يتحدث الكتاب عن 24 شخصية أدبية، كانت من بين هؤلاء أديبتان فقط، هما: سلمى الخضراء الجيوسي وفدوى طوقان.
الذكورة ليست شرطا للأبوة الإبداعية، فالشاعرة يمكنها أن تكون أباً أيضا، فالأسبقية التاريخية والتأدب بأدبها، والتأثر فيها والسير على نهجها، ومشاركتها في التأسيس للحالة الثقافية، كل ذلك داخل في الأبوة الإبداعية، وتقف فيه الشاعرة والكاتبة على قدم المساواة مع الشاعر والكاتب. عدا أن فدوى طوقان ملقبة بأم الشعر الفلسطيني. والأنوثة هنا أيضا ليست شرطا في الأمومة، فأم الشيء أصله وأساسه، لكن لدواعي المناسبة التجنيسية التقابلية قيل للأديب أبو الشعر أو أبو الرواية، وقيل للأديبة أم الشعر أو غير ذلك.
تجاوزت فدوى طوقان المفهوم الجندري القاصر للأمومة؛ المرتبط بالجنس، إلى ما هو أوسع في الحالة الثقافية الفلسطينية؛ على الأقل في ثلاث محطات عامة: كتابة الشعر الوجداني الذاتي، وكتابة السيرة الذاتية، وكتابة الرسائل العاطفية، إنها رائدة ومُجيدة، وعلامة فارقة في هذه الثلاثة، ولا تكاد تجد لها منافسا، وهذا ما يفسر حضورها البنيوي في الدراسات النقدية والأدبية والتأريخية التي تتناول هذه الخطوط العامة في الأدب الفلسطيني.
أما سلمى الخضراء الجيوسي فإنها تقف في صفّ وحدها، عربيا وفلسطينيا، فلم تتح الظروف لأديبة أخرى أن تقف بجانبها، وذلك من خلال مشروعها العظيم في الترجمة مشروع بروتا، هذا مشروع وحيد منفرد ليس له مثيل أيضا، وكانت الجيوسي أمه وأباه، لذا فإن الجيوسي أحد آباء الثقافة الفلسطينية، الترجمة المؤسسة على الرؤيا الشاملة لنقل أدب أمة كاملة إلى اللغات الحية الأخرى.
ثمة أب آخر مخفي ينبئ عنه عنوان الكتاب الذي يتخذ الصفة الاحتفائية بالأربعة وعشرين، إنه صاحب العنوان "أولئك آبائي" المأخوذ من بيت شعر للفرزدق:
أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ
فالفرزدق أبٌ أيضاً، لأنه حاضر في الوعي المؤسس للفكرة، وإن نقلت من الفخر الشخصي القبلي إلى الفخر الأدبي.
ولعل هذا البيت يستحضر لاحقيه كذلك، ليرى المتوكل نفسه واحدا منهم على اختلاف انتماءاتهم العائلية والمدينية لتحل فلسطين أولا لتكون هي "الجذع الذي نبتت عليه أغانينا" هؤلاء جميعا بما فيهم المتوكل نفسه. إضافة إلى أن الأدب والتأدب ألّف منهم رابطة جديدة تعاضد الانتماء الوطني، هاتان الرابطتان تعلوان على أبوة النسب، أو أنهما تقفان مساويتين لها ولو مجازياً، فالابن له شرف الانتساب والانتماء لآبائه، وهذا واضح في طريقة كتابة المتوكل عن هؤلاء الآباء، لذلك، فإن افتخار المتوكل افتخار محبة، لانعدام العصبية القبلية، لا افتخار نرجسية مفترضة، كما قد يبدو في البيتين الآتيين عند الفرزدق:
نَمَوني فَأَشرَفتُ العَلايَةَ فَوقَكُم بُحورٍ وَمِنّا حامِلونَ وَدافِعُ
بِهِم أَعتَلي ما حَمَّلَتني مُجاشِعٌ وَأَصرَعُ أَقراني الَّذينَ أُصارِعُ
إن الناظر في الأسماء التي كتب عنها المتوكل في كتابه سيلاحظ أنه كتب عن مجايليه، وعن أصدقائه، لا عن آباء بالمعنى التاريخي. وبذلك تتخذ الأبوّة معنى آخر، إذ كيف يكون أخوك/ مجايلك أبا لك؟ ربما صحّت هذه الأبوّة- مجازياً إبداعياً- كنوع من التقدير لذكرى من رحلوا ووفاء لما قدموا. فمحمود درويش أول ما فطن إلى ذلك المعنى عندما وصف الشاعر عبد الكريم أبو سلمى بأنه "الجذع الذي نبتت عليه أغانينا". كتب درويش هذا النص في العدد الأول لمجلة الكرمل عام 1981، وقد توفي أبو سلمى- رحمه الله- بتاريخ: 11/10/1980. إذاً هو من جيل درويش بمعنى من المعاني.
على أية حال، فإن هذا الكتاب يمد جسراً من المحبة بين أيقونات الثقافة الفلسطينية المعاصرة، وليضع المؤلف نفسه بين هذه الكوكبة من المبدعين المنتشرين مكانيا، وموزعين على محطات الأدب الفلسطيني الحديث، الشعر والسرد والنقد والترجمة، وليقول إن الأدباء في كل أمة يتناسل بعضهم من بعض، وهم أشبه بالسلسلة المتصلة، حلقاتها متتابعة، لا تستطيع أن ترى كل حلقة إلا بما جاورها من الحلقات الأخرى، وإذا أردت التعمق لا تدرس أية حلقة من تلك الحلقات إلا من خلال سلسلتها الإبداعية التاريخية التي تشير إلى التجذر والاندماج في الحالة العامة الثقافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق