التجريد اللغوي في قصيدة الشاعرة السوريّة: نوّار أحمد الشاطر- عراء التيه/ كريم عبدالله


يقول  كاندنسكي : من بين جميع الفنون فأنّ التجريدية أصعبها , أنّها تتطلب أن تكون رساماً وعالي الحساسية والأدراك بالألوان والتراكيب وان تكون شاعراً حقيقياً , والشرط الأخير اساسي .

نحن نستخدم اللغة من اجل إيصال معنى معين وواضح ومفهوم الى المتلقي , فهي تعتبر ( اللغة ) أداة توصيلية , ولكننا في القصيدة التجريديّة نقوم بتجريدها من هذه الخاصية , لنقوم بشحنها بزخم شعوري عنيف, وإحساس عميق, وبطاقات تعبيريّة, وعمق فكري, والنفوذ في الوعي , ففيها لا نرى الشخوص والأشكال , فنحن لا نرى سوى المشاعر والأحاسيس المنقولة لنا عبر هذه اللغة , أنّها تبتعد كثيرا عن خاصيتها التوصيلية ومنطقيتها , أنّ اللغة هنا تكون أشبه ما يكون بالألوان التي تزيّن وتلوّن اللوحة , المقاطع النصّية هنا عبارة عن كتل شعورية حسّية , فكلما يزداد تجريد اللغة كلّما قلّت التوصيلية فيها , مما يؤدي الى حدوث التجريد التامّ , فتكون المفردة عبارة عن وحدة جمالية شعوريّة حسّية تتخلّى عن خاصية التوصيل المعرفي . التجريديّة هي الشعور العميق والنفوذ الى جوهر الأشياء .كما في هذا القطع النصّي:

صرير أبواب الذاكرة لا ينام أبداً ، عويل الدموع يفتك بمفاصل الصمت ،من الصعب جداً إقناع قلب  يقتات على صوتك بأن يكف عن البكاء .

فهنا نلمس مقدرة الشاعرة على تجريد لغتها, وتجعلنا نستشعر بكتل حسّية ملوّنة المشاعر والأحاسيس المرهفة ابتداءً بصرير الأبواب إلى عويل الدموع في مفاصل الصمت, وإلى قلب عصي عليه أن يقتنع ويقتات على صوت الذات الأخرى , طلباً ورجاءً بأن يكفّ عن البكاء, نرى بوضوح مقدرة الشاعرة على النفوذ إلى جوهر الأشياء- المفردات بعدما نزعت عنها خاصيتها التوصيلية , وجعلتها قادرة على نقل المشاعر والأحاسيس .

وكما قلنا أنّ ما يميّز الكتابة التجريدية هو تقليلها الاعتماد على توصيلية الكلمات ومنطقيتها , أنّها تعتمد على ثقل الكلمات الشعوري وزخمها الإحساسي وطاقتها التعبيرية , أنّ اللغة التجريدية تصل الى المتلقي قبل ان تصل اليه المعاني , فيدرك المتلقي النظام الشعوري والإحساسي قبل التوصيلة , وكما في هذا المقطع النصّي الجميل:

سنام الشوق نما في عراء تيهي ، أشواقي مضت كعاشقة أظمأها الحب تلاحق صهيل سرابك في قوافل الحلم والأمل يتشربها حتى أخر قطرة وهم .

اضافة إلى الأنزياحات اللغوية في لغة الشاعرة , هناك نتلمس رذاذ لغتها التجريدية حين ينمو سنام الشوق في عراء التيه, والأشواق تمضي كعاشقة أظمأها العشق والهيام ,وتتركنا الشاعرة نلاحق قوافل لغتها الغضّة المشبعة بطاقة الحنين , مما يجعل المتلقي يقف حائراً متسائلاً: ما الذي تعنيه الشاعرة ؟! أنّ اللغة التجريدية تحتاج إلى متلقي حاذق يجيد قراءة هذه اللقاء , ويغور عميقاً بين مقاطعها النصيّة من أجل أن يعود محملاً بكمّ هائل من المشاعر الملوّنة والأحاسيس المرهفة.

أنّ اللغة تعتمد على نقل الإحساس والشعور , فتتجلّى هذه المشاعر والأحاسيس دون خاصيتها التوصيلية والمحاكاة والمعنى . أنّ المفردات في اللغة التجريدية لا تحكي عن معان , وإنما تحكي عن ثقل شعوري وعاطفي واحساسي , أنّها مفردات ملوّنة بالشعور وليس بالتوصيل , يجب على الشاعر التجريدي أن يدرك الأدراك القوي بالبُعد الإحساسي والشعوري للكلمات والمعاني , وان يقتنص اللحظة الشعورية العميقة والقويّة . لا يمكننا ان نتصور المفردات دون قصد او تعبير عن شيء ما , لذا اعتقد الكثير بأنّ الكتابة باللغة التجريدية هي كتابة هذيانية ورمزية مغلقة ودون معنى واضح , ربما هذا المعتقد صحيح الا أنّها ليست كذلك , كونها لغة تنطلق من العوالم العميقة والشعور العميق وهذا مهم جداً أن يظهر أثر ذلك في اللغة وتؤثّر في نفس المتلقي , وكما في هذا المقطع المدهش:

بعثرني الغياب…لم أعد إلا هشيم حياة تذروه رياح الآهات ،فلا واحة تحتضن تشتتي ولا مرجاً ترعى فيه خيول لهفتي السارحة على بساط الخيبة .

نلاحظ هنا أنّ اللغة لا يمكن أن تكون هذاءات أو طلاسم, أنما هي لغة مثقلة بالهمّ الإنساني, والتشظّي, والخيبة, هي عبارة عن كُتل من الهموم ,والتشتت , واللهفة, وكأننا أمام لوحة تعبّر بصدق عما في أعماق الذات الشاعرة , دون أن نلمس منها توصلية في المعاني.

الكتابة التجريدية لا تكون الاّ بلحظة شعورية عميقة وقوية وبإدراك إحساسي كبير للمعاني, وبتجلّي تلك اللحظة الشعورية ,وذلك الثقل الإحساسي في الكتابة , حيث يتجلّى الثقل الإحساسي للكلمات, وإيصال اللحظة الشعورية العميقة والقوية , ففي التجريدية تصبح الكلمات الواناً ,والعبارات لوحات ,والنصوص مهرجانات .

لم يعد في العمر متسع  للأوجاع ، جراح الروح أدمت أوجه البواح ،سأستعيد نفسي منك ،وأطلق سراح قصائدي من سجن معانيك ،حكايتنا خنقها اليباب ،قلبي اليتيم سأكفل شجون أحزانه وأهدهدها في جنة النسيان .

وهكذا تشعّ اللغة التجريدية , وتبعث في روح المتلقي صوراً من الجمال تتلألأ مشرقة حين تنعتق القصيدة من سجن مفهومها التوصيلي, وتتخلّى عن خاصيتها التوصيلية على حساب نقل المشاعر والأحاسيس , صوراً ملوّنة برّاقة.


القصيدة:


عراء التيه

صرير أبواب الذاكرة لا ينام أبداً ، عويل الدموع يفتك بمفاصل الصمت ،من الصعب جداً إقناع قلب  يقتات على صوتك بأن يكف عن البكاء .

سنام الشوق نما في عراء تيهي ، أشواقي مضت كعاشقة أظمأها الحب تلاحق صهيل سرابك في قوافل الحلم والأمل يتشربها حتى أخر قطرة وهم .

بعثرني الغياب…لم أعد إلا هشيم حياة تذروه رياح الآهات ،فلا واحة تحتضن تشتتي ولا مرجاً ترعى فيه خيول لهفتي السارحة على بساط الخيبة .

 لم يعد في العمر متسع  للأوجاع ، جراح الروح أدمت أوجه البواح ،سأستعيد نفسي منك ،وأطلق سراح قصائدي من سجن معانيك ،حكايتنا خنقها اليباب ،قلبي اليتيم سأكفل شجون أحزانه وأهدهدها في جنة النسيان .


 نوّار أحمد  الشاطر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق