نقد الشعر والرواية: الباب الأول: نقد الشعر.. مع البياتي/ د. عدنان الظاهر

 


تمهيد:

هذه دراسة لبعض أشعار المجلّد الثاني للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي التي كتبها في إثني عشرَ عاماً، أي في الفترة الواقعة بين عامي 1965 و 1977 ، وهي الفترة التي أعقبت مغادرته موسكو آواخر عام 1964 إلى القاهرة وإقامته فيها حتى عام 1972 (؟) ثم مغادرته القاهرة إلى بغداد ليعملَ مستشاراً في وزارة الثقافة والإعلام العراقية حيث كتب أشعاراً حمل البعض منها تأريخ 1977 وهو منشورٌ في هذا المجلّد الثاني، أعني قصيدة " النور يأتي من غرناطة " وقصيدة " قُدّاس جنائزي إلى نيويورك ". 

غطّت أشعار هذه الفترة المجلّد الثاني من كتابه ( ديوان عبد الوهاب البياتي/ دار العودة، بيروت، الطبعة الرابعة 1990 ) بإستثناء قصيدة " أُفول القمر " كتبها عام 1960 " وأخرى كتبها عام 1962 " شيء عن السعادة " والثالثة عام 1964 هي قصيدة " رماد في الريح " . خلافاً لقصائد المجلّد الأول، جاءت الغالبية العظمى من قصائد المجلد الثاني خلواً من تأريخ كتابتها. غير أنه ثبّتَ تأريخ كتابة القليل منها في الأعوام 1973 و 1974 ( قصائد كتاب قمر شيراز) ثم في 1975 و 1977 .  

لماذا التركيز على هذه الفترة بالذات ؟ 

الجواب لأنها تمثل الطفرة النوعية الكبرى في منهجه وأسلوبه في قول الشعر: الحقبة التي أسميها الصوفية – السوريالية الناجحة التي بدأت ملامحها تظهر مع آواخر ما نظم من القصائد التي إحتواها المجلّد الأول ( قصيدة مرثية إلى ناظم حكمت … مثلاً ) ونضجت حتى بلغت الأوج إبّانَ إقامته في القاهرة لما يقرب من ثمانية أعوام. لقد دشّن هذا النهج الصوفي – السوريالي بديوان " سِفر الفقر والثورة " وإختتمه بديوان " مملكة السنبلة ". لقد مثّلَ ديوان " قمر شيراز "  السمت الأعلى في أفق هذا التحول في نهج الشاعر، ولا سيما قصيدة " حب تحت المطر " الذي يُذكّرني عنوانها بعنوان أحد الأفلام الأمريكية القديمة " غِناء تحت المطر ". 

هل فعلت القاهرة في البياتي ما فعلته فسطاط مصر من تجويدٍ وتطويرٍ في شعر أبي الطيب المتنبي قبل ما يقرب من أحد عشر قرناً من الزمان ؟ أقصد الفعل الذي أشار إليه الدكتور طه حسين في كتابه الشهير " مع المتنبي ". لا أظن ذلك. فلقد رحل الرجل  إلى مصر جاهزاً مكتنزاً ( بالغَ الرُشد ) فإنفجر وإنفجرت طريقته الجديدة في قول الشعر مفيداً من جو الإنفتاح النسبي في مصر يومذاك بالقياس إلى ما كان سائداً في العراق من أجواء فكرية وثقافية وسياسية متشنجة لا تستسيغ ولا تهظم وجود شخصٍ كالبياتي بين ظهرانيها. ولعل من الطريف  أن أشير هنا إلى أنَّ الشاعر البياتي كان قد إستهل قصائد هذا المجلّد الثاني بقصيدة " إلى عبد الناصر الإنسان " التي كتبها في القاهرة بتأريخ العاشر من شهر آذار

( مارس ) 1965 ، أي بُعيد وصوله إليها قادماً من موسكو. ليس في هذا شيء من العجب فلقد سبق وأنْ نشر البياتي في صحيفة لبنانية يوم أنْ كان ما زال في موسكو عدداً من القصائد يمدح فيها عبد الناصر يُمهد فيها لرحلته إلى مصر ضيفاً عليها أو لاجئاً فيها.    

1- البياتي والصوفية والسوريالية : 

ما كان البياتي وهو في موسكو بعيداً عن قراءة وتتبع آثار وأشعار ونظريات منظري وفلاسفة المدرسة الفرنسية السوريالية الأوائل من أمثال بريتون وأراغون وإيلوار ثم الشاعر الإسباني المبدع فيديريكو غارسيا لوركا ثم صداقته ومعاشرته للشاعر التركي ناظم حكمت.  

إذا إنفجرت طريقة البياتي في القاهرة، حيث إبن الفارض ثم تأثير كبير متصوفة المسلمين محيي الدين بن عربي الأندلسي الأصل والمدفون في دمشق، وإكتشف الشاعر الموضع الصحيح لقدميه فيها فإنها إكتملت وبلغت مداها الأوسع والأنضج في بغداد حيث زعماء متصوفة الإسلام أمثال الحلاّج والسهروردي وعبد القادر الكيلاني وإبن شبل البغدادي وغيرهم. هل كان نهج التصوف الروحي في الشعر لدى البياتي ردة فعل لمادية النظام الإشتراكي في موسكو الذي عاش فيه قرابة الخمسة أعوام ( 1959 – 1964 ) ؟ لا أظن ذلك. فمنظومة الرجل العصبية والنفسية وبيئته الفقيرة الأولى في أزقة بغداد قريباً من ضريح الكيلاني تؤهله لأن ينحو هذا المنحى الصوفي الذي مارسه شعراً دون أن يمارس طقوس الدروشة وطرقها المعروفة. كان الرجل بسيطاً متواضعاً في حياته لم يسعَ إلى جمع المال أو التفرّد بجاه خاص سوى جاه وتاج سلطنة الشعر الذي إستغرق جلَّ سنوات عمره حيث كان الخصوم والمنافسون كثرةً  يقفون له بالمرصاد ويحصون عليه أنفاسه خاصة في الفترة الطويلة التي صمت فيها على ما كان يجري في العراق من ويلات وحروب وغزو وإستخدام الغازات السامة ضد خصوم نظام صدام حسين وحزب البعث الحاكم من مختلف فئات الشعب العراقي وقومياته وطوائفه وأديانه وأقلياته العرقية. لقد إنزوى في هذه الفترة معزولاً في مدريد لم يقل شعراً ولم يشارك في فعالية إجتماعية أو نشاط سياسي.كانت تلك فترة شديدة الغموض وتحمل الكثير من الأسرار التي طواها موت الشاعر قبل أن يشهد سقوط نظام العسف والجور والطغيان. لعل السيدة أم علي، قرينة الشاعر، أنْ تتكلم يوماً وتكشف ما كان مخفياً في الظل والظلام من تأريخ البياتي خلال تلك الحقبة من الزمن ( 1982 – 1992 ). أو قد تقوم بهذه المهمة كريمة الشاعر الآنسة أسماء. أو أن ينطق وزير الثقافة والإعلام يومذاك عبد اللطيف نصيف جاسم، الوزير الذي أبرم صفقة مدريد الغامضة مع البياتي والذي يرزح الآن في أحد سجون سلطات التحالف التي تحتل العراق اليوم، في حين يرقد صاحبه البياتي تحت تراب دمشق بالقرب من ضريح محي الدين بن عربي حسب وصيته. 

ما هي مصادر أو ينابيع ثقافة البياتي الصوفية والسوريالية ؟ لقد أبان الشاعر عنها بشكل لا يقبل التأويل أو الإلتباس. فلنتتبع المجلد الثاني ونقرأ عناوين القصائد والأسماء الطنانة التي أهداها الكثير من قصائده من المتصوفة المسلمين والشعراء الرمزيين والسورياليين الأوربيين:

عذاب الحلاّج. الصلب ( يشير فيها إلى المسيح ). محنة أبي العلاء. غاليليو. سقط الزند. قمر المِعرّة. لزومية. عمر الخيام. الليل في نيسابور. بول إيلوار ( شاعر فرنسي ). برتولد بريخت ( شاعر ومسرحي ألماني ). ألبير كامو ( روائي فرنسي ). لوركا ( شاعر ومسرحي إسباني ). ديك الجن. جيفارا. روميات أبي فراس (الحمداني). الإسكندر المقدوني. طرفة بن العبد. أورفيوس. عشتار. المجوسي. زُرادشت. هلدرين ( شاعر ألماني ).

 أراغون ( شاعر فرنسي ). محيي الدين بن عربي. وضّاح اليمن. الإمام الشافعي. أخناتون. نيتوكريس. طاغور. عبد اللطيف اللعبي. بابلو نيرودا. سارق النار ( بروميثيوس ). ناظم حكمت ( شاعر تركي ). رفائيل ألبرتي ( شاعر إيطالي ). ماشادو ( شاعر إيطالي ). طواسين الحلاّج. قمر شيراز ( الشاعر حافظ ). سلفادور دالي ( رسّام إسباني ). فريد الدين العطار. السهروردي. جلال الدين الرومي. 

ليس من باب الصدف العمياء أن يذكر الشاعر كل هذه الأسماء المعروفة دون أن يكون قد قرأ لها وتأثر بها أو بالبعض مما تركت من تراث فلسفي أو شعري أو أدبي عام. خاصة وأنَّ أغلب متصوفة المسلمين المفكرين الكبار كانوا شعراء كتبوا الشعر الجيد بطرقهم المغرقة في السوريالية. أستطيع القول إنَّ البياتي جمع تراث فلاسفة المتصوفة المسلمين في واحد منهم وإتخذه رمزاً وعلماً يهتدي ويقتدي به ألا وهو محي الدين بن عربي. كما أنه ركّز شعراء الرمزية والسوريالية الأوربيين في واحد وإتخذه قدوةً ومثالاً يحتذي به، وهو غارسيا لوركا الإسباني. لقد إرتكز البياتي على قاعدتين عريضتين في طريقة كتابته لأشعار هذه الفترة من حياته ثم صعد على هاتين القاعدتين إلى الأعلى على عمودين شاهقين أحدهما يمثل المدرسة الصوفية الشرقية الإسلامية ( إبن عربي ) بينما يمثل العمود الآخر المدرسة السوريالية الغربية الأوربية ( لوركا ). فلا غرابة والحالة هذه أن نجد البياتي قد أكثر من ذكر إسم لوركا في أشعار هذا الطور من تطور فن عالمه الشعري المتميز، فضلاً عن إفراد قصيدة خاصة أسماها " مراثي لوركا / الصفحة 151 " مضافاً إلى ذلك الإشارات إلى لوركا تصريحاً أو تضميناً أو مجازاً كلما تطرق الحديث إلى غرناطة أو الحمراء أو إسبانيا. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فقد كتب على الصفحة 280 في باب هوامش قرابة العشرة أسطر فيها خلاصة سيرة حياة وفلسفة محيي الدين بن عربي، أستعير منها ما يخدم خط دراستي هذه ووجهات نظري فيما يتعلق بطبيعة شعر البياتي في هذه المرحلة :

((…وهو يقول بوحدة المحبوب وإن تعددت صوره و " عين الشمس " هو لقب النظام، الفتاة التي أحبها وجعل من الأشياء والصور مسارح تتجلى فيها صفات الحق وأسماؤه ثم عاد فجعل من النظام عيناً لتلك الصفات والأسماء، فكل صفة وجودية ندركها في الأشياء إنما هي تجلٍ خاص من تجليات هذه الفتاة. وقد كتب من أجلها ديوان شعره " ترجمان الأشواق " )). كما قدّم كتابه ( الذي يأتي ولا يأتي / ص 57 ) بمقدمة قصيرة قال فيها 

(( سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية الذي عاش في كل العصور منتظراً الذي يأتي ولا يأتي )). وقدّم لكتابه ( عيون الكلاب الميتة / ص 100 ) بجملة للشاعر الفرنسي بول إيلوار تقول (( أشعلتُ ناراً عندما تخلّت عني زرقة السماء )). أما كتاب ( الموت في الحياة / ص 131 ) فلقد قال البياتي في مقدمته (( الوجه الآخر لتأملات الخيام في الوجود والعدم )) ثم أتبع ذلك على الورقة التالية بكلمة للروائي الفرنسي ألبير كامو تقول (( هناك شمس لا تغيب في قلب ما أكتب )). أما كتاب ( قصائد حب على بوابات العالم السبع/ ص 235 ) 

فقد إفتتحه بكلمة ليست قصيرة للشاعر الألماني هولدرين وأخرى للشاعر الفرنسي أراغون. كما جعل مفتتح ديوانه ( كتاب البحر ) قولة الحلاّج الشهيرة ( ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما - هكذا وردت خطأً. الصواب وضوءُهما – إلاّ بالدم / الصفحة 285 ).  

إلى كل هذا من الممكن إضافة معلوماتٍ وردت في المجلّد من شأنها مساعدتنا على فهم الشاعر وفك بعض رموز أشعاره والطلسمات أو الدهاليز السحرية التي يستقي عالمه الشعري التهويمي منها. قال على الصفحة 310، قصيدة " الرحيل إلى مدن العشق " :

من قال بأنَّ القيثارْ

كان دليلي من قال ؟

فأنا غاليلو- سقراطْ- الحلاّجْ

وأنا الحسنُ الصبّاحُ- الخيّامْ 

غاليليو العنيد الذي خالف الكنيسة وتحدّاها وعرّض نفسه للموت بإصراره على حقيقة أنَّ الأرض تدور. سقراط الذي جرعوه السم الفتّاك ولم يتنازل عن فلسفته وأفكاره وتعاليمه. الحلاّج، الصوفي والمفكّر والثائرالذي صُلب في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 309 هجرية ( 26 آذار 922 م ) على جسر بغداد زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله ثم قُتل وأُحرقت جثته ونُثر رمادها في نهر دجلة. ثم الحسن الصبّاح زعيم الإسماعيليين وعمر الخيّام الرياضي والفيلسوف الإسماعيلي وشاعر الرباعيات المعروفة.  

وقال على الصفحة 433، قصيدة " تأملات في الوجه الآخر للحب " :

لا أكتبُ شعراً من ذاكرتي أو ذاكرة الموروث المُحبِط، لكني في حرب عصابات الشعرِ على الأعراف المحشوّةِ قشّاً والموتِ المجاني، وراءَ المتراسِ دماً أنزفُ، مسكوناً بقوى الثورةِ والكون المتغيّرِ، أصنعُ ذاكرةً لوجودِ الإنسانِ الغائبِ والحاضر. روحي مركبةٌ ترحلُ نحو الداخل والخارج باحثةً عن جوهرِ هذا الحب الثابت والمتحوّل…

إعجاب البياتي النظري والشعري بالثورة ورجالها لا حدود لهما. هنا أراه يحاكي جي غيفارا الذي أهداه قصيدة " عن الموت والثورة " فيقف وراء متاريس الثورة. ثم، وهذا هو  الأهم في نظري، يرى الشاعر نفسه مسكوناً بقوى الثورة والكون المتغير والإنسان الغائب والحاضر والرحيل نحو الداخل والخارج ثم الحب الثابت والمتحوّل.

التغيّر… الغياب والحضور… الداخل والخارج… الثبات والتحول. 

ثم نقرأ له في المقطع الرابع من نفس القصيدة : 

قانونٌ جدليٌّ يتحكمُ بالكلماتْ فيفرغها من معناها أو يملؤها ويُجسّدُ فيها طاقاتٍ لا حصرَ لها، يُصبحُ من فرط غِناها هو إياها، يتحكمُ بالإنسان الشاعرِ، بالأرضِ المجنونةِ وهي تدورْ.

إيمان عميق بالجدلية ( الكلامية، علم الكلام، المعتزلة…ربما ) ثم التأكيد على قانون غاليليو الفلكي حول دوران الأرض. لقد تصدرت قولة غاليليو الشهيرة " ولكنَّ الأرض تدور " قصيدة ( محنة أبي العلاء / ص 24 ). ثم وضع هذه المقولة عنواناً للمقطع العاشر من هذه القصيدة. 

لا أجد بأساً من إلقاء الضوء على أمر آخر قد يصلح مفتاحاً لفك شفرة بعض أشعار البياتي. أعني ما قال في قصيدة (( عن الذين يرفضون " تمثيل دور الذي يمثل " )) :

أكتبُ ما رواهُ لي مؤلفُ المأساةْ

وبطل القصيدةْ

وجوقةُ الإنشادْ 

أعرضهُ مثل خيالِ الظلْ في لوحاتْ.

نعرف ويعرف القاريء لعبة " خيال الظل ".  

 2- ما الذي أفادَ البياتي من الصوفية والسوريالية ؟ 

على الصفحة 357 من المجلد الثاني قال البياتي ( سأطردُ المنطقَ من حظيرتي ). وبالفعل، فشعره في هذه الحقبة خالٍ من المنطق وألفاظه لا تخدم معانيها المعروفة. يختلط الكل فيها بالكل ويسيح الشاعر سياحاتٍ كالماشي في نومه على غير هدى وفي كافة الإتجاهات ويهذي كالواقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي وينطق جُملاً لا رابط يجمع بينها كأنها هلوسات وتخريفات لا يخلو البعض منها من سرد سندبادي وقصص وحكايا أطفال. وفي هذا تطبيق حرفي لما يسميه السورياليون بالكتابة الآلية (( تفتح الكتابة الآلية بإستمرار أبواباً جديدة على اللاشعور / بول إيلوار ص 271 / كتاب أدونيس، يأتي ذكره تفصيلاً على الصفحة التالية )). فلا غرابة إنْ لم نجد حضوراً للبياتي في شعر هذه المرحلة، لا وجود له إلا في القليل النادر مما سأعرض لاحقاً. كيف يكون موجوداً في شعر يكتبه كالمنوَّم أو المُخدَّر أو المسحور أو الغائب عن وعيه والمصاب بضربة الغيبة الماورائية الميتافيزيكية أو غيبوبة القطب الصوفي أو المريد الذي جاهد فنزع الحجاب فدنا وأوشك على الوصول إلى الحضرة؟ لكأنَّ الشعر يستكتب الشاعر ويستنطقه ويفرض عليه لغته الخاصة ومزاجه الخاص ومنطقه الخاص الذي هو اللامنطق أو منطق اللامعقول. هنا نواجه ما يُسميه 

( ميرلو بونتي ) باللغة الناطقة Speaking Language ، لغة الإبداع الشعري التي هي ضد اللغة المنطوقة Spoken Language  ( كتاب نصيات بين الهرمنوطيقا والتفكيكية. المؤلف هيو. ج سيلفرمان. ترجمة علي حاكم صالح والدكتور حسن ناظم. الصفحة  260 / الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الأولى 2002 ). 

نعم، ( سأطرد المنطق من حظيرتي ). أليس هذا هو أحد أركان السوريالية التي وضعها منظروها الأوائل في عشرينيات القرن الماضي ؟ نقرأ في كتاب أدونيس 

( الصوفية والسوريالية / دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 1992 ) مقتطفات قالها بعض هؤلاء المنظرين : (( العقل عند السورياليين هو أسوأ أعداء الفكر/ ص 267 )). (( المنطق يمثل وفقاً لتعبير بريتون السجن الأكثر مقتاً …/ ص 268 )). (( يجب أن تكونَ القصيدة إندحاراً للذهن… القصيدة هي نقيض الأدب / ص 285 )). 

لقد نهج البياتي في شعر هذه المرحلة نهج الشعراء السورياليين فكتب شعراً يخالف قواعد المنطق وقوانين العقل المعروفة لكن بعد أن طعّمه وأضاف إليه بعداً صوفياً آخر بالغ الخطورة والدلالة. يتمثل هذا البعد الصوفي بوضع مبدأ وحدة الوجود والكون الصوفي موضع التطبيق الحرفي فيما قال من شعرلم يسبقه إليه إلاّ شعراء المتصوفة الأوائل المعروفون. الكون واحد والمادة واحدة تتكون في الأصل من ذرات لا تفنى متعددة الوجوه (( يا روحَ عناصر هذا العالم / ص 413 )). البحر صحراء وكوكب الزهرة هو الأرض وعائشة هي عشتار البابلية أو عشتروت السومرية أو بلقيس سبأ وسد مأرب أو ليلى أو لارا (( أرى كلَّ نساء العالم في واحدةٍ تولدُ من شِعري / ص 390 )). وبغداد هي تونس أو صنعاء ومدريد هي أثينا أو لندن أو تهامة والنور هو الظلام والليل هو النهار والثلج أسود اللون والقمر أخضر أو أحمر أو أسود… وهكذا. ثم إنَّ الزمن واحد من الأزل إلى الأبد ليس له من ماضٍ أو مستقبلٍ وغير قابل للتجزئة (( فزورق الأبد مضى غداً وعاد بعد غد/ ص 80 من قصيدة بكائية )). فقصائده قريبة جداً من لوحات بيكاسو السوريالية. البياتي يرسم لوحاته بالكلمات ( الرسم بالكلمات / نزار قباني ) ويرسم بيكاسو لوحاته بالألوان والظلال والقدرة على إستغلال الفراغ على سطح اللوحة. وكنتيجة حتمية لهذا الإنفلات وهذا الهذيان الصوفي – السوريالي فقد البياتي القدرة على إختيار العناوين الصحيحة لقصائده. ففي الإمكان رفع عنوان هذه القصيدة ووضعه عنواناً لقصيدة أخرى دونما أي تأثير على سياق ومضمون هذه القصيدة أو تلك. ولكي يتلافى هذا الخلل يُضطر إلى حشر مقدمات ومقتطفات يستعيرها من غيره من الشعراء أو الفلاسفة أو الروائيين أو أن يُهدي الكثير من قصائده إلى واحد من هؤلاء سدّاً لخلل يحسه الشاعر نفسه قبل غيره من القرّاء. الهذيان غير المنضبط والهلوسة في الشعر تفرزان دونما أي ريب أمثال هذه الظواهر.   

يُخيّلُ لي أنَّ الشاعر البياتي يكتب قصائده أولا مقطوعة الرأس بدون عنوان. وحين ينتهي من كتابتها يُعطي نفسه فُرصةً للراحة والتفكير، قد تطول وقد تقصر، ثم يختار العنوان الذي يراه الأنسب من بين جملة خيارات. وليس بالضرورة أن يكون هذا الخيار هو الأفضل بالنسبة للقاريء. 

 نجح البياتي في هذا الضرب من الشعر نجاحاً لم يعرفه الشعراء المعاصرون سيما وقد عرف بذكاء وكفاءة كيف يربط ما بين مبدأ وحدة الوجود الصوفي وما يسميه السورياليون 

( النقطة العليا ) حيث تذوب ثنائيات الوجود وتختفي التناقضات. نقرأ على الصفحة 49 من كتاب أدونيس مار الذكر (( هذا المبدأ الأعلى هو ما يسميه بريتون

 " النقطة العليا " وهو يحددها قائلاً : كل شيء يدفع إلى الإعتقاد بوجود نقطة روحية ينعدم فيها التناقض بين الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والمستقبل، ما يمكن إيصاله وما لا يمكن، الأعلى والأسفل، ومن العبث البحث عن محرّك آخر للفاعلية السوريالية غير الأمل بتحديد هذه النقطة )). ونقرأ في الصفحة 50 (( هذه النقطة العليا هي بمثابة مكان يتلاقى فيه الكون الداخلي- الذاتي، والكون الخارجي- الموضوعي. في هذه النقطة نتجاوز المثالية التي تنكر الأدنى بإسم الأعلى، ونتجاوز المادية التي تنكر الأعلى بإسم الأدنى. الأعلى والأدنى هما في هذه النقطة متساويان. إنهما تجليان لمعنى واحد. إنها نقطة تؤالف بين الأشياء، على تنوعها، وبين الواقع وما وراء الواقع. وفيها تتجمع الطاقات الإلهية التي حلم نيتشه بإستردادها، والتي عاشها التصوف العربي (هكذا ! ) ، أعني إستردها في نظرية الحلول وفي نظرية وحدة الوجود. في هذه النقطة العليا يتم الإنعتاق من عالم الظواهر العقلانية، الموضوعية…وتتم المعرفة. تنتهي الثنائية، تزول التناقضات. الثنائية هي التي تبقّي الإنسان في الجهل أسيراً لأناه الفردية – الإجتماعية التقليدية…)). 

3- تشريح النسيج الشعري / لغة البياتي

هل شعر البياتي هذا فوضى ضاربة الأطناب ؟ الجواب نعم، هي فوضى تضطرب كالإعصار المدمر لكن في فضاء مغلق صلب من الفولاذ المزدوج والمسلح تسليحاً جيداً. كالقنبلة الذرية تماماً إنْ صحَّ التشبيه من باب المجاز. هذا الفضاء المغلق إنما يمثل أقصى درجات النظام، أعني إلتزام التفعيلة من جهة وهو واحدٌ من أسيادها الطليعيين مع بعض الزحافات هنا وهناك، وهي مطبات هوائية تحس بها ذائقة القاريء قبل سمعه. 

أجلْ، التفعيلة نظام وسلامة اللغة قيد ونظام ورقيب على الشعر وعلى الشاعر معاً. فشعر البياتي والحالة هذه فوضى داخل نظام صارم مزدوج الطبيعة. فإنه يتمتع من ناحية بأقصى درجات الحرية في التعبير عن أفكاره وهواجسه وأحاسيسه ومشاعره، ويُلزمُ من ناحيةٍ أخرى نفسه بنوعين ودرجتين من القيود الصارمة. وإنه لهوَ الحاكم المطلق وإنه لهوَ القاضي الخصم في عين الوقت ( فيك الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ / المتنبي ). هو الحر الطليق لكنه هو العبد المقيد. حر بالإستسلام الصوفي الكلي لغيبوبته أمام سطوة وسلطان لغة الإبداع الناطقة والهذيان الذي تفرضه حالة اللغة هذه. ومقيد بالوعي الكامل لأحكام التفعيلة واللغة. 

كيف تسنى للبياتي أن يجمع الضدين ؟ الجواب لدى فرويد وأضرابه من علماء النفس والطب النفساني. إنه البياتي الشاعر والإنسان جامع الأضداد بجدارة. وهو في شعره شيء وفي حياته شيء آخر. ما تقرره النظريات شيء وما تقوله الحياة شيء آخر. جمع البياتي في نفسه الأضداد التي لا يعترف بها هو فيما كتب من شعر ولا تعترف بها أصلاً النظرية الصوفية – السوريالية سواء في الشعر أو الفلسفة أو الحياة. وخلافاً للبياتي، كان كبار فلاسفة المتصوفة المعروفين متصوفين في شعرهم وفي حيواتهم الخاصة والعامة. في حين كان البياتي صوفياً – سوريالياً في متون كتبه الشعرية حسب. سقط في التناقض الأكبر مُدعّي تحطيم جُدُر وأرضيات النقائض. قال أحد الشعراء :


                          إلى الماءِ يسعى من يَغَصُ بلقمةٍ

                          إلى أين يسعى من يَغَصُ  بماءِ ؟ 

4- بعض الخلل في لغة البياتي :

4-1 حذفه لألف النصب على المفعولية في آواخر الكثير من سطوره، وذلك بسبب ولعه المطلق بتسكين هذه الآواخر ليستقيم إيقاع التفعيلة على أُذن القاريء أو ليستقيم السجع الصوتي بالتقفية مع ما يأتي من سطر أو سطور. وهو أسلوب أشبهه بآليّة التصفيق بالكفين توخياً لرجع الصدى المتكاثر كحالة تردد قصف الرعود كثرةً وقوةً في السماء في إثر إندلاع شرارة البرق الأولى. أضرب أمثلة على ذلك وهي غيض من فيض : 

من قصيدة " عذاب الحلاّج " ص 9 – 20 / المقطع السادس " رماد في الريح " :

عشر ليالٍ وأنا أكابد الأهوالْ ( الصواب : الأهوالا )

وأعتلي صهوةَ هذا الألم القتّالْ 

أوصالُ جسمي أصبحتْ سمادْ ( الصواب : سمادا ) 

ومن قصيدة " محنة أبي العلاء " ص 24 – 27 / المقطع الثاني " العباءة والخنجر " :

أصبحتُ في بلاطه حجرْ ( الصواب : حجراً أو حجرا )

ليلاً بلا سَحَرْ

قيثارةً مقطوعة الوترْ

عباءةً باليةً، مسمارْ ( الصواب : مسماراً أو مسمارا )

وفي قصيدة " لوركا " ص 151 :

يموتُ أنكيدو على السريرْ

مُبتئساً حزينْ ( الصواب : حزيناً أو حزينا ) 

 من قصيدة " المجوسي " ص 215 - 216 : 

وراقصتُ الفراشاتِ وعانقتُ الزهورْ ( الصواب : الزهورا )

منحوني عندليبباً وقمرْ ( الصواب : وقمراً أو وقمرا )

ولماذا استرجعوا مني القمرْ ( الصواب : القمرَ أو القمرا )

كان حبي لكِ موتاً ورحيلْ ( الصواب : ورحيلا )

وجدوه عند بابِ البيتِ في الفجرِ قتيلْ ( الصواب : قتيلا ) 

وفي قصيدة " ديك الجن " ص 157 – 161 : 

صنعتُ من رمادها فراشةً ودُميةْ

وقدَحاً مسحورْ ( الصواب : مسحورا )

أنامُ في الضفافْ

صفصافةً تنتظرُ العرّافْ ( الصواب : العرّافا )

هنا نجد ما كنت قد قصدتُ بآلية التصفيق بالكفين من أجل الحصول على تضخيم أثر الظاهرة الصوتية في أُذن القاريء أو السامع بتكرير الصدى داخل القصيدة. المفروض أن يكون البيتان كما يلي :

أنامُ في الضفافِ

صفصافةً تنتظرُ العرّافا … بهذا الشكل اللغوي السليم يخسر الشاعر أثر رجع الصدى المدوّي في أُذن السامع. أرى تلك واحدة من مشاكل البياتي العويصة: التضحية بقواعد اللغة من أجل الظاهرة الصوتية وبعض ( المُحسّنات البديعية … حسب لغة إبن المعتز ). ثم يأتي البيت التالي مباشرة بعد هذين البيتين :

والبرقَ والعصفورْ ( الصواب : والعصفورا )

وفي قصيدة " هكذا قال زُرادشتْ " ص 217 – 218 :

فمتى يهبطُ زارا من جبالِ النومِ والموتِ إلى الشارعِ حُرّاً وطليقْ ( الصواب : وطليقا )

وفي قصيدة " القصيدة الإغريقية " ص 382 – 385 / المقطع 12 :

كانت ترسمُ فوق الرملِ عيوناً وشفاهْ ( الصواب : وشفاهاً ) 

4-2 تصريف الممنوع من الصرف :

نقرأ في قصيدة " قراءة في كتاب طواسين الحلاّج " ص 372 – 375 ما يلي :

كان الحلاّجُ يعودُ مريضاً وينامُ سنيناً / الصواب : سنينَ أو سنينا، بدون تنوين. 

كذلك صرّفَ السنين في قصيدة " النور يأتي من غرناطة " ص 403 – 405 :

ويظلُّ الرجلُ الطفلُ سنيناً في سَفَرٍ.

4-3 ثم الخطأ في إستخدام أداة الجزم "لم " الواقعة بعد لماذا كأن يقول : لماذا لم بدل لِمَ لَمْ أو لِمَ لا – ص 411 -. لا تأتي لم بعد لماذا لأنَّ لماذا في الأصل هي مزيج مركّب من  لِمَ هذا = لِمَ ذا = لِمَذا = لماذا . من هذا تتضح إستحالة القول : لِمَ هذا لمْ  = لِماذا لمْ . لا مكان لإسم الإشارة " هذا " ما بين أداة الإستفهام لِمَ وأداة الجزم لمْ. 

4-4 أخطاء أخرى في كيفية تهجّي وكتابة الهمزة :

وهذه لحسن الحظ ليست كثيرة. وربما يُلام ناشر الكتاب على ذلك لا الشاعر ( أتمنى ذلك !! ). أمثلة :

في قصيدة " مرثية إلى عائشة " ص 135 – 138 / على الصفحة 137 :

عدتُ كتاباً باهتَ النقوشْ

يقرؤهُ العشاقْ ( الصواب : يقرأهُ العشّاق … قرَأَ … يقرَأُ  وليس يقرؤُ . حرف الراء مفتوح وهو يسبق الهمزة مباشرةً )

يبيعهُ الورّاقْ

( العشّاقْ… الورّاقْ … ظاهرة التصدية والتصفيق بالكفين مارّة الذكر… ).

وفي قصيدة " مراثي لوركا " ص 151 – 156 / المقطع الثالث ص 153 :

جاؤوا على ظهرِ خيولِ الموتْ ( الصواب : جاءوا … الماضي المفرد هو جاءَ ، وفي حالة الجمع تبقى الهمزة مستقلة وكما كانت في الأصل، كحال الفعل قرأ …قرأوا، فقأ …فقأوا، ملأَ … ملأوا … وهكذا ). 

وفي قصيدة " قمر شيراز " ص 390 – 393 / المقطع الثالث ص 391:

أكتبُ تأريخَ الأنهارْ

أبدؤهُ بطيور الحبِّ وبالنهرِ الذهبيِّ الأشجارْ ( الصواب : أبدأهُ … ما قبلَ الهمزة حرف مفتوح، حرف الدال. وصيغة الفعل الماضي المفرد: بدَأَ … وأنا أبْدَأُ … أبدَأهُ ). 

وفي قصيدة " حجر التحوّل ) ص 442 – 446 / المقطع السادس ص 444 :

يتقيأُ بعضٌ منكمْ والبعض يُغيّرُ كالحرباءْ

ألوانَ الأشياءْ

وجلودَ الحملانْ

بجلودِ الذئبانْ ( الصواب : الذؤبان ). ذئبان هو مثنى ذئب وليس الجمع كما أراد الشاعر. 

قرأتُ الشعر بالروسية والإنجليزية ثم الألمانية فلم أجد ( كما لم يجد غيري ) أي خطأ في لغة الشعراء الذين كتبوا بلغاتهم هذه، بينما يخطأ شعراء العربية المعاصرون أو يسهون أو يتعاملون مع اللغة بدون إكتراث، فما سبب ذلك ؟!؟! هل الخلل كامن أساساً في لغة هؤلاء الشعراء وفي تربيتهم الثقافية أم في تسامح وتهاون القرّاء والنقّاد وجهل الناشرين؟؟ أحسب أنَّ الكل مسؤول بهذه الدرجة أو تلك ولاسيما الشعراء أو قوّالة الشعر.

5- البياتي وعائشة 

من هي عائشة ؟

نقرأ في المقطع السادس من قصيدة " الرحيل إلى مدن العشق " / الصفحة 308 ما يلي : 

                       تبكي ليلى المجنونَ وعائشةٌ تبكي الخيّامْ.

عائشة هي صاحبة ومثال عمر الخيام.كما كانت عين الشمس أو النظام مثالَ محيي الدين بن عربي. وكماكانت إلزا للشاعر الفرنسي أراغون ومنوّر لزوجها ناظم حكمت. 

ثم نقرأ في المقطع 16 من قصيدة " حب تحت المطر " :

" عائشةٌ إسمي " قالت : " وأبي ملكاً أُسطوريّاً كانْ. يحكمُ مملكةً دمّرها زلزالٌ في الألف الثالثِ قبلَ الميلادْ ".

هنا تنقلب عائشة إلى كائن أُسطوري، نراها تتحول وتتقمص أرواح وشخوص الكثرة من النساء وتخترق التأريخ وأحداثه جيئةً وذهاباً، لا تعترف بزمن أو حدود، ماضيها في مستقبلها ومستقبلها هو ماضيها. الزمن طريق مُعبّد ذو ممرين   Two – Ways Road . لا تعرف الموت بل موتها في حياتها وحياتها في موتها. تموت مراتٍ وتحيا مراتٍ. ومن هنا جاء إسمها " عائشة ". عائشة تحيا من الأزل إلى الأبد في جميع نساء العالم روحاً خالداً. أجساد ووجوه النساء تتبدل وتتغير وتتنوع لكنَّ الروح أو الجوهر يبقى هو هو دون تبدل أو تغيّر. فعائشة إذنْ كائن خرافي لا يعرفه إلاّ المتصوفة والغائبون عن وعيهم والقادرون على خرق وإختراق الحجب الزمانية والمكانية ورؤية المستقبل والرجوع بالحياة القهقرى إلى الوراء. 

بل وأكثر من ذلك. قد تتجلى عائشة للبياتي على شكل مخلوقات رقيقة فيتخيلها صاحبته عائشة كما ورد في المقطع الثامن من قصيدة " رسائل إلى الإمام الشافعي " التي لا علاقة لمحتواها لا بالشافعي ولا بمذهبه الواسع الإنتشار في مصر. عائشة في هذا المقطع مجرد فراشة زرقاء :


تهدّلَ النورُ على الرياض في " شيرازْ "

وفتحت أبوابها ورفرفت فراشةٌ زرقاءْ 

تطيرُ فوق سورها وفوق وجه العاشق الفقيرْ

صحا لكي يتبعها لكنها اختفت وراء السورْ 

تاركةً وراءها خيطَ دمٍ يمتدُّ في خمائل الأصيلْ

ناديتها :

عائشةٌ !

        عائشةٌ ! لكنها لم تسمعْ النداءْ

ولم ترَ العاشقَ في جحيمه يزحفُ نحو النارْ

منتظراً في آخر الأبوابْ. 

لا وجود لإسم عائشة أو لارا في قصائد المجلّد الأول. بدأ ظهور إسم عائشة ولأول مرّة في قصيدة " الموتى لا ينامون "، الصفحة 71 من كتاب " الذي يأتي ولا يأتي " الذي قدّمه بالقول ( سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية الذي عاش في كل العصور منتظراً الذي يأتي ولا يأتي ). حياة عمر الخيام الباطنية خلقت له مثالاً على شاكلته يعيش في كل العصور. ذكرها في هذه القصيدة مرتين في حين إفتتح القصيدة بذكر الخيام قائلاً :

في سنواتِ الموت والغربةِ والترحالْ

كَبُرتَ يا خيّامْ 

شعرُكَ شابَ والتجاعيدُ على وجهك والأحلامْ

ماتت على سور الليالي، مات " أورفيوس "

ومات في داخلك النهر الذي أرضع نيسابورْ 

عائشةٌ ماتت، وها سفينةُ الموتى بلا شراعْ

تحطّمت على صخور شاطيء الضياعْ 

- قالت، ومدّت يدها : الوداعْ

عائشةٌ ماتت، ولكني أراها تذرع الحديقةْ 

فراشةً طليقةْ

لا تعبرُ السورَ ولا تنامْ 

الحزنُ والبنفسجُ الذابلُ والأحلامْ

طعامها في هذه الحديقة السحريةْ

- أيتها الجنيّةْ !

تناثري حطامْ

مع الرؤى والورق الميّتِ والأعوامْ

وخضّبي بالدمِ هذا السورْ

وأيقظي النهرَ الذي في داخلي مات ورشّي النورْ

في ليلِ نيسابورْ

ولتبذري البذورْ

في هذه الأرض التي تنتظرُ النشورْ .

واضح أن البياتي هنا إنما يخاطب نفسه بإسم الخيام ( كَبُرتَ يا خيّام … ). وكما هو الأمر مع الكثرة الغالبة من أشعاره، يذكر البياتي في هذه القصيدة وبإلحاح واضح كلمات الموت والسور والنور. ثم إن عائشة المتوفاة تودّع الشاعر ثم تتحول إلى فراشة طليقةْ …  يراها تذرع الحديقةْ… لا تعبرُ السورَ ولا تنامْ. لا تتخطى السور الحاجز الذي يفصل الأحياء عن الموتى. فهي إذن عائشة، لم يُمتها الموت ولا يستطيع. ثم هي يقظى أبداً لا تأتيها سِنةٌ من نوم. هي حية ما دامت في الكون حياة.

في القصيدة التالية " الذي يأتي ولا يأتي " كرر البياتي تقريباً كل ما قد قاله في القصيدة السابقة مع إعادة ترتيب الوضع المكاني لبعض الكلمات في بعض الأسطر. ذكر فيها  السور ونيسابور وذكر عائشة ثلاث مراتٍ. بدأ القصيدة بموت عائشة التي تحولت في القصيدة السابقة إلى فراشة :

عائشةٌ ماتت، ولكني أراها تذرع الظلامْ

تنتظرُ الفارسَ يأتي من بلاد الشامْ 

- أيتها الذبابةُ العمياءْ

لا تحجبي الضياءْ

عني، وعن عائشةٍ ، أيتها الشمطاءْ 

عائشةٌ ماتت، ولكني أراها مثلما أراكْ 

قالت، ومدّت يدها : أهواكْ

وابتسمَ الملاكْ.

ذكر البياتي إسم عائشة في الكثير من قصائد المجلّد الثاني ( أربعاً وأربعين مرةً وفق حساباتي الأولية ) لكنه خصّها بخمس قصائد هي حسب تسلسلها في الكتاب : 

5-1 بكائية / ص 79 . مخصصة أصلا كرثاء لعائشة، وإن لم يقلها البياتي صراحةً. 

5-2 مرثية إلى عائشة / ص 135 

5-3 كتابة على قبر عائشة / ص 192 . وهو المقطع الرابع من قصيدة كلمات إلى الحجر.

5-4 مجنون عائشة / ص 257 .

5-5 ميلاد عائشة وموتها في الطقوس والشعائر السحرية المنقوشة بالكتابة المسمارية على ألواح نينوى / ص 271 .

فهل كانت هي المقصودة بقول البياتي في قصيدة قمر شيراز / ص 390 (( أرى كلَّ نساء العالم في واحدةٍ تولدُ من شِعري )) ؟؟ جائز.

نفهم من هذه القائمة أنَّ الموت غالبٌ على حياة عائشة !! تناقض ساخر : العائشة تموت.

الموت يتكرر كثيراً في أشعار البياتي، شأن كلمة النار والنور والأسوار. 

بكائية

في قصيدة " بكائية " يبحث الشاعر في نيسابور عن عائشة التي ماتت وأنزلها حفّار القبور إلى قبرها وهي في ثياب العرس مكللةً بتاج من الزهور( مثل أوفيليا في مسرحية هاملت ) لكنه لم يجدها في سرداب أو قبر. في القصيدة سياحة مذهلة وخلط بين رؤى الأحلام وما يشبه الحقائق. بين الأساطير والواقع. يستعير العالم السفلي في ملحمة جلجامش السومرية الذي ينزل فيه تموز ( دموزي ) لستة أشهر من السنة ثم تنزل إليه آلهة الجنس والخصوبة عشتار ( عشتروت ). عائشة إذنْ هي أوفيليا مرةً وهي عشتار السومرية مرةً أخرى. فيها خيال عجيب ساحر في سرده الذي يماثل قصص وحكايا الأطفال المكرّسة لمساعدتهم على النوم المبكّر. للبياتي قدرة فائقة على إقناع القاريء بما يقول من تخريف وبما يمزج من توليفات غير مألوفة في عالم البشر. لا تنسجم مع منطق أو عرف أو قانون. فالزمن واحد غير قابل للتجزئة. كأنه عجلة لا حدود لمحيطها دائبة الحركة الدورانية حتى أن ما كان ماضياً يعود كرّةً أخرى ليصبحَ مستقبلاً والعكس بالعكس. لا ماضيَ في الزمن ولا مستقبلاً. متصل من الأزل إلى الأبد دون توقف. هو سكة الحديد غير المتناهية ونحن البشر نتحرك كقاطرةٍ عليها ونتوقف، نُسرع ونُبطيء ونتحرك مخلفين وراءنا مسافاتٍ يمكن قياسها في المكان أو الفضاء غير المتناهي.كما يمكننا قياس سرعة حركتنا على سكّة الزمان بما نحمل من ساعات إخترعناها نحن البشر ولا يعترف بها الزمان ولا علاقة له بها. يثير الدهشة ويجعلك تشعر بحرارة وصدق ما يقول وما يرى في يقظته ونومه. يجعلك تصدّق الأكاذيب والتهويلات وتود لو يواصل السرد وسبر الأغوار غير المعروفة. نقرأ أكثرَ ما جاء في قصيدة " بكائية " :

عدتُ إلى جحيمِ نيسابورْ

لقاعها المهجورْ

للعالم السفليِّ، للبيت القديم الموحش المقرورْ

أبحثُ عن عائشةٍ في ذلك السردابْ

أتبعُ موتها وراءَ الليلِ والأبوابْ

كزورقٍ ليس به أحدْ

تتبعني جنازةُ الشمسِ إلى الأبدْ

- من ههنا أنزلها الحفّارْ

للقبرِ وهي في ثيابِ العُرسِ، فوق رأسها تاجٌ من الأزهارْ

وغيمةٌ من نارْ

أتبعُ موتها بلا دليلْ

أجرُّ خلفي سنواتِ حبها كذيلِ ثوبٍ فاقعٍ طويلْ

طرقتُ بابَ العالم السفليِّ مرتينْ

فمدَّ لي حارسهُا يدينْ

وقال لي : من أينْ

قلتُ : أنرْ لي هذه السهوبْ

فالليلُ في الدروبْ

قال، وكانت يدهُ تعبثُ بالمكتوبْ

ليقرأَ المحجوبْ :

- عائشةٌ ليست هنا، ليس هنا أحدْ

فزورقُ الأبدْ

مضى غداً وعادَ بعد غدْ

عائشةٌ ليس لها مكانْ

فهي مع الزمانِ ، في الزمانْ

ضائعةٌ كالريحِ في العراءْ

ونجمةِ الصباح في المساءْ

فعُدْ لنيسابورْ

لوجهها الآخرَ ، يا مخمورْ

وثُرْ على الطغاةِ والآلهةِ العمياءْ

والموتِ بالمجانْ.

(( فزورقُ الأبدْ، مضى غداً وعادَ بعدَ غدْ )) 

كيف يتقبل القاريء هذا المنطق المقلوب ؟ مضى فعلٌ ماضٍ وغداً ظرف زمان يفيد المستقبل، فكيف يستقيم جمع الماضي بالمستقبل ؟ كيف يجتمع طرفا الخط المستقيم ؟ في شعره يجمع البياتي البداية بالنهاية، طرفي الزمان.كذلك الأمر بالنسبة للفعل الماضي عادَ الذي وظّفه بدل الفعل المضارع يعود. خيالٌ خاص وسحرٌ ( أسود ) خاص جداً لا يمارسه ولا يُحسن ممارسته إلاّ شاعر صوفي – سوريالي جسوركالبياتي. 

مرثية إلى عائشة 

في السطر الأول من هذه القصيدة تضمين لأحد أبيات أبي الطيب المتنبي من القصيدة التي قالها في رثاء عمّة عضد الدولة البويهي التي توفيت في بغداد. وهي أخت معز الدولة بن أحمد إبن بويهْ، حاكم بغداد الفعلي يومذاك. قال المتنبي :

                             يموت راعي الضأنِ في جهلهِ

                             ميتةَ  جالينوسَ   في     طبّهِ 

قاصداً أنَّ الموت واحدٌ بالنسبة لكل البشر، يتساوى فيه الجاهل الأمي والعالم الجهبذ، راعي الشياه البسيط والطبيب النطاسي جالينوس الذي لم يدرأ طبه الموت عنه. لقد سبق وأن عبّر المتنبي عن هذه الفكرة ببيت شعري آخر إذ قال :

                               فطعمُ الموتِ  في أمرٍ حقيرٍ

                               كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ 

الموت واحد وطعمه واحد. 

فما الذي قاله البياتي في هذا الصدد وفي معرض رثائه لعائشة ؟

يموتُ راعي الضأنِ في إنتظارهِ ميتةَ جالينوسْ

يأكلُ قُرصَ الشمسِ أورفيوسْ

تبكي على الفراتِ عشتروتْ

تبحثُ في مياههِ عن خاتمٍ ضاعَ وعن أُغنيةٍ تموتْ

تندبُ تموزَ فيا زوارق الدخانْ 

عائشةٌ عادت مع الشتاءِ للبستانْ 

….

وهكذا يمضي البياتي- كما هي عادته أبداً – صافعاً قاريء شعره بالسجع المُقفّى في صليات أو جرعات مخدّرة مفرطة في السذاجة : جالينوس… أورفيوس… عشتروت… تموتْ…دخانْ… بستانْ…،

ماذا سنجد في هذه القصيدة إذا ما تجاوزنا مطلعها هذا؟ نجد أنه قد ذكر نهر الفرات ستَ  مراتٍ وذكر عائشة خمس مرّاتٍ وبابل مرتين ثم ذكر تموز وأشار إلى جزء من ملحمة جلجامش السومرية – البابلية، فضلاً عن جالينوس وعشتروت وأورفيوس ماري الذكر. 

" مرثية إلى عائشة " هي القصيدة الأولى في ديوان ( الموت في الحياة ) الذي قدّم له قائلاً

(( الوجه الآخر لتأملات الخيام في الوجود والعدم )). على الصفحة التالية ثبّت جملة قالها 

الروائي الفرنسي ألبير كامو (( هناك شمس لا تغيب في قلب ما أكتب )). 

كيف سنفهم رثاء عائشة بعد أنْ جعلنا البياتي محصورين بين مطرقة وجودية سارتر العدمية وسندان رمزية شمس كامو التي لا تغيب؟ أين نجد الشاعر، هل نبحث عنه في الرثاء الذي قال أم تُرى نجده مختبئاً بين الخيام وسارتر وألبير كامو؟ لا وجود للبياتي في الأغلب الأعم من شعره. لا يهمه أصلاً هذا الوجود. يخشاه فينأى بنفسه عنه. تلكم مشكلة عويصة وخطيرة، أن يسلخ الشاعر ذاته أو ينسلخ عما يقول ويتوارى خلف حُجُب وسُتر صوفية بحيث يتسنى له من خلال كوى خاصة غامضة رؤية ومراقبة ما في داخل القصيدة وما في خارجها. رغم هذا الإنسلاخ ورغم هذه المراقبة الدقيقة عن بعد ومن الخارج غير القصي نرى قصائد البياتي فالتة كالزوبعة والريح من قبضته. لا سلطانَ له عليها وعلى تحديد مساراتها وإتجاهاتها وضبط منطقها الذي هو في الحق اللامنطق. إنه في شعره يخالف ما قال المتنبي :

                                     على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي

                                     أوجهها  جنوباً  أو شمالا 

فرياح البياتي هى التي توجهه وتمسك بزمام أموره.  

لا يتوقع القاريء أن يفهم شيئاً ذا بال من هذه القصيدة. إنها كأغلب سابقاتها ولاحقاتها بلا هدف أو غرضٍ محدد واضح. لا رأسَ لها ولا أطراف. تتمدد كالإميبيا في جميع الإتجاهات عرضاً وطولاً، تأريخاً وجغرافيةً، رموزاً وأساطيَر يحشوها الشاعر حشواً مستخدماً آليات مكررة بعينها أتقنها لكثرة الممارسة جيداً مستهدفاً تمتين نسيج ولحمة شعره وزيادة كثافته مضافاً إلى ذلك المؤثرات الصوتية بالتقفية والرنين وتكرار بعض الأسطر أو الأبيات أو الأفكار وخلط مضمون بعض القصائد السابقة باللاحقة. ثم الإفراط في توظيف الديكورات الداخلية والخارجية المتعددة الأشكال والألوان. إنها سياحة عشوائية يختلط فيها الحابل بالنابل وتنتهي نهايات مبتورة ضائعة هزيلة… كما هو الحال 

مع الكثير من القصائد. 

قصيدة البياتي طنين نحل ثابت الموجة أو سوق كبيرللصفّارين…فوضى وضرب مطارق تهوي وترتفع بنغمة واحدة ومقام واحد لا يتغير… حسب وصف بعض الأصدقاء.

من باب التداعي والربط الجغرافي، يمارس البياتي حق أن يذكر الفرات وبابل وتموز بعد أن ذكر عشتار البابلية أو عشتروت السومرية التي تتبادل الأدوار بالحلول والتناسخ الصوفي مع عائشة. هذا هو خط البياتي وفلسفته في الشعر منذ ديوان " سِفر الفقر والثورة ". لقد إلتصق بعائشة بعد أن إختطفها من عمر الخيام وجعلها موضوعاً للكثير من قصائده. إنها تخترق التأريخ والحقب والأزمان وتتبادل الأدوار مع باقي النساء وتحل روحاً في جسد فراشة. قصيدة أو قصيدتان من هذا اللون من الشعر تكفينا وتكفي البياتي وتوفر له جهد الإعادة والتكرار الممل واللف والدوران واللت والعجن وإستهلاك الذات والموهبة الشعرية. لِمَ لم ينتبه البياتي إلى ذلك في الوقت المناسب وهو المثقف والذكي والممارس ؟ لا جواب لديَّ. 

وبعد، ماذا قال البياتي في هذه المرثية ؟ 

عائشةٌ عادت مع الشتاءِ للبستانْ

صفصافةً عاريةَ الأوراقْ

تبكي على الفراتْ

تصنعُ من دموعها، حارسةُ الأمواتْ

تاجاً لحبٍ ماتْ

تعبثُ في خُصلاتِ ليلِ شعرها الجرذانْ

تزحفُ فوق وجهها الديدانْ

لتأكلَ العينينْ

عائشةٌ تنامُ في المابينْ

مقطوعةَ الرأسِ على الأريكةْ

أيتها المليكةْ

فصاحَ بي كاهنُ هذا العالم السفليِّ وهو يشحذُ السكّينْ

مَن الذي أتى بهذا الرجلِ المسكينْ؟

عائشةٌ عادت إلى بلادها البعيدةْ

قصيدةً فوق ضريحٍ، حكمةً قديمةْ

قافيةً يتيمةْ

صفصافةً تبكي على الفراتْ

عاريةَ الأوراقْ

تصنع من دموعها، حارسةُ الأمواتْ

تاجاً لحبٍ ماتْ

فارتفعتْ سحابةٌ من الدخانِ ومضى النهارْ

وثالثٌ ورابعٌ والنارْ

كانت فراشَ مَرضي، وكانت الأحجارْ

وها أنا أموتُ بعد هذه الرؤيا على الأريكةْ

مثلك يا أيتها المليكةْ 

أكتبُ فوقَ ورق الصفصافةْ

على الفراتِ بدمي، ما قالت العرّافةْ

للريحِ والعصفورِ والرمادْ

أجوسُ في بابلَ وحدي منزلَ الأمواتْ

وحدي على خرائب الفراتْ

أُكلّمُ السحابْ

وأنبشُ الترابْ

أصيحُ من قبرِ انتظاري يائساً أصيحْ

أقولُ للصفصافةْ

ما قالت العرّافةْ

عائشةٌ عادت إلى بلادها البعيدةْ

فلتبكها القصيدةْ

والريحُ والرمادُ واليمامةْ

ولتبكها الغمامةْ

وكاهنُ المعبدِ والنجومُ والفراتْ

على فراشِ الموتِ أضجعتكِ يا عشتارْ

بكيتُ في بابلَ حتى ذابت الأسوارْ

فأيُّ خيرٍ نالني أيتها العنقاءْ

عُدتِ إلى الفراتِ، عُدتِ موجةً عذراءْ

وموقداً يخمدُ في البردِ وباباً لا يصدُّ الريحْ

أخذ البياتي السطر الأخير من خطاب جلجامش إلى عشتار على الصفحة 112 من ملحمة جلجامش (( ترجمة طه باقر/ دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، طبعة خاصة 2001 )). نقرأ على الصفحة 112 من الملحمة ما يلي :

أيَ خيرٍ سأناله لو أخذتك زوجةً ؟

أنتِ! ما أنتِ إلاّ الموقد الذي تخمدُ ناره في البرد

أنتِ كالبابِ الخلفي لا يصدُّ ريحاً ولا عاصفةً

أنت قصرٌ يتحطمُ في داخله الأبطال.

كان على البياتي أن يشير إلى مصدر كلامه هذا، كما فعل في العديد من المناسبات الأخرى. كذلك لم يُشرْ إلى أبي الطيب المتنبي في البيت سالف الذكر ( يموت راعي الضأن…) وقد جاء البيتُ نشازاً غريباً على مجمل سياقات السرد الشعري في هذه القصيدة. فعائشة تموت كما يموت سائر البشر ( ومن لم يمتْ بالسيف مات بغيره // تعددت الأسبابُ والموت واحدُ ).

تذكرني أشعار البياتي بأناشيد الطفولة ومراحل المدارس الإبتدائية المبكّرة في العراق. لقد كنا نقرأ أناشيد من قبيل :

                                     أليست النظافةْ

                                     علامة الظرافةْ

                                     فالولدُ النظيفُ 

                                     منظرُه  لطيفُ 

أو :

                                     مليكنا مليكنا

                                     نفديك بالأرواحْ

                                     عشْ سالماً عشْ غانماً 

                                     بوجهك الوضّاحْ 

                                     حلّقْ بنا إلى العلى                                     

                                     مرفرفَ الجناحْ. 

قصيدة " كتابة على قبر عائشة " ليس فيها ما يمت بصلة لعائشة على الإطلاق !! لذلك سأهملها جملةً وتفصيلاً. إنها في الأصل تحمل الرقم 4 في قصيدة " كلمات إلى الحجر ".

قصيدة " مجنون عائشة " 

القصيدة موزعة على ثلاثة عشر مقطعاً بعضها قصير جداً يتكون من سطر واحد أو سطرين. لو غربلنا ونخلنا هذه القصيدة ثم جمعنا وكثّفنا ما يسقط بعد الغربلة والنخل لوجدناها لا تختلف من حيث الجوهر عن باقي القصائد التي كرّسها البياتي لموضوع عائشة. سياحات منفلتة لا رابط يربط بين أجزائها ولا نجد أي محاولة أو جهد بيّن لربطها ذاك لأن الشاعر نفسه غائب عن مسرح الأحداث. لا وجود لمخرج المسرحية والمؤلف يجهل مضمون ما قد ألّف. إنه حكواتي شعبي يعتلي منفرداً خشبة مسرح خالٍ ليس فيه سامعون أو مشاهدون. أو يجلس على قارعة الطريق ويقدم حكاياته إلى جمهور لا يقرأ ولا يكتب ماضٍ في السوق لقضاء حاجاته وحاجات أسرته اليومية. 

وكما هو الأمر مع الكثير من القصائد، نرى البياتي يُعبيء هذه القصيدة بأسماء المدن مُشرّقاً ومُغرّباً فيذكر عائشة مرتين ويذكر عشتار ( اللوح السالب لعائشة ) مرتين ثم يتنقل سائحاً بين المدن على صاروخ كوني فيزور مدينة بُخارى ( في أوزبكستان ) ويعرّج على بحر قزوين ( في إيران ) ثم يعوج على حلب السورية فدمشق. وما دام وصل دمشق فلا بأس من ذكر جبل قاسيون المطل عليها. بعد ذلك يغير إتجاه صاروخه الكوني من الشرق إلى الغرب فيزور باريس. وفي باريس لا بدَّ من زيارة متحفها الشهير اللوفر. بعد هذا التجوال الممتع والمُضني في عالمنا الأرضي يفر الشاعر إلى عالم آخر، يتوق إلى الخلاص من أجواء الكرة الأرضية ومن أحكام زماننا فيتشبث بأساطير وقصص التوراة متكئاً على قصة خروج بني إسرائيل من مصر فيذكر سفر الخروج. 

سأذكر بداية القصيدة ثم إنتقل إلى المقطع الثاني الذي وجدت فيه شيئاً مثيراً وجديداً. ففي الفحم نجد الماس وفي التراب نكتشف العقيق والزمرد : 

أيقظني في الليلْ

غناءُ عصفورٍ فأوغلتُ مع العصفورْ 

في الغيهب المسحورْ

لم تستطعْ سجنَ الربيعِ آه في بستانها

رأيتُ غصناً مزهراً يُطلُّ في الديجورْ

علىَّ من فوقِ جدار النورْ 

عائشة بالطبع هي التي لم تستطع سجن الربيع في بستانها. أنتقل إلى المقطع الثاني :

خبّأتُ وجهي بيدي

رأيتْ

عائشةً تطوفُ حول الحجرِ الأسودِ في اكفانها

وعندما ناديتها هوتْ على الأرضِ رماداً وأنا هويتْ

فنثرتنا الريحْ

وكتبت أسماءنا جنباً إلى جنبٍ على لافتة الضريحْ. 

في هذا المقطع قدرات كبيرة على الإدهاش والإيحاء. (( خبّأتُ وجهي بيدي ))، الشاعر لا يريد أن يرى عائشة ملتفةً بمحارم الحج البيض والطواف حول الكعبة. يخبيء وجهه بيديه كما يفعل الأطفال هرباً من عقوبة الأب أو المعلم في المدرسة. أو كالنعامة تغرس رأسها في الرمل هرباً من خطر قادم داهم. ثم نرى شيئاً عَجَباً حين تسمع عائشة صوت الشاعر ساعةَ أن كانت تُطيف بالحجر الأسود فتحترق هي ويحترق هو فيتناثرا رماداً. الريح التي نثرت الرماد عادت لتجمعه وتوسده القبر وتضع عليه إسميهما.   

وهناك صور شعرية قليلة فيها إبداع قد يكون غير مسبوق من مثل :

وكانت الغزلانْ 

مذعورةً تبحثُ في مصيدة الموتِ عن الغدرانْ. 

أو :

في زمن الفوضى وعصر الرعبْ

أشعلتُ نارَ الحبْ. 

قصيدة ميلاد عائشة وموتها في الطقوس والشعائر السحرية المنقوشة بالكتابة المسمارية على ألواح نينوى 

حملت القصيدة وهذا العنوان الطويل بدون مبرر معقول أخطاءً تأريخية قتالة. لو رجع الشاعر إلى المصادر ذات الصلة ولو تأنى قليلاً لكان في إمكانه تجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء. لقد حمله إستسلامه الكامل والأعمى لفلسفة التحول والتناسخ أن يخلط أوراق التأريخ وأحداثه المعروفة حد أن يربط عملية شنق مواطنين عراقيين عام 1968 ( وبينهم يهود ) وتعليقهم بطريقة بربرية وحشية في ساحة التحرير في قلب بغداد، بسبايا الغزو  الآشوري ليهود السامرة ( الأجزاء الشمالية من فلسطين، إسرائيل ) الذي حدث قبل الميلاد بثمانية قرون، والذي لم تسفر عنه عمليات شنق أو أعدام معروفة. 

أجمل أخطاء البياتي في هذه القصيدة بما يلي :

5-5-1 ما كانت الكتابة الآشورية كتابة مسمارية. كانت أبجدية سامية ما زالت آثارها قوية في لهجة سكنة الموصل ( نينوى ) وضواحيها ولا سيما في لهجة السريان والآثوريين. 

5-5-2 لا وجود لإسم آشور بانيبال في التوراة على الإطلاق. ولا علاقة له بالغزو والنفي والسبي. كان رجل ثقافة ومكتبته الشهيرة تحمل إسمه. على أنَّ عدم وجود إسمه في التوراة لا يعني أنه لم يكن موجوداً على مسرح الأحداث. كان الرجلُ وما زال مِلأ السمع والأبصار. 

5-5-3 تذكر التوراة ( سِفر الملوك الثاني ) أسماء خمسة من ملوك آشور، قام إثنان منهم فقط في عمليات غزو وسبي وسلب السامرة. ملوك هذا السِفر الخمسة هم حسب تواريخ حكمهم :

- الملك الآشوري فول ((… فجاء فول ملك آشور على الأرض فأعطى منَحيم لفول ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه ليُثبّت المملكة في يده. .. فرجع ملك آشور ولم يقم هناك في الأرض / سفر الملوك الثاني / الإصحاح 15/ 19- 20 )). 

- تغلث فلاسر (( جاء تغلث فلاسر ملك آشور وأخذ عيون وأبلَ بيت معكة ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نفتالي وسباهم إلى آشور/ سفر الملوك الثاني / الإصحاح 15/ 29 )).

- شَلَمنأسر (( وصعد ملكُ آشور على كل الأرض وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. في السنة التاسعة لِهُوشع أخذ ملك آشور السامرة وسبى إسرائيل إلى آشور وأسكنهم في حَلَح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي (( سفر الملوك الثاني/ الإصحاح السابع عشر / 5-6 )).

- سنحاريب يندفع جنوباً صوب يهوذا وأورشليم (( في السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها. وأرسل حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشور إلى لخيش يقول قد أخطأتُ. إرجعْ عني ومهما جعلتَ عليَّ حملته. فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاث مئة وزنة من الفضة وثلاثين وزنة من الذهب (( سفر الملوك الثاني/ الإصحاح الثامن عشر/ 13- 14 )).

- أسر حدّون،إبن سنحاريب (( لا ذِكْرَ في سفر الملوك الثاني لغزوٍ أو سبي قام به هذا الملك )). 

إثنان فقط من بين ملوك آشور قاما بغزو وسبي السامرة. وما كان آشور بانيبال واحداً منهم. أما الملك الآشوري الآخر الذ ي لم يذكره سفر الملوك الثاني فهو :

- سَرْجُونُ. جاء ذكره في الإصحاح العشرين من سفر إشعياء قصيراً مختصراً دون ذكر لسبي أو قتول (( في سنة مجيء تَرْنانَ إلى أشدود حين أرسله سَرجُونُ ملكُ آشورَ فحاربَ أَشدودَ وأخذها…/ 1 )). الغريب أنَّ التوراة قد سبق وأن ذكرت تَرنان كأحد قادة الملك الآشوري سنحاريب الذين أرسلهم لمحاربة حزقيا بن آحاز ملك يهوذا في اُورشليم نفسها بعد أن سقطت في أيديهم مدن يهوذا الأخرى الحصينة. حاصرت جيوش سنحاريب مدينة أُورشليم طويلاً لكنها عجزت عن دخولها فرجعت مندحرةً بعد أن كبّدهم " ملاك الرب " خسائر فادحة في الأرواح (( سفر الملوك الثاني/ الإصحاح التاسع عشر/ 35 – 37 )). 

5-5-4 أوقع البياتي نفسه في خطأ تأريخي جسيم آخر إذ قال في هذه القصيدة :

وأرى آشور بانيبالْ

يطعنُ في حربته شمس الغروبِ، وأرى الأسرى على مشانق الإعدامْ

معلّقين في ظلامِ الغسقِ المخيفْ

وكاهناً يرتّلُ الصلاةْ :

ربُّ الجنودِ أرميا النبيُّ - قالَ هكذا سأدعُ القوّادْ

والأمراءَ يثملون وينامون إلى الأبدْ

ربُّ الجنودِ هكذا يقولْ.

النبي إرميا لا علاقة له بالحقبة الآشورية. كان إرميا نبي اليهود زمان الملك البابلي نبوخذنصّر صاحب السبي البابلي المشهور الذي وقع بعد الإمبراطورية الآشورية بأربعة قرون تقريباً. نقرأ في الإصحاح التاسع والثلاثين من سفر إرميا (( ولما أُخِذت أورشليم في السنة التاسعة لصدقيّا ملك يهوذا في الشهر التاسع أتى نبوخذراصرُ ملكُ بابلَ وكلُّ جيشهِ إلى أورشليم وحاصروها. وفي السنة الحادية عشرة لصدقيا في الشهر الرابع في تاسع الشهر فُتِحت المدينة…. فسعى جيش الكلدانيين وراءهم فأدركوا صدقيا في عَرَبات أريحا فأخذوه وأصعدوه إلى نبوخذناصر ملك بابل إلى رَبَلة في أرض حماة فكلّمه بالقضاءِ عليهِ. فقتل ملِكُ بابلَ بني صدقيا في رَبَلة أمام عينيه وقتل ملكُ بابلَ كل أشراف يهوذا. وأعمى عيني صدقيا وقيّده بسلاسل نُحاسٍ ليأتي به إلى بابل… وأوصى نبوخذراصر ملكُ بابلَ على أرميا نبوزَرَدانَ رئيس الشُرَط قائلاً خذه وضع عينيك عليه ولا تفعلْ به شيئاً رديئاً بل كما يُكلّمكَ هكذا إفعلْ به / 1 – 12 )). كما نقرأ في الإصحاح الأربعين من سِفر إرميا

ما يلي (( الكلمة التي صارت إلى إرميا من قِبل الرب بعدما أرسله نبوزَرَدان رئيس الشُرَط من الرامّة إذ أخذه وهو مُقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أُورُشليمَ ويهوذا الذين سُبوا إلى بابلَ. فأخذ رئيسُ الشُرَط إرميّا وقال له أنَّ الربَ إلهكَ قد تكلّمَ بهذا الشر على هذا الموضع… فالآن هآنذا أحُلّك اليومَ من القيود التي على يديك. فإنْ حَسُن في عينيك أنْ تأتي معي إلى بابلَ فتعالَ فأجعلُ عينيَّ عليك. وإنْ قَبُح في عينيك أنْ تأتي معي إلى بابلَ فامتنعْ. أُنظُرْ. كل الأرض هي أمامكَ فحيثما حَسُن وكان مستقيماً في عينيك أنْ تنطلقَ فانطلقْ إلى هناك. وإذ كان لم يرجعْ بعدُ قال إرجعْ إلى جَدَليا بن أخيقامَ بن شافانَ الذي أقامه ملكُ بابلَ عل مُدن يهوذا وأقمْ عنده في وسط الشعب وانطلقْ إلى حيث كان مستقيماً في عينيك أنْ تنطلقَ. وأعطاهُ رئيسُ الشُرَطِ زاداً وهديةً وأطلقه / 1 – 5 )). وأخيراً نقرأ في الإصحاح الحادي والخمسين من سِفر إرميا (( لأنه جاء عليها على بابل المخرّبُ وأُخِذ جبابرتها وتحطّمت قسيّهم لأن الرب إلهُ مجازاة يُكافيء مكافأةً. وأُسكِرُ رؤساءها وحكماءها وولاتها وحكامها وأبطالها فينامون نوماً أبدياً ولا يستيقظون يقول الملكُ ربُّ الجنود. / الإصحاح 51 / 56 – 57 )). 

ذكرتُ هذه التفصيلات المطوّلة لأهميتها التأريخية التي تبين خطأ البياتي في رصده وتفسيره وخلطه لبعض وقائع التأريخ القديم من جهة، ولطرافتها التي تلفت نظر القاريء والباحث: كيف يعتني نبوخذ نُصّر الملك الذي غزا وسبى أُورشليم قبل الميلاد بثمانية قرون (كذلك يأتي إسمه في التوراة بشكل نبوخذ راصر وبشكل نبوخذ ناصر ) … كيف يعتني ويولي أمر السبي النبي اليهودي إرميا إهتماماً إستثنائياً ويكلّف رئيسَ شُرَطه أن يكون مسؤولاً عن حياته ثم أن يُعطى حرية إختيار المكان الذي يرغبُ أن يُقيمَ فيه : أنْ يأتي إلى بابلَ أو أن يختار بلداً آخرَ أو أنْ يبقى مع بقية من بقي من اليهود في أُورشليم. الملك القاهرالبابلي الجبّار يمنح النبي اليهودي المقهور المسكين حرية التعبير وممارسة العقيدة ثم حرية التنقّل والإقامة حيثما يريد. أليست هذه هي عين الحريات التي يطالب بها البشر اليوم شرقاً وغرباً وتنادي بها منظمات ولجان حقوق الإنسان وهيئة الأمم المتحدة ودُعاة العولمة والقطب الواحد؟؟   

كان نبي اليهود زمن الملك سنحاريب الآشوري هو ( إشعيّا بن آموص ). ثم إنّ مدينة نينوى قائمة على نهر دجلة وليس الفرات. 

القصيدة :

ليس في هذه القصيدة منطق سوي يستهدي به القاريء، وذلكم أمر متوقع. فآشور بانيبال يقع في حب سبيّة يهودية أعطاها إسم عائشة لكنها لا تبادله هذا الحب، فالمقهور لا يهوى قاهريه. 

أحبني آشور بانيبالْ

مدينةً بنى لحبي وبنى من حولها الأسوارْ

ساق إليها الشمسَ بالأغلالْ

والنارَ والعبيدَ والأسرى ونهرَ الجنةِ الفراتْ

أجبني وكان نصفُ قلبه مأسورْ

في قاع بئر العالمِ المسحورْ

ونصفه الآخرُ في آشورْ

تأكله النسورْ

عاصفةً كان وفأساً في يد القدرْ

تهوي على جماجم الملوك والقلاع والمدنْ

أحبني لكنني أواه لم أكنْ

أحبه فماتت الأشجارْ

وجفَّ نهرُ الجنة الفراتْ

واختفت المدينةْ

والنارُ والشعائرُ السحريةْ

وحلَّ في مكانها ديكٌ من الحجرْ 

ولأن السبية اليهودية لم تحب آشوربانيبال فقد ماتت الأشجار وجف نهر الفرات ومُسِخت نينوى ديكاً من حجر. ثم تقوم السبيّة من عالم الموتى ومن مملكة الموت حالّةً في إمرأة أخرى تحملُ إسمَ عائشة فنراها معروضة للبيع في يد النخّاس في سوق الرقيق. ثم يحبها شاعر وساحرٌ ومحارب لكنها تختار المحارب من بينهم لأنه قدّم لها قرباناً وبنى لها مسلّة. إلى هنا نجد الأمر واضحاً ومعقولا. لكن الأمر غير الواضح هو كيف ولماذا تعود إلى القبر ثانيةً بعد قيامتها الأولى وبعد أن أحبها المحارب وقدّم لها ما قد قدّم. نقرأ :

أحبني الساحرُ والشاعرُ والمحاربْ

قدّم قرباناً… بنى مسلّةْ

دوّن في متونها رُقاهْ

وحركاتِ الريحِ والكواكبْ

ونفحاتِ الطيبْ

دوّن أسماءَ زهورِ وطني البعيدْ

بكى على قبري ورشَّ دمَ طفلٍ يافعٍ ذبيحْ

قبّلني وكنتُ في ذراعه عاريةً أصيحْ 

وكان ضوءُ القمرِ الأحمرِ في آشورْ

يصبغُ وجهي ويدي ويغمرُ الضريحْ

فدبّت الحُمرةُ في خدي ودبَّ الدمُّ في العروق

عائشة تقوم من القبر مرة أخرى تحت تأثير دفء ضياء وحُمرة قمر آشور التي تنقل لها الحياة ( فدبّت الحُمرةُ في خدي ودبَّ الدمُّ في العروقْ ). وما أن تقوم حيةً من رمسها حتى تنقلب إلى آلهة الجنس والخصب البابلية عشتار حبيبة تموز الراعي وكانت بابلُ على الفرات. وثالوث الفرات – عشتار – تموز كثير الوقوع في أشعار البياتي وبشكل مُلّح إلى حد الإسراف الذي يسبب الملل والضيق لدى القاريء أحياناً.  

حتى تموز هذا يقتله الجنود ويقتلعوا عينيه ثم يقطعوا رأسه. هنا يعود بنا البياتي القهقرى أربعة عشر قرناً من الزمان إلى الوراء ليضع أمامنا بانوراما وقائع مجزرة الطف التي وقعت في العام الحادي والستين للهجرة في ضواحي كربلاء حيث سقط الحسين بن علي قتيلاً ومُزقت أحشاؤه ووطأت جسدَه الممزقَ خيولُ فُرسان جيش الشام تحت إمرة عُمر بن سعد بن أبي وقّاص وخيولُ جيش أمير الكوفة والعراق عُبيد الله بن زياد. ثم ترجلَّ أحد قادة الكتائب ليحز رأس الحسين القتيل ويُحمل إلى دمشق محمولاً على رؤوس الرماح… كما تذكر الروايات التأريخية.

 لقد لخّص البياتي أحداث هذه الواقعة بأسلوبه الرمزي – السوريالي فنسخ وأحلَّ حَدثاً محل حدثٍ وشخصاً بدلَ شخصٍ فقال والكلام عن تموز ( الحسين ) على لسان عشتار:

لكنه لم يُكمل الحديثَ فالجنودْ

داسوه بالأقدامْ

واقتلعوا عينيهْ

وكانَ في انتظارهم آشورُبانيبالْ

في قاعة المرايا

ممتشطاً لحيته وغارقاً في النورْ. 

أبحثُ عن " تموزَ " في قصائد الشعرِ وفي الألواحْ

أضفرُ إكليلاً من القرنفلِ الأحمرِ 

                                 في تشرّدي

                                                لرأسهِ المقطوعْ.

ليس عسيراً على القاريء الفطِن أن يحزر أن آشور بانيبال الواقف أو الجالس في قاعة المرايا محتقناً ومنتفخاً بالنرجسية وتأليه الذات ( المرايا ) وغارقاً بنور الأُبهة وزهوة النصر وسادية القدرة على القهر والتسلط… ليس من العسير على هذا القاريء أن يستنتج أنه إنما يرى في آشور بانيبال خليفةَ المسلمين يزيد بن معاوية الذي إنتصر على خصمه الحسين. يزيد هذا هو ناسخ آشور بانيبال والحالُّ فيه روحاً لا جسداً. الحلول الصوفي والتناسخ البوذي.

يربط بعض الباحثين بين ما جاء في ملحمة جلجامش السومرية من بكاء عشتروت 

( عشتار ) ومواكب الندب والحزن السنوية على دوموزي ( تمّوز ) بطقوس مواكب الحزن ولطم الصدور وضرب الظهور بسلاسل الحديد المدببة التي يمارسها الشيعة في العراق وإيران وجنوب لبنان في اليوم العاشر من محرم من كل عام ( يوم عاشوراء ). يقولون إنَّ هذه طقوساً عراقيةً أصيلةً تضرب بجذورها في تربة العراق وفي تأريخه منذ أقدم العصور. نقرأ في ملحمة جلجامش المارّة الذكر وعلى الصفحة 113 محادثة جلجامش لعشتار بعد أن رفض العرض الذي تقدّمت به للزواج منه:

(( تعالي أقص عليكِ مآسي عشّاقكِ :

من أجل تموز حبيب صباكِ

قضيتِ بالبكاء والنواح عليه سنةً بعد سنةٍ )) 

وفي باب الهوامش على الصفحة 175 نقرأ تعليقاً وشرحاً ضافياً على هذه الفقرة بالذات يقول :

((يُشيرُ هذا إلى العادة التي عمّت في تلك الأزمان من الندب والبكاء على تموز، إله الخصب والربيع، حيث إعتقدوا أنه كان ينزل إلى العالم الأسفل ويظلُ رهينةً في ذلك العالم طوالَ نصف عام ثم يقوم إلى الحياة في النصف الثاني مقابلَ بقاء أُخته المسمّاة كشتن – آنا رهينةً في العالم الأسفل بدلاً عنه )).    

ولعُ عبد الوهاب البياتي بالعالم السفلي ولعٌ يثير الدهشة والإنتباه الشديد.لم يكتفِ بما جاء في ملحمة جلجامش العراقية السومرية حول هذا العالم السفلي ومملكة الأموات بل ساقه  هذا التوله حتى إلى اللجوء إلى أسطورة أورفيوس الإغريقية فنظم قصيدةً أسماها ( هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي ). ليس هناك من مماثلة أو تشابه أو توازٍ بين قصة عشتروت ودوموزي السومرية وقصة أورفيوس  Orpheus  وزوجه يوريديكه  Eurydike التي ماتت بلسعة أفعى بُعيد قراءة أشعار وأناشيد طقوس حفل الزواج مباشرةً. في غمرة آلامه وأحزانه صعد أورفيوس إلى مملكة الظل التي يحكمها هاديس و بيرسيفون. طرق الأبواب مغنياً على قيثاره أغاني الحزن والشجو والألم التي أنست " تانتالوس " أحزانه الخاصة. كذلك إنتقلت عدوى الحزن والنواح إلى حُكّام العالم الأسفل حيث لا يرجع ميّتٌ من مملكة الموت إلى الحياة ثانيةً قطُّ. إستطاعَ أخيراً أورفيوس ومن خلال أغانيه المؤثرّة أنْ يحقق الأمنية التي يريد : إرسال زوجه إليه حيةً ولكن شرط أنْ يقمع أو يُخفي آلامه وشكاويه وأن لا يُدير بصره إلى الخلف كيما ينظر إليها وهي تتبعه حتى تبلغ العالم الخارجي. إنفعال أورفيوس بحسن الحظ الكبير جعله يستهين بالإتفاق ويطرحه ظِهريّا وأن يرجع ببصره إلى الخلف ليتأكد هل حقّاً أنَّ زوجه المتوفاة قد نهضت حيّةً من الموت وإنها حقاً تتبعه ماشيةً خلفه حسب الإتفاق المعقود ؟ خالفَ الإتفاقَ فتوجب عندئذٍ على الزوجة يوريديكا المتوفاة أن ترجع إلى عالم هاديس وأن أورفيوس يواجه كرّةً أُخرى سوء الحظ المكتوب عليه بأن يظلَّ يجوب غابات وطنه حتى يتلف ويموت ملتحقاً بحبيبته ليتجولا معاً في مملكة الظل. غير أنَّ رأسه وقيثاره يبلغان جزيرة " ليزبوس Lesbos " إذ ومذّاك تكوّن منهما في الوطن الكثير من الشعراء والمغنين. 

هذه خلاصة قصة أورفيوس التي كتب عنها البياتي قصيدة " هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي " . لا تمتُّ القصيدة للقصة الإغريقية الأصل ولا حتّى بأوهى صلة. ذكر البياتي آشور مرتين في قصيدته والثور الخرافي، الثور الآشوري المُجنّح، الذي فوق دُخان المدن الكبرى يطير ثم ذكر عشتار التي لا علاقة لها أصلاً بآشور ولا بالثور الخرافي. 

6- بعض القصائد الأخرى في المجلّد الثاني  

سأتناول ثلاث قصائد أخرى من بين قصائد هذا المجلّد: قصيدة " أحملُ موتي 

وأرحل " من كتاب البحر، وقصيدة " أُولد وأحترقُ بحبي " من كتاب قمر شيراز وقصيدة 

" حبٌ تحت المطر " من كتاب قمر شيراز أيضاً. فما الذي يميز هذه القصائد عن قصائد المجلد الأخرى يا تُرى ؟ ولماذا أراها من القصائد الجيّدة؟ 

  6-1 قصيدة " أحمل موتي وأرحل "

كما هي عادته ودأبه، قطّع الشاعر قصيدته هذه إلى ستة مقاطع أو ست مُقطّعات صغيرة ومتوسطة وكبيرة. ما كان يُضير الشاعر ولا القصيدة أن يتركها دونما تجزئة وقطع وتحميلها أرقاماً تبدو في الغالب مُفتعلة إفتعالاً لا مبررَ له البتّة.

لا وجود في هذه القصيدة – والحمد لله !!- لا لعائشة ولا لعشتار ولا لتموز !! ألف الحمد لله. أتخمنا الشاعر بهذا الثالوث الذي أصبح كابوساً حقيقياً على القاريء والباحث.

لكنْ بدل عائشة أدخل الشاعر البياتي على خشبة مسرح العرائس وخيال الظل إسماً لأنثى جديداً علينا، بل إسمين عصريين أحدهما لفتاة روسية والآخر لإمرأة عربية أردنية من إربِد.  " لارا " إسم مشهور نجده في أغلب البلدان الأوربية وهو في روسيا مختصر " لاريسا ". تعرّف الشاعرُ على لارا  في مدينة " سوجي  Sochi  " وهي منتجع صيفي رائع الطبيعة والمناخ  يقع بين  البحر الأسود ذي المياه الدافئة صيفاً وجبال القوقاس الخضراء الشاهقة والمُثقلة بأشجار المشمش والتفاح والكمثّرى. يؤمه الضيوف والطلبة الأجانب وموظفو السلك الدبلوماسي لقضاء شهر فيه أو بالقرب منه مجاناً. أما الأخرى فهي خُزامى الأردنية. أمرٌ آخر في هذه القصيدة جديد علينا هو التأكيد على ذكر الصحراء الليبية والبوليس السرّي زمان العهد الملكي السنوسي فيها. ما الذي أقلق الشاعرَ في ليبيا ؟ وليزيد في سماكة لحمة وسدى خامته الشعرية أقحم أموراً أخرى لا علاقة لها بلارا ولا بخزامى. أقحم موضوع حرب التحرير الشعبية وموضوع الأسطول الأمريكي السادس. لكني أستدرك فأقول إذا ما غضضنا النظر عن المقطع الأول الشديد الغثاثة سنجد أنفسنا أمام عالم شعري بالغ الإتقان والروعة يفرض علينا الإحساس العميق بصدق حرارة تعلق الشاعر بالفتاة الروسية لارا وبشغفه بها وهي تمارس السباحة على سواحل البحر الأسود أو في فندق إقامتها وغيرته من عشيق لها آخر يبادلها الحب كما يفعل شاعرنا معها. الآخر يحل محله… لا بأس… لأنه هو نفسه  يحل محل ذاك العاشق الآخر. حلولٌ حلولٌ، حالٌّ ومحلولٌ، فاعلٌ وُمنفَعِلٌ ومفعول،…منافع وحظوظ متبادلة لا خسارة فيها ولا خاسر !! 

دور خزامى هنا جدَّ محدودٍ ومتواضع، فلماذا ربطها الشاعر بلارا، البطلة الحقيقية لقصة هذه القصيدة ؟ نقرأ بعضها كما كتبها ورتّبها الشاعر نفسه:

كنتُ وحيداً- كان البوليسُ ورائي- والليلُ الملكيُّ- ولارا تسبحُ في البحر الأسودِ- في سوجي- وخزامى في إربدَ- في ضوءِ بنادقِ حربِ التحريرِ الشعبيةِ للأرضِ الحبلى بالثورةِ ترنو وتصلّي- فاجأني البحرُ الأبيضُ- كنتُ وحيداً- أبحثُ في الصحراءِ الليبيةِ عن مفتاحِ المدنِ المنسيةِ في خارطة الدنيا- لارا تنشرُ في الريح ضفائرها- ترقصُ في الغابات الوثنيةِ- تمضي عائدةً للفندقِ بعد عناقِ البحرِ- وفي منتصفِ الليلِ عشيقٌ آخرُ ينسلُّ إليها.

ويُعريها

ويُقبّلُ عينيها

ويُقبّلُ نهديها

ويقولُ لها نفس الكلماتْ

وتقولُ له نفس الكلماتْ

                          ( أُحبّكَ )

لارا- هي والآخرْ

كانت تبكي، فالبحرُ سيأخذُ منها الآخر

كانت تبكي ويدي تمتدُّ إليها ويدُ الآخرْ

وفمي في فمها وفمُ الآخرْ

ودمي ودمُ الآخرْ.

فمن هي هذه المرأة  لارا التي يتبادلها رجلان معاً والكل مقيمٌ في فندق واحد ؟ ( ويدي تمتدُّ إليها ويدُ الآخرْ. وفمي في فمها وفمُ الآخرْ ). نقرأ في المقطع الخامس :


" لارا " رحلتْ بعد رحيلي

ضاعت في زحمة هذا العالمْ

في غابات البحرِ الأسودِ والأورالْ

عادت للأرضِ المسحورةِ تذرعها 

في قُدّاسِ رحيلِ الأمطارْ

و " خزامى " نذرت للبحرِ ضفائرها

ولنجمِ الميلادْ

وأنا حطّمتُ حياتي 

في كلِّ منافي العالم

بحثاً عن لارا وخزامى

وعبدتُ النارْ

مارستُ السحرَ الأسودَ في مُدنٍ ماتتْ

قبلَ التاريخِ وقبلَ الطوفانْ

واستبدلتُ قناعي بقناعِ الشيطانْ

ظهرتْ لي لارا وخزامى في موسيقى الأشعارْ

في حرف السينِ وحرف الهاء وحرف التاءْ.

في المقطع السادس والأخير يختتم الشاعر قصيدته قائلاً :

برحيلي رحلت كلُّ الأشياءْ. 

إذا ما تبادل الرجال الأدوار أو كرروها مع فتاة من بنات الهوى في الفنادق أو على سواحل البحار فذلكم أمر لا يسترعي الإهتمام ولا علاقة له بأطروحة الحلول ولا يثير فضول أو دهشة القاريء. وأسوأ من هذا عملية لصق خزامى الأردنية بلارا الروسية أمر مفتعل غاية الإفتعال ذاك لأنَّ خزامى ليست بديل لارا ولم يتداولها الرجال كما فعلوا مع لارا. إلاّ إذا أراد الشاعر أن يقول لنا إنَّ خزامى الشرقية والمسيحية المحافظة هي الضد النبيل النقي للأخرى الغربية ( الروسية، الإشتراكية، الوثنية ) وإنها ملاك سماوي طاهر وجنيّة من جان البحار (( وخزامى نذرت للبحر ضفائرها ولنجم الميلاد )). 

ثمّةَ أمرٌ آخر يلفت النظر وهو كثرة ورود كلمة النار في شعر البياتي كثرةً يصعب عدّها أو حصرها ( لديَّ إحصائية تقريبية ) فضلاً عن تأكيده على عبادة النار. قال على الصفحة 310 (( أنتِ النارُ، أنتِ النارُ الأبدية )) وقال على الصفحة 311 (( فصليّتُ للنار في عرصاتها )) وقال على الصفحة 315 (( أعبدُ في عينيكِ هذي النارْ )) وعلى الصفحة 329 

(( أسجدُ مأخوذاً للنار )). ومما له صلة قوية بهذا الشأن وجود قصيدة في هذا المجلد بعنوان " المجوسي " وأخرى بعنوان " هكذا قال زُرادشت " وزرادشت هو نبي المجوسية والمجوسيين. و" هكذا تكلّم زرادشت " هو عنوان كتاب شهير من تأليف الفيلسوف الألماني نيتشه. ثم قرر البياتي في بعض شعره إنه مجوسي وقال مرة إنَّ إباه مجوسي ( الصفحة 309 ). هل كان الرجل يلهو لهو صبيان على طريقة خالفْ تُعرفْ أو إنه كان يقرر شأناً خاصاً به بالغ الدلالة الإجتماعية لكنه على أية حال يبقى أمراً خاصاً لا يهم القاريء لا من قريب ولا من بعيد ؟؟ ما الذي يعنيني إن كان البياتي بابلياً يعبد الكواكب ويقرأ النجوم أو كان آشوريَّ الهوى أو مجوسياً أو بوذياً أو إسماعيلياً ؟؟ إذا كان صوفياً – سوريالياً في مذهبه الشعري فلا الصوفية كانت مجوسيةً ولا السوريالية ولا كان بوذا مجوسياً. 

6-2 قصيدة " أولدُ وأحترق بحبي " 

تُمثّل هذه القصيدة القمة الثانية في شعر البياتي بعد قصيدة " حبٌ تحت المطر" أو تكاد توازيها. أعدُّ القصيدتين معاً من أنضج وأكمل ما قال البياتي من شعر خلال فترة مشواره الشعري الطويل ( 1926 – 1998 ) وخلاصة عمره وفنه ومذهبه وأسلوبه في قول الشعر.

في القصيدة السابقة " أحملُ موتي وأرحل " قرأنا ولأول مرّةٍ إسم الفتاة الروسية لارا ورأيناها تحتلُّ مكاناً غيَر مرموقٍ يتنافس رجلان عليها ويطارحانها الهوى برّاً وبحرا في مدينة سوجي على سواحل البحر الأسود في الإتحاد السوفييتي السابق. فضلاً عن وضعها ضدّاً لا نِدّاً مقابلَ فتاة أردنية طاهرة الذيل متدينة (( وخزامى نذرت للبحر ضفائرها ولنجم الميلادْ )). أما في قصيدة " أولد وأحترق بحبي " فلقد قفز البياتي قفزة جدَّ موفقة بعد أن أخذ تمريناً جيداً في القصيدة السابقة وتعلّم أشياء جمّة سواء في كيفية التعامل مع موضوع لارا وحيدةً دون غريم أو منافس أو في إختيار الظروف والأحوال الأنسب للتفاعل مع شخصيتها وحثها أن تهبَ المزيد من العطاء الشعري المبدع ثم تسليط الضوء الأقوى على حضورها العياني و( الدرامي ) إمرأةً ورمزاً ومثالاً عصيّاً على النوال، يتراءى لكنه لا يُمسك ولا يُرى. تماماً كما قال المتنبي في مناسبة قريبة من موضوع لارا :

                                 وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ 

                                 من اللقاءِ كمشتاقٍ بلا أملِ

راحت لارا تتراءى له قطّاً تترياً ( وهو تعبير مجازي معروف في روسيا يُقال للمرأة الروسية الممتلئة الجسد ) في المدن القطبية وراح يسأل عنها عاملة المقهى ومقاهي العالم وحاناته وقطارات الليل. ثم طفقت تتهيأ له حتى في لوحات متحف اللوفر الفرنسي في باريس وفي إيقونات الكنائس وفي عيون الملكات بل وتحت أقنعة بعض ملكات الفراعنة الذهبية. لارا الروسية والقط التتري تتحول إلى جارية في قصر الحمراء في مدينة غرناطة الأندلسية تعزف على العود لكنها تذرف الدموع كظبية. 

نقرأ أجمل ما في هذه القصيدة من تحليقات فذّة وخيال غير مسبوق ولوعة حب حقيقية بعيدة عن المبالغات والشطحات الصوفية والإغراق الممل في لعبة التحول والتبدل والحلول.

سأكتبها كما كتبها البياتي وبالشكل المثبّت في الكتاب وأتركها لحاسة القاريء النقدية 

وطريقته في تذوق هذا اللون من الشعر… فلربما يختلف معي الكثير من القرّاء.

    

تستيقظ " لارا " في ذاكرتي : قطّاً تتريّاً، يتربصُ بي، يتمطّى، يتئاءبُ، يخدشُ وجهي المحمومَ ويحرمني النومَ. أراها في قاعِ جحيمِ المدنِ القطبيةِ تشنقني بضفائرها وتعلّقني مثلَ الأرنب فوق الحائط مشدوداً في خيط دموعي. أصرخ: " لارا " فتجيبُ الريحُ المذعورةُ: 

" لارا " ، أعدو خلف الريح وخلف قطارات الليل وأسأل عاملةَ المقهى. لا يدري أحدٌ. أمضي تحت الثلج وحيداً، أبكي حبي العائرَ في كل مقاهي العالم والحانات.    


في لوحاتِ " اللوفرَ " والإيقوناتْ

في أحزانِ عيون الملكاتْ

في سحر المعبوداتْ

كانت " لارا " تثوي تحت قناع الموت الذهبيِّ وتحت شعاع النورِ الغارقِ في اللوحاتْ

تدعوني، فأُقرّبُ وجهي منها، محموماً أبكي

لكنَّ يداً تمتدُّ، فتمسحُ كلَّ اللوحاتِ وتُخفي كلَّ الإيقوناتْ

تاركةً فوق قناعِ الموتِ الذهبيِّ بصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.


" لارا ! رحلتْ "

" لارا ! انتحرتْ "

 قال البوّابُ وقالت جارتها، وانخرطتْ ببكاءٍ حارْ 

قالت أخرى : " لا يدري أحدٌ، حتى الشيطانْ ".

                                 

في قصر الحمراءْ

في غُرفات حريم الملك الشقراواتْ

أسمع عوداً شرقياً وبكاءَ غزالْ

أدنو مبهوراً من هالات الحرف العربيِّ المضفورِ بالآف الأزهارْ

أسمع آهاتْ

كانت " لارا " تحت الأقمارِ السبعة والنور الوهّاجْ

تدعوني فأُقرّبُ وجهي منها، محموماً أبكي، لكنَّ يداً تمتدُّ فتقذفني في بئر الظُلُماتْ

تاركةً فوق السجادة قيثاري وبصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

                                

أرسمُ صورتها فوق الثلجِ، فيشتعلُ اللونُ الأخضرُ في عينيها والعسليُّ الداكنُ، يدنو فمُها الكرزيُّ الدافيء من وجهي، تلتحمُ الأيدي بعناقٍ أبديٍّ، لكنَّ يداً تمتدُّ ، فتمسحُ صورتها، تاركةً فوق اللونِ المقتولِ بصيصاً من نورٍ لنهارٍ ماتْ.

كرر البياتي عبارة ( لكنَّ يداً تمتدُّ ) ثلاث مرات لكن ما تفعله هذه اليد يختلف من حالة إلى حالة وبإختلاف المناسبات. فمرة (( تمتد فتمسح كل اللوحات وتُخفي كل 

الإيقونات )) وفي المرة الثانية (( تمتد فتقذفني في بئر الظُلمات )) وفي المرة الأخيرة " تمتد فتمسح صورتها …)). لا أمل في لارا ! اليأس منها ! 

( كتب الشاعرُ هذه القصيدة بتأريخ 26- 10- 1974 وكان ذلك الحين في بغداد ). 

6-3 قصيدة " حبٌّ تحت المطر " 

هنا إكتملت موهبة البياتي الشعرية كما إخال وأحسب. وهنا قد إكتمل نضجه الوجداني وعرف جيداً كيف يوظف وكيف يطوّر طرق وأساليب التعبير عن نزعة الحلول الصوفي القابع في أعمق أعماق روحه والإتحاد مع وبالطبيعة شجراً ومطراً وظلمةً وفجراً ونوراً وبأرصفة المدن ثم الميل الشديد لإرتياد بعض المقاهي جواً دافئاً مناسباً للتلاقي وتبادل المعلومات والسؤال والجواب وربما لعقد صفقة صداقة ومد جسور إلفة تُنسي الشاعر وحدته في مدينة غريبة عليه زارها سائحاً أو لحضور مناسبة أو للمشاركة في مؤتمر. 


واترلو كان البدء…

واضحٌ أنَّ الشاعر قد وصل مدينة لندن قادماً إليها مستخدماً القطار واسطةً نقلته من مكان آخر… ربما من مدينة أوربية أخرى. ذاك لأنَّ " واترلو " هو إسم محطة مركزية لقاطرات السكّة الحديد القادمة إلى لندن ولتلك التي تغادرها. ويقع بالقرب منها جسر شهير في لندن يحمل إسم جسر واترلو. وهذا الإسم في الأساس إسم لموقع في بلجيكا يقع إلى الجنوب من العاصمة بروكسل وقعت فيه المعركة الشهيرة التي خسرها نابليون بونابرت عام 1815 أمام الجيوش الألمانية بقيادة الفيلد مارشال بلوشر وحليفتها الإنجليزية بقيادة المارشال ويلنكتون. تُكتب الكلمة بالإنجليزية Waterloo .

محطةُ وسائط للنقل وقطارٌ جاء بالشاعر من أرض أخرى وأدخله إلى مدينة لندن وجسر قريب يحمل ذات الإسم سيأخذه مباشرةً إلى قلب العاصمة البريطانية. نصرٌ لا شكَّ فيه للرجل الزائر الذي وصل لندن بعد منتصف الليل ولكنَّ الإسم هذا هوكارثة بالنسبة للآخر : للقائد المغامر نابليون بونابرت !! أية مفارقة عجيبة يواجهها الشاعر في هذه المدينة !! سيخسر الشاعر المغامر، هو الآخر، لعبة الفجر الجديدة على أرض البلد الذي سبق وأنْ حقق على تربة واترلو نصراً تأريخياً مُؤَزَّراً. فأية مرارة مزدوجة يحسها هذا المغامر الشاعر !! سيخسر معركتة الخاصة بعد أن يغادر المحطة التي تحمل إسم رمز النصر اللامع 

" واترلو " وبعد قليلٍ من عبوره جسر النصر " واترلو ". المغامرون يخسرون في نهاية المطاف. فلقد سبق وأنْ تكبّد نظيره المغامر الجنرال نابليون بونابرت خسارة مماثلة. خسر نابليون معركته الكبرى على أرض ليست فرنسية. كذلك سيخسر الشاعر معركته الجديدة على أرض غريبة وبعيدة عن وطنه العراق. هل كانت محض صدفة أن يستحضر البياتي الأضداد، وهو يُعدُّ نفسه لجولة رومانسية جديدة، فيجمع ما بين النصر والهزيمة على أرض غريبة؟ 

الشعراء غالباً ما يلتقون، هنا أو هناك، بهذا الشكل أو بذاك، سرّاً أو علانيةً، منتصرين أو مهزومين. فإذا ذكر البياتي واترلو ذكراً عابراً فإن الشاعر الإنجليزي جورج غوردون لورد بايرون كتب ( في أو قبل عام 1818 ) عن نابوليون وعن معركة واترلو في النشيد الثالث من قصيدته الطويلة " طواف تشايلد هارولد " أو أسفار تشايلد هارولد

 Childe Harold s Pilgrimage. سأنقل ما كتب هذا الشاعر من باب أنَّ الشيء بالشيء يُذكرُ.


   And Harold stands upon this place of skulls,

The grave of France, the deadly Waterloo!

How in an hour the power which gave annuls

Its gifts, transferring fame as fleeting too!

In “ pride of place “ here last the eagle flew,

Then tore with bloody talon the rent plain,

Pierced by the shaft of banded nations through;

Ambition s life and labours all were vain;

He wears the shatter d  links of the world s broken chain.


كما خصَّ هذا الشاعرُ نابوليون بأجزاء كبيرة من قصيدته التي أسماها " العصر البرونزي 

The Age of Bronze   " فتهكّم وسخر منه أيما سخرية وقارنه بالإسكندر المقدوني إذ حاول كلاهما سُدى السيطرة على العالم وقهره كلٌّ بطريقته وأساليبه الخاصة وبشعاراته الخاصة. قال عنه بعد موته منفيّاً في جزيرة سانت هيلانة :


Small care hath he of what his tomb consists;                                               

Nought if he sleeps – nor more if he exists :                                                

Alike the better  - seeing shade will smile                                                    

On the rude cavern of the rocky isle,                                                            

As if his ashes found their latest home                                                        

In Rome s Pantheon or Gaul s mimic dome .                                                

He wants not this; but France shall feel the want                                          

Of this last consolation, though so scant :                                                     

Her honour, fame, and faith demand his bones,                                         

  To rear above a pyramid of thrones;                                                            

نواصل قراءة المقطع الأول من القصيدة كما كتبها الشاعر في الكتاب:

" واترلو " كان البدءُ، وكلُ جسور العالم كانت تمتدُّ لواترلو، لتعانقه، لترى مُغتَربَين التقيا تحت عمود النورِ، ابتسما، وقفا وأشارا لوميضِ البرقِ وقصفِ السحب الرعدية. عادا ينتظرانِ، ابتسما، قالت عيناها : " من أنتَ ؟ " أجاب : " أنا ! لا أدري " وبكى، اقتربتْ منه، وضعتْ يدها في يده، سارا تحت المطر المتساقط، حتى الفجرِ، وكانت كالطفلِ تغنّي، تقفزُ من فوق البرك المائيةِ، تعدو هاربةً وتعودُ. شوارعُ لُنْدُنَ كانت تتنهدُّ في عمقٍ والفجرُ على الأرصفة المبتلّةِ في عينيها، يتخفى في أوراقِ الأشجارِ. أجابَ : " أنا، لا أدري " وبكى. قالتْ : " سأراكَ غداً " ، عانقها، قبّلَ عينيها تحت المطر المتساقطِ. كانت كجليد الليلِ تذوبُ حناناً تحت القبلاتْ.

هذه هي اللوحة الأولى في قصيدة وضعها البياتي كما توضع بعض السمفونيات. مقدمة فيها غموض ويختلط فيها الأمل بالخيبة. نور من جهة وبروق وسُحُب ورعود ومطر متساقط من الجهة الأخرى. بداية لقصة تعارف مع فتاة إنجليزية وربما صداقة معها جديدة. لم يعطها الشاعر إسماً. هي حتماً ليست لارا الروسية التي عرفنا في الصفحات السالفة. عاش البياتي قرابةَ خمسة أعوام في موسكو فعرف أسماء الروسيّات لكنه لم يُقمْ في بريطانيا. 

في القصيدة الكثير من البكاء. " أنا ! لا أدري " وبكى. كررها مرتين في المقطع الأول من هذه القصيدة. ولقد رأيتُ في جُلِّ شعره إنه يبكي إذ يٌقبّلُ أو يهمُّ بالتقبيل. 

وما دام اللقاء لقاء غرباء وفي ساعة متأخرة من ليلة بارقة راعدةٍ ماطرة فمن حق الفتاة

( وقد تكون هي الأخرى مثل لارا من فتيات الليل ) أن تسأل الرجل الذي بادلها البسمة عن إسمه وربما عن أصله. الرجل أجاب إنه لا يدري، لا يعرف من هو !! إنه ضائع ورقم فارغ في أجواء المدينة الكبيرة لندن التي تكون عادةً معتمة في ساعات الفجر الشتائية. 

لا يعرف من هو وفتاته تلعب وتتقافز أمامه وتغني لتزيد عامدةً من حيرته وعذاب روحه.

( العصفور يتفلّى والصيّاد يتقلّى…) كما يقول العراقيون. 

لقد أبدع البياتي في رسم صورة رائعة وبارعة يُمهّد فيها للحظة الفراق : 

شوارعُ لُنْدُنَ كانت تتنهدُّ في عُمقٍ 

والفجرُ على الأرصفةِ المبتلّةِ في عينيها

يتخفى في أوراقِ الأشجارْ.

صورة زئبقية غائمة عائمة وعصيّة لا تسلّمُ مفتاح السر ولا تُعطي القاريء ممسكاً فتبقى لُغزاً مُحيّراً. ( والفجرُ على الأرصفة المبتلّةِ في عينيها يتخفى في أوراقِ الأشجار ). ماذا يمكن أن نفهم من هذا التعبير ؟ ( الأرصفة المبتلّة في عينيها ) تعبير أفضّل أن أدعه دون تفسير. التفسير يُفسد تجلّي الصورة في مقام هيبة النفس الصوفية ويحشرها في إطار يابس شديد البؤس. أم تُرى أنأى بنفسي عن مستلزمات ودواعي وتأثيرات مظاهر الأبهة والجلال وأتجرأ على القول إنَّ دموع الفراق التي كانت تتساقط من عيني الفتاة بللت فأغرقت الأرصفة. ثم ما شأن الفجر يتخفّى في أوراق الأشجار ؟ ألا يُطيق فراق الأحبة فيغطي عينيه فَرَقاً وجبناً ؟ (( أما تُطيقُ فِراقاً أيها الرجلُ ؟ … كما قال أحد الشعراء )). 

نقرأ المقطع الرابع :

كان يراها في الحُلْم كثيراً منذ سنينٍ. كانت صورتها تهربُ منه إذا ما استيقظَ أو ناداها في الحُلْمِ. وكان بحمّى العاشقِ يبحثُ عنها في كلِّ مكانٍ. كان يراها في كلِّ عيون نساءِ المدنِ الأرضية، بالأزهارِ مغطّاةً وبأوراقِ الليمونِ الضاربِ للحمرةِ، تعدو حافيةً تحت الأمطارِ، تُشيرُ إليهِ : " تعالَ ورائي " يركضُ مجنوناً، يبكي سنواتِ المنفى وعذابَ البحثِ الخائبِ والترحالْ.

نفهم من هذا المقطع أن الشاعر هو ( كازانوفا ) خائب خرج من مغامرة الفجر اللندني بخُفيّ حنين. ضاعت من عَيانه فراح شبحها يطارده أو يلاحقه فيما بعد في عالم الأحلام حسبُ. حتى هذا الشبح الليلي صار يتهرب منه ويصدُّ عنه حين يناديها في الحلم مجرد نداء ويختفي تماماً حين يصحو من منامه. مع ذلك، كان الشاعر يرى هذا المخلوق الغائب عنه حيثما حلَّ وإرتحل. بل وأكثر من ذلك ( كان يراها في كل عيون نساء المدن الأرضية )، مقترباً من قول الشاعر الإنجليزي لورد بايرون ( أُوّاه ! لو أنَّ للنساءِ في العالم أجمع ثغراً واحداً إذنْ لقبّلته وإسترحتُ ). يراها مغطاة بالأزهار وبأوراق الليمون الضارب للحمرة.

كيف يتحول اللون الأصفر إلى الأحمر ؟ التحوّل… التحوّل… والتناسخ الصوفيين. وإلاّ كيف يكون لون الليمونة ضارباً للحمرة والكل يعرف أن الليمونة صفراء ؟ قد يقول البعضُ إنها رؤية الشاعر الخاصة للأشياء. فقد يرى اللون الأصفر أحمرَ والعكس بالعكس. الألوان أسماء تعارف عليها البشر وتواضعوا كما هو الأمر بالنسبة لكل الأشياء والمسميات. 

هذه الفتاة الإنجليزية التي ما زلنا نجهل إسمها أو من هي ظلّت حيّةً في وجدان الشاعر طيفاً يلاحقه أينما وحيثما كان. وظلَّ الشاعر مفتوناً ومشغولاً بذكرى هذا الطيف الذي يُقضُّ مضاجعه ولا يعطيه فُرصةً لراحة البال والضمير. لقد طفق  يمارس كالمهووس عادة إجترار الذكريات وإستحضار تفصيلات الحدث الذي وقع له فجر يوم ماطر في عاصمة الضباب لندن. وكان يحلم بلقاء آخر معها ترتبه يد الأقدار العمياء.

في إنكفائه الجارف إلى داخل نفسه يحاورها ويسائلها ويناجيها، أبدع البياتي في صوغ نوع من " الدايالوج " الرائع الذي هو مزيج من الأماني ومخاطبة الذات وإسترجاع حلو الذكريات. نقرأ المقطع الثامن :

كان يراها في كلِّ الأسفارْ

في كلِّ المدن الأرضيةِ بين الناسْ

ويناديها في كل الأسماءْ.

وفي المقطع التاسع :

كانت تتخفى في أوراقِ الليمونِ وأزهارِ التفّاحْ.

وفي المقطع العاشر :

" واترلو " كان البدء وكلُّ جسور العالم كانت تمتدُّ لواترلو، تسعى للقاءِ الغرباءْ.

وفي المقطع الحادي عشر :

تحت النورِ التقيا، ابتسما، وقفا وأشارا

لوميضِ البرقِ وقصفِ السحبِ الرعديةِ، كانا يعتنقانْ.

وفي المقطع الثاني عشر :

كان يمارسُ سحراً أسودَ في داخله : تأتي أو لا تأتي؟ من يدري؟ مجنوناً كانْ.

قبيل اللقاء يرسم البياتي أندرَ صورٍ عرفها الشعر العربي المعاصر للحظات الترقب والأمل المرتجِّ والخوف من إستحالة تحقق اللقاء مع إمرأة طال إنتظار وعدها على الأرض الغريبة. 

المقطع الثالث عشر :

كانت في يدهِ دُميةُ شمعٍ يغرزُ فيها دبّوساً من نارْ

" حبيني " قال لها، واتّقدت عيناهْ

بشرارةِ حزنٍ يصعدُ من قلبِ المأساةْ.  

إنه يتحرق شوقاً للّقاء فيتخيل الفتاة كدمية من شمع ينصهر بين يديه تحت تأثير حرارة نار تولعه هو وعنفوان هواجس التأرجح ما بين إحتمالات الأمل واليأس. 

يتمنى الشاعر أن تحبه هذه المرأة – اللغز الغامض، يتمنى لكنْ (( ما كل ما يتمنى المرء يدركه // تجري الرياحُ بما لا تشتهي السَفَنُ / المتنبي )). ما أن ذكر الحب وفعل الأمر

(( حبيني )) حتى بلغ منه القلق مبلغه. وجد هناك ما يشبه اليأس من ذلك أو إستحالة أن يحصل هوى صادق بينه وبين هذه الفتاة. (( حبيني قال لها، واتقدت عيناهْ، بشرارةِ حزنٍ يصعدُ من قلبِ المأساةْ )). هل المأساة في أنْ تحبه هذه المرأة أو أنَّ المأساة هي في أنْ لا تُحبهُ ؟ تلكم هي المسألة. الحيرة الحيرة. حيرة الرجال أمام إحتمالات الحياة المتغيرة أبداً.

تأتي أو لا تأتي ؟؟؟ تحبه أم لا تحبه ؟؟؟ 

ثمَّ هل ستفي الفتاة بالوعد الذي قطعت حين قالت له لحظة الوداع (( سأراك غداً / المقطع الأول )). هل سأل الشاعر نفسه أين، تُرى، ستراه غداً ؟ إنها لم تحدد له مكاناً ولا زماناً لمثل هذا اللقاء. فلماذا قبل مثل هذا الوعد الغائم والعائم ؟ يقول الإنجليز

 See you tomorrow   أو See you latter   كما يقول واحدنا للأخر إذ يفترقان " مع السلامة " دون الإلتزام بموعد ثابت يترتب عليه لقاء مُحدد. 

نجد الجواب في المقطع رقم 14 (( أراها صورته بلباس البدوِ الرُحّل…)). بدوي ساذج ينخدع بالكلام ويتعجّل وقوع الأحداث نتيجة قلّة الصبر وضعف النسيج العصبي المركزي.  

بعد السياحة الطويلة نقف لنلتقط على مهلٍ أنفاسنا فنجد أنفسنا أمام حُلُم سريع جميلٍ غريب التفاصيل مُثير في بنائه وهندسته. ما كان وعداً ما حسبناه وعداً. مجرد ذكرى يلوكها الشاعر إجتراراً ومن باب الإستمناء أو التمني (( والتمني رأسُ مالِ المفلسِ )).

وكما يحدث في عالم السينما والأفلام، يعود الشاعر بذاكرته في المقطع الخامس عشر إلى أحداث المقطع الأول وما جرى له ولها خلال دقائق التعارف الأولى:

عانقها، قبّلَ عينيها، لُنْدُنُ كانت تتنهدُّ في عمقٍ، والفجرُ على الأرصفةِ المبتلّةِ في عينيها يتخفى في أوراقِ الأشجارْ.

في المقطع الأخير تتجلى حقيقة هذه الفتاة لنفاجأَ بأنها ليست حقيقية وبأن قصة محطة قطارات واترلو وجسر واترلو ما هي إلاّ خيال محبوك بإتقان وإقتدار ومُكنة. وبأن الشاعر البياتي فنان ساحر يُتقن اللعب على قارئه ويجيد توظيف موهبة التخيل وإستخدام تكنيك تقريب وإبعاد عدسات التصوير من بؤر ومراكز دوائر وقائع التأريخ. الفتاة التي إلتقته في لندن لقاء غرباء ما كانت إلاّ " عائشة " إياها التي رافقناها منذ قصيدة " الموتى لا 

ينامون " على الصفحة 71 من المجلد الثاني لمجموعة أشعار الشاعر. وأنَّ عائشة هذه لا وجود حقيقياً لها إنما زالت هي بزوال مملكة أبيها في الألف الثالث قبل الميلاد . المقطع السادس عشر :

" عائشةٌ إسمي " قالت : " وأبي ملكاً أسطورياً كانْ

يحكمُ مملكةً دمّرها زلزالٌ في الألف الثالثِ قبلَ الميلادْ ". 

أجلْ، الموتى لا ينامون. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق