كثرة لا محال لا يعرفون ماذا نشر الكاتب الساخر أحمد حسن الزُعبي من كلمات خطيرة؛ استحقّ على إثرها السجن لمدّة عام مع تغريمه. يبدو أن هذا المنشور من وجهة نظر الجهات القضائية، وعلّها أغلب الظنّ الحكومية التي تُسيطر على القضاء يُشكّل تهديدا بليغا للمنظومة السياسية والإجتماعية ورابطة السرسرية والحرامية ليُحكم على صاحب أهم المواقع الإخبارية في الأردن، وصاحب أكثر الأقلام جُرأة وأكثرها حيادا بالسجن عاما وتغريمه.
أوقفت الأجهزة الأمنية الأردنية يوم الثلاثاء المُنصرم 2 يوليو/تموز، الكاتب الصحافي وناشر موقع «سواليف» الإخباري، أحمد حسن الزُعبي وذلك بعد مرور أحد عشر شهرا على صدور حكم بسجنه لمدّة سنة مع الغرامة، على خلفية تعليق على منشور كتبه وزير البلديات آنذاك على الـ «فيسبوك» في ديسمبر/كانون الأول الماضي حول إضراب الشاحنات في الأردن. وعلى إثرها قرّرت محكمة صلح جزاء عمّان في 10 أغسطس/آب من العام الماضي حبس الزُعبي لمدّة سنة مع الغرامة، بصفتها الإستئنافية.
جاء هذا الحكم بعدما كانت المحكمة قد حكمت عليه في البداية بالحبس لمدّة شهرين فقط، لكنّ النيابة العامّة قدمت طعنا في الحكم، وبعد قبوله شُدّدت العقوبة ليُحكم عليه بالسجن عام مع الغرامة.
سجن الزُعبي ضرورة حكومية
منذ يوم الثلاثاء الماضي، ومنذ اعتقال الكاتب الزُعبي بدأت في العاصمة الأردنية عمّان وجميع محافظات المملكة حملة تضامن رقمية وورقية واسعة للإفراج ورفع الأحكام الصادرة بحقّه، وقابل هذا التضامن تحركات من فريق الدفاع الذي بيّن المخالفات القانونية، فضلا عن استهجان رفض وزير العدل الطلب الذي تقدّمت به هيئة الدفاع من أجل نقض الحكم الصادر بحق الزُعبي.
وفي ذات السياق دعت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة السلطات الأردنية الخميس إلى إطلاق سراح الصحافي الزُعبي من دون قيد أو شرط، والذي قوبل رسميا بالتهميش.
الكاتب الزُعبي علّق على تصريح منسوب لوزير البلديات آنذاك، قال فيه: «لو أن الدم ينزل؛ البترول لن ينزل»، فردّ على حسابه صاحبنا «المشكلجي» في الـ «فيسبوك»: «كم تحتاجون من دماء أبنائنا حتى ترتوون (لو بنزل الدم؛ ما بنزل البترول). قد نزل الدم يا معالي الوزير. نحن الحطب في مدافئكم».
من يعتقد أن هذا التعليق الإلكتروني هو السبب من وراء حكم وسجن الصحافي الشريف فقد أخطأ، لأنّ المواقع الرقمية تعُجّ بما هو أشد منها.
سجن الزُعبي ضرورة حكومية، فالكلمات التي كتبها الوزير أشد وطأة من تعليق الزُعبي، فضلا عن الجهل أو لغة الغطرسة التي سيطرت على منشور الوزير، فلو عرف حجم وقعها وفهمها ما كتبها، وردّ الزعبي عليه من أصل كلماته وتعبيره، فلو أن هناك من يجب أن يُحاكم فهو الوزير، لأنّ منشوره «لو أن الدم ينزل؛ البترول لن ينزل»، هو تهديد صريح قبيح للشعب الأردني، من وزير في موقع مسؤولية من الصّفّ الأول.
والتأكيد أن سجن الزُعبي ضرورة حكومية، هو رفض وزير العدل عرض ملف الدعوى على محكمة التمييز، على الرغم مما أثاره فريق الدفاع من نقاط ومخالفات قانونية حسّاسة؛ يقتضي السياق المعمول به في قضايا مثلها أن يجري عرضها على أعلى مرجع قضائي مُختصّ، هذا لو أن القضاء حُرّ.
على ما يبدو يقينا خلف هذا الإصرار ووراء سجن صاحبنا ليست البنود القضائية والقانونية، إنّما الرغبة الجامحة الحكومية لتحييده وصفع الأردنيين بخدّه.
توظيف القضاء
ما يدور في الأردن من اعتقالات سياسية أو رأي عام ليست إساءة استخدام للقانون فحسب، إنّما هو توظيف النظام القمعي للقضاء، فليس هناك إمكانية أخرى للتعامل مع «المشاكسين» سوى اعتقالهم كحلّ لعدم تعكير الصفو الحكومي، لأنّهم يختلفون مع التوجه الذي تتبناه الدكتاتورية في إدارة الأمور المؤسّسية والإجتماعية والقضايا المصيرية للدولة، لا بل أصبح الإعتقال ضرورة لإستمرار كثير الأنظمة العربية، فليس هناك بديل وبدّ لتجاوز الإخفاقات المتتالية، والتي تتضارب مع رغبة الشعب ومستقبله ومصيره المرتبط بالضرورة مع قضيتنا في فلسطين و إخوتنا الفلسطينيين مثلا، إضافة إلى ما يترتب على هذه الإخفاقات من أزمات بسبب ترهّل التسيير الحكومي، والتي يُعانيها المواطن البسيط حصرا، فيحاول التعبير عنها أو رفضها من خلال الاحتجاجات والوقفات، أو حتى رقميا عبر منصّات التواصل الإجتماعي، لينتهي به المطاف داخل السجون بذرائع واهية ركيكة.
عندما كانت الصُحف الأردنية تضيق أمام مقالتي، وهي التي تتحدّث عن الأزمات التي تُعانيها الأردن، بين قيادية واعتراك السريرية والحرامية تنافسا على مُقدّرات الوطن، وأخرى سياسية وإقتصادية وإدارية، بينما تُنشر بأمهات الصحف العربية، كان موقع الناشر الزُعبي للأمانة تجاه الوطن ينشُرها بكُلّ ثقة؛ إيمانا منه الجُرأة بالحقّ لإحقاقه، ورفع الظلم ومعاقبة دُعاته.
لذلك المطالبة برفع الحُكم عن الزُعبي هو مطلب أردني قبل أن يكون مطلب لرفع الظلم عن كاتب، ناشط أو صاحب موقع إخباري فحسب، لأنّه وبكُلّ بساطة يُمثّل شرفاء الأردن بين صامتين خوفا وآخرين ضعفا، ويُشارك في ذات الآن أحرار هذا الوطن الكريم نشر الوعي للنهوض به.
لقد أتى حكم السجن عاما بحقّ الزُعبي تزامنا مع سعي الحكومة تطبيق نهج خطير؛ مُتمثّلا بتقييد المُسلّمات من حُرّيّة التعبير، إذ اختزلتها بقانون الجرائم الإلكترونية بأضيق حدودها وأفقدتها كُلّ معانيها الهادفة إلى رفعة الوطن والمواطن، من خلال سوابق قضائية خرجت عن النزاهة لتهدر الحقوق والحُرّيّات، وانتهكت ما يقوم عليه الدستور من مبادئ وكرّست عوضا عن ذلك القمع بشتى أشكاله، بما في ذلك من وأد الفضاء العام، الذي يُشكّل جُلّه المواقع الرقمية؛ آخرها الحكم على ظاهرة الأردن بالجُرأة على قول الحقّ أحمد حسن الزُعبي، الذي يحتضن كُلّ من يتبنّى رفع الظلم من خلال موقعه الإخباري، لطالما حفزّ أيضا كُلّ من يتردّد لإحقاقه.
التضامن الكبير مع الزُعبي
إن الآليات التي تتبعها الحكومة في تقييم ما يُكتب تهدف بالمُطلق وبشكل واضح وصريح لمنع نقد الأداء الحكومي والمؤسّسي المُترهّل، فضلا عن حماية مُمارسات الفساد، التي يقودها عُرّاب النهب بتقديس رسمي إلى أن أصبحت مهمة القضاء جرّاء هذا القانون المُجحف النظر إلى مضمون المنشور، بدلا من الأصل بتوافر أركان المُخالفات القانونية.
سجن الكاتب الحوراني الأردني ترجمة حرفية لـ «سجين الضمير»، لذلك التضامن معه ضرورة وطنية وأخلاقية وإنسانية مُلحّة، إضافة إلى أن الإفراج عنه إحتياج وطني وجماهيري، لأننا بحرّيّته نعاود محاولة تفعيل الآلية الديمقراطية المنهكة والمعطوبة مرّة أخرى.
كم دافع الزُعبي عن كثيركم، وهو لا يعرف منكم غير أردنيتكم وضرورة عيشكم بكرامة وحرّيّة. اليوم هو من يحتاج منّا هذه المواقف التضامنية التي تعلّمها كثيرنا منه.
ولأنّ الحوراني الأردني الزُعبي واحد من أهم منابر الرأي الصريح، وصرحٌ يصدح بالحق فيُؤرّق القبيح، ولأنّه معقل جرأة لامع وكلمة سويّة بلسان الفلاح بعبق القمح يفيح، ولأنّه يقدّم أوجاع الوطن بألمعية وطرح «بيادري» مليح دون أن يحيد أو كلماته عن السّرد تطيح، فلا يغلو ولا يثرد خارج الصحن أو يزيح أتضامن معه بكُلّ ما أملك من حُرّيّة، ومن الحُرّيّة أملك عدد كلماتي وأنفاسي؛ لا تنتهي إلّا بأقدار بحجم رفع الظلم ترنو لها أُمنياتي، كما وأرجو من الأردنيين وأنا بعضهم إجلاس «نوائبهم» الذين أقرّوا قانون الجرائم الإلكترونية جلسة حقّ وعزلهم عشائريا ومناطقيا وأخلاقيا لخيانة الأمانة، لأنّهم بهذا ظلموا الأردني شرقا وغربا وطولا ولم يبقوا له عرضا.
ولا تنسوا، الزُعبي ضحيّة الحقّ وكبش الفداء، واليوم هو، وأنت غدا؛ إن لم تتحرّك لنصرة نفسك أولا، فاحجز لنفسك زنزانة جنبه بشباك، فهو تداعيات الوقفات والقمع والمطالبة بحقّ الرأي والحرّيّات، وسجنه تجسيد للتضييق وإحتضار حرّيّة التعبير وقتل الكلمات، ولا يقل أحدكم كما تقول العوام من الناس؛ تحريفا ساخر لنهج الأخلاق التقليدي: «خيرا تعمل شرا تلقى»، بل قل كما يقول العقلاء: «خيرا تعمل أجرا تلقى؛ قد ينسى الناس ولكنّ الله لا ينسى».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق