مع الشاعر حاتم جوعية في قصيدته المعارضة لقصيدة "المواكب" لجبران/ الدكتور منير توما

 



- كفرياسيف –

  كتب الدكتور الشاعر حاتم جوعية قصيدة تحت عنوان "المواكب" عارض فيها قصيدة جبران خليل جبران التي تحمل الاسم ذاتهِ "المواكب"، وقد كتبها الشاعر حاتم جوعية على النمط والأسلوب نفسه فكانت قصيدته طويلة كقصيدة جبران.

إنَّ اللافت في "مواكب" جوعية أنّها تتضمن معظم التيمات والأفكار والمعاني التي تناولها جبران، علاوة على أنها شبيهة من حيث الأوزان والثقفية مما يوحي بمدى تأثر شاعرنا بروح وشكل قصيدة جبران، وبالتالي سنعالج في السطور اللاحقة قصيدة جوعية التي تمتاز بمتانة اللغة وجمال الأسلوب وفرادة الفكرة أيضًا.

إنّ الشاعر حاتم جوعية يتبّع في قصيدته المعارضة هذه المغزى الصوفي في "مواكب" جبران الى حدٍ بارز وملموس، فأسلوب قصيدة جوعية يعتمد أيضًا أسلوب جبران في المقارنة بين حياة الواقع التي يصفها الشيخ، وحياة الغاب التي يتغنّى بها الفتى في مقطوعاته المنوّعة القوافي، التي يرّد بها على أقوال الشيخ معبِّرًا عن سخرية  من الواقع وابتهاجه بحياة الحريّة، مرّددًا في نهاية كل مقطوعة: "أعطني الناي وغنِّ"، على طريقة الموشحات، وبنغمة جبران في هذا الصدد يردِّد حاتم جوعية في قصيدته وعلى نفس منوال جبران قائلًا:

أعطني  النايَ   وغنِّ  كلما    حلَّ     الظلامِ

إنّ صوتَ الناي عذبٌ عندما   الكونُ    ينامْ

فيهِ    دفءٌ    وعزاءٌ         لكئيبٍ         مُسْتَهَامْ

مثل صوتِ العودِ حلوٌ مثل عزفي في انسجامْ

ويضيف شاعرنا لاحقًا قوله:

أعطني  النايَ   وغنِّ   كلّما     جاءَ      النهارْ

أنّ صوتَ الناي عذبٌ   فيهِ     يرتاحُ     الكنارْ

وبصوت الناي  دفءٌ   هو    للروح    انتصارْ

وبصوتِ الناي   بوحٌ ولمنْ     يُكوى     بنارْ

إنّ الشيخ هنا، كما نلاحظ، يمتاز بذات الرمزية التي طرحها جبران في قصيدته، فالشيخ أيضًا في قصيدة حاتم جوعية هو رمز للشاعر المتضجِّر من عالم الكثرة ومناقضاته وأضاليله، وهذا نستشعره في أبيات الشيخ (التي يشار اليها بالخط الصغير) في قصيدة جوعية:

إنّ  البعيدَ  عن  الأوباشِ  قاطبةً

وعندَ أهل الشرِّ منبوذٌ ومحتقرٌ

وصاحب  الفكر .. أحلام  مُجَنَّحةٌ

الفجرُ  عمَّدَهُ   والأنجمُ   الزَهَرُ

هو  البني   برودُ  النور  تحضنهُ

بهِ البغاةُ وأهلُ الإفكِ كم سخروا

يبقى  الغريبَ   بكونٍ  كلهُ  دجَلٌ

لم يكترث هو لامَ الناسُ أم عذروا

والفتى، عند جوعية، كما هو عند جبران، رمز شاعرنا الحالم بعالم الوحدة الصوفي، الذي يرمز إليهِ بالغاب وهو العالم الذي تنسجم فيهِ المتناقضات وتذوق الفوارق:

إنَّ  في  الغاب ملاذا .. وهدوءً    وسكونْ

للذي  يبغي  خلاصًا من  صراعٍ  وظنونْ

للذي   يبغي  سلامًا من أذى  دهرٍ خؤونْ

إنَّ في الغابِ انطلاقًا لا  قيودٌ   أو  سجونْ

وبهِ  الأرواحُ  تَسمو فوقَ كونٍ من شجونْ

عالمُ الأرضِ ضياعٌ واكتئابٌ       ومنُونْ

ومما يسترعي الانتباه أنّه في قصيدة "المواكب" لحاتم جوعية تكثر، كما عند جبران، الأبيات الحكمية مثل:

إنَّ المَصالحَ هَمُّ الناسِ ما برحَتْ

والبعضُ منهمْ  لفعلِ الخير ِ يقتثرُ

إنَّ الحياةَ بهذي الأرضِ مرحلةٌ

وكلُّ  ما  جاءَنا  قد  خطّهُ  القَدرُ

على الجبينِ يكونُ الحظُ مُرتسِمًا

ونحنُ  في رحلةٍ  والموتُ ينتظرُ

وكلُّ  حيٍّ  غدًا  لا  بُدَّ   مرتحِلٌ

أيامُهُ سوفَ تمضي  ينتهي العُمرُ


إنّ الشاعر حاتم جوعية يتخذ من قصيدة جبران نموذجًا حيًّا دراماتيكيًا للقصيدة الطويلة ذات النظرات الفلسفية في أهم شؤون الحياة البشرية كالخير والشرّ والحق والعدل والدين وما الى ذلك، وفي الأبيات التالية للشيخ في قصيدة جوعية، نلمس هذه المعاني والدلالات:

العُمرُ طال  وكم خطبٍ تقارعُهُ

والظُلمُ مهما عتا  لا  بُدَّ  ينحسرُ

إنّ الحياةَ بهذي الأرضِ مهزلةٌ

والجهبذُ الحرُّ طولَ الدهرِ يفتقرُ

فكلُّ لغزٍ ومهما طالَ طلسُمهُ

لا  بُدَّ  يُكشَفُ  بين الناسِ ينتشرُ

تبدي الحياةُ  لنا  ما  نحنُ نجهلهُ

يبدو لنا  كلُّ  ما  قد  كانَ  يستترُ

والخيّرون بهذي الأرضِ ما فُتنوا

الحقُّ  ديدنُهمْ  والأنوارُ  والطُهُرُ

وعاشقُ الروحِ فوقَ الشمسِ موطنُهُ

وعاشقُ الجسمِ تحتَ الأرضِ يندثرُ

وللشاعر حاتم جوعية رؤية تتماهى مع نظرة جبران للحريّة كما تتمظهر في قصيدة "المواكب" لجوعية، ويبدو أنَّ مفهوم الحرية عند جوعية يقوم على الفعل الذاتي النابع من يقين النفس ومن العصيان والتمرّد على المُسَلّمات التي يقتفي عليها المجتمع وعلى القيم المادية المظلمة التي توهم الإنسان بأنها تسعده وتنقذه. فإذا هي تتعسه وتهلكه.

الانتصار على المادة والثراء وتخيّر الفقر بالإرادة والفعل الروحي هي بدء طريق الحرية عند حاتم جوعية كما كانت هي عند جبران. وفي هذا السياق يقول جوعية في قصيدته على لسان الفتى:

أنا     قربانٌ     لحقٍّ قد  قطعتُ  العمرَ ركضًا

واريجي  فاحَ   دومًا يملأ    الجَوّ     وأرضَا

وحياتي        لكفاحٍ نابذًا     حقدًا    وبغضَا

ما رضيتُ الذلَّ يومًا غيرُنا  في الذّلِّ  يرضى

غيرنا   باع   ضميرًا وهو    بالأقذارِ  يحظى

كم  أناسٍ ولجمعِ  الْ مالِ   يزدادون   خفضا

فهُمُ    للأكلِ    دومًا وبجمعِ   المالِ  مَرضَى

قد خبرتُ الكونَ طفلًا إنّ  عودي  كان  غضَّا

كم  تجرَّعتُ  المآسي ما  أُلاقي  كان   فرضَا

وانطلاقي     لسُمُوٍّ.. أشعِلُ   الحُسَّادَ   غيضَا

لستُ أدري ما مصيري ومتى   عُمري   يُقضى

وهكذا فإنَّ "مواكب" حاتم جوعية كما كانت "مواكب" جبران تمثّل عند جوعية عهد العواطف والأحاسيس والتفجُّع والشكوى، وعهد الفلسفة والتأمل والنظر البعيد، ولقد جاءت ممثلة لهذا كل التمثيل، ففيها الكلام اللّين اللطيف الذي يدلي بهِ الفتى المليء بالشباب والحيوية. وفيها التفلسف والعمق الذي تمليه تجارب الشيخ وحكمته.

إنَّ مطوّلة حاتم جوعية الشعرية هذهِ، فيها دعوة كدعوة جبران في "مواكبه" الى العودة الى الحياة الفطرية البسيطة، والبُعد عن تعقيدات الحياة العصرية وزيفها، وكما أنَّ "مواكب" جبران تأخذ شكل محاورة بين الشيخ (ممثِّل المدينة) والفتى (ممثِّل الغاب)، فإنّ حاتم جوعية في "مواكبة" هنا ينحو المنحى نفسه الذي اخّتطه جبران، فالمدينة رمز الشرّ، والزيف، والصنعة، والغاب رمز الخير، والأصالة الفطرية، والعفوية والتجدد حيث بتماثل ويتماهى شاعرنا مع الغاب؛ ومن المهم التأكيد دائمًا أنّ المقاطع الأخيرة في القصيدة تنتهي بالدعوة الى الغناء، فهو عند شاعرنا، كما هو عند جبران، حلٌ لكل ما يعاني منه الإنسان، نتيجة لاشتباكه بتعقيدات المدينة والحياة، وقد سبق أن رأينا أنّ حاتم جوعية قد كتب قصيدته كجبران على شكل حوار فلسفي بصوتين:

يسخر أحدهما من القيم المصطنعة للحضارة، ويغنّي الآخر، الأكثر تفاؤلًا، أنشودةً للطبيعة ووحدة الوجود. وممّا يُشار إليه في القصيدة الطويلة هذهِ أنّها تمتاز بتعابيرها البسيطة والصافية والتلقائية. وهذا يظهر بوضوح في الأبيات التالية:

أعطني  العودَ   فإنّي ..بغنائي     سأجُودْ

فيه ِ  أطيافُ   التمنّي كلُّ   أنغامِ   السُّعُودْ

إنَّ صوتَ العودِ يبقى بعد أن يغفو الوجودْ

كلُّ   مجهولٍ   سيأتي ما مضى ليسَ يعُودْ

ويستأنف الشاعر حاتم جوعية الغناء الشعري بروحٍ ونبرةٍ تفاؤلية:

كم جلست العصرَ وحدي بعدَ     كدٍّ     وتَعَبْ

حوليَ  الأطيارُ  تشدو بين   جفناتِ   العِنبْ

وعناقيدُ      الدوالي لونُها    مثلُ   الذهبْ

ناسيًا   يومًا  عصيبًا كانَ  همًا    ووَصَبْ

عازفًا  الحانَ  روحي       طاويًا   سفرَ  الغضبْ

ومن هنا نرى أنَّ حاتم جوعية كجبران في كونهِ يجعل الموسيقى المثال الأعلى للفن في هذهِ القصيدة، ذاكَ أنّ الموسيقى هي الفن الذي يعبّر بالأنغام الموحية والحالّة في النفس وليس عبر الألفاظ والمعاني والأفكار الصادرة عن الوعي؛ والموسيقى هي الذروة لأنها تعبِّر فيما هي تعبِّر باللاوضوح.

وهكذا فإنَّ حاتم جوعية يسير في خطى جبران في قصيدة "المواكب" حيث يكون متخدًا من نفسه حالة تجعله شاعرًا رمزيًا يكون عند النظم في حالة من التآلف بين نفسِهِ وبين الكون عبر النغم الذي يعبِّر بالنشوة وليس بالوضوح.

فالنغم هنا هو معيار الروح بل إنّه هو وحده مظهرها وبابها. فإذا تحدثنا رمزيًا عن الموسيقى هنا فإنها ترمز الى الطبيعة في جانبها الإنتقالي ودائم التغيُّر؛ إنّها النسبي (the relative)، المطلق (the Absolute). وفيما يتعلق برمزية الناي والعود كآلات موسيقية فإنها تشير الى الهناءة، وبخاصةٍ السعادة العظيمة. ومن زاوية أخرى فإنّ الناي كآلة أنبوبية الشكل تمثّل رمزًا قضيبيًا (phallic symbol)، كما أن العود كالكثير من الآلات الموسيقية الوترية تمثّل الصورة أو الصيغة الأنثوية (female form). وفي الأبيات التالية من "مواكب" الشاعر حاتم جوعية نلمس في العديد من كلماتها وايحاءاتها حول الموسيقى والغناء، رمزية الموسيقى من جوانب عامّة أخرى، فالموسيقى في سياق ابيات القصيدة ترمز إلى النظام (order)، الانسجام والتوافق (harmony)؛ العامل أو العنصر المُجَدَدِّ أو المحيي أو الشافي (a general restorative)؛ الإيقاع النابع من الفوضى (harmony arising from chaos)؛ الروحاني المُعلَن عنه (the spritual made manifest):

أعطني  النايَ  وغنِّ فالغنا يشجي الفصاحْ

إنّ صوتَ الناي يبقى بعدَ أن تشفى الجراحْ

ننشدُ  الأحلامَ  دومًا كلَّ    ليلٍ    وصباحْ

عمرنا يجري سريعًا مثلما  تجري  الرياحْ

لم ن ُحققْ  كلَّ  حلمٍ ليسَ  منهُ  من  براحْ

عيشنا ما  كان سهلًا لم  يكن  شهدًا  وراحْ

كانَ    كدًّا   مستمرًا          ونضالًا      وكفاحْ

فانطلاقي لا انهاءٌ في  الفيافي  والبطاحْ

ومساري مثل نجمٍ طول  دهرٍ  ما  استراحْ

ويتابع شاعرنا قائلًا: 

أعطني  النايَ  وغنِّ فالغنا   يحي    السلامْ

إنّ  أشواقي  تسامَتْ إنّ روحي في اضطرامْ

وبصوتِ الناي صحوٌ منعهُ     كان     حرامْ

إنّ صوتَ الناس يبقى بعد  أن  يُمحى  الكلام

إنّ الشاعر حاتم جوعية في قصيدته هذهِ كموقف جبران في "موكبه"، فهذا الموقف ينمّ عن توقهِ الى الغاب، عالم الوهم والفراغ الذي لا حبّ فيه ولا بُغض، لا شر ولا خير، وعن تبرمُّهِ بالواقع في جميع أشكاله وحالاتهِ، وكل من هذه المعاني تتآطر في المقطوعة الشعرية التي يتلفظ بها الفتى:

ليسَ في الغاباتِ عدلٌ قال  جبران  الحكيمْ

إنّ عدلَ الناسِ زيفٌ ليس  يرضاهُ  الفهيم

إنّها الارزاءُ سادت في دجى الليل البهيمْ

إنّ في الأرض شقاءً  .. وظلامًا    وسديمْ

كلُّ     حُرٍّ    يتلظى وأبيٍّ        وكريمْ

إنما    عدلُ     إلهي دائمًا   حقٌّ    قويمْ

في السماواتِ سلامٌ وصراطٌ     مستقيم

ويقابل حاتم جوعية هذا الكلام بكلام صادر عن الشيخ (المشار إليه بالخط الصغير) قائلًا:

في الأرضِ عدلٌ لهُ الشيطانُ مبتسمٌ

ابليسُ  يعجزُ ما يأتي  بهِ  البشرُ

كم أمةٍ تحتَ نيرِ الظلمِ قابعة

والكونُ يصمتُ لا حسٌّ  ولا خَبَرُ

فسارقُ الدارِ والأوطانِ مفتخرٌ

وسارقُ  الخبزِ عند  الكلِّ  محتقرُ

وكلُّ ذي سطوةٍ الناسُ تتبعُهُ

أمَّا   الضعيفُ   فمنبوذٌ   ومُنتَهرُ

الأرضُ أضحت جحيمًا كلُّها كدرٌ

الليلُ  خيَّمَ .. نارُ  الظلمِ    تستعرُ

والناسُ مليونٌ وجهٍ بئسَ نهجُهُمُ

باعوا الضميرَ بخمرِ العَهرِ قد سكروا

خلاصة:

ممّا تقدم يمكننا القول بأنّ قصيدة "المواكب" التي نظمها الدكتور الشاعر حاتم جوعية معارضة على نمط قصيدة" المواكب" لجبران خليل جبران، ذات قيمة خاصة لأنّها في أسلوبها وموضوعها لون جديد من المطولات الشعرية ذات موضوع تأملي فلسفي في حجم هذه القصيدة، وقد تميّزت بأسلوبها الحواري الذي تكتسب به تنويعًا في الشكل كما في الجو والأفكار.

ولا يسعنا في الختام إلّا أن نقدّم خالص التحيات وكلمات الاطراء والثناء للدكتور الشاعر حاتم جوعية على هذا الابداع الشعري الرفيع المنبثق من شاعرية فريدة المستوى ذات غنى تعبيري حافل بروعة الأداء ومتانة العبارة المتَسِّمة برشاقة السياق البعيدة عن التعقيد الفني بحيث تألّقَ الشاعر بإعتمادهِ أسلوب التصريح في انفعالٍ ظاهر وانفجارٍ وجدانيٍّ مؤثر يترقرق في جو من الموسيقى يرتبط مع المعاني الإنسانية المتشعبة في هذه القصيدة الطويلة شكلًا ومضمونًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق