سوف تبقى مفردات البرد والخوف واليتم والعوز في القاموس النفسي لأبي مرهج صوراً تضيء وتنطفيء بغير انتظام، كمنارات المرافيء البحرية المهجورة، وتترك حادثات ظلم تعرض لها آثارها في عمق دخيلته هلعا كارتعاب الأطفال من حكايا الضباع في أماسي القرى.
محبو أبو مرهج ينسبون سبب أمانته وطيبه إلى جودة معدنه، أما كارهوه القلائل فيعزونهما إلى جبنه و "حمرنته".
منذ أيام اشترى أبو مُرهج بعضاً من لوازم بيته، استلم الفاتورة والنقود التي أعادها له البائع، وكعادته، لم يَـعُـدّ أبو مرهج النقود، ولم يدقق في محتوى الفاتورة، دسَّها في جيبه بلا مبالاة وبعشوائية مع أوراق أخرى. سألته زوجته عما دفع وعما بقي لديه من نقود، عدَّها وقارنها بالمبلغ المذكور بالفاتورة، حَسَبَـها مرة أخرى، ابتسم بطيب، ثم محا الابتسامة بسرعة، وبدا الارتباك على ملامحه،أمسك بهاتفه المحمول ثم ردَّه إلى جيبه بسرعة.
أعاد أبو مرهج جردة الأغراض في الفاتورة، النتيجة نفسها، ثمة كيس بالونات صغير ودمية غير مذكورين في الفاتورة. هذا الهاجس وضعه بين مطرقةِ حلالٍ تستوجبُ تبرئة ذمته عَـبْـرَ ردِّ السِّلع "الحرام" للبائع، الذي إن عرف بخطأ موظفه سيعاقبه ويطرده، وبين سندان سكوت أبي مرهج عن حرام يتمثل بتجاهله للموضوع برمته.
لم يكن قلب أبا مرهج من طينة تلك القلوب الحجرية التي تفكر بالذهنية المادّية المحض دون الجانب الروحي، رغم شبه أميته كان "مَدرَحِـيّـاً" بفطرته، يُردِّد في ذاته: "وهل من العدل أن أتسبَّبَ بقطع رزق مراهق يكدح ليعيل ذويه كي أُبَـرِّىءَ ذمّتي، قد يكون في منزل ذلك الفتى مريضاً يحتاج لدواء، أو طالبا يتوجب دفع قسط مدرسته أو جامعته، أو قسط دين مستحق، حيث يمكن أن يضطر المحتاج للسرقة أو القتل في حال عدم توفر المبلغ المطلوب لديه، وما يترتب عليه من عواقب جرمية أو جنائية وسجن."
يَمَّـمَ أبو مرهج وجهه صوب بيت المختار وعرض عليه مشكلته فقال له الأخير: " المبلغ زهيد بالنسبة للتاجر ولن يشعر به، أولادك أحق به، دعك من مثاليات لا تطعم خبزاً."
لم يقتنع مرهج بنصيحة المختار وتذكر ما يقوله عنه جارهما الصحفي المبتديء:"مختارنا يسير على نهج وزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنجر:" أميركا تدير الأزمات والصراعات ولا تنهيها".
جلس على سطيحة داره يتفكّر ويراقب قرص الشمس الموشك على المغيب خلف الجبال البعيدة، جال بخياله يتفكر في أوضاع عدد من الوجهاء الأثرياء، ينعم كل منهم بثروة كسبها بالحرام المؤكد عبر التهريب أو غيره، وكم من فقير"آدميٍ" مُعدم يتعب ويشقى كي بالكاد يكسب الحلال يعيش على الكفاف.
أشار عليه عقله بالتوجه نحو دارة رجل دين معروف بسداد رأيه، ونزاهته واستقامته. روى له مشكلته، نصحه الرجل بوضع قيمة السلعتين في صندوق النذور كي تبرأ ذمته.
كاد مرهج أن يعمل بتوجيه رجل الدين لو لم يباغته هاتف خفي، حيث صار يسمع هسيسا ناعما متكرراً : "أعطِ المبلغَ لفقيرٍ محتاج، أو لأرملة أو يتيم" وأنا الكفيل لك ببراءة ذمتك.
عيحا في 07/08/2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق