تكونت لدي مجموعة ملحوظات بعد استماعي للقاء الذي أجراه الإعلامي العماني سليمان المعمري مع الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي في حلقة برنامج "ضفاف" يوم الاثنين 3/6/2024، وبثتها قناة عُمان الثقافية، ونشرت بتاريخ (10/6/2024) على موقع القناة في اليوتيوب.
وفي هذا اللقاء بقيت بعض الأسئلة معلقة، أو تتبادر إلى الذهن أسئلة إضافية، لأن الكلام بطبيعته يجرّ بعضه بعضاً، ويتوالف ويتآلف من نفسه في لحظته. فلم يقم المحاور (المعمري) بتطوير الحوار، أو في جزء منه على الأقل بناء على إجابات الضيف، علما أن المعمري يبدو مطلعا على منجز حديدي النقدي، وسبق أن حاوره في برنامج إذاعي (إذاعة عُمان) قبل ثلاثة عشر عاماً، وبقي المعمري أسير الأسئلة المعدّة سلفاً، فبدا الحوار مرسوما ضمن حوافّ معينة لا يخرج عنها، فلم يساعد على بناء الأفكار بمنهجية مركبة، بحيث تبدو متصلة ذات رسالة محددة وهدف واضح.
استمر اللقاء ما يزيد عن خمسين دقيقة، وطرح فيها المُضيف أسئلة شتى ومتنوعة، وهي بلا شك أسئلة جيدة، وكشفت كثيرا من المعلومات المهمة، وخاصة تلك العلاقة التي كانت تجمع بين الناقد حديدي والشاعر الراحل محمود درويش، تلك العلاقة التي بدأت عام 1991 بديوان "أرى ما أريد"، ولم تنتهِ برحيل درويش، بل اتخذت شكلا آخر في متابعته نقديا والكتابة عن أشعاره، كما كشف صبحي حديدي أنه يمتلك كل مخطوطات دواوين درويش منذ عام 1991 وحتى عام 2008، بخط يد الشاعر نفسه، واصفَين حديدي والمعمري خط الشاعر بأنه "جميل".
كما تحدث عن مسودات قصائد درويش، ومسودات الشعراء الآخرين، ولا يحق لأحد أن ينشر مسودة قصيدة لشاعر لم يتمها بنفسه، وما زال غير مقتنع وغير معترف بنشر أصدقاء الشاعر قصيدة درويش "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". فهي من وجهة حديدي، قصيدة ناقصة، وفيها تعديلات كثيرة، ودون عنوان، والعنوان مقترح من ناشري الديوان الأخير، وهو الجملة الأولى في القصيدة، إضافة إلى ما في القصيدة من خلل عروضي وأخطاء نحوية، وتصحيحات، وعلامات استفهام. والقصيدة بهذه الحالة لم تكن في صالح درويش، ويصف صبحي حديدي تلك المسودات بأنها عورة يجب ألا تكشف إلا من الشاعر نفسه.
بدا حديدي منفعلا- على الرغم من هدوئه البادي في طبيعته- وهو يتحدث عن موضوع المخطوطة التي أساءت للشاعر أكثر مما هي في صالحه واصفا عمل الأصدقاء بدافع حب درويش واطّلاع القراء على قصائد الشاعر "بأن من الحب ما قتل". ويضيف أن المسودات مثل هذه للكتاب والشعراء "تحفظ في متاحف ومكتبات دولية، توضع تحت تصرّف الدارسين"، وتستخدم لأغراض بحثية وليست للنشر.
باعتقادي هذه المعلومات أهم ما كان في اللقاء، لأنها أضاءت على عوالم الكتابة الإبداعية لدى درويش الذي كان كما قال في واحد من حواراته إنه يعرض قصائده على أصدقائه ليقولوا رأيهم فيها، وأبان حديدي أن درويش كان يحب ملاحظاته على القصائد ويسعد بها، ويرحب فيها، وينفر من المجاملين. هذه معلومة أيضا مهمة في سياق نقد درويش الذي لم يكن على علاقة جيدة بالنقاد الذين ينتقدونه علناً. إنما يريد تلك الملحوظات النقدية من أصدقائه النقاد سرا، ليتطور، ويستفيد منها.
ومن الأفكار اللافتة في هذا الحوار قول حديدي إن "السياسة داخلة في كل شيء" حتى في شعر الغزل، ويعيد المحاور قولا للضيف: "إن الناقد الذي لا يكتب مقالا سياسيا بين الحين والآخر، عليه أن يستحيي من نفسه"، كما أن الناقد حديدي نفسه يعيد قولا لإدوارد سعيد يؤكد هذا الرأي. يقول فيه: "الناقد الذي لا يكتب سياسة كبّر عليه". تعيد هذه الفكرة إليّ مثلا كتابة نقاد كثيرون في السياسة، ومنهم د. عبد العزيز المقالح، ود. عز الدين المناصرة، عدا غسان كنفاني السياسي الذي كتب كتابا في النقد. هذه التفاتة عظيمة تبين طبيعة تموضع الناقد والسياسي، فكلاهما ناقد وسياسي معاً، ولا بد من هذه الجدلية في شخصية كلّ منهما، أما هؤلاء النقاد المحصورون في النظرية النقدية والكتابة الأكاديمية وليس لهم رأي في السياسة فهم أنصاف نقاد، أو هم- كما فسر حديدي مقولة إدوارد سعيد "كبّر عليه"- أموات؛ فلا معنى لعمل الناقد ومهمته إذا لم يكن له جوانب سياسية وفكرية وأيديولوجية شاملة حياتية واجتماعية يتحدث فيها، تجعله شخصية مثقفة بالمعنى المطروح في كتاب إدوارد سعيد "صور المثقف".
والآن إلى بعض مفاصل الحوار، وكيف تعامل معها سليمان المعمري؟ وسأعرض القضية والأسئلة الناقصة التي رأيتها ضرورية ويستدعيها سياق الحديث، فسكوت المحاور عن إشباع المعرفة المتصلة بهذه القضايا، ولّد أسئلة أخرى حضرت في الذهن ولم تُطرح، وهي كما يأتي:
- بدأ صبحي حديدي حياته شاعراً، ونشر بعضا من شعره في مجلة الآداب البيروتية وصحف سورية في وقت مبكر من حياته (1969- 1971)، وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، لم يستمر شاعرا وتوقف عن قناعة وإرادة:
الأسئلة الناشئة في هذا المحور:
بعد العودة إلى هذه القصائد كيف تقيمها بعين الناقد الموضوعي الآن؟ هل فعلت شيئا من هذا؟ وهل فكرت بجمعها في مؤلف صغير؟ وهل بقيت لديك قصائد من تلك المرحلة لم تنشر؟
وهل هذا الشاعر الكامن فيك، كان له أثره في الأحكام النقدية عندما درست قصائد الشعراء الآخرين أو عندما ترجمت بعض قصائد الشعراء العالميين؟ وهل عزز الشعر في شخصيتك النقدية الاتجاه الجمالي أم الموضوعاتي للشعر المدروس؟
- النص المعدل من الأرض اليباب للشاعر ت. س. إليوت الذي أنجزه عزرا باوند:
الأسئلة:
كيف يمكن النظر إلى النص الجديد؟ وهل يحق للشاعر الأستاذ فعل ذلك؟ وإلى أي مدى يُسمح للمراجع أن يتدخل في النص الأصلي؟ وهل كانت لعزرا باوند هذه السلطة على ت. س. إليوت لتكون النتيجة قصيدة مختلفة كثيرا عن النص الأصلي؟
- الكتاب الذي يعده حديدي عن درويش وهو مشغول فيه منذ سنوات.
الأسئلة: لماذا هذا التأخير لأكثر من 15 سنة بعد رحيل درويش؟ وما الشكل الذي يتصوره صبحي حديدي من أجل أن ينصف محمود درويش بعد هذه المدة من الرحيل، ودرويش اكتمل برحيله، وشعره لا مزيد عليه مثله مثل إدوارد سعيد الذي أصبح مشروعا ناجزاً وكتب فيه حديدي كتابا كاملا؟
يبالغ الناقد صبحي حديدي كثيرا بطريقة واضحة في الحديث عن درويش، وظل الحديث إنشائيا دون توضيح مثلا القضايا والأمور والجماليات والشعريات التي جعلت محمود درويش شاعرا كونياً؟ على الرغم من أن صبحي حديدي قالها بتلكؤ واضح! (شاعر كوني تقريبا) كأنه لا يقتنع بهذا الوصف. في ظني كان يلزم هنا بعض التوضيح؛ فيما يخص سمات الشاعر الكوني.
- ترجمة روايتين يابانيتين بلغة وسيطة- الإنجليزية-:
الأسئلة: هل هذه خيانة من بعد خيانة؛ تُضيِّع النص الأصلي مرتين؟ وكيف يمكن الاطمئنان إلى هذه المسألة في الترجمة؟ وهل تمت مراجعة الروايتين من شخص يعرف اللغات الثلاث معا: اليابانية والإنجليزية والعربية؟ أو على الأقل اليابانية والعربية. مع أن الناقد حديدي يفطن لهذه النقطة لكنها مرت دون أن تستوقف المحاور.
وهل يفعل صبحي حديدي ذلك؛ فيعرض ترجماته على آخرين للمراجعة على الأقل كما يفعل درويش وهو يعرض شعره على أصدقائه النقاد؟ وهل يتواصل مع الكتاب الأصليين إن كانوا على قيد الحياة ممن يترجم لهم كتبهم، ليستشيرهم فيما يقترحه من صيغ لغوية كما يفعل بعض المترجمين؟
- دور إدوارد سعيد ناقدا ثقافياً ودوره في إدخال البنيوية إلى الجامعات الأمريكية:
الأسئلة: هل كان إدوارد سعيد بنيوياً؟ وكيف يمكن أن يكون بنيوياً ومنهجه النقدي يقوم على الطباقية والدنيوية؛ وهما أبعد ما يكون عن البنيوية، وأشار تمثي برنن إلى هذا في كتابه "أماكن الفكر" بل إن سعيدا هاجم البنيوية، وأشار إلى ضرورة قراءة الأدب بناء على السياق التاريخي. واتّهم أنه ناقد ماركسي أصلا، يميل إلى النقد الاجتماعي التاريخي أو يستفيد منه في تحليله، وفي مقدمة كتبها لترجمة مقال للناقد الألماني إيريش أورباخ شدد على أهمية النقد التاريخي، وأن الأدب يجب أن يفسر سياسيا واجتماعياً؟ وهل من المحتمل أن يكون سعيد ناقدا بنيويا ثم تحوّل عن البنيوية كأمثال كثير من النقاد الذين انفضوا عن البنيوية لقصورها في فهم النصوص نتيجة لمنطلقاتها العامة الإجرائية والتنظيرية.
السؤال السابق مركّب لكنه ضروري لتوضيح منهج سعيد النقدي الذي اتبعه في جميع كتبه، وبدا أن في فهم منهج سعيد النقدي بعض الخلل، ويلزمه توضيح من الناقد صبحي حديدي، صديق إدوارد وناقده، ومترجمه أيضاً.
- تأليف كتاب مجمّع من مقالات عن غزة سيصدر قريبا، ورأي حديدي في مسألة إصدار كتاب من مقالات سابقة منشورة، بأنها تشبه إعادة تسخين الطعام، فأنت تقدم للقارئ طعاما بائتاً؛ لأنه سبق وقرأ هذه المقالات.
السؤال: إدوارد سعيد كانت أغلب كتبه بهذه الطريقة المجمعة؛ هل أنقص هذا من طبيعة المقالات وجديتها وأهميتها بعيدا عن فكرة التوثيق التي صارت حاجة ملحة بفعل مواقع التواصل الاجتماعي وعدم ثبات شيء فيها وافتقاد حس الأرشفة وحس التجميع لدى القارئ؟
من الضروري النظر إلى هذه القضية بشكل أعمق، ومتصل بقضايا متعددة، بالنظر مثلا إلى كتب مهمة بهذه الكيفية، غير إدوارد سعيد، يمكن أن يضرب مثلا كتب طه حسين، وبعض كتب درويش نفسه النثرية، وبعض كتب الكتّاب الأجانب من النقاد، فهي ظاهرة طبيعية، وعرف مستقر لدى الكتاب. بهذا الرأي يقضي حديدي على أغلب كتب النقاد والكتاب، ويمكن أن يلتصق بها وصف "عديمة القيمة" أو "عديمة الفائدة".
لا شك في أن رأي حديدي له وجاهته، إنما كان من اللازم- في ظني- إجراء حوار حوله للكشف أكثر عن جوانب مخفية من هذه النقطة، ويمكن أن يضيئها صبحي حديدي؛ فهو لم يصل إلى هذا الرأي بسهولة، ولم يقله اعتباطاً.
ربما يقول قائلا إن الوقت لا يسمح لطرح كل هذه الأسئلة في حلقة لا تتجاوز الساعة بفواصلها الإعلانية. قد يبدو هذا صحيحا تماماً، ما يستوجب إعادة النظر في كيفية الإعداد للحلقات وتركيزها على جوانب محددة ليسهل مناقشتها بإسهاب؛ لأن شخصية نقدية مهمة مثل صبحي حديدي لا بد من أن يكون الحوار معها يحفر عموديا في المسائل المطروحة للنقاش، لا أن يمتد أفقيا ليقطف من كل حقل فكرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق