قصة قصيرة: الثمـن/ مجدي جعفر



حفاة كنا نجرى في الوحل والمطر والويل لمن يقع .. نجرى وقلوبنا وجلة ، وأنفاسنا  لاهثة  : " اجري يا واد اجري .. سيلحق بنا "  "على بُعد خطوات منا ،لا تنظر خلفك .. اجري ".

 ويأتينا صوته المرعب  : " لن أدعكم تفلتون منى هذه المرة يا أولاد الـ... "

وفلتنا منه هذه المرة ، وأمسك بنا من قبل مرات  ، وأشبعنا ضرباً ، ولكنا أبداً لم نكف عن التسلل إلى الجنينة طمعاً في سرقة العنب والبلح والبرتقال والخوخ والليمون ، فجنينة البيه لا أول لها ولا آخر ، فيها من الفواكه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، لا يحول بينها وبيننا سوى " حمد " الذى يخفرها ، فكنا نبغضه ونخشاه وندعو عليه بالموت.

نأخذ ما نجحنا في الحصول عليه من فواكه ، نتقاسمهما ، ونتبادلها ، فالعنب أحبه أنا ، وليلى تموت في البلح ، وفي غفلةٍ من الزملاء أدس في جيبها البلح وتسرب هي لي العنب ، أنظر في عينيها ، وتنظر في عيني ، يدور بيننا حوار  صامت خفي ، أكتم ضحكة ، فتوئد هي بسمة ، ونعود إلى اللعب بعد أن نأكل ،وليلى معي دوماً لا ضدي .

ويوماً بعد يوم .. بدأت ليلى تضيق بنا وبألعابنا ، ظننت أن أحداً ضايقها أو أغضبها فأقسمت أن أعرفه ، وأضربه ، بل أقتله ، فمن ذا الذى يجرؤ على مضايقة ليلى أو إغضابها!! ، هو ابن سنية القرعة .. أعرفه ، لسانه برئ منه" .

" لا .. صدقني .. أنا بس اللي تعبانة ".

.. وانسحبت ليلى ، فأحسستُ بأن اللعب فقد معناه ، ورحت أرقبها وهى عائدة ، شعرت بخواء غريب ، وتضاءل الكل أمامي ، ولم أتمالك نفسي فعدوت خلفها ، ولحقتها بالقرب من الجنينة ، فاستوقفتها ، ورحت أحادثها :

 " ليلى .. أحقا أنت تعبانه ؟" 

نظرت إلىَّ ونظرتُ إليها ، تسلل إلى قلبي بريق عينيها ، فأحسستُ به يختلج ، عاجلتها بالحديث ، همت أن تنطق ، ولكنها في آخر لحظة ترددت ، ابتلعت الكلمات ، ذابت على شفتيها ، يحدثني قلبي بأن ثمة شئ ما يقلقها ، بأنها تحمل هماً في قلبها الصغير ، فقلت وأنا ألمح دمعاً يترقرق في مقلتيها .

= خبريني ليلى عما بك ، فأنا أفعل المحال من أجلك.

 ابتلعت ريقها وحملقت في  اللاشئ وقالت في صوت كسير:

- أنـا .. 

= " أنت ماذا " 

وقبل أن تنطق ، خرج " حمد " فجأة وانتهرني قائلاً  : " قلت لك ميت مرة يا بن الملعونة ما عدت تمر من هنا ".. فعدوت ، وأفزعني أن أراه يأخذ ليلى من يدها .. ويسير بها إلى داخل الجنينة ، تسمرت مكاني فاغراً فاهي كالأبله ، لا أصدق أنى سأصبح بدون ليلى بعد الآن ، وقعت في قبضته ، الويل لها إذاً كل الويل ، بكيت خوفاً عليها ، ومن بعيد رحت أزعق بأعلى صوتي .. ليلى.. ليلى ، لعلَّ صوتها يأتيني فأطمئن عليها ، فلم يتناه إلى مسامعي ما يؤكد أنه يضربها فصمت مخيف يخيم على المكان وسكون مرعب يلف الدنيا كلها ، لا بد أنه قتلها ، نعم ، لابد أنه خبطها بيده الطرشة على نافوخها ، فهوت ، وماتت  ، جلست أبكى تحت الصفصافة ، ولا أدرى ماذا أفعل من أجل " ليلى " ولكنى أفقت دهشاً على ليلى بجانبي ، وحجرها مملوء بالبلح والعنب والجوافة ، فقلت دهشاً :أنت ليلى أم عفريتها ، خبرينى .. ماذا فعل بك حمد ؟  وأنى لك بهذه الفواكه؟! 

 لَوت بُوزها وعلى غير عادتها جلست تأكل ، ولم تعطني شيئاً .

.. أيقنت أن حمد ذو قلب رهيف ، وعزمت بيني وبين نفسي ألا أتسلل إلى الجنينة خلسة بعد اليوم ، فأستئذنه في قطف عنب أو ثمرة جوافة ، وجهرت بهذا الخاطر لليلى ، بيد أنها لم تُبد رأياً. 

..وذهبت إليه أطلب منه العنب بيد أنه سبني ، وجرى ورائي ، وكاد يضربني ، فضحكت ليلى وقهقهت ، فتملكني الحنق الشديد ،وصفعتها على وجهها ، فنحبت وأجهشت ، وقفت أنظر إليها ورأسها محشورة بين ذراعيها ، ودموعها تتسَّاقط على خديها ، أحسست بجرم ما فعلته ، فجلست إلى جوارها أترضاها، ربت على كتفها ، هدهدتها ، مسحت دموعها ، رفعت ذقنها لأعلى ، نظرت في عينيها المغرورقتين بالدموع ، مررت بيدي على خدها ، فكفت عن النحيب ، انسابت يدي إلى عنقها ، وقعت يدي على صدرها، ارتجفت ، وأنا أقبض عليهما .. وصرخت في ضعف : بالراحة، وابتلعت ريقي وأحسست بخدرٍ لذيذ يتسلل إلى بدني وأنا أضمها إلى صدري بعنف - وصرختُ ملتذاً ، حينما كان حمد يعدو نحونا - فعدوت - ومن بعيد رأيته يتسلل وليلى إلى الجنينة ، فظللت أبكى وأبكى .. وتمنيت لو معي سكيناً أغمده في قلبه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق