك ترسَّخت قناعته: "متى جاء الكامل فحينئذ يبطلُ ما هو بعضٌ ". 

آمن بولس بالرُّوحِ فهي الأبقى: " لا تطفئوا الرُّوح، اسلكوا بالرُّوح، فلا تُكملوا شَهوةَ الجَسدِ، فإنَّكم إنَّما دعيتُم للحُريَّةِ أيها الأخوة.. الحقيقة تحرِّرُ".

قضى بولس معظمَ سنوات عمرِه في التبشيرِ، كما تعرض لفترات سجنٍ طويلةٍ وعديدةٍ، دامت إحداها أربع سنواتٍ، غادر بعدها للتبشير في اسبانيا وغيرها، ثم أُعيد سَجنُه، وهذه المرة في عام 67 م، وأُجريت له محاكمةٌ جديدةٌ، وفي صباح يومٍ بائسٍ من صباحات خريف 67 م في مدينة روما، اُقتيدَ بولس من سجنه إلى ساحة الإعدام، حيث تم إعدامُه بالسيفِ، وكان آنذاك قد تجاوز الستين من عمره، في عهد الامبراطور الروماني حارق روما

 " نيرون " والذي أقدم على الانتحار، في عام 68 م، بعد فترة حُكمٍ مليئةٍ بالفظائع والمجازرِ.

وهكذا اختتم بولس رسالته بكلِّ أمانةٍ وجدارةٍ، ولم ينسَ أن يطلب قبل موته أن ينقش فوق قبره " الحياة عندي هي المسيح والموت ربح".

وأخر السطور نتركها لأديب وفيلسوف ألمانيا "جوهان غوته" الذي قال: "في كل يومٍ كانت مئات المراكب والسفن ترسو في ميناء أفسس، إلا أنَّها لم تحمل يوماً من الأيام حِملاً أثمنَ من الحِمل الذي حمله مركب بولس".

  ستوكهولم - السويد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق