يخطئ من يعتقد أن طبيعة التطورات في قطاع غزة تختصر القضية الفلسطينية، لأن الأمر يتعلق بدولة بكل أركانها ، التراب الإقليمي ، الشعب ، والسلطة السياسية الموحدة وليس في مجرد تسوية حياة بضع آلاف من المواطنين يريدون لقمة العيش في سلام.
لغة السلاح في عقيدة الكيان الإسرائيلي المحتل هي في حقيقتها الثابتة ورقة ضغط هامة لأنها تمنحه إمكانية التلويح بها في كل مناسبة والتهديد بها في كل موقف لإرهاب وتخويف خصومه والتأثير على مواقفهم لتغيير طبيعة الواقع مهما كانت إفرازاته، ومن أجل هذا تضمن له عدد من القوى الكبرى تمتعه بمستوى عالي من التفوق العسكري على جميع الجيران العرب لفرض الوجود بالقوة المسلحة، ولا بأس إن امتدت مظاهر الحياة العسكرية في الثكنات إلى كل مجالات الحياة في المجتمع كله وصار مجتمعا عسكريا يجند النساء ليمثلن الاحتياطي العسكري الاستراتيجي للكيان من منطلق ضمان الجاهزية القتالية والتوثب الدائم وأن السلاح الحديث في اليد هو صمام الأمان لضمان حياتهم، ووجودهم مرتبط به، فبالسلاح يتعامل الكيان الصهيوني مع الواقع من خلال إعادة تشكيله وفق تصوراته وبما يحقق له أطماعه في الاحتلال والتوسع، فوجود الكيان الإسرائيلي في قلب الوطن العربي هو لأمر أدركناه منذ عشرات السنين ، وما زالت الأيام تحمل الخطوب التي تؤكده لكل الأجيال أنه وسيلة وغاية ،هو موطأ قدم للقوى الكبرى في إطار سياسة التطويق والحصار ، وغاية تفرضها استراتيجية تأثير التواجد الغربي بالقرب من مراكز صنع القرار العربي، وعليه يتم الإيعاز بأن بقاء الوجود الإسرائيلي ضرورة دولية ولو على حساب مستقبل الدول العربية ومصير شعوبها .إن من لا ثقافة سياسية له يجد في العنف وسيلته لتحقيق هدفه.
أما المنطق السياسي فإنه يتعامل مع الواقع حسب معطياته وليس بما يجب أن يكون عليه، وهذا الواقع هو دائما في حالة تغير مستمر، لذا لا يوجد ما يمكن وصفه بالمطلق في الواقع السياسي، ومن هنا كانت كيفية إدارة الواقع هي منبع وجود مناهج سياسية متعددة ومختلفة في العالم ، وهذا في حد ذاته عمل حرفي ومهنية تستند إلى علم حديث ومعرفة واسعة وخبرة حياتية مكتسبة ودهاء حميد مصحوب باستخدام القوة واللجوء إلى الحيلة ، ويساعد تحليل منطق التوظيف السياسي لمعطيات الواقع في فهم قواعد اللّعبة التي تستقر أو تنتظم من حولها مسألة التبادل في المجتمعات الديمقراطية، لأنها تفيد في إعطاء نظرة أولية حول ديناميكيات المنافسة السياسية وبلوغ هدف التّسويات السلمية الدائمة بين الأطراف والخصوم في القضية السياسية في مختلف مستوياتها ممن خلال الحوار الواعي والناضج ، والمفاوضات السياسية المسؤولة .
يخوض قطاع غزة حاليا صراعا دمويا مع قوات الاحتلال و يعاني أهله وضعا مأساويا يحمل نذر الكارثة الحياتية بعد فرض سلطات الاحتلال اجراءات تهجير أهله من منازلهم في المناطق الشمالية نحو المناطق الجنوبية من غزة وتعرضهم لخطر الموت في العراء جوعا وعطشا وبردا وقتلا، هذا هو منطق العنف ولغة سلاح العدو المحتل لتثبيط العزائم ثم كسر الإرادة في استمرار المقاومة ، وفي المقابل تأمل الشعوب المحبة للعدل والسلام أن تلقى دعوتها من أجل حل القضية الفلسطينية حلا سلميا بالمفاوضات استجابة فورية من جانب سلطات الاحتلال لحقن الدماء ووقف نزيف الدم من الجانبين ، ولكن معطيات الواقع تعطي مؤشرات على عدم وجود استعداد اسرائيلي لوقف إطلاق النار وهي بهذا تضع نفسها في موقف تحدي المجتمع الدولي ودعوات السلام ، هذا هو طبع المحتل ، طبع قبيح مهما تجمّل ، جبان مهما أظهر من شجاعة مصطنعة .
وفي المقابل حققت المقاومة الفلسطينية مكاسب عديدة حيث تفهّمت شعوب العالم موقفها واستوعبت أبعاد قضيتها ، بعدما شاهدت وتأثرت بمناظر العنف والوحشية في القتل والتخريب والهدم، ولكنها في ذات الوقت فندت ذات المناظر افتراءات واتهامات سلطات الاحتلال ضد المقاومة، فكم تساوي عيون الفتاة الإسرائيلية"مايا " المفعمة بالامتنان والتقدير لعنصر المقاومة عند وداعه بنظرات الحب والاحترام ، وكم تساوي تلويحة الوداع المتبادلة بين الأسيرات الاسرائيليات وعناصر المقاومة ، وكم تساوي مشاهد الفتيات الإسرائيليات في كامل أناقتهن وزينتهن وهدوئن في طريقهن لركوب سيارات الصليب الأحمر ، كم يساوي حمل عنصر المقاومة بكل لطف تلك المرأة المسنةإلى السيارة ، وغيره الكثير ، وللأسف كان حال الأسرى الفلسطينيين مثيرا للشفقة وقد بدت علامات التعنيف تعلو الوجوه، وسمع العالم كله الشهادات حول تعرضهم لكل أشكال الإهانة والمهانة للنيل من كرامة الأسيرات الفلسطينيات والشباب صغير السن.
مصير غزة الآن بين قوة السلاح بيد سلطة احتلال مجنونة ، وبين دعوات متحضرة لتغليب لغة الحوار لإيجاد حل سياسي بالوسائل السلمية للقضية الفلسطينية وفق مبدأ حل الدولتين، جنون إسرائيل يعميها عن رؤية الحق ويحجب عنها حقائق التاريخ وأسرار الجغرافيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق