ليبيا شَظَايَا نَوَايَا/ مصطفى منيغ



حيَارَى كلهم يتساءلون ما العمل ؟؟؟ ، فيتصدَّى الجواب يجرحهم دون كَلَل ، تلقائياً تَعَالَى من ضمائرهم خِنجراً مبلولاً بالنَّدمِ عن ضياع عهدٍ جميل بما حَمَل ، كانت "ليبيا" به ومعه في أتمِّ زينتها فاتنة خواطرِ الغَربِ بما هو أثقل من الثقيل يتحدى ذاك المُفْسِد الحاضر والمُستقبل ، الطَّمَع في امتلاك أرضٍ رمالها مَكْسَب  زينَةِ مَن كَسَب ومذاق جوِّها للأرواح ألذَّ مَشْرَب وهواؤها أزيد من عَلِيل حليف الأمل ، جوْفها بحر من نفطٍ وجوانبها الغائرة تحت الثرى والحجر معادن نظيرها في المعمور قلِيل بشهادة مكتوبة أو حقٍّ يُقَال  ، مساحتها تستضيف ولو مليار نسمة وتضاريسها تلال وكثبان  وهضاب و سهول وجبال ليس لها مثيل حتى في الخيال ، شُطْئَانها رافعة أضخم البواخر إن قَرِبَت اليابسة لإفراغ حمولاتها تلتمس اليسر الشامِل بغير عوائق أو عِلَل ، الفارزة المَرْبوح عن مقايضة المتوفِّر غَرْباً بما هو مَحَلِّي سائل مُسَال ، أساس طاقةٍ دافعةِ التطوُّر مهما كان المُحَرِّك لصناعة المأكول أو المُدافِعِ في يدي جُنْدي بدونه يبدو الأخير هزيل  الإقدام بدهن مُهَلْهَل ، منهم من حالف مصر الجارة منذ الأزل  ، وفيهم مَن عانق تركيا كبريق اصطناعي للمستقبل، ومنتسب لهم أطاع أمريكا صاحبة القوة والنفوذ والمال  ، و آخر محسوب عليهم فضَّل انجلترا بما لها من الحكايات ووقائع الغزو الأطوال  ، ومشابه لهم انساق خلف ألمانيا أو فرنسا كفتي كماشة تتوسط داخلها  أساليب الاستغلال ، وجماعة انحازت حنيناً للماضي إلى إيطاليا قاتلة المطالبين ساعتها الاستقلال ، وأحرى رأت في روسيا الاتحادية السند المناسب الأفضل ،   ليبقى  الليبي جسداً ممزَّقاً تحوم فوقه أسراب من ذباب ..  محمّلة بما التقطته عن روث ذئاب ..  تنثره مفرقعات لإبعاد الرأس عن الأطراف  عسى الجو يخلو لمشروع تجزئة الوطن على حَمَلَةِ سلاحِ أكثر مِن عَلَمٍ يرفرف على المُقتطَعِ ممَّن كان اسمها الجماهيرية العربية الليبية  العظمى المعرَّضة لأسوأ اغتيال ، مَن حسبوا تدخّلهم الفوضوي ثورة هدفها إرجاع "ليبيا" مِن حيث لا بداية وإنما نهاية قبل النهاية ، تيقنوا أن ما سبقهم ألحقَهم حيث يتخبطون بغير إدراك أي منفذ منه يتسلَّلون خوفاً من محكمة التاريخ التي تلاحقهم مهما كانوا خلف مَن يظنون  أنه منقذهم من جزاء غضب ينمو ما بقي الأجانب الدخلاء ، يتمرَّغون بما حققوا من وصول وبقاء ، على ارض شُنِقَ من أجل تحريرها المجاهد الشهيد عمر المختار ، تجولوا غبر أقطارٍ لتصريف ثرثرة تقتضيها مسرحية الدفاع عن لمِّ الشَّمل الليبي ، متناسين أن المُفرِّق لا يتناسب ومهمة الجَمع ، اللهم إن كان الغرض إقصاء انجازات الماضي بمحاسنها وما أكثرها ، والاكتفاء بالحاضر المُشوَّه بشعارات محرَّرة جُمَلها بلغة مستوردة ، قيمة صلاحيتها لا تدوم سوى لظروف معيَّنه ، ريثما ينفق المحتلُّون الجدد على نِسبِ الغنائم المستحوذين عليها بوسائل لم تعد خفيَّة على أحد ، يولولون جهراً إذ المصيبة فاقت مخاطرها ما نبّهتهم لسيول قادمة  قد تجرف وجودهم ، بعدما تفنَّنوا في تقديم ما طُلِب منهم لينتهي ريحهم حيث القذف المبرمج مسبقاً لطمس مآثرهم وتيك نتيجة مَن يفرِّط  في أصله المُستقل وسط وطنه المُحرَّر لحسابات بأبعاد مدمِّرة مِن تخطيط انتقام مقرر مِن طرف قوى أهمها دولة عربية ، حينما كانت كلمتها سارية المفعول بإمكاناتها المالية الضخمة لدى الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة .


الانتقام خلاصة كُرْهٍ ينفردُ بتوجيه العقل عساه يضعف ويتخلَّى على جزء من عوامل التعقل ،  تمنح فسحة ولو ضيِّقة من التوقيت لممارسة تصميم مُبتَغَى القاتل أو المقتول ،  شديد الخطورة تارك الأثر غير المحمود الخارج عن المعقول ، يتعرض له طرف ثاني مقصود بكل التوضيحات العمليَّة وليست المقتصرة على القول ، المطلوبة كالبيانات المرسومة  المعزَّزة بالوسائل المستعملة المُرًتّبة العَرضِ والطول ،   المتأرجحة بين الخفيفة و الثقيلة المضبوطة حسب الاختيار الدقيق لكفاءات المنفذين أصحاب التصويب كحلٍ وحيد غير متبوع بمزيد حلول ، وما أصعب الانتقام إن عَشْعَشَ في مخيِّخ حاكم مالِكٍ للثراء المتجدِّد كل يوم به لكل ما يريد بلا عناء تحقيقه لا يطُول ، أحسَّ بإهانة موجَّهه لعظمة ما يتمتع به من سلطة يسمو بها لغاية التقديس فوق رؤوس شعبه محمول ، داخل إحدى مؤتمرات جامعة الدول العربية المنعقدة في جو مشحون بغضب شعوب عربية مهول ، حيث ألقَى لسان معمر ألقذافي سهماً أصاب كبرياء ذاك الحاكم فيضيف لسلسلة أعدائه عدواً له في الغرب وأمريكا ما إذا طلب منهم لا يتأخرون إذ سيفهم للتلبية مسلول وفق تعويض جد مقبول ، لم يكترث القذافي بالمجموع المُنتظر الفائق الاستعداد للنيل من شخصه كانتقام فظيع لنفسه يؤول ، وهو المتزعم لبلاد مشرِقِيَّة أو أمريكية جنوبية تكنُّ العداء العلني للولايات المتحدة الأمريكية  بغير جفول ، وما واقعة "خليج سِرْتْ" البالغة الذروة يوم 19 من شهر غشت سنة 1981 سوى بداية أراد بها الرئيس الأمريكي "رِجَنْ" تنبيه القذافي أن مصيره لعالم الضياع مشتول ، زد على ذلك تسرّب نفوذ نظرية القذافي في الحكم إلى كل من دولتي " تشاد" و "بنين" و بِئْسَ تطاوُل ، حسبته فرنسا المتضايقة من ذلك تضايقاً لا يوصف اعتبرته ناقوس خطر ينبه لما قد يصيب مصالحها داخل القارة السمراء وكأنها لذات البلد الأوربي من الذيول ، طالما حسبتها موضوعة بطريقة غير مباشرة تحت وصاية أبدية لها كما تقتضيه حسب ظنِّها  الخُصول .


... هناك مَنْ ضيَّع على القذافي نجاحه المُطلق لما ابتكره من نظرية غير مسبوقة تضمن في الأقصى وجود مجتمع ينمو بغير الطريقة المتبعة عبر العالم منذ قرون ، لِسانُه وليس شيئاً آخر فلو التزم الموضوعية في الكلام وأخذ العقول بما يؤثر رويداً رويداً على فهمها الحقيقي لجذور الموضوع بغير ضغط أو تشنُّج أو إبراز ترفُّع سببه التحقير ، لقطع بدل الشوط ما قبل الأخير أشواطاً لا يمكن بعدها لبشرية العالم المتحضر قبل غيره ، السماح لعدم  اعتناق لب ما جاء في تلك النظرية القادرة كانت على الانتقال بالإنسان من مرحلة الاستغلال مهما كان نوعه إلى الاستقلال المسؤول ، وتلك آفة الآفات رافقت القذافي حتى فتحت عليه أبواب خصومات دولية متنوعة المقاصد والمرامي ، ليتضخم الصراع بين المصالح الصادرة عن نظريات ليس للعرب لهم فيها أي نسبة اجتهاد أو ابداع أو ابتكار ، تتحكم فيهم ولا يستطيعون منها الخلاص ، بل حولتهم ودولهم محطات استهلاك حتى وإن بلغوا درجة لا يستهان بها من الإنتاج ، الذي لا يغطِّى حاجاتهم من المواد الأكثر استعمالاً في المحافظة على توازن القِوى الضامنة سلامة السيادة ، في عصر لم تعد القوانين الدولية قادرة على إيقاف اعتداءات الفارضين ظلمهم  بصناعات الحداثة وما تهيمن به من منتوجات الدمار تطال حتى الشأن الفكري . 


يتناهَى لمسامع جَيلٍ ليبي صاعد تغليط محبوك بعنايةِ مُزوري التاريخ في فصوله الأخيرة مِن حديثه عن حدثٍ لن يتكرَّرَ كالوقائع الجميلة التي كادت منافعها تسود داخل ليبيا لولى تعاظم التكالب عليها لتُباد ، على أيدي صُنَّاع الزحف للوراء مدبري شرور تأخير أمة ليبية عربية مسلمة عن انجاز مكرمة التقدم التقدمي في أي غد ، بغرض إعدام المُشيَّد على منح الدليل أن العربي  الليبي قادر على تدبير الشأن الإنساني بما هو حق مشروع كلما الفرص متساوية بين الجميع في تناول اليد ، للإبقاء على الهيمنة الغربية بدل المتوفر المحلي النقي المصدر المُستخرج عن دراية علمٍ موجَّهٍ من عقل مُشبع بالإيمان مُحْتَرِمٍ مهما حَكَمَ صاحبه حقوق  الإنسان ، أطلقوا عي انتفاضتهم غير المُبَرَّرة شعار الثورة ،  التي لم تكن صراحة غير تبيان لما قد يُطبَّق عليها مجازا "عورة" ، تلازمهم صورها بأبعادها الثلاث ما عمَّروا ،  بإيعاز من قِوى خارجية تمكَّنت الركوب على ظهورهم للإطاحة بما كان صرحاً مُقاماَ تتباهي به ليبيا مدى الزمن .


... للمرة الأولى وكذا الأخيرة ، استطاع شعب عربي مسلم أن يحكمَ نفسه بنفسه ، تيقنتُ من ذلك مباشرة في عين المكان داخل ليبيا ، وتحديداً  خلال تجوالي بين طرابلس وبنغازي مروراً بسرت ، عايشتُ التَّجربة ولمستُ تلك التغيرات التي جعلت من الإنسان الليبي يفاخر بحريته واستنشاقه عبير الكرامة ومعانقته الشرف بشرف أشرف ، يتصرف سيداً على نفسه ومحيطه الشخصي ، يناقش رافعاً صوته إن أراد تحمل أي مسؤولية تتعلق بتدبير الشأن العام ، مهما توجَّه كحَّل جفنيه بعمران على الطراز التقني العالي الجودة مُقام ، وإن أصابه سقم حصل على الرعاية الملازمة لصنف مرضه في جميع مراحل الاستشفاء بالمجان ، صغاره تحتضنهم المدارس المجهزة أحسن تجهيز على المستويين البشري والمادي ، كل المواد الاستهلاكية الضرورية متوفرة بأثمنة تُعدّ الأرخص في العالم ، كل إنسان ليبي ومِن الجنسين مهما كان سنه يتمتع بمنحة سنوية تكفيه لقضاء عطلة استجمام لمدة شهر في أي دولة من المعمور، وهكذا قائمة المنجزات العظيمة تتزاحم كل مرحلة بالمزيد ، خدمة لصالح الليبيين رجالا ونساء وأطفالا وشيوخاً مما يجعلهم أكثر الشعوب ضمانا لمستقبلهم ، يشملهم الاكتفاء الذاتي مهما كان التخصص أو المجال .


... مقامي في ليبيا جاء بدعوة كريمة من الإعلام الثوري(وزارة الإعلام) لأفاجأ ببلد عرف كيف يستثمر قدراته المادية في بناء كل جديد ، غير مكتفي بالنجاح وإنما تخطاه لطموح أكبر يجعل من ليبيا دولة مثالية متى تعلَق الأمر بإعطاء الإنسان ما يستحق لمتابعة مسير الحياة مُحترماً نفسه مُنسجماً أفضل ما يكون الانسجام ، لخدمة وطنه الخدمة اللائقة بمكانته وما أنجزه من مظاهر العِزَّة والسؤدد ، وما يدَّخره في الجوهر من قدرة تمركزه كمقدمة لطليعة البلاد العربية الإسلامية ، مهما كان الاتجاه قوة محافظة على ما تحقَّق  ، أو اقتصاداً يلغي التبعية لأي طرف مستغل ، أو قيماُ روحية نبيلة  تحظى بتوقير مُستَحَقٍّ لما ترمز إليه من عقيدة سمحة .


... في مطار طرابلس وجدت من استقبلني بحفاوة لن تُنسى ، منهم من أخبرني عن ندوة صحفية مُقامة لتبادل النقاش مع رجال الإعلام والفكر حول انطباعاتي الأولية ذات الخلفية المكوَّنة مِن خارج ليبيا حولها ، لكنني رفضت بدبلوماسية تركت استحساناً وسط الإخوة الأربعة ، مقترحاً تأجيل الفاعل لمدة ثلاثة أيام أكون خلالها قد استرحتُ بما فيه الكفاية من عناء السفر، وقبل ولوجي الغرفة المخصصة لي في فندق " الضهرة" ، طلبتُ من نفس الأخوة نسخة من الكتاب الأخضر وكل ما استطيع الاستفادة من قراءته حول الجماهيرية الليبية ، بالتأكيد عكفت خلال المدة التي خصَّصتها مسبقاُ للاستراحة على دراسة كل ما توصلتُ به من وثائق ، وبخاصة جميع فصول الكتاب الأخضر الذي اعتبره البعض دستور البلاد المتضمِّن الخطوط العريضة لتدبير شؤون المجتمع الجديد و المبشِّر بميلاد نمط من الحكم فريد عبر العالم .


الإرادة اندفاع مشحون بقناعة مُستَخلَصة عن إدراكٍ لانجاز ضرورة ، دعتها ظروف الانتقال إلى استخراج ما خبَّأتها الصِّعاب داخل قَرُورَة ،   ليتم تصريف المضبوط على المنضبْط إتباعاً لتقدير المسؤولية الملقاة على الفاعل ليصبح الناتج المُحُصَّل عليه مستَحَقاً عناء التنفيذ المباشر للمقصود أو على مراحل ملتصقة بعضها ببعض بغير فجوة بينها فاسحة المجال لتسرُّب أي عائق مهما كان أو صادِرٍ عمَّن كان . الإرادة إبْحار بين الحال والمُحال ، مِقود سفينتها العزيمة ، وبوصلة اتجاهاتها البصيرة ، وأشرعتها الثقة في النفس ، ومُحرِّكها الإيمان العميق ، شِعارها مَن صَارَ على القَوِيمِ أدركَ أَهَمّ الأَهَم ، ولبّ معاملاتها بين موانئ الأمصار ، مَن انْطَلَقَ لنقلِ الخير ، وصَلَ لمُباركة الغير ، ممَّن يترقبون المبادَرَة ، لمسك خيوط المثابَرَة ، على نفس النَّهج  ذي التربية المُعتبَرَة ، الغنيَّة بالنوايا الحسنة الهادفة لصنع تاريخ كل مفخَرَة ، منبعها إنسان يعمل بإخلاص ووفاء لعقيدته النيِّرَة ،  عساه يفوز بسعادة  الدنيا و الآخرة .


... ذاك إنسان ليبي أفرغَ ما حوله ممَّا تراكم في عقول ليعوِّضها بما تبدأ به جديداً سبق أن أزدادَ معها بالفطرة ، فاصطدمت بما أخَّرَ تحليلها المنطقي لما مَثُلَ حيالها ، بضغط الموجود خدمة لآخرين دخلاء حَرَّفوا بالقوة المفرطة الخطوط المستقيمة ليطول مرور مَن يسلكها لانعدام غيرها ، ولا يصل إلاَّ ومصيره في ليبيا (ذاك الوقت) مكتوب باللغة الايطالية وعليه إتقانها أو التقهقر للوراء ، بما يعني ذلك من تأخُّرٍ وعيش على الهامش ، فلاحَ صُبح صَبَغَ تجهُّم البارِحةِ بلون ابتسامة الفرح ، لَقَّبَ نفسه "الفاتح من سبتمبر" مُنطَلِقاً لتنظيف مساحة  1.759.530 كيلومتر مربع ، مِن مخلفات ماضِي مَضَى بماضِيهِ لما يَمْضِي إليه مِن انزواء نهايته النسيان ، عن حكمة تُرْوَي للأجيال عن أسباب فتح الأبواب للاستعمار الايطالي يمرح بجَرِّ الليبيين عبيداً لخدمته أحبَّ مَن أحب وكره مَن كره.


... لم أكن أتوقع مثل المفاجأة وأنا ارتِّب محتوياتي في حقيبة استعداداً لمغادرة الجماهيرية الليبية إلى اليونان ، حيث طرق طارق باب غرفتي في ذاك الفندق الفخم ، وما أن فتحتها حتى اندفعت سيدة ومِن ورائها رجلين لتخاطبني مبتسمة : - لقد غيَّرنا تاريخ مغادرتكَ وبَدَّلنا حجزك لمقعد في طائرة اليوم المتوجِّهة إلى "أثينا" ، الآن عليك بمرافقتنا لمقابلة الأخ العقيد معمَّر القذافي ، وحتى يهدأ روعكَ أخبركَ أن المقابلةَ تقرَّرت بعد قراءة الأخ العقيد مقالاً منشوراً باسمك في جريدة " الشعب " التي تُصدرها في مدينة العرائش المغربية ، عنوانه " كثرة المال لا تصنع الرجال وقِلَّته لا تُوَلِّد الفئران". حاولتُ استرجاعَ ما تضمَّنه المقال فلم أفلح في تلك العجالة إلاَّ في إدراك مسبِّب ذاك القصد الممزوج كان بغضبة ترجمتُها جُملاً شعرتُ ساعتها أنها أجمل ما كتبتُ وأقدَر ما عبَّرتُ به عن موقفي اتجاه ما سمعته مِن "باشا" العرائش وكان أصله مِن مدينة "وَجْدَة"عاصمة المغرب الشرقي .


... باختصار .. خلال الخمس دقائق الأولي شعرتُ بقلقٍ خفيفٍ اجتاحني ، بعدها تمَّت المقابلة في جوٍ مفعم بما يجعل الوقت يمر بسرعة ، إذ الحديث مع القذافي متعة لا تتكرَّر انطلاقاً ممَّا أسفرَ عليه من نتائج  ، ما كنتُ أتخيَّل ايجابياتها وحسن وَقْعِها على بلدي المغرب بصفة خاصة . ظل حريصاً على تواضعه معي ، متجنِّباً أي حشو قد يتيه النقاش من جرائه لدرجة الخروج عن الموضوع ، الذي أراد القذافي مُسبقاً (حسب ظنِّي) أن نبقى بين جزئياته  لآخر لحظة ، طبعاً ألتزمتُ احتراماً للمقامِ أن أجيبَ ولا أسأل ، بغير إظهار ولا إخفاء أي رهبة مهما كان مصدرها ، حتى تتوفَّر للجانبين (رغم الفرق الوظيفي) أن الحديث النِّد للند خير دليل على التشبُّث بعزَّة النفس  ، وامتلاك الوفاء الكامل للمبادئ ، والقدرة على تحمُّل مسؤولية ما يفوه به هذا الطرف أو الآخر . بداية سألني : ما تعليقك عن فحوى الكتاب الأخضر ؟ . أجبت بأدب جم قائلا بالحرف الواحد : الفكرة القائم عليها الكتاب بسيطة ، في متناول فهم عقلٍ مؤهَّلٍ بطبيعته التي صُمِّمَ من أجل استقبال ما يعينه على أداء مهماته  التي سيُحاسَب عليها مِن لدن خالقه الباري جلَّ وعلا ، لكن هناك عقول ألف أصحابها بشاشة ثراء الدنيا المجاني ،  فانغمسوا في ملذاتٍ حسبوها حقاً مُستَحقاً لهم ، فقاوموا بشراسة مَن ينادي باسترجاع حدود اختُرِقت بما لا يناسب حكمة وجود الإنسان على نفس الدنيا ليحيا إنساناً ، حرِّيته في تمتُّعه بالحقوق المُفصَّلة على قياس حاجات نفسه . تطبيق  الفكرة لن تتحقق كما يشاع عنها عند الخوض الفكري في جزئيات أجزاء تركيبها الهيكلي ، الموجَّه إبرازه بالتدرُّج لخدمة الإنسان كإنسان ، لن يتحقَّق إلا بشروط محدَّدة في ثلاث ، تغيير العقلية ، فهم المطلوب ، والدفاع لآخر رمق . وكلها محطات الجماهيرية أولها لا زالت في طور التكوين ، وإنها لمرحلة لا يمكن تجاوزها الا بالنضج الراسخ في عقول المحتضنة لها المقتنعة تمام الاقتناع بنظام حكمها البعيد كل البعد عن المغروف منذ أزل  الأزل إلى الآن ،  على طول البلاد وعرضها دون استثناء ، أعتقد أن المرحلة ذاتها تستحق صرف ربع قرن لتصبح جاهزة كليا للاستمرار ثم العبور للثانية وبعدها الثالثة بنفس التوقيت الزمني ، دون ذلك الفكرة معرَّضة ستكون لهزات وعنيفة . ابتسم العقيد القذافي ابتسامة تشير فيما تشير إلى تحدي صامت يعبر أن النواة زُرعت وثمارها متجدد عن تلقائية لن تتوقف. بعدها استطرد طالباً : لما لا تلتحق بجريدة "الزحف الأخضر" لنستفيد من إضافات فكرية سنعتبرها رأيا آخر يوقفنا عند خطأ ما نناقش أبعاده وقد نعزز بخلاصته ما نود التوسع به لغلق أي ثغرة ، خاصة ونحن في وسط الطريق لم ننهي بعد المرور فوقها بالكامل . أجبته على الفور : لو فتحتُم هذا البات لتزاحم على ولوجه أكثر من مفكِّرٍ ليبي مرتبط بعمق الفكرة ويريد الاجتهاد عسى زحفه على المناصب الطلائعية يكون إحداها من نصيبه ، كان بودي وهذا شرف لي أن أكون ضمن هيأة تحرير الجريدة  الموقرة المذكورة ، لكن التزامي مع وعدٍ عاهدت نفسي أن لا أهدأ حتى أصل بجريدة الشعب (التي أسستها في مدينة العرائش المغربية) إلى العالمية ، وانتم الأخ العقيد على دراية بالموضوع انطلاقا من قراءتكم المقال المطوَّل الذي عنونتُه " كثره المال لا تصنع الرجال وقلته لا تولّد الفئران .  فهم جيدا قصدي وأراد الانتقال إلى شأن آخر فاستفسرني عن أحوال المغرب في عهد الملك الحسن الثاني ، فأردت استغلال الفرصة أحسن استغلال قاصدا خدمة وطني المغرب حيث قلت له : العاهل المغربي أنقد حياتك مرة وأنت الأخ العقيد على دراية بتفاصيل الحدث  حيث الجهاز ألاستخباراتي التابع مباشرة لك تفنن في إعداد تقرير لم يترك أي صغيرة أو كبير دون إحاطتك بها ، فكان عليك أن تفتح صفحة جديدة تساهم في ضمان تقارب حقيقي بين بلدين عظيمين يستحقان العيش جنبا إلى جنب في أمان واطمئنان ، وبالمناسبة أنت أحد زعيمين كرَّسا جهدهما لتحقيق الوحدة العربية ، الثاني كان الزعيم جمال عبد الناصر ، وبدل الحفاظ على نفس التوجُّه ، عمدتَ الأخ العقيد إلى تبني الانفصاليين في جبهة البوليساريو ، الراغبين في تأسيس دولة لا تُرى ولو بالمجهر اللهم داخل الجزائر الذي فسح الهواري بومدين المجال لها ، وقصده التظاهر برعاية المنظمات الثورية لا أقل ولا أكثر ، بل امتد تبنيك لتلك الجماعة إلي مساعدتها بالمال والسلاح لتضييق الخناق على المملكة المغربية الدولة العربية المسلمة الكبرى التي استرجعت أقاليمها الجنوبية بالحق والقانون  المحتلة كانت من طرف المملكة الاسبانية .


... وقف العقيد القذافي لينهي الحديث ويودعني قائلا ً: كنت أود أن يخاطبني مغربي أصيل ينطق وهو واثق من نفسه مثلك حتى أقرر ما أطلعك عليه قبل غيرك ، من الآن اعتبر الملك الحسن الثاني ملكاً ثورياً  ، ومن اللحظة ننهي كل تعامل مهما كان مع جماعة البوليساريو . مرحباً بك أستاذ منيغ متى أردت في الجماهيرية ، وبلغ سلامي في كتاباتك المقبلة إلى المغرب ملكاً ثورياً وشعباً عظيماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق