قانون الاعدام الاسرائيلي تشريع صاغه الرصاص وسبقته قذائف الطائرات/ جواد بولس



مرة أخرى تشهد الكنيست نقاشات حول مطالبة عدد من أعضائها المشرّعين اقرار تعديل على القانون الجنائي الاسرائيلي يقضي بلزوم انزال عقوبة الاعدام بحق كل "ارهابي" يدان بجريمة قتل نفذها "بدافع عنصري وبهدف المس بدولة اسرائيل وببعث الشعب اليهودي في أرضه". ويبرّر مؤيدو تعديل القانون بضرورة اتاحتها فورا كعقوبة بحق عناصر كتيبة النخبة المحتجزين في المعسكرات الاسرائيلية، وكأداة من شأنها أن تستأصل الارهاب الفلسطيني من جذوره وأن تتحول الى وازع رادع لجميع الفلسطينيين.


لقد أشغلت عقوبة الاعدام، كخيار عقابي يجب المحافظة عليه ضمن منظومة التشريعات الاسرائيلية، حكومات اسرائيل منذ تأسيسها؛ وقد خضعت هذه المسألة، قبل الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967 وبعده، الى عدة تعديلات تمّت على مراحل عديدة وأفضت، في النهاية، الى ابقاء هذه العقوبة في بعض التشريعات الخاصة بالمجرمين النازيين، وضمن القوانين العسكرية وفي بعض مخالفات خيانة الدولة وأمنها.


يعرف جميع المتخصصين بالقانون الجنائي والعسكري  أن عقوبة الاعدام قائمة في التشريعات الموجودة، إلا أنها لم تستنفد ضد المقاومين الفلسطينيين بسبب قرار اسرائيلي قديم جديد، عبّرت عنه مؤخرا المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف-ميارا، حين عارضت القانون مشدّدة على أن عقوبة الاعدام لن تكون وسيلة رادعة في حالة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.


يتسلح معارضو عقوبة الاعدام، بشكل عام،  بعدة حجج وذرائع، منها: قدسية الحياة، واحتمالات وقوع الخطأ، ومكانة الانسان وحقه المطلق في الحياة ومعارضة المؤسسات الحقوقية الدولية والمنظمات الانسانية لمثل هذه القوانين؛ ولأنه قانون عنصري بامتياز؛ فالجميع يعرفون بأن القانون، في حالة اقراره في الكنيست، سيفعّل ضد الفلسطينيين فقط ولن يفعّل بحق ارهابيين أو جناة يهود يقترفون جرائم القتل ضد الفلسطينيين على خلفيات قومية وعنصرية، كما يجري في الآونة الأخيرة في الضفة الغربية أو داخل اسرائيل.


لقد كان رؤساء الأجهزة الأمنية والمستشارون القانونيون والسياسيّون، المطلعون على تقارير تلك الأجهزة ودراساتهم وخلاصاتهم المهنية، في طليعة من عارضوا استنفاد عقوبة الاعدام بحق المقاومين الفلسطينيين. ولقد اطّلع معظم المعارضين على خلاصات أهم الدراسات التي أجريت في حالات الصراعات القومية والاثنية والدينية المشابهة للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، والتي نفى معدّوها دور عقوبة الاعدام في تعزيز دوافع الردع بين المقاومين. بل أظهرت تلك الدراسات أن اللجوء الى عقوبة الاعدام سيزيد من صلابة أولئك المقاومين وفي اصرارهم واستعدادهم للمقاومة حتى آخر أنفاسهم!  كما وأفادت تلك الدراسات على أن من تنفذ بحقهم عقوبة الاعدام يتحولون في نظر مجتمعاتهم الى شهداء وأبطال خالدين، لا إلى مجرد جثث تتهادى من على أعواد المشانق. ستصبح مشاهد اعداماتهم حوافز للمخيلات الشعبية وسيتحوّلون الى رموز تعلّق صورهم تمائم على صدور الناس، وتردد أسماءهم الأجيال في أهازيج يزخر بها الموروث الشعبي الفلسطيني.


لقد أصابت المستشارة القانونية كبد الحقيقة حين تطرقت الى مسألة استحالة ردع الفلسطينيين بمواجهتهم بعقوبة الاعدام ؛ فهي، ربما بدون أن تقصد، أشارت إلى حقيقة صمود الفلسطينيين كل هذه العقود رغم المؤامرات عليهم، ورغم دموية الاحتلال وقمعه وممارساته التي لم تعرف حدودًا؛ ويكفي أن نستعيد مشاهد الجرائم الأخيرة التي اقترفتها وتقترفها قطعان المستوطنين وعناصر الجيش، ووثقتها الكاميرات وشاهدها العالم.


يعتقد أصحاب قانون الاعدام، أن قانونهم سيمحي أسطورة المناضل الفلسطيني الذي لا يخشى أعواد المشانق. أرى في عيونهم الفرح وأتذكر وجوه مئات الأسرى الذين دافعتُ عنهم حين كانوا يهزأون ممن يهدّدهم بالاعدام. لن تتسع هذه العجالة لسرد تلك الحكايات، لكنّني على يقين بأن مئات المدّعين والقضاة والمحققين الاسرائيليين يتذكرون مثلنا، نحن المحامين، كيف كان يقف بعض الأسرى أمام القضاة ويقولون لنا باحترام ولهم بدون تردد أو وجل:  "دع عنك استاذي، فأنا لا أعترف بهذه المحكمة. وليحكموا علي بما أرادوا" !  وحين كان القاضي يخاطب الأسير/المتهم بقصد إخافته وابقائه تحت "جناح المحكمة" وينبهه بأن عقوبته قد تكون الاعدام، كان الأسير يضحك بعزة ويباشر القاضي دون أن ينتظر من محاميه نصيحة أو رأيا ويقول له: "ما أغباكم، ما أصلفكم. أوَتحسبون أننا نخشى أحكامكم. نحن في وطننا نقتل على طريقتكم كل يوم ألف مرة، واليوم أجيئكم كي أموت على طريقتي أنا. هي ميتة واحدة، أختارها أنا، وبعدها سأحيا ".  وكم من مرة سمعوا هذا الكلام؛  بيد أن من قدّوا من الشر، هكذا يبدو، على الانتقام يحيون وبالشر يتعمدون !


اسرائيل الحالية ليست بحاجة لتشريع قانون الاعدام كي تضمن ردع الفلسطينيين وتئد جذوة نضالهم ضد الاحتلال؛ فكتائب من جيشها وسوائب مستوطنيها ينفذون اعداماتهم بدون حسيب أو رقيب ويشيعون ارهابهم بالنار وبالبارود. اسرائيل الحالية تسعى لإقرار هذا القانون استكمالا لعقيدتها الجديدة ولما كان يردده ملهمهم مئير كهانا "بأن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت" !


هذا ما يعرفه أصحاب الأرض والمكان، وهو ما عبرت عنه بيانات معظم المعقبين الفلسطينيين؛ ففي بيان مشترك "لهيئة شؤون الأسرى" و"نادي الأسير الفلسطيني"  قرأنا "أن منظومة الاحتلال الاسرائيلي مارست على مدار عقود طويلة سياسات إعدام بطيء بحق مئات الأسرى داخل السجون، فيما شهدت هذه السياسات تصعيدا غير مسبوق منذ الحرب على غزة لتجعل هذه المرحلة الراهنة الأكثر دموية في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة". وأضاف البيان "إن مصادقة ما تسمى "بلجنة الأمن القومي في الكنيست الاسرائيلي" على قانون الاعدام بالقراءة التمهيدية، لم يعد أمرا مفاجئا في ظل حالة التوحش غير المسبوقة. وعلى الرغم من وضوح موقف القانون الدولي الذي يحرم عقوبة الاعدام، يؤكد اصرار الاحتلال على تقنين هذه الجريمة واضفاء صبغة الشرعية عليها، على أن دولة الاحتلال تتصرف باعتبارها فوق القانون وعلى عجز المجتمع الدولي بمحاسبتها".     


لقد دافعتُ عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، وكنت شاهدًا على مئات ممن عاملتهم إسرائيل، القديمة والجديدة، خلال فترات أسرهم، كمشاريع شهادة؛ ولا أعرف اذا سمع أعضاء الكنيست الذين صوّتوا لصالح قانون اعدام الأسرى الفلسطينيين بأسماء تلك القوافل التي أقسم حُداتها ألا يرضوا بحياة الذل والقهر تحت نير الاحتلال؛ فبعضهم ناضلوا ورحلوا على طريق الفَراش وطريقته، وآخرون ولدوا وما زالوا يتعاقبون كالصدى وهو ينثال من "لام" الأملللل. هكذا كان طيلة عقود كنت فيها شاهدا على من يصنع الموت من جهة ومن يعشقون الحياة من جهة أخرى؛ فهل تغيرت المقادير في "زمن الفضيحة" الحالي والذي فيه "تطبخ" بعض الامم "أزهارها بدم الفلسطينيين". أخشى من الحقيقة، لكنني على يقين بأن من يحلم بالإعدامات كحل لمشاكله وكمفتاح لمستقبله، لم ولا يريد أن يتعلم من عبر التاريخ، حتى ولا من تاريخه هو، أو إن شئتم من تاريخ الطغاة ومصائرهم.  

ممارسة الفلسفة بطريقة أصلية مفيدة للبشرية عند التفكير في الغد بقدر فائدة العلم/ د زهير الخويلدي



مقدمة


"الفلسفة هي علم حل المشاكل" أرسطو

تُعتبر الفلسفة والعلم ركيزتين أساسيتين في تقدم البشرية، حيث يتكاملان في فهم الواقع وتحسين الحياة الإنسانية. الفكرة القائلة إن "الفلسفة مفيدة للبشرية بقدر فائدة العلم" تثير نقاشًا عميقًا حول طبيعة الفائدة ودور كل منهما. أما القول بأن "التفكير في الغد هو ممارسة للفلسفة أصلاً" فيشير إلى أن الفلسفة ليست مجرد تأمل نظري، بل نشاط عملي يرتبط بالتخطيط والرؤية المستقبلية. في هذا التحليل، سنستعرض هذه الفكرة من منظور فلسفي وعلمي، مع التركيز على كيفية مساهمة الفلسفة والعلم في البشرية، وكيف يمثل التفكير في المستقبل ممارسة فلسفية. فماهي الفلسفة وماهو العلم؟ وكيف يمثلان من ركائز التقدم المفيد للبشرية؟ ولماذا يتم التنصيص على اهتمام الانسان بالمستقبل عند الممارسة الأصلية للتفلسف؟


الجزء الأول: فائدة الفلسفة والعلم للبشرية


 فائدة العلم

العلم، بمناهجه التجريبية والقائمة على الملاحظة والتجربة، أسهم في تقدم البشرية عبر: الاكتشافات التكنولوجية: من الطب (مثل اللقاحات والعلاجات) إلى الاتصالات (مثل الإنترنت)، قدم العلم حلولًا عملية لتحسين الحياة.

فهم الطبيعة: من خلال قوانين الفيزياء، الكيمياء، والبيولوجيا، أتاح العلم فهمًا دقيقًا للكون والظواهر الطبيعية.

التنبؤ والتحكم: يمكّن العلم من التنبؤ بالظواهر (مثل الطقس أو الزلازل) والتحكم في البيئة (مثل الهندسة الزراعية).

ومع ذلك، يُنتقد العلم أحيانًا بسبب تركيزه على الجوانب المادية، وقد يفتقر إلى التوجيه الأخلاقي أو الرؤية الشاملة للغايات الإنسانية.


 فائدة الفلسفة

الفلسفة، كنشاط تأملي وعقلي، تقدم فوائد موازية للعلم: فهم المعاني والغايات: تتناول الفلسفة أسئلة أساسية مثل "ما معنى الحياة؟" و"ما هي العدالة؟"، مما يساعد في بناء رؤية شاملة للوجود.

التوجيه الأخلاقي: من خلال الفلسفة الأخلاقية (مثل أخلاقيات كانط أو الفضيلة عند أرسطو)، تقدم الفلسفة إطارًا للحكم على القرارات العلمية والتكنولوجية.

النقد والتفكير النقدي: تعزز الفلسفة القدرة على تحليل الأفكار، نقد الافتراضات، وطرح البدائل، مما يساعد في تطوير العلم نفسه.

التكامل المعرفي: تجمع الفلسفة بين التخصصات، موفرة إطارًا لفهم العلاقات بين العلوم، الفنون، والدين.


 مقارنة الفائدة

التكامل بين الفلسفة والعلم: العلم يوفر المعرفة التجريبية، بينما الفلسفة توفر الإطار المفاهيمي والأخلاقي. على سبيل المثال، العلم يطور القنبلة النووية، لكن الفلسفة تناقش ما إذا كان استخدامها أخلاقيًا.

الفائدة المادية مقابل المعنوية: العلم يقدم فوائد مادية ملموسة (مثل الطب والتكنولوجيا)، بينما الفلسفة تقدم فوائد معنوية (مثل فهم الذات والعدالة). ومع ذلك، الفوائد المعنوية قد تكون أساسية لتوجيه الفوائد المادية.


المدى الزمني: العلم يركز على الحلول الآنية أو قصيرة المدى، بينما الفلسفة تتيح التفكير طويل المدى في المستقبل والغايات الإنسانية.


 الحجة: الفلسفة مفيدة بقدر العلم

يمكن القول إن الفلسفة مفيدة بقدر العلم لأنها: تقدم إطارًا لفهم العلم وتوجيهه (مثل فلسفة العلم عند بوبر أو كون).

تساعد في معالجة الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، مثل الغايات الأخلاقية أو معنى الوجود.


تعزز التفكير النقدي، وهو أساس التقدم العلمي نفسه.

ومع ذلك، قد يُجادل البعض بأن العلم أكثر فائدة لأنه يقدم نتائج ملموسة، بينما الفلسفة قد تبدو مجردة. لكن هذا النقد يتجاهل دور الفلسفة في تشكيل القيم والرؤى التي توجه استخدام العلم.


الجزء الثاني: التفكير في الغد كممارسة فلسفية


التفكير في الغد والفلسفة

القول بأن "التفكير في الغد هو ممارسة للفلسفة أصلاً" يشير إلى أن التخطيط للمستقبل يتطلب تأملًا فلسفيًا يتجاوز الحسابات التجريبية. التفكير في الغد ينطوي على: الزمانية: الفلسفة، كما عند هيدجر أو ريكور، ترى الزمانية كعنصر أساسي في الوجود البشري. التفكير في الغد هو تأمل في إمكانيات المستقبل، وهو نشاط فلسفي يرتبط بالهوية والغايات.

الأخلاق والمسؤولية: التفكير في الغد يتطلب التفكير في العواقب الأخلاقية للأفعال الحالية (مثل التغير المناخي أو الأخلاقيات التكنولوجية)، وهو مجال فلسفي بامتياز.

الرؤية الشاملة: التفكير في المستقبل يتطلب تخيّل سيناريوهات مختلفة، وهو ما يتطلب الخيال الفلسفي والتأمل في الإمكانيات، على عكس العلم الذي يركز على التنبؤ بناءً على البيانات.


 أمثلة فلسفية للتفكير في الغد

كانط: في نقد العقل العملي، يؤكد كانط على الواجب الأخلاقي كمبدأ يوجه السلوك نحو مستقبل أفضل. التفكير في الغد يتطلب تصور "مملكة الغايات"، حيث تُعامل البشرية كغاية في حد ذاتها.

هيدجر: في الوجود والزمان، يرى أن الدازاين يعيش في توتر بين الماضي، الحاضر، والمستقبل. التفكير في الغد هو جزء من الأصالة ، حيث يواجه الإنسان قلق المستقبل والموت.

ريكور: في الزمان والسرد، يرى أن السرد هو وسيلة لتنظيم الزمانية. التفكير في الغد يتطلب بناء روايات مستقبلية تشكل الهوية والأمل.

ابن خلدون: في المقدمة، يقدم رؤية دورية للتاريخ، مما يساعد في التفكير في الغد من خلال فهم أنماط صعود وسقوط الحضارات.


التفكير في الغد كممارسة فلسفية

التفكير في الغد هو ممارسة فلسفية لأنه: يتطلب التأمل في القيم والغايات، وهي مسائل فلسفية أساسية.

ينطوي على التخيّل والإبداع، وهما من صميم الفكر الفلسفي.

يرتبط بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة، وهو موضوع فلسفي معاصر (مثل أخلاقيات التغير المناخي).


التحديات

الغموض في التفكير المستقبلي: التفكير في الغد قد يكون مضاربًا وغير مؤكد، مما يجعل الفلسفة تبدو أقل دقة مقارنة بالعلم.

التوازن بين الفلسفة والعلم: التفكير في الغد يتطلب الجمع بين التنبؤات العلمية (مثل النماذج المناخية) والرؤى الفلسفية (مثل العدالة البيئية).


الجزء الثالث: مقارنة بين الفلسفة والعلم في التفكير في الغد


 أوجه التشابه

الهدف المشترك: كلاهما يسعى إلى تحسين الحياة الإنسانية، سواء من خلال حلول مادية (العلم) أو رؤى معنوية (الفلسفة).

التفكير النقدي: يعتمدان على التحليل النقدي لفهم الواقع وتصور المستقبل.

التأثير على المستقبل: العلم يوفر أدوات للتخطيط (مثل التكنولوجيا)، والفلسفة توفر الرؤية والأخلاق لتوجيه هذه الأدوات.

 أوجه الاختلاف بين الفلسفة والعلم


المنهج:

العلم: يعتمد على التجربة والملاحظة لتقديم تنبؤات دقيقة.

الفلسفة: تعتمد على التأمل والتفكير المفاهيمي لتصور الإمكانيات.


النطاق:

 العلم: يركز على الجوانب المادية والقابلة للقياس.

الفلسفة: تتناول الجوانب المعنوية والغايات الكبرى.


التطبيق:

العلم: يقدم حلولاً عملية فورية (مثل تطوير الطاقة المتجددة).

الفلسفة: تقدم إطارًا طويل المدى لفهم عواقب هذه الحلول (مثل العدالة بين الأجيال).

 التفكير في الغد كممارسة فلسفية

التفكير في الغد يجمع بين العلم والفلسفة:

العلم يوفر البيانات والأدوات (مثل نماذج التغير المناخي).

الفلسفة توفر الرؤية الأخلاقية والمعنوية (مثل مبدأ العدالة البيئية).

بالتالي، التفكير في الغد هو ممارسة فلسفية أصلاً لأنه يتطلب التأمل في الغايات، القيم، والإمكانيات، وهي مجالات فلسفية بامتياز.


تقييم تأويلي:

فائدة الفلسفة والعلم: الفلسفة مفيدة بقدر العلم لأنها توفر الإطار المفاهيمي والأخلاقي الذي يوجه التقدم العلمي. بدون الفلسفة، قد يؤدي العلم إلى نتائج مدمرة (مثل الأسلحة النووية). وبدون العلم، تظل الفلسفة مجردة وغير قابلة للتطبيق.

التفكير في الغد: التفكير في الغد هو ممارسة فلسفية لأنه يتطلب التأمل في القيم، الإمكانيات، والمسؤولية الأخلاقية، لكنه يعتمد أيضًا على العلم لتقديم البيانات والحلول العملية. هذا التكامل يؤكد أهمية الجمع بين الفلسفة والعلم.


خاتمة

" دور العلم أن يكتشف، ومهمة الفلسفة التأويل"

الفلسفة والعلم متكاملان في خدمة البشرية، حيث يقدم العلم الأدوات المادية والفلسفة الرؤية المعنوية. التفكير في الغد هو ممارسة فلسفية أصلاً لأنه يتطلب التأمل في القيم والغايات، مع الاعتماد على العلم لتوفير الأسس التجريبية. إرث الفلسفة، كما تجلى في أعمال فلاسفة مثل كانط، هيدجر، وريكور، يكمن في قدرتها على توجيه العلم نحو مستقبل يحقق الخير الإنساني، مما يؤكد أن الفلسفة ليست مجرد تأمل، بل نشاط عملي يشكل الغد. فهل نجاح العلم في تفجير ثورة رقمية ما يبرر التخلي عن خدمات الفلسفة؟


المصادر والمراجع


عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة،1377


Kant, Emmanuel. (1788). Critique de la raison pratique.

Heidegger, Martin. (1927). Être et Temps.

Ricœur, Paul. (1984-1988). Temps et récit (Vol. 1-3).

Popper, Karl. (1934). La Logique de la découverte scientifique.


كاتب فلسفي

دفاعًا عن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية/ عبده حقي

 


تعيش قضية الصحراء المغربية هذه الأيام مرحلة حاسمة في تاريخها الطويل داخل أروقة الأمم المتحدة، بعدما أعلنت الولايات المتحدة بوضوح موقفها الداعم لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية باعتباره الحلّ الواقعي والنهائي للنزاع المفتعل.


إن هذا التحرك الأميركي في مجلس الأمن يشكل تحوّلًا استراتيجيًّا في مسار القضية، ويعكس اقتناعًا دوليًّا متزايدًا بعدم جدوى أطروحة الانفصال، التي ظلت الجزائر تروّج لها لخمسة عقود عبر واجهتها الانفصالية "البوليساريو".


في نيويورك، بدا واضحًا أنّ النقاش الأممي حول مشروع القرار الجديد يسير في اتجاه الاعتراف بالجهود المغربية الجادة وذات المصداقية. فالمبادرة المغربية التي قدّمت منذ سنة 2007 لم تعد مجرّد مقترح من بين مقترحات، بل تحوّلت إلى مرجعية سياسية وأممية يجد فيها المجتمع الدولي المخرج الوحيد الممكن لإنهاء نزاع عمره نصف قرن. ولعلّ الدبلوماسية المغربية، بتوجيهات الملك محمد السادس، قد نجحت في تثبيت هذا التحوّل عبر العمل الهادئ، والبراغماتية السياسية، والتحالفات المتنامية مع قوى دولية وإفريقية وعربية مؤثرة.


ويُنتظر أن يصدر مجلس الأمن غذا الثلاثين من أكتوبر قرارًا جديدًا يؤكد على دعم مسار الحكم الذاتي، ويشيد بجهود المغرب في تنمية أقاليمه الجنوبية وتعزيز الاستقرار في المنطقة. هذا القرار المرتقب سيكرس مرة أخرى تفوق المقاربة المغربية القائمة على الواقعية والشرعية، وسيضع الجزائر أمام مأزق سياسي ودبلوماسي متزايد، بعدما فقدت أطروحتها الانفصالية الكثير من أنصارها التقليديين.


في المقابل، تواصل الرباط حصد مكاسب جديدة على الصعيد الدولي، حيث أعلنت باراغواي مؤخرًا نيتها فتح قنصلية عامة لها في مدينة الداخلة، لتنضم إلى قائمة متنامية من الدول الإفريقية والعربية والأمريكية اللاتينية التي فتحت تمثيلياتها الدبلوماسية في الأقاليم الجنوبية. إنّ هذا القرار السيادي من دولة بعيدة جغرافيًّا كدولة باراغواي يؤكد أن الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه لم يعد محصورًا في دائرة الجوار الإقليمي، بل أصبح توجّهًا دوليًّا متسعًا يقوم على قناعة بأنّ الصحراء جزء لا يتجزأ من التراب المغربي.


ولا يقف الدعم عند البعد السياسي فقط، بل يمتدّ إلى الميدان الاقتصادي، حيث شجعت الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون الاستثمارات في الأقاليم الجنوبية، معتبرين أن التنمية المستدامة هي الوجه العملي للحل السياسي. وقد تحوّلت مدن العيون والداخلة والسمارة إلى مراكز جذب اقتصادي واستثماري، خاصة في مجالات الطاقات المتجددة والصيد البحري واللوجستيك، مما جعل الحكم الذاتي في بعده التنموي واقعًا ملموسًا أكثر من كونه مشروعًا على الورق.


أما الجزائر، فقد وجدت نفسها اليوم في عزلة سياسية خانقة. فخطابها المتشنج داخل الأمم المتحدة لم يعد يجد آذانًا صاغية، ومحاولاتها المستمرة لتدويل الأزمة تحت غطاء الدفاع عن "حق تقرير المصير" باتت مكشوفة بوصفها وسيلة للمناورة وليس مبدأً صادقًا. إنّ المجتمع الدولي بات يدرك أنّ الجزائر ليست طرفًا محايدًا، بل هي أصل المشكلة ومصدر استمرارها، وأن الحل الحقيقي يكمن في الانخراط البنّاء في مبادرة الحكم الذاتي بدل إدامة صراع عقيم يعرقل التكامل المغاربي ويهدّد أمن المنطقة.


كما تراقب بعض العواصم الغربية، مثل لندن وواشنطن، بحذر النشاطات الإيرانية في شمال إفريقيا ومحاولات طهران التمدد عبر دعم حركات مسلحة بالمنطقة. وتعتبر هذه التحركات تهديدًا مباشرًا لاستقرار منطقة الساحل والصحراء التي تلعب فيها المملكة المغربية دورًا محوريًّا في مكافحة الإرهاب والتطرف، ما يجعل الرباط شريكًا استراتيجيًّا لا غنى عنه في المعادلة الأمنية الإقليمية.


من هنا يمكن القول إنّ ما يجري اليوم داخل مجلس الأمن ليس مجرد نقاش حول قضية محلية، بل هو إعادة رسم لتوازنات جيوسياسية جديدة في شمال إفريقيا. فالمغرب الذي أثبت قدرته على الدمج بين الدبلوماسية التنموية والشرعية القانونية يجد نفسه في موقع قيادي متقدم، بينما تتراجع الأطروحات الانفصالية إلى الهامش بفعل افتقادها لأي سند واقعي أو قانوني.


إنّ الإجماع الدولي المتنامي حول الحل المغربي لا يعكس فقط نجاح الدبلوماسية الملكية في فرض منطق الواقعية، بل يؤكد أيضًا أنّ المجتمع الدولي بات مقتنعًا بأنّ استقرار المغرب هو ركيزة استقرار المنطقة كلها. فالاستثمارات الكبرى، والانفتاح السياسي، والإصلاحات الحقوقية التي تشهدها المملكة تُقدّم نموذجًا مغاربيًّا جديدًا يجمع بين التنمية والسيادة والوحدة الترابية.


وفي هذا السياق، فإنّ الحلّ النهائي لن يكون سوى من خلال تفعيل مبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية الكاملة، باعتبارها الضامن الوحيد لكرامة السكان الصحراويين وتنميتهم داخل وطنهم الأم، ووسيلة لإنهاء أحد أقدم النزاعات في القارة الإفريقية. لقد أثبتت التجربة أنّ المغرب لا يسعى إلى الهيمنة بل إلى بناء نموذج جهوي ديمقراطي مندمج، تُمارس فيه الأقاليم الجنوبية صلاحياتها المحلية في إطار دولة موحدة ومتماسكة.


إنّ هذه المرحلة الدقيقة تمثل لحظة حسم تاريخية، حيث يقف المغرب بثقة وصلابة أمام العالم، مدافعًا عن وحدته الترابية، ومؤمنًا بأنّ العدالة والشرعية في صفه، وأنّ المستقبل لن يكون إلا لصوت العقل والحكمة. فالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية لم يعد شعارًا سياسيًّا، بل أصبح مشروعًا واقعيًّا يجد يومًا بعد آخر تأييدًا دوليًّا متزايدًا، ليؤكد للعالم أنّ الصحراء كانت وستظل مغربية إلى الأبد.

الجولان السوريّ المحتلّ والـ "أسرلة" محض ترّهات أم أمر واقع مرّ؟!/ سعيد نفّاع



وقفات على المفارق

الوقفة الأولى... وَ "المكتوب يُقرأ من عنوانه!" 

مغترب سوريّ أو على الأصح لاجئ سوري قديم مقيم في فرنسا؛ معارضٌ شرس لنظام الأسد وأكثر اليوم لنظام الشرع، وأكاديميّ سوريّ مرموق، وسياسيّ لبنانيّ عضو مجلس نوّاب، أرسلوا لي تباعًا تقريرًا يتناول الجولان السوري المحتل نقلته مواقع عربيّة عن صحيفة "يسرائيل هيوم- إسرائيل اليوم"؛ صحيفة يمينيّة مموّلة من رجل أعمال يمينيّ داعمٍ لنتانياهو، توزّع مجانًا منافسَةً للصحافة اليوميّة الأخرى اللبراليّة إلى حدّ ما والمُباعة... يعني صحيفة بلاط! أرسلوها يتوخّون منّي ردّا أو تعليقًا، وما كنت بعدُ أطّلعت على التقرير في المصدر. 

الملفت كان أن العنوان الذي جاءني من لبنان كان؛ "بسبب أحداث السويداء.. إقبال مرتفع من دروز سوريا للانضمام إلى الجيش الإسرائيلي" – موقع المشهد. أمّا العنوان من لدن السوريّين؛ المقيم والمُغترب؛ "إسرائيل للجولاني شكرًا أبا محمّد حقّقت لنا المستحيل السويداء بداية تحوّل" – قناة مركز القرار في السويداء. 

فأين من هذه العناوين الجولان؟! وكما يُقال عندنا: "المكتوب يُقرأ من عنوانه!" 

الوقفة الثانية... والتقرير.

اطّلعت على التقرير في المصدر فكان العنوان، ترجمة حرفيّة: " ارتفاع %600: انقلاب تاريخي في تجنيد الدروز من هضبة الجولان. منذ انفجار حرب "حربات حديد" (التسمية الإسرائيليّة للحرب على غزّة) تجنّد حوالي 150 درزي من الجولان – مقابل 4 فقط قبل ذلك." 

فرضًا أن هذا صحيح، فالصحيفة تعيد ذلك إلى الفترة منذ اندلاع حرب غزّة والتي انفجرت كما هو معلوم قبل مقتلة السويداء بسنة وتسعة أشهر، وسنة وثلاثة أشهر قبل سقوط النظام، فكيف تكون السويداء والجولاني وراء ذلك كما جاء في عناوين المواقع أعلاه؟! 

وبغضّ النظر الجولانيّون مجتمع كما كلّ المجتمعات، فيهم السمين وفيهم الغثّ، ولكن حقيقة تاريخيّة هي أن غثّهم قليل ولا يقارن بغثّ كلّ مجتمعاتنا العربيّة. هذا أوّلا، وإضافة؛ حدا يفهّمني كيف الارتفاع من 4 إلى 150 هو %600!؟ (ولا آينشتاين ما قدر عليها!) فكيف استطاع مراسلا الصحيفة أو من زوّدهم بالمعلومة الوصول إليها؟! يعني بالرياضيّات المبسّطة؛ أن ترتفع الـ 4 إلى 150 هذا معناه ارتفاع بِـ %3750!

هذه الأمور والتي تبدو وكأنّها ثانويّة في الموضوع هي لبّ من الموضوع، فهي التحريض الممنهج بعينه!

الوقفة الثالثة... والدروز وتحديّات التواجد الراهنة.  

 قبل سقوط النظام السابق في سوريا بأشهر قليلة كنت أعمل على دراسة حملت عنوان هذه الوقفة (لم أنشرها على ضوء التطوّرات التي تسارعت في المشهد الدرزيّ السوريّ)، كنت تناولت فيها فيما تناولت؛ الجولان كاتبًا: 

"القاصي والداني يعرف أنّ العرب الدروز أبناء الجولان السوريّ المحتلّ منذ العام 1967م، ثبّتوا عروبتهم وسوريّتهم بملاحم نضاليّة من خلال وحدة قلّ نظيرها؛ سياسيّة على اختلاف القناعات السياسيّة، واجتماعيّة على اختلاف القناعات العقائديّة (متديّن وغير متديّن). وظلّ اختراق صفوفهم محدودًا ومحصورًا في أقليّة قليلة لم تستطع، رغم دعم الاحتلال وأدواته بين العرب الدروز الفلسطينيّين، أن تفتّ من عضد الجولانيّين في مناهضة الاحتلال وأن تفتّ من مواقفهم العروبيّة القوميّة التقدّميّة.  

شهدت الفترة ما قبل العام 2011 (انفجار الأوضاع في الوطن الأمّ سورية)، وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، أزمة في الصفّ الوطنيّ الجولاني تمحورت في صلبها حول شكل العلاقة مع الوطن الأمّ، ليس في الناحية الوطنيّة وإنّما الناحية السياسيّة. وتمحورت حول شكل العلاقة مع الاحتلال في أمور حياتيّة معقّدة، وفي العلاقة مع الوطن الأمّ فيها انقسم الجولانيّون بين فريقين؛ الاوّل موالٍ للوطن بلدًا وقيادة والثاني موالٍ للوطن بلدًا دون قيادته. هذه الأزمة، ورغم أنّها ظلّت محدودة، إذ لم تؤثّر على الأقلّ في الموقف من الاحتلال، لكنّها تركت آثارًا سلبيّة تفاوتت في حدّتها وأثّرت على النسيج الوطني على الأقلّ اجتماعيّا.

"الحرب على سوريّة" في مصطلح الأُوَل، و"الثورة السوريّة" في مصطلح الأُخَر فعَلت ما لم يستطع فعله الاحتلال؛ ضربا المعسكر الوطنيّ بمتراسيه ضربة نجلاء. هذا الانقسام، الذي وصل في أوج مراحله حدّ الصدام، خلق فراغًا وجد فيه الاحتلال وأدواته وداعموهما من بين قيادات دروز الـ 48 الموالية فرصتهم التاريخيّة لِدقّ أسافين "أسرلة" الجولانيّين. تضافرت جهود كلّ هؤلاء لاستغلال الفرصة ونجحوا إلى حدّ بعيد في خلق ظواهر "أسرلة" حياتيّة تضرب اليوم في العمق، وصار من الصعب تلافيها.

الجريمة النكراء التي ضربت الجولان مؤخّرا قاصفة عمر إثني عشر طفلًا، وضعت الجولانيّين في مواجهة أنفسهم. صحيح أن الموقف العقلانيّ الممهور انتماءً طغى وأعاد لديهم ألَقَ مواقفهم التاريخيّة، غير أنّ الساذج من يعتقد أنّه كفيل برفع كلّ ما ترسّب."

الوقفة الرابعة... وعودة إلى تقرير يسرائيل هيوم.         

بدْءًا يجب أن نعرف أنّ يوم خاض الجولانيّون عام 1981-1982 معركة التصدّي لفرض الجنسيّة الإسرائيليّة وانتصروا (من يريد أن يفهم ما معنى حصار فليعد إلى الحصار الذي فُرض حينها على الجولانيّين)، فطبيعيّ كان أن يسقط البعض في المعارك ويومها سقط بعض الجولانيّين وقبلوا الجنسيّة الإسرائيليّة. هؤلاء وبحكم القانون الإسرائيلي يسري عليهم قانون التجنيد الإجباري، إلّا أنّ المؤسّسة لم تفعّله عليهم. ومن الناحية الأخرى وخلال كل هذه السنوات وكأمر طبيعيّ كثر الزواج بين جولانيّين وجولانيّات ودروز إسرائيل، طبقًا للقانون الإسرائيلي تُعطى الجنسية بشكل أوتوماتيكي للأبناء إن كان أحد والديهم يحمل الجنسيّة الإسرائيليّة. إضافة فإنّ عددا من دروز إسرائيل يسكنون في قرى الجولان وهؤلاء أبناؤهم ملزمون بالخدمة. 

ولكن حتّى هؤلاء لم يؤتمن جانبهم مرّة من قبل المؤسّسة الإسرائيليّة، ولعلّ في التقرير نفسه البيّنة فيجيء فيه ترجمة: "كذلك في موضوع التصنيف الأمني والذي كان في السابق حاجزًا، هذا الحاجز يمرّ تعديلًا: اليوم الفحص ينفّذ بفاعليّة على يد الـ "شاباك" (المخابرات) ومن يجتاز يجنّد." 

وبغضّ النظر عن صحّة ما جاء في التقرير عن عدد المجنّدين من عدمها، وبغياب أيّ إحصاء جولانيّ أهليّ رسميّ، فعلى الغالب أن هؤلاء المتجنّدين هم من هذه الشريحة التي خرجت عن الإجماع الجولانيّ من البداية. وعطفًا على التقرير وتصريح الجيش أن عدد الشبّاب في الجولان الذين في السنّ الملائم للتجنيد هو 2000 شاب، وحتّى إذا صحّ الرقم 150 فالحديث يدور عن % 7.5 وهذه نسبة صغيرة وتقلّ عن عدد المجنسيّن طوعًا أو بحكم الزواج ما بين الجولانيّين والدروز في إسرائيل.

وإضافة فالمعلومات التي نقلتها "يسرائيل هيوم" عن بقيّة الأمور موضوع التقرير، هي عن رئيس مجلس محليّ. الرؤساء في الجولان هم مجنّسون ومعيّنون فرْضًا على السكّان من قبل المؤسّسة وهذه معركة أخرى من معارك الجولانيّين التي خاضوها ببطولة حرصًا على عدم الاعتراف بأدوات السلطة وحفاظًا على انتمائهم. ولذا ليس غريبًا أن تجيء يسرائيل هيوم بما جاءت به من معطيات مصدرها مثل هؤلاء. الجيش بالمقابل كان "متواضعًا" قياسًا بأمثالهم فيقول التقرير: "إن في الجيش يعترفون أنّ الطريق طويل ولكن التوجّه واضح، الأرقام تبدو صغيرة ولكن التغيّير في الوعي عظيم." 

الوقفة الخامسة... والعطف على الوقفة الثالثة والرابعة.

بغضّ النظر عمّا جاء في الوقفتين. الجولانيّون يعيشون اليوم أصعب أيّامهم، فالموبقات التي ارتكبها النظام السوريّ الجديد وأدواته في الجبل، وبمعزل عن الدور الإسرائيليّ الذي يعرفه ويفقهه الجولانيّون جيّدا، وضعتهم كما كلّ الدروز العروبيّين القوميّين في وضع استثنائيّ، فمطرقة المذابح من ورائهم وسندان الاحتلال وَ "زُلمُه" من دروز إسرائيل من أمامهم، ولذا فالقلق والتخبّط اليوم بينهم هما سيّدا الموقف تلمسه في كلّ لقاء؛ صحيح أن لا خوف على مواقف البالغين من موضوع الانتماء الوطنيّ لسوريا رغم ما حدث وخيبة الأمل القاتلة، وأنّ لا خوف عليهم في الموقف من الاحتلال والاستعداد للتصدّي لممارسته الرابضة خلف التلال استهدافًا لأراضيهم؛ رافدهم الاقتصادي ومثالًا؛ مشروع المراوح الجهنّمي، ولكنك لا شكّ تلمس عندهم هذا القلق والتخوّف المشروعين على جيل الشباب خصوصًا وأنّ حلم العودة للوطن، على الأقلّ في المستقبل المرئيّ، تباعد، وخيبة الأمل من التغيير في سوريا باتت هي الأخرى عند البعض حلم تلاشى إلى أمد بعيد. هي محنة بكلّ المعايير!            

 هل هم قادرون على تخطّي المحنة؟!

قاموا عبر تاريخهم من محن أكبر من هذه، ولن تكبر هذه عليهم إن أحسنت قواهم الوطنيّة كما عادتها في الملمّات، لمّ شملها!

الوقفة الأخيرة... بين المتابع المراقب والعارف.

التفاؤل الذي عبّرت عنه أعلاه ليس نابعًا موقع المراقب المتابع وإنّما العارف، فقد رافقت كلّ معارك الجولانيّين ككاتب تقارير ميدانيّ عن معركتهم الأمّ ضدّ التجنّس وكمحامٍ رافق مئات معتقليهم في المعتقلات والسجون الإسرائيليّة، لدرجة أن فرضت عليّ السلطات العسكريّة الإسرائيليّة تحديد إقامة ومنعتني من دخول الجولان طوال مدّة الإضراب التاريخيّ. هذا منبع تفاؤلي ما جفّ يومًا ولن يجفّ، والجولان سوريّ عروبيّ كان وسيبقى!    

27 تشرين الأوّل 2025         


عُرْسُ الشَّهَادَةِ والفِدَاءِ/ الدكتور حاتم جوعيه

 


      (  في الذكرى السنويَّة على مجزرة  " كفر قاسم "  )


الحقُّ  يُؤخذُ  لا   يَضِيعُ   هَبَاءَ        والفجرُ  يَسطعُ  يطرُدُ  الظلمَاءَ 

هذي    بلادي    فجرُنا   ومآلنا       وَجَنانُ  شعبي  لم  يزلْ  مِعطاءَ 

وترابُ أرضي من نجيعي مُخْصِبٌ        تبقى  الرُّبوعُ    َندِيَّة ً  خضراءَ 

زيتوننا صَانَ العُهودَ  ولم  يزلْ        رمزَ   الإباءِ     تشَبُّثا     وبقاءَ 

ما للمنازلِ والمَلاعبِ  قد غدَتْ        من  أهلنا   قفرًا   هُنا   وخَلاءَ 

واللاجئوُنَ على  المَواجعِ  والطوَى         تخذ ُوا الخيامَ  منازلا  وَغِطاءَ 

وَمَضَتْ سُنونٌ  بعدَ عامِ  شَتاتِنا        نُسْقىَ اللَّظى ...أنَّى َنرُومُ عَزَاءَ  

يا  كفرَ قاسم  أنتِ عُنوانُ  الفدَا        ودمُ  البراءةِ  لم   يزلْ   وَضَّاءَ 

أهلوُكِ  صرحٌ  للمكارم ِ والعُلا        وبنُوكِ   كانوا  النخبة َ  النُّجَباءَ 

ما زالَ "شِدْمِي" قرشهُ مُتغطرسٌ        كم مثل " شِدْمِي" لا يباعُ حذاءَ 

يغتالُ وردَ الطُّهرِ دونَ  رَوَادِع ٍ       وَيثيرُ في هذي  الدُّنى البَغضَاءَ  

فالقاتلونَ     شهيَّة ٌ      همجيَّة ٌ        بدم ِ البراءةِ   خَضَّبُوا  الغبرَاءَ 

ومنَ الجَماجم ِ يصنعونَ عُروشَهُمْ          وتوَهَّمُوا  قد  أصبحُوا  عُظماءَ  

يا " كفرَ قاسم" فانظري لصمودِنا          وهتافنا    مَلأ   الدُّنى   أصْدَاءَ 

تيهي على الدُّنيا فخارًا واعلمي        ما ضاعَ هَدْرًا ما  بَذلتِ  سَخَاءَ 

يا روضةً تهبُ الأزاهرَ والنَّدَى        سَيظلُّ   فيضُكِ   ديمة ً مِعطاءَ 

فيك ِالحَجيجُ وأنتِ  قبلة ُ شعبنا         كنتَ المنارةَ ..كم  رفعتِ  لِوَاءَ 

خمسونَ لحنًا في ثراكِ  مُضَرَّجٌ         والوردُ أضحَى عَوْسَجًا  ودِماءَ      

خمسونَ بدرًا كم ْ أضاؤُوا أفقنا         خاضُوا الفِدَا.. نهَلوُا الرَّدَى شرفاءَ       

خمسونَ لحنا ً غُيِّبَتْ  تحت  الثَّرى         فبكىَ  الأحبَّةُ   أدمعًا   خرساءَ     

كم  من  نساءٍ أو  شُيوخ ٍ عُزَّلٍ         وبراعم   عاشُوا   هنا   سُعدَاءَ 

عادُوا منَ العملِ  الدَّؤوبِ وَكدْحِهِمْ          فاستقبلوا  الطُّغيانَ   والدُّخلاءَ  

قد  أمطرُوهُمْ   نارَ حقدٍ  أرْعَن ٍ      فرَصاصُ جُندِ الغدْرِ جاءَ  خَفاءَ 

حَصَدُوا الأحبَّة َكالسَّنابلِ  في الحقو       ل ِ...نجيعُهُمْ  صَبَغَ الرُّبى  حنَّاءَ 

حَصَدُوا البراءة َ والطفولة  ويحهُمْ        جعلوا    النُّجُودَ    مآتمًا   وبكاءَ 

هذي    دماؤُهُمُ    لمسكٌ   أذفرٌ       وتضوَّعَتْ  مِلْءَ  الزَّمانِ  شَذاءَ 

وقبورُهُمْ  تروى بفيض دموعِنا       قبلَ   الغمَائمِ   أنْ   تبلَّ    ثراءَ 

أضحَتْ مزارًا كالحجيج  لأهلِنا       نحنوُ  عليها ...  نُزهِقُ  الحَوْبَاءَ 

يا  "كفرَ قاسم" والكفاحُ طريقنا       خُضتِ  الكرامة َ سُؤدُدًا  وردَاءَ    

كنتِ الطليعة َ... بل ضحيَّة َغدرهِمْ        وصُمودُكِ   العَلنيُّ   كانَ  عَناءَ  

وتوَهَّمَ  المُحتلُّ   سوفَ   يُخيفنا       برَصاصِهِ    ونُهاجرُ    الأحياءَ 

نبقي لهُ  الأرضَ الطَّهُورَ وخصبها        خلفَ  الحُدودِ   سننتهي  غربَاءَ 

لكنَّنا     مُتشبِّثونَ    بأرضِنا ...       من  كفرِ  قاسم  هَدْيُنا   قد  جاءَ 

هذي   البلادُ   بلادُنا    ونعيمُنا        هيهاتَ   نتركُ    جنَّة ً    غنَّاءَ 

وتآمرَ الطغيانُ   ضدَّ  عُروبتي        مِصرُ  الكنانةِ   تكشفُ  الأنباءَ  

ولأجل ِ  تأميمِ   القناةِ    تكالبُوا        مُستعمرونَ   أتوا   هُنا   جبناءَ 

عُدوانهُم  في  مصرَ كانَ  مُبَرْمَجًا          فالغاصِبونَ     تحالفوا      شركاءَ 

في "بور سعيد "هَبَّ شعبٌ صامدٌ          بركانُ    مصر    زلزلَ    الحُلفاءَ 

عادَ  الغزاةُ  بخزيهِم  وبعارهمْ        أطماعُهُمْ  أضحَتْ هناكَ  خوَاءَ 

" وجمالُ " قائِدُنا  يظلُّ   مُخلَّدًا       والغارُ   كلَّلَ    هامَةً      َشمَّاءَ 

يا  كفرَ قاسم  أنتِ عنوانُ  الِفدَا        منكِ    انتظرنا   غلَّة ً   حَمراءَ 

أخفوا الجريمة كي تظلَّ دماؤُنا        هَدْرًا  تُرَاقُ ، وننحني  ضعفاءَ  

لكنَّ   شعبي  رغمَ   كلِّ   تآمر ٍ       كسَرَ  القيودَ  وطاولَ   الجوزاءَ 

قد هبَّ من وسط ِالرَّمادِ كماردٍ        بشُموخِهِ    قد   طاولَ    العَنقاءَ   

وأطلَّ  من  ليلِ المنافي  فجرُهُ        ومنَ   الخيامِ   لكم  أطالَ   نِدَاءَ  

تيهي افتخارًا يا فلسطينَ المُنى       وتألَّقي   فوقَ    الوجودِ     سَناءَ  

أنا مُنشدُ الأحرار صوتُ  كفاحِهمْ         وأرى   التَّحرُّرَ  َمطمَعًا   وهَناءَ  

ودمُ العروبة ِ فيَّ  يصرخُ  هادرًا          أنْ  لا  نساوم ...  فانبذ ُوا  العُمَلاءَ   

نحنُ  العروبة ُ   فجرُها  ونشيدُها         خُضنا   التحرُّرَ   وثبة ً   وفداءَ  

وبنا النِّضالُ  يهزُّ كلَّ  مسامع ٍ..      ُفقنا  الشُّعوبَ   بسَالة ً  ومَضاءَ   

وبنا طريقُ الحقِّ  أضحى مشرقا         بمسيرنا    لم    نحفلِ    الكأدَاءَ  

شعبي الذي بهرَالدُّنى بصمودِهِ        صَنعَ   المُحَالَ   وبَدَّلَ  الأجواءَ    

شعبي الذي هَزَّ  العوالمَ عزمُهُ        لن  يستكينَ   سيسحقُ   الأعداءَ  

قالوا : السَّلامُ  مآلنا   وملاذ ُنا        وبهِ    نُحَقِّقُ    مُبْتغًى    ورَجَاءَ  

لكنَّ  سِلمًا  جاءَ   دونَ  كرامةٍ        وبهِ   المهانة ُ  لن   يكونَ  غناءَ 

ما زالَ  شعبي  في المنافي لاجئا        يشكو  المذلَّة َ   غربة ً    وشقاءَ 

لا  كانَ سلمًا  فيهِ  يبقى نصفهُ        شطرًا    يئنُّ    مشرَّدًا    مُسْتاءَ  

فالشَّطرُ باق ٍ في العذابِ مُخيِّمٌ        والعالمُ    الوسنانُ   زادَ   عُوَاءَ   

وعَدوهُ .. يرجعُ كم كلام ٍكاذبٍ       شابَ  الزَّمانُ  ومزَّقَ  الإصغاءَ 

سيعودُ حتمًا رغمَ كيدِ وعيدِهمْ       ويبدِّدُ      الأهوالَ       والأنواءَ 

وَيُحَقِّقُ  الحلمَ   الجميلَ   بهمَّةٍ        والفجرُ  يبسمُ    ينشرُ  الأضواءَ   

سيعودُ للأرض التي حضنتْ  رُفا        تَ   جُدودِهِ    وسيجمعُ  الأشلاءَ 

سَيعودِ للحقلِ  الوديع ِ... لسهلهِ ،     ولنبعِهِ ...  للسفح ِ    زادَ   عَناءَ   

ويُشَيِّدُ  الصَّرحَ   المُهَدَّمَ  عنوة ً      يختالُ  في أرض ِ الجدودِ  ُروَاءَ 

طالَ البعادُ عنِ الأحبَّةِ  والحِمَى     وعلى  الحلولِ  لكم  نطيلُ   ثوَاءَ  

المجدُ للشَّعبِ  الذي  خاضَ الوغى       لا   يرهبُ   الطغيانَ   والأعداءَ 

لا يصنعُ  التاريخَ  غيرُ  رجالهِ       لم  يحفلوا   الأهوالَ    والأعباءَ 

فهويَّتي الأرضُ  التي هيَ أمُّنا       وهويَّتي   شعبٌ   يموجُ   عطاءَ  

وهويَّتي  تبقى   فلسطين   الفدا       بترابها   كم   تحضنُ   الشُّهداءَ   

يا   أمَّتي  فيكِ   المَآثرُ  والعُلا       خُضتِ الخطوبَ معَاركا  شَعوَاءَ  

وَتُعانقينَ   المجدَ  من  أطرافهِ        وَتُتسَدِّدِينَ    الطعنة َ     النجلاءَ 

نحنُ   السَّلامُ   شعارُهُ  ونشيدُهُ       نحنُ  الحمائمُ ... لا  نرومُ  عداءَ  

ولكمْ   مَدَدْنَا  للسَّلامِ   لهم   يَدًا       قطعوا الأيادي  شَوَّهُوا  الأسماءَ 

ثمَّ استباحوا  كلَّ  ما يحلوا لهم      والأرضُ صارتْ أختها  الخنساءَ 

فانقضَّ في  ليلِ  المنافي  شعبنا     خاضَ الحتوفَ وجلجلَ  الأرجاءَ    

بَهرَ  العوالمَ  عزمهُ   ونضالهُ       فرضَ  الإرادة َ...  حقَّقَ  الأشياءَ  

وأقامَ  دولتهُ   برُغم ِ  مكائدٍ ...      جزءًا    يضمُّ     بعيدهُ   الأجزاءَ  

رفعَ البنودَ" بغزَّة " وبكلِّ شبر ٍ      قد   تحرَّرَ ... أضرمَ   الرَّمضاءَ   

والقدسُ  موعدنا غدًا ، وبنودُنا       فيها    هناكَ     تعانقُ    الأنحَاءَ  

يا  كفرَ قاسم  أنتِ عنوانُ  الفدا      حق ٌّ  علينا   أن   نصوغ َ  رثاءَ 

شهداؤُكِ  الأبرارُ  فجرٌ  ساطعٌ        يبقونَ    في    وجدانِنا    أحيَاءَ 

جُرْحُ  الفلسطينيِّ   يبقى  نازفا       والغربُ  يصمتُ  خسَّة ً  ودَهاءَ   

والعالمُ  العربيُّ    يبقى   ساكنا       أنَّى    يُقاوم    أو   يصدّ    بَلاءَ  

كم   من   مآس ٍ  أرَّقتْ   أيَّامَنا       خُضنا الخُطوبَ عَصِيبةً عشواءَ  

كلُّ  المجازر  لم  تكلّ  نضالنا        نمشي على دربِ اللَّظى عظماءَ 

يا   كفرَ  قاسم  والكفاحُ  هويَّة ٌ       ونرى  الكرامة َ  سُؤدُدًا  وردَاءَ 

كنتِ  الطليعة َ  بعدَ عامِ  تشرُّدٍ      عَلَّمتِ    فينا   الكهلَ    والأبناءَ  

إنَّ   النضالَ   طريقهُ   لقويمة ٌ       ودماءُ  شعبي  لن   تضيعَ  هَبَاءَ 

يا  قلعة َ الأحرارِ  دومي  قبلة ً       للعربِ   تسمُو   روعة ً   وبهاءَ 

يا   قلعة َ  الشُّهداءِ  ألفُ  تحيَّةٍ        أرْسَيْتِ    للجيلِ    الجديدِ   بناءَ 


تيه النسيان/ عباس علي مراد



استعيذوا بالرحمن

أستعيذوا بالله من الشيطان

شياطين الإنس

شياطين الجان

شياطين النفاق والرياء

طفح الكيل

ففاض عن حده

وانتشرت الشياطين

في كل مكان وزمان


فاستعيذوا بالرحمن

لعله وعسى

يعود إلى رشده

من يستسقي الفتن

ويصول ويجول

يستثمر في المحن


فاستعيذوا بالرحمن

من الذين تركوا السنة

وباعوا بثمن بخس القرآن

واثخنوا جسد الأمة

جراحاً

قتلاً

تهجيراً

كفرت..

نعم لقد كفرت

بتجار الأوطان

وتجار الأديان

ومن تعاهدوا مع الشيطان

اتوا على الدنيا

ولم يوفروا الآخرة


فاستعيذوا بالرحمن

السفينة بدون قبطان

تتقاذفها الانواء

صوب اليمين

وصوب الشمال

لم يبق أمل ولا رجاء


فاستعيذوا بالرحمن

يا امة أحيلت الى التقاعد

حكامها استوطنوا المقاعد

لا صرف الحكم

ولا نحو الإدارة

ولا فقه الرئاسة

انقذوا شعوبها من المصائب

من الشر القائم والقاعد

فاستعيذوا بالرحمن

ايها السادة

قبل فوات الاوان

ونصبح أمة

تسكن في تيه النسيان



الوضع البشري بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي، الفرق الدلالي والاجرائي/ د زهير الخويلدي



مقدمة


" الوضع البشري هو المصطلح الوحيد الذي يجب أن ننطلق منه، وإليه يجب أن نعود بكل شيء"

الوضع البشري هو مفهوم فلسفي وعلمي مركزي يُعنى بدراسة طبيعة الوجود البشري، بما يشمل تجاربه، سلوكياته، وتفاعلاته. يتناول كل من علم الاجتماع (السوسيولوجيا) وعلم النفس (البسيكولوجيا) هذا المفهوم من زوايا مختلفة، مما يولد اختلافات دلالية (في المعنى والمفاهيم) وإجرائية (في المنهجيات والتطبيقات). تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري من خلال مقارنة دلالية وإجرائية، مع التركيز على الإطار النظري، المنهجيات المستخدمة، والتطبيقات العملية. فماهي احوال الوضع البشري؟ كيف يتم تناول الوضع البشري من جهة السوسيولوجيا والبسيكولوجيا؟ مادا يترتب عن هذا التناول؟ وماهو الفرق الدلالي والاجرائي بينهما؟


الفرق الدلالي

التناول السوسيولوجي


علم الاجتماع يركز على الوضع البشري من منظور جماعي، حيث يُنظر إلى الفرد كجزء من نسيج اجتماعي أوسع. يُعرّف الوضع البشري في هذا السياق من خلال التفاعلات الاجتماعية، الهياكل الاجتماعية (مثل الطبقات، المؤسسات، والثقافات)، والسياقات التاريخية والثقافية التي تشكل سلوك الفرد وهويته. على سبيل المثال: المفاهيم الأساسية: التنشئة الاجتماعية، السلطة، الثقافة، والدور الاجتماعي.

المنظور: يرى السوسيولوجيون أن الوضع البشري مشروط بالبيئة الاجتماعية، حيث تؤثر العوامل الخارجية مثل القوانين، الأعراف، والمؤسسات في تشكيل السلوك البشري.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير العولمة على الهوية الثقافية لمجتمع معين.


التناول البسيكولوجي


على النقيض، يركز علم النفس على الفرد كوحدة تحليل أساسية، مع التركيز على العمليات الذهنية الداخلية مثل الإدراك، العواطف، والدوافع. يُعرّف الوضع البشري هنا من خلال التجربة الفردية، الوعي الذاتي، والعوامل النفسية التي تؤثر على السلوك. على سبيل المثال:

المفاهيم الأساسية: الشخصية، الدافعية، الإدراك، والصحة النفسية.

المنظور: يرى علماء النفس أن الوضع البشري يتشكل من خلال التجارب الشخصية، العمليات العقلية، والاستجابات الفردية للمحفزات الخارجية.


مثال تطبيقي: دراسة تأثير القلق على اتخاذ القرار لدى الأفراد.


مقارنة دلالية

التركيز: السوسيولوجيا تركز على "الجماعة" وتأثيرها على الفرد، بينما البسيكولوجيا تركز على "الفرد" وتجربته الداخلية.

السياق: التناول السوسيولوجي يعتمد على السياق الاجتماعي والثقافي، بينما التناول البسيكولوجي يعتمد على العوامل الداخلية والفردية.

المفاهيم: المفاهيم السوسيولوجية تتعلق بالهياكل والعلاقات الاجتماعية (مثل السلطة والطبقة)، بينما المفاهيم البسيكولوجية تتعلق بالعمليات الذهنية (مثل الإدراك والعاطفة).


الفرق الإجرائي


المنهجيات السوسيولوجية

تعتمد السوسيولوجيا على منهجيات تهدف إلى فهم الظواهر الاجتماعية على مستوى الجماعة، وتشمل: الدراسات النوعية: مثل الإثنوغرافيا، المقابلات المتعمقة، وتحليل الخطاب لفهم ديناميكيات المجتمع.

الدراسات الكمية: مثل الاستبيانات، تحليل البيانات الإحصائية، ودراسات الحالة لقياس الظواهر الاجتماعية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل الوظيفية البنائية (بارسونز)، الصراعية (ماركس)، أو التفاعلية الرمزية (ميد).

مثال إجرائي: تحليل تأثير الفقر على التعليم من خلال دراسة إحصائية لمعدلات التسرب المدرسي في مجتمع معين.


المنهجيات البسيكولوجية

تعتمد البسيكولوجيا على منهجيات تركز على الفرد وعملياته النفسية، وتشمل:


الدراسات التجريبية: مثل التجارب المعملية لقياس الاستجابات النفسية أو السلوكية.

الدراسات السريرية: مثل تحليل الحالات الفردية لفهم اضطرابات الصحة النفسية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل التحليل النفسي (فرويد)، السلوكية (سكينر)، أو الإنسانية (روجرز).

مثال إجرائي: دراسة تأثير الضغط النفسي على الأداء الأكاديمي باستخدام تجربة معملية تقيس مستويات الكورتيزول.


مقارنة إجرائية


وحدة التحليل: السوسيولوجيا تدرس الجماعات أو المؤسسات، بينما البسيكولوجيا تدرس الفرد.

الأدوات: السوسيولوجيا تستخدم أدوات مثل الاستبيانات الواسعة النطاق والتحليل الإحصائي، بينما البسيكولوجيا قد تستخدم التجارب المعملية أو الاختبارات النفسية.

النتائج: النتائج السوسيولوجية غالبًا ما تكون تعميمات على مستوى المجتمع، بينما النتائج البسيكولوجية تكون خاصة بالفرد أو مجموعات صغيرة.


التطبيقات العملية


التناول السوسيولوجي

" إن تقبُّل مخاطر الحياة الحتمية هو ما يجعل الحالة الإنسانية نبيلة."

تُستخدم الدراسات السوسيولوجية في تصميم السياسات العامة، تحليل التغيرات الاجتماعية، وفهم ديناميكيات السلطة. على سبيل المثال، دراسة تأثير الهجرة على التكامل الاجتماعي.


الأثر: تساهم في تغيير الهياكل الاجتماعية أو تحسين العلاقات بين الجماعات.


التناول البسيكولوجي

تُستخدم في العلاج النفسي، تحسين الأداء الفردي، وفهم الاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، تطوير برامج علاجية للقلق أو الاكتئاب.


الأثر: تساهم في تحسين الصحة النفسية الفردية ورفاهية الأفراد.


التكامل بين التناولين

رغم الاختلافات، هناك إمكانية للتكامل بين التناول السوسيولوجي والبسيكولوجي. على سبيل المثال: علم النفس الاجتماعي: يجمع بين المنظورين لدراسة كيفية تأثير البيئة الاجتماعية على العمليات النفسية الفردية.

الدراسات متعددة التخصصات: مثل دراسة تأثير الفقر (سوسيولوجي) على الصحة النفسية (بسيكولوجي).

مثال تطبيقي: تحليل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشعور بالوحدة، حيث يُدرس السياق الاجتماعي (مثل ثقافة التواصل) والعمليات النفسية (مثل الشعور بالانتماء).


خاتمة

" إن الوضع البشري يمكّننا من مشاركة أفضل ما فينا فقط، لأننا نسعى دائمًا إلى الحب والقبول."

الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري يكمن في التركيز الدلالي والإجرائي. السوسيولوجيا تركز على الجماعة والهياكل الاجتماعية باستخدام منهجيات واسعة النطاق، بينما البسيكولوجيا تركز على الفرد والعمليات النفسية باستخدام منهجيات دقيقة وتجريبية. مع ذلك، يمكن للتكامل بين المنهجين أن يوفر فهمًا أعمق للوضع البشري، مما يعزز التطبيقات العملية في مجالات مثل السياسات العامة والعلاج النفسي. كيف يمكن تطوير الوضع البشري من التشتت والتأزم الى التألق والاشعاع؟


كاتب فلسفي

تركوهُ وحيداً/ د. عدنان الظاهر


 

ويلي إنْ جرَّبَ قدَّ نشيدِ الموتِ رصيدا

أوقدَ في عُنُقِ المزمارِ الضاري قنديلا 

قرّبَني من دربِ الزوبعِ أضناني

صيّرَني مخلوقاً أنفضُ أعضائي رثّا

أتقلّبُ مطعونا

أنتظرُ الآتي والمُهلةُ في جُرفِ النهرِ المُنهارِ

أتحرّقُ كالعِهنِ المنفوشِ ضَراما

لأفكُّ القيدَ الساحبَ من صدري أسراري

لا يُسعفُ لا يستثني

مُستاءٌ منّي حدَّ النزفِ وفقدانِ الوزنِ

أشجاني وأصابَ التاجَ برأسِ السهمِ 

وأزالَ الشارة من ضوءِ مفاتيحِ الرؤيا 

هل أبقى شيئا ؟

جلببتُ الوهنَ بحافي أقدامِ الأُمِّ

كي لا ترقى عينٌ بَرْقا ..

ألقيتُ عصا إزماعِ الترحالِ

أدفعُ شرّاً جارَ وعدّا

وأَفكُّ مقاماتِ الحُزنِ العالي قيدا

يسّاقطُ بين الخطرةِ والأخرى دمعا

ويُعاودُ عدَّ الضيقِ المُستشري أنفاسا

يتحرّقُ بالذِكرى وبريشِ الأهدابِ سَخاما

ما من أحدٍ مدَّ الجسرَ صِراطاً شَرْطا

مأساةً تتلو مأساتا

وحشٌ يتربصُ أفعى سودَ الأنواءِ

ضَبٌ أحدبُ لا يستوفي شَرْطا

جمرُ سوادٍ في عينِ الكُحلِ. 


العلاّمةُ الأب يوسف حَبّي علامةٌ مُضيئةٌ في زمنٍٍ رديء[1]/ الأب يوسف جزراوي

(بمناسبة 25 عامًا على رحيله لدار البقاء )


  مُقدّمة:

    نحنُ البشر بحاجةٍ دائمة لمراجعة استذكاريّة لبعض الشخصيات الثقافيّة التي غيبها الموت وما زال صدى أثرها الثقافي يتردد بيننا. وأنا هُنا لستُ مِن مُحبي البكاء على الاطلال أو التحسر على اللبن المسكوب، لكنّني أغتنم هذه الفرصة للكتابة عن شخصيّة كهنوتيّة وأدبيّة وثقافيّة رائعة.

وددتُ  في هذه الصفحات أنْ أفيَّ حق رّجل، عاش حياته كشمعةٍ تشتعلُ وتتوهج في سبيل كنيسة  العراق وشعبه وكنيسة المسيج الجامعة.

اليوم تحديدًا 15/10 تمرّ علينا الذكرى الخامسة والعشرون،  لرحيل الأب يوسف حَبّي إلى دار البقاء. ولأنَّ الوفاءَ ميزة مِن ميزات الأحرار وشيمةُ الكبارُ، ارتأيت أنْ أفيَّ العلاّمة الخالد بعض حقه، لما لهُ من دَين في عنقي وعلى سواي!. فهو صاحبُ فضلٍ في مسيرتي الإنسانيّة والثقافيّة والكهنوتيّة،وأوّل من شجعني مع الأب بطرس حدّاد على الكتابة والتّأليف والنشر، وكان خير مرشدٍ لي، وأوّل مؤلفاتي ( لا للهجرة) كانَ مِن مراجعته واشرافه.

               الأب يوسف حَبّي، علمٌ مِن أعلام العراق وكنيسة المسيح، أَلَّفَ وترجمَ وترأسَ هيئات ومؤسّسات عدة. عملَ في مشاريع عديدة، بعضها يرتبط بالكنيسة، وبعضها الآخر ببيت الحكمة والمجمع العلمي العراقي ومؤسّسات ثقافيّة كثيرة  في الداخل والخارج. كانَ يحاول أن يغطي مجالات كثيرة، وكأنّهُ في سباقٍ مع الموت!.

وِلدَ فاروق داؤد يوسف حَبّي في مدينة الموصل الحدباء بتاريخ 23 كانون الأوّل مِن عام 1938، أقتبل سرّ العماذ في كنيسة مار أشعيا بتاريخ 9 شباط 1939.  دَرَسَ الابتدائيّة في مدرسة كنيسة مار  يوسف في حي القلعة بالموصل حتّى الصف الثّالث، ثمَّ أنتقل إلى مدرسة الطّاهرة مواصلاً تعليمه. سنة 1950 دخلَ المعهد الكهنوتي البطريركي في الموصل، فكانَ مُنكبًا على الدراسةِ ومولَعًا بالأدب العربي ومشغوفًا بالشِّعر الغربي، ومُنذ ذلكَ الوقت وبحسب شهادة الأب بُطرس حدّاد وأخرينَ، شرعَ  في الكتابة ونظم الشِّعر؛ حَتّى أنّهُ ترجم قصائد ايطاليّة إلى العربيّة وكتبَ بعض المعلقات الأدبيّة قبل رحيلهِ لدار الخلد الأبدي.

           لِشدّة ذكائه وتفوقه على زملائه، رشحتهُ إدارة المعهد الكهنوتي مع زميله (ناظم ميخائيل)  الذي عرف فيما بعد بــــــــ          ( الأب بطرس حدّاد) لاكمال الدراسة في الكلّيّة الأوربانيّة في روما، فسافرا معًا صيف 1954 إلى المدينة الخالدة، وهناكَ وجد الإكليركي فاروق المجال واسعًا لنهل العلوم والمعارف وتعلّم اللغات.

اِرتَسَمَ كاهنًا بتاريخ 20 كانون الأوّل 1961 في روما، وحصل على ا"لليسانس" في الفلسفة واللاهوت، ثمَّ حازَ على شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي من جامعة اللاتران عام 1966، ودبلوم في وسائل الاعلام من جامعة بروديو عام 1962 ، ودبلوم في الاجتماعيات مِن معهد جيسك عام 1966. عادَ بعدها إلى مسقط رأسه( الموصل)، فخدم في دار المطرانيّة وكنيستيّ مسكنتا والطاهرة. عُيّن للخدمة في كنيسة مار أفرام في الموصل الجديدة، ثمَّ خدمَ  الكنيسة الكلدانيّة في محافظة دهوك لمدة سنتين،  عاد بعدها  إلى الموصل، فكانَ مثمرًا كعادتهِ في كُلّ الرعايا الّتي خدم فيها.

         لما اعتلى الكرسي البطريركي البطريرك الطِّيب الذّكِر البطريرك مار روفائيل الأوّل بيداويد سنة 1989، طلبهُ للخدمة في الأبرشيّة البطريركيّة ببغداد، وكانَ البطريرك صائبًا وموفقًا فيما فعل؛ فالمثقف لا يجلب إلّا المثقفين، والحكمة تقول:" قلُ لي مَن هم العاملون معكَ أقولُ لكَ مَن أنتَ".

قدِمَ الأب حَبّي إلى بغداد سنة 1990، فانيطت به خدمة كنيسة القلب الأقدس في حي الشماسيّة بمنطقة  الصليخ منذ مُنتصف عام 1990 إلى عام 1993، وهو من أبدل تسميتها إلى كنيسة الحكمة الإلهيّة. وبدوري أرى أنَّ التسمية الجديدة غريبة عن مُحيطنا وعرفنا الكنسي العراقي، فجلّ كنائس بغداد لها شفيع تحتفل بذكراه سنويًا، إلّا هذه الكنيسة!. ولعلَّ الأب حبّي اشتق التسمية من جامعة الحكمة في منطقة الزعفرانيّة ببغداد التي كانت تعود للآباء اليسوعيين تخليدًا لذكراهم، بعد أن نالهم التهجير القصري. والله أعلم، وتجدرُ الإشارة سبق وأن خدمتُ في هذه الكنيسة والمعهد البطريركي وكنيسة الشالجيّة لمدة عامٍ وألفت كتيبًا عنها، فكانَ صدى أثر الأب حَبّي تتناقلهُ الأفواهُ!.

         عام 1991 افتتح البطريرك الراحل  بيداويد- رحمه الله-  كلّيّة بابل للفلسفة واللاهوت في منطقة الدورة /حي الميكانيك /بغداد،فأُنيطت عمادتها للأب حبّي الذي بذل جهودًا جبارة مِن أجل تقدمها وديمومتها. كان يُدرّس فيها 23 مادة متنوعة: الفلسفة على تنوعها، الأخلاق، الإعلام، اللاهوت على تنوعه، القانون الكنسي، مقدّمات فلسفيّة ولاهوتيّة، علم الإجتماع.

   كان رحمه الله رمزًا للنشاط والفعاليّة، منفتحًا على الآخر، مُرحبًا بالجديد، ساعيًا إلى التطوير، حلقة وصل بين أشخاص ومؤسّسات وجمعيات، همزة وصل بينَ أديانٍ، ساعيًا إلى التقريب بينَ وجهات النّظر، باحثًا في المشترك بينَ النّاس، عضوًا لامعًا في مجمع اللغة السريانيّة منذ عام 1972، وعضوًا في المجمع العلمي العراقي منذ عام 1978. ولما أصبح مجمع اللغة السريانيّة هيئة مندمجة مع المجمع العلمي العراقي عام 1996 بعد تجديده صار رئيسًا للهيئة عام 1996. مسؤولُ دائرة الفلسفة وعضو دائرة العلوم الإنسانيّة ودائرة المصطلحات في المجمع العلمي العراقي. عضو نقابة الصحفيّين العراقيّين منذ عام 1972. كما أسندت إليّه مُهمة النيابة البطريركيّة للشؤون الثقافيّة، ونظرًا لتخصصه في القانون الكنسيّ مارسَ الخدمة في المحاكم الكنسيّة في الموصل و بغداد.

       كَانَ الأب حَبّي أحد مؤسسي مجلة "بين النهرين" ورئيس تحريرها منذ عام 1972 إلى يوم وفاته، وأحد أركان هيئة تحرير مجلة "نجم المشرق البطريركيّة". حبّر َ مقالات رصينة في مجلة الفكر المسيحي، مجلة مجمع اللغة السريانيّة، مجلة المجمع العلمي العراقي، آفاق عربية، المورد، التراث الشعبي، الأقلام، المثقف الثقافي، الجامعة ( الموصل)، مجلة الباراسيكولوجي التي كان يرأس تحريرها أستاذنا الراحل د. الحارث عبد الحميد،مجلة الحكمة، اصدرتها كلّيّة بابل للفلسفة واللاهوت في عهده، زدّ إلى ذلك مقالات وأبحاثًا في مجلات أجنبية وعربية. ومن أهم المجلات العربية: المشرق البيروتيّة، الرسالة البيروتية، المسرة، اللقاء، النشرة السريانيّة،  حياتنا الليتورجيا.

نَشَرَ مئات المقالات والبحوث الرصينة بلغاتٍ عدة، وله ما يزيد عن 35 مؤلفًا بين تراجم وتحقيق وتأليف، أهمها: دير الربان هرمزد 1980، دير مار كوركيس 1980، دير مار ميخائيل 1986، ملحمة الثمانين (منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقيّة، بغداد 1986)، خلجات، بغداد 1995، نشوة القمم، بغداد 1996، الشموع الأوّلى، بغداد 1998، مجامع كنيسة المشرق 2002،  منشورات جامعة الروح القدس، بيروت.

ومن أهم تراجمه وتحقيقاته: رحلة اوليفييه إلى العراق ( ترجمة وتعليق) منشورات المجمع العرلمي العراقي، بغداد 1988، كتاب الدلائل للحسن بن البهلول ( تحقيق وتعليق)، منشورات معهد المخطوطات العربية 1987.

فهرس المؤلفين لعبديشوع الصوباوي ( تحقيق وترجمة وتعليق)، منشورات المجمع العلمي العراقي، بغداد 1986. علم آثار بلاد النهرين لمؤلفه جان كلود ماكرون (ترجمة)، الموسوعة الصغيرة، بغداد 1986. دراسّات إنجيليّة، تأليف كسافييه ليون- دفور ( ترجمة وتعليق، الجزء الأوّل 1988. قصائد إيطالية ( ترجمة وتعليق) بغداد 1995.

 

وصيتهُ:

*****

جاء في وصيته التي حررها في بغداد بتاريخ 7/7/1997

"....حقٌّ وحبٌّ وحياة، شعار حياتي، أملي أن يكون شعار النّاس أجمعين.

أحببت الإنسان في كلّ مكان وكلّ حين.

أحببت بلدي، كنيسة المشرق العزيزة.

أحببت أهلي وأقربائي، واعتبرت الأصدقاء، بل كلّ الناس أهلي وأقاربي.

أحببت كهنوتي وعملي والثقافة...."[2].

كان الأب يوسف باحثًا جليلاً ومفكرًا قل نظيره ولاهوتيًا رفيع الشّأن، وكاتبًا لا يشقُ لهُ غبار، ومتحدّثًا لبقًا. وضع في مؤلفاته عصاره أفكاره وخلاصة أبحاثه وسهره مع دراسته رغم ضعف بصره شبه المُعدم.

آخر مقالة دبجتها أنامله الذهبيّة،  كانت بعنوان "يوبيل  على العالم"  المنشورة في مجلة نجم المشرق البطريركيّة سنة 2000، سلمها لإدارة المجلة عشيّة سفره إلى لبنان عن طريق عمان مساء يوم السبت الموافق 14/10/2000، وبعدها استقلّ المركبة، لأننا كنا في زمن الحصار الاقتصادي، وبعد عدة ساعات تعرض لحادث مؤسف وغامض أودى بحياته قبيل وصوله إلى عمان، العاصمة الأردنيّة.

انتقل الأب حبّي إلى الأخدار السماويّة إثر حادث طريق مروّع في السيارة التي أقلّته من بغداد إلى عمان فجر يوم 15 تشرين الأول 2000، فاهتز العراق والعالم، شعبًا وكنيسةً  لنبأ وفاته، وعم الحزن حياة كُلّ مَن عرفه عن قربٍ أو  من بعدٍ.  أقيمت له مراسيم الجناز مِن قبل الحكومة والكنيسة تليق بمفكرٍ أغنى البلد والكنيسة والحياة مِن مواهبه وأفكاره وأبحاثه وكتاباته، لم يتوانَ عن نقد مبطنٍ بشجاعةٍ.

ويخالجني شك أنَّ الرحيل الغامض الذي أدى بالمصرع المفاجئ للعلاّمة الأب حبّي لا يبدو كامل البراءة حتّى الآن وتحوم عليه الشكوك. إنَّ رحيله الغامض يمثل خسارة كبيرة للعراق وللعراقيين والعالم... ولكنيسة العراق تحديدًا.

شغلَ  الأب حَبّي مناصب عديدة أهمها:

                 عمل سكرتيرًا لمطرانيّة الكلدان في الموصل للفترة 1966-1980، ومحاضرًا للفترة 1975-1981 في جامعة الموصل، وأستاذًا في المعهد الشرقي في روما منذ 1981 لحين وفاته. أسند له منصب عميد كلّيّة بابل للفلسفة واللاهوت منذ عام 1991- 2000، رئيس لجنة التثقيف والاعلام في المؤتمر الكلداني الأوّل في العراق سنة 1995، رئيس تحرير مجلة بين النهرين التراثية لمدة 27 سنة،

  كانَ عضوًا في المؤسسات التّالية:

مجمع اللغة السريانيّة ورئيسه منذ عام 1996، مجمع القانون الشرقي منذ عام 1975، جمعية التراث المسيحي والدراسات السريانيّة منذ عام 1984، المجمع العلمي العراقي، الجمعية الدولية لتاريخ الطب في باريس منذ عام 1982، اتحاد الكتّاب والأدباء العراقي والعربي، جمعية الفلسفة العراقيّة واتحاد المؤرخين العرب، نقابة الصحفيين العراقيين. وأحد أعضاء اللجنة المركزيّة عدة سنوات في المجمع، عضو هيئة المؤتمرات السريانيّة في العالم، عضو هيئة التراث السرياني في لبنان، عضو رابطة معاهد وكلّيّات  اللاهوت في الشرق الأوسط، أمين سرّ  بطاركة الشرق الأوسط الكاثوليك، النائب البطريركي  للشؤون الثقافيّة للكلدان.

أشرفَ على أطاريح ماجستير  ودكتوراه في روما، وناقش في كلّيّة الآداب/ جامعة بغداد ثلاث رسائل ماجستير وخمس أطاريح دكتوراه، وهو صاحب فكرة موسوعة كنائس المشرق.  نالَ التكريم مِنَ المعهد الشرقي في روما، وكذلكَ مِن جامعات وجمعيات أجنبية، فضلاً عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة في العراق، والاتحاد العام للكتّاب والمؤلفين في العراق.  شاركَ في مؤتمرات عالميّة وندوات فكريّة عراقيّة وعربيّة، وقدم بحوثًا ومحاضرات ودراسات.

اجريت لهُ مقابلات تلفزيونيّة في" العراق، لبنان، الأردن، مصر، سوريا، ليبيا،تركيا، الدانمارك ، إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، السويد، انكلترا، الهند[3].

          كان للأب حَبّي الدور البارز في إقامة مهرجان مار افرام وإسحق بن حنين سنة 1972. كما أقام مهرجان نوهدرا في دهوك للمرّة الأوّلى في 27/8/ 1986، ومؤتمر (وجه الله) في بغداد، الذي نظمته كلّيّة بابل بالتعاون مع المعهد الكهنوتي للفترة من 3-7 ايار 2000، وقد ادركت تلك الفترة. كما له مشاركات كثيرة في مؤتمرات عالميّة متعددة.  

اتقن اللغات التالية: العربيّة،السريانيّة،الفرنسيّة،الإيطاليّة،الإنكليزيّة،الألمانيّة واللاتينيّة، وملمًا بالعبريّة واليونانيّة.

 ولعلّي أفشي سرًّا هُنا[4] : إنّني لم أكن مدينًا لشخص في حياتي الثقافيّة والكهنوتيّة مثلما هو الأمر بالنسبة للأب المفكر  يوسف حَبّي؛ فإليه يرجع الفضل في جدولة ذهن تلاميذه وترتيب أولوياتهم الفكريّة. وما كتبت في حياتي شيئًا أعتز به إلّا وتذكرت أستاذنا الراحل، الذي كان بحق ظاهرة لم تتكرر مِن جديد. إنّه شخصيّة استثنائيّة وموهبة فريدة بكلّ المعايير والمقاييس.

الأب حَبّي والنضج الإنساني

   لقد  عرفتهُ مؤمنًا بالإنسان، فعرف كيف يمضي في دروب الإنسانيّة، وكيفَ يقيم وزنًا  لكرامة الإنسان وقيمه الوجوديّة. مؤمنًا بالعمل الجماعي، فأسس كوادر عمل خورنيّة- كنسيّة، وربّما هو أوّلُ المؤسسينَ لها في العراق. جمعَ حوله المُثقفين والمُبدعين، فعملوا معًا كخلايا نحل بلا مللٍّ وبِلا كللٍّ!. كان يؤمن بدور العلمانيين في الكنيسة، فرأينا أنَّ مُعظم أصدقائه والعاملين معه كانوا من العلمانيين،منهم كُتّاب وأدباء وفنانون وفلاسفة.

تبنى عراقًا حرًا ديمقراطيًا، متحضرًا، خاليًا مِنَ التعصب الديني والإنغلاق العشائري والاستبداد السياسي.  أختار  لنفسه مسارًا  أبى فيه أنَّ يتحول لذيل حاكم وبوق نظام، كما فعل البعض، ليبقى الشامخ، العملاق، المتمرد، المنور بأفكاره التقدميّة حتّى بعد الممات.

امتازت حياته بنضج إنساني، عاش حياته لا بالطول ولا بالعرض بل بالعمق. إنّه ذلك الكاهن العراقي الذي ارتبطت به قلوب العراقيين لأنه دخلها بغير استئذان وبقي فيها إلى الآن. كان يُردد على مسامعنا مرارًا وتكرارًا:" يا كهنة المستقبل لا تنسوا أنكم ناس، قبل أن تكونوا كهنة، عيشوا انسانيتكم كما عاشها كاهننا الأمثل  يسوع الانسان".

              إنّهُ ظاهرة كهنوتيّة فريدة في ذاتها، وموسوعة ثقافيّة تمشي على قدمين، مهما اختلف البعض معه، فإنَّ التشكيك في قيمته يبدو نوعًا من العبث، كما أن المساس بسمعته هو تطاول لا يليق من بعض الذين كانوا يضمرون له الغيرة والحقد، فإذا أخذنا الأب يوسف حبّي الكاهن والإنسان فقط، دونما الغوص في الأفكار والأعماق والآفاق والنشاطات والكتابات، فإننا أمام عقليّة فريدة للغاية وروحانيّة عميقة تجلت في شخصيّة قوية ومواقف نبيلة جليلة، وخدمات كهنوتيّة سامية، تكللت في القدرة على التضامن والإندماج بشكلٍّ إستثنائي، لا نكاد نجد لها نظيرًا، فالرّجلُ  كَانَ يفهمُ بعينيه، ويستقبل بأذنيه ويرصد كُلّ ما حوله في دقةٍ بالغةٍ وذكاء حادٍ ورؤية شاملة ولمسةٍ  حنانٍ عبقريّة إنسانيّة لا تخلو مِنَ الرحمة والحُبِّ والإبداع....

ولاشكَّ أنَّ مسارَ حياته، يعتبر نموذجًا غير متكرر، ولا أظن أنَّ كاهنًا في تاريخ الكنيسة العراقيّة  الحديث والمعاصر  نالَ مِن حبِّ النّاس وذيوع الشهرة وانتشار الاسم والإحترام والتكريم، مثلما تحقق مع الأب حبّي.

لقد أدركتهُ مهووسًا بالقراءة والمواصلة الثقافيّة والمواكبة والتجدد، فكان يكرر على مسامعنا: "واحدكم بمجرد أن أصبح كاهنًا حتّى تركَ القراءة وأهمل الثقافة لينغمس بالعمل الخورني ....مجترًا ما تعلمه، إلى أنْ يتحول الى بركة راكدة!. تعلموا أن تتواصلوا ثقافيًا".

       كانَ موسوعيًا أشبه بالمكتبة المتكاملة، مُحبًا للثقافة والتعلّم، فبرز  على الساحة الدينيّة والثقافيّة والفكريّة.

 ولا غرو بقولي: كانَ مرجعًا ثقافيًا للكثير مِن علماء العراق في المجمع العلمي العراقي وبيت الحكمة؛ بحيث تهافتَ عليه الكثير مِنَ العلماء والباحثين وهم يمنون النفس بأنْ يضع لهم مُقدّمة لكتبهم وأبحاثهم لكي تأخذ صداها، لما كان يتمتع به الأب الفقيد مِن اسم عريق وصيت رفيع وثقل ثقافي وانجاز علمي رصين بين مثقفي العراق والوطن العربي.

وليس مُغالاةً إنْ قلت: مِن أجل عيون د. حبّي، كرسَ الكثير مِن أعضاء المجمع العلمي العراقي وكبار الأساتذة والفلاسفة والمختصينَ في جامعات بغداد وقتهم للتدّريس وتقديم المحاضرات في كلّيّة بابل الحبريّة للفلسفة واللاهوت، بعد أن نمت وتقدمت بجهودهِ الجبارة وإدارته الحكيمة مع سواه، ومِن هؤلاء الأستاذة: فاتنة حمدي،سهيلة جواد، الأستاذ فلاح،د. محمد الصندوق،  د. فيصل غازي، د. الحارث عبد الحميد، د. طه النعمة، حسام الالوسي، والأسماء لا تحصى، فكان لنا الشرف أن نتتلمذ على يد خيرة أساتذة العراق يومذاك، ناهيكَ عن كهنة أجلاء ورهبانيات كرمليّة، دومنيكية، مُخلصيّة...

       كان يؤمن بتسمية (كنيسة المشرق) أو كنيسة العراق، فوجدته من المنادين بالوحدة الكنسيّة. يا ليته كان اليوم حاضرًا لأذرف الدموع دمًا على تناحرنا وتمزقنا الذي أضعف قوانا وجعلنا أقلية مسيحيّة ضعيفة وممزقة!، ولقال كلمة حقّ تفتح البصيرة، توسع  الآفاق وتنير الاذهان وتُجلجل العروش.

      إلى يومنا هذا، تحوم في ذاكرتي صورة مكتبته الغنية بالكتبِ والمخطوطات والتحف والاثار في صومعته بكلّيّة بابل، وأتحير في وصف تلكَ الصومعة. أهي متحفٌ؟ أم مكتبةٌ متكاملة؟!. فعلى الرغمِ مِن جسامة مسؤولياته واِنشغالاته وقحطِّ الوقت وضعف نظره وصعاب حياته...، إلّا أنّهُ كانَ يسرق ذاته ليطالع آخر الأبحاث والدراسات والإصدارات. وكانَ يقول ليّ ولغيري مِنَ الطلبة :" طالعوا إلى أن (تنعمي) عيونكم، ولا تكونوا مِن أصحاب الادمغة المتحجرة والكروش الكبيرة والتقد الهدام". كما عرفتهُ كاهن صلاة؛ ملاكًا يعتلي المذبح سواء في مُصلى الكلّيّة أو في كنيسة الشهيد مار كوركيس في حي سومر ببغداد، حائكًا بإبرة ثقافته أجمل الحكم ثوبًا للقرّاء، مُستقيًا مِن خبراته وروحانيته أعمق المواعظ، يلقيها بمفرادات سلسة تجد تقبّلاً واِستحسانًا.

            أنذر محبيه الكثر أنّ موعدَ سفره الأخير قد دنا، وأنّهُ سيقفل به سجل ترحاله الطويل، إذ حصل ذات يوم، إنّني  قدمت باشراف الأب حبّي بحثًا عن هجرة المسيحيين من العراق، اسعفني استفتاء اجريته شخصيًا في كنيسة مار كوركيس بمعية الأب الفقيد، وبعض كنائس بغداد، فلقيته مُعجبًا به  ومتحمسًا لهُ، ونصحني بطباعته بعد أن نقحه لغويًا. نشرته على نفقة الأب( البطريرك) لويس ساكو، مدير المعهد الكهنوتي يومذاكَ. فقال ليّ  الأب حبّي: "ستقدم البحث لمرحلتك[5] كمحاضرة بعد عودتي مِنَ السفر، إن عدت!". وكأنَّ قلبه كانَ يعلم أنّهُ سيذهب ولن يعود!!.

قبيل يوم واحد مِن سفره الأخير  إلى عمان،  كنا نصغي له وهو يلقي علينا محاضرة عن (فلسفة الاخلاق) في كُليّة بابل، وحين نهض ليهمّ مُغادرًا القاعة، حدّثنا قائلاً:" البارحة أتصل بي الكثيرون  مِنَ المجمع العلمي وكُتّاب وكهنة وأصدقاء مِن داخل العراق وخارجه، وقالوا لي: "أبونا أنت ما متت!، يقولون أبونا حبّي مات".  ضحك رحمه الله ببراءة الأطفال، واستطرد بلهجته الموصليّة الجميلة:" أمنيتم يغشعوني ميت"،وأضاف: "حَبّي لا يموت". ابتسم وختم حديثه قائلاً: "أحبكم".  رحل الأب حبّي  دون أن يودعنا إلى دار الخلد للأبد؛ حيث لا يعود النّاس!.

              ذات صباح اجتمعت إدارة الكلّيّة مع الطلبة في قاعة المحاضرات الكبيرة، دخلَ  الأب الراحل القاعة، رحب به الطلاب والاساتذة وقوفًا، وسرعان ما اختفى عن الأنظار بعد ذهابه للحديث مع معاونه في مؤخرة القاعة. بدأت العيون تنظر هنا وهناك والافواه تتهامس: أين ذهب أبونا حَبّي؟، وعرفنا أنه يجلس في المقاعد الخلفية، وكأنّي به أراد أن يعطينا شهادة حياتيّة ودروسًا واقعيّة عن التواضع،  لئلا نتصدر الاحتفالات والجلوس في المقاعد الأوّلى. وحين اعتلى المنصة، قال وهو ضاحكٌ مرحٌ كعادته: "أعرف أنّ عضلات رقابكم  قد تشنجت بغية البحث عني، ولكن اعلموا جيدًا إنكم أنتم مِن تصنعون المكان لا العكس".

  في مؤتمر (وجه الله)  شهدتُ بعيني وسمعت بأذنيّ كيف أنَّ أحد الحاضرين مِنَ المجمع العلمي العراقي وهو الفيلسوف حسام الالوسي وصف الأب حبّي بـ:" الفيلسوف الكبير والنجم الساطع في سماء العراق". وكيف وصفه الشيخ العلاّمة جلال الحنفي شيخ جامع الخلفاء ومفتي الجمهويّة العراقيّة وقتذاكَ: "الفيلسوف العراقي العلاّمة، همزة الوصل بين الأديان والحضارات والبلدان. كنز من كنوز العراق، بل نعمة العلي للعراقيين". وكيف أشادَ به د. الحارث عبد الحميد:  شكري ومحبتي وتقديري لأخي الكبير وصديقي العزيز- أخي في الإيمان، وصديقي في التقوى ومحبة الواحد الأحد الدكتور يوسف حبّي..."[6].

             ولم يغبْ عن ذهني أبدًا ما حصل في مؤتمر الكنيسة من أجل السّلام ورفع الحصار عن شعب العراق المظلوم، الذي عقدت جلساته في فندق بابل ببغداد في آيار سنة 2000 ؛ إذ تحدث المذيع  القدير شمعون متي قائلاً: "الأخوة الحضور (العراقيون) أرجو الخروج من القاعة لاتاحة المجال للوفود العربية والغربية والضيوف المشاركة بالجلوس. واستطرد بعدها قائلاً: "والآن كلمة الكنيسة الكلدانيّة يلقيها عليكم الأب د. يوسف حبّي المحترم ليتفضل". انتصب الأب حبّي وقال بنبرة إنزعاج بلهجته الموصليّة التي عُهد بها:" الرجاء لا تتركوا القاعة.العراقيون ليسوا مسحوتين( مطرودين)". وأضاف رحمه الله:" كلمتي هذه لا تمثل الكنيسة الكلدانيّة وحسب، بل كنيسة العراق، لا بل شعب العراق بأجمعه".

             بوفاته جُرحت الكلمة وصمت القلم وترملت الثقافة العراقيّة، حتّى أنّ النّاس على اختلاف فئاتهم ومشاربهم توافدوا في يوم تشييعه  مِن مختلف المحافظات العراقيّة، من الشرق والغرب بكثرة عجيبة، وكانَ الوجوم والحزن يُخيّمان على الجميع.  لقد غاب العالم العراقي!. كانَ الكثيرون يبكون بدموع تصهر القلب، يحاولون لمس جثمان أبيهم الروحي وأستاذهم الجليل، الذي حملهم في حُبٍّ كبير سنوات طويلة في صلاته وقلبه وفكره وكتاباته ومحاضراته.

حُمِل النعش على الأيدي، وطافوا به مِن كلّيّة بابل على أنغام تراتيل طقوس الجنازة الكنسيّة، في مسيرة شعبيّة في الطرقات بين كلّيّة بابل وكنيسة الرسولين، يتقدمهم رجّال الدين المسيحيون والمسلمون وغيرهم وأعضاء المجمع العلمي العراقي وشخصيات مِن بيت الحكمة، وعمداء كلّيّات وجامعات ومثقفون وموفدون مِن الخارجِ.... رُفعت خلال طواف الجنازة صوره في زمنٍ لا يحق للمرء ألا رفع صورَ  رئيس  البلاد!.

انطلق النعشُ، وانطلقت معه الصيحات والدموع وسط الآلاف الواجمة والباكية، علامات الصدمة والتأثر بادية على الجميع. وصل النعش إلى كنيسة  الرسولين مار بطرس وبولس ومن ثمَّ إلى الكنيسة التي خدمها - مار كوركيس.  وهناك تمت مراسيم صلاة الجناز على جثمانه الطاهر. تُليت رسائل وبرقيات تأبين من مختلف أرجاء المعمورة؛ مِن بابا الفاتيكان، ورؤساء دول  وكنائس وشخصيات علميّة وأدبيّة وثقافيّة حكوميّة وفنيّة.

أُنزلَ النّعش في أرضٍ تقع في مدخل كنيسة المقبرة الكلدانيّة- طريق بعقوبة، بجوار شاهد قبر الأب فيليب هيلاي، خلافًا لوصيته، حيث كان قد أوصى بأنَّ يدفن في كلّيّة بابل، لكن بعض الرؤساء الروحيين كانوا يخشون أفكاره ويتضايقون مِن محبة النّاس وشعبيته بينهم، خشية أن  يتحول قبره إلى مزار، ففضلوا دفنه هناك. 

 لقد جمع الأب حبّي ووحد الجميع حتّى في مماته.  وليس مِنَ المغالاة إن قلت: إنّ الحياة بعد رحيل الأب يوسف حَبّي اختلفت عندي عنها في حياته، فلقد خبا النجم، وخفت الضوء، ورحل العالم الجليل إلى حيث لا يعود النّاس!.  لقد رحلَ المآسوف عليه أشد الأسف قبل آوانه، وهو في أوج عطائه، والعراق بأمس الحاجة لعالم مثله، سيّما بعد أن تحسن نظره. لعلَّ ربّنا دعاه ليتمتع برؤية ملكوته البهي!.

     بعد رحيله عن عالمنا هذا، وللأسف أطلق عليه البعض مِن ضعفاء النفوس شائعات مُغرضة ومغزيّة لا تليق بكاهنٍ إنساني ومفكر عبقري، كانَ ذلك لتشويه اسمه العريق وتحجيم شعبيته، بعد أن فشلوا في حياته بحياكة المؤامرات له؛ ولكن الذين صلبوا السيّد المسيح ظنوا أنهم بموته سيمحون اثاره، فانقلب الصليب مِن لعنة إلى بركةِ، وهكذا هي الحال مع الأب يوسف حبّي، إذ سطع نجمه أكثر ممّا كان على قيد الحياة.

          أدركتُ الفقيد كثير العناد في الحقِّ، صاحب موقف قاطعٍ وقرار قطعي، بيدَ أنّهَ طيب القلب، حلو اللسان، سريع البديهة، ودود مع النّاس، إنساني الطلّة، فاهمٌ ومتفهم للآخرين، يتقن فنّ التواصل مع الآخر على تنوعه وإختلافه. مؤمنًا بالتنوع والتعدديّة والإختلاف. مثقفٌ عالم، باحث فيلسوف ولاهوتي أديبٌ مواكب، إنسان متجدد في اواخر الخمسين، صاحب طلة مشرقة تصحبها اِبتسامة صادقة ونكتة تحمل المعنى واراء تغني الفكر وتنعش الذات، مشجع لكلّ عمل فيه بصيص أمل وفائدة خير ولمسة إبداع.

          ولكَم كنتُ أتمنى أن تفرد كنيسة العراق أو الحكومة العراقيّة  كتابًا خاصًا يروي سيرته. وكَم وَدِدتُ أن أرى له تمثالاً في كلّيّة بابل التي بذل لاجلها الغالي والنفيس،  فعلى عهده  غدت كلّيّة مرتبطة بجامعة بروبغندا الإيطاليّة سنة 1998.  وكَم حلمت أن أرى له تمثالاً في أحد شوارع الموصل أو بغداد أو العراق، لأنّهُ أحد رموز العراق الفكريّة، وسفير لكلّ العراقيين في المحافل الدوليّة، كالعلم الخفاق فوق الساريات. مبدع طوى صفحاته ومشى إلى دنيا الخلود، بعد أن أصبح الخلود بعينه.

حفرَ صورته فوق المنابر الكنسيّة الأدبيّة والعلميّة، نثر كلماته كما ينثر  الفلاح الحقل بالبذور. آمن بالكلمة الحرّة، المتحررة والمُحررة، إيمانًا منه أنّ الكلمةَ كانت في البدء وستبقى سرًّا يعجز الوجود عن فكّ أسرارها.

رحم الله الأب يوسف حبّي بقدر ما غرس في قلوبنا المحبّة، وفي عقولنا البصيرة، فهو لا يزال علامة مُضيئة في حياتنا الكهنوتيّة والثقافيّة، ونموذجًا للمرء العراقي الذي  يعتصم بالرؤية الموضوعيّة والفكرة العميقة والكلمة البنّاءة الحُرّة،عارفًا التوحيد لا التفرقة، محتضنًا الجميع.

تغمد الله الأب حبّي برحمته الواسعة  بقدر ما قدم لشعبه وبلده وكنيسه مِن أعمال جليلة سوف تبقيه دائمًا في ضمير التّاريخ المعاصر لكنيسة العراق وشعبه الأصيل. 

            إنه الأب د. يوسف حبّي الذي عرفته عن قربٍ، فوجدتُ فيه الكاهن الغيور والعراقي المحب لبلده وشعبه وكنيسته، تجاوز الخطوط الحمراء في نقد الظلم والفساد، وخرج عن المألوف في أفكاره المكتوبة والمنطوقة، فنَشَرَ أنواره المضيئة المستمدة مِن تعاليم الإنجيل، ولم يكن كاهنًا تقليديًا أو مفكرًا طيعًا بكلّ المعايير. بل  كاهنًا مثقفًا معجونًا بالكلمة، استقى مِنَ الكلمة الأزليّة التي ترعرعت في النفسِ فضاءات مشرقة منفتحة على نوافذ عديدة، ومفكرًا حلّق باجنحة المحبة، يُغرد زبدة الأفكار،  تحلّيقًا بأجنحة، لا بجناحين فحسب، وفي البصر الجديد منفتحًا على آفاقٍ واسعة رحبة بألوانٍ متنوعة.

          بعد هذه الصفحات، أتراني أنعى يوسفًا إلى كلّ الناس؟، لربّما. ولكني أنعاه، بالأخص إلى محبيه. إنّه الأب يوسف حَبّي الذي كانَ ولا يزال  واجهةً عراقيّة مشرقة في كلّ زمان، لا سيّما في هذا الزمان الرديء.

جاء إلى الحياة كنسمة، وعلى هذه الشّاكلة غادرها، لنفتقد كاهنًا ومفكرًا وعالمًا كان أيقونة جيل الستينيات.. رحمه الله ونفعنا بصلواته. آمين.

 


هذه الصورة التقطت العام الدراسي 1998- 1999 في المعهد الكهنوتي البطريركي/ ببغداد

يظهر كاتبُ هذه السّطور عن يمين الصورة.

 

مرثية للأب حبّي كنتُ قد نشرتها بمناسبة الذكرى العاشرة على رحيله:

 

رحلَ حبّي فلتتوشح الكتب  والمنابر بالسواد، وليعلم الاكليروس والعلماء و الأدباء بات لهم مزار حبر مُقدّس في أرض طاهرة تدعى بغداد.مؤسفٌ حقًا أن نستقبل يوسفَ ميتًا في وطنه، بدلاً من أن نكرمه حيًا.

لا، لم يَمُت ولن يموتَ، فكما أنستاس الكرملي خالدٌ، هكذا سيبقى حبّي. كتبهُ تُخبِرُ عنه، تتناقلها الألسنُ والمجالس الثقافيّة، تتناجى بها القلوبُ، خلجاته تعزفُها آلاتنا الموسيقيّة. 

أبكيك يا حبّي في زمنٍ جفت فيه مآقي النّاس، وتحجرت قلوبهم!،

أبكيكَ لأننا ما زلنا مصلوبين على خشبِه القلق من فساد حاكم أرعن في عراق المزيفين.

أبكيكَ بعد أن رافقتُ جثمانكَ في الصّباح كالظلِّ، وفي المساء وقفتُ أنا وغيري أمامَ الشاشة العراقيّة جامدين كالثلج، باكين كالأطفال مِن حرارة الفراق. فمِنَ الصعب أن أتصور أنّ كُلَّ تلك الحركة الّتي فيكَ والنشاط تنتهي إلى سكونٍ.

أبكيكَ.. أنتَ الّذي شئت أن تكونَ للوطنِ لسانًا، يوم لم يكن للشّعبِ وجود لسان.

اضطهدوك وحاربوكَ وأذاقوك مرّ المؤامرات، ولكنّك لم تتراجع يومًا، فما مِن مفكرٍ مصلحٍ عرفت خطواته التراجع. وما مِن كاهن مُحب سمحَ لليأسِ أن يكبّلهُ وللنقود أن تحجب إصلاحه وللمناصب أن تشتريه.

خافَ مِن فكركَ الحاكم وأحبّك المحكوم. ارتعش منكَ الرؤساء، فاحبك المرؤوسون .

حلمت بوطنٍ حرّ ، فحاربوك. حلمت بكنيسة متجددة، فعارضوكَ....

أحببت شعبًا عراقيًا، تمنيته متقدمًا، مستقرًا، سعيدًا، مُرفهًا، فاغتالوك.. .

آهٍ.... مِن مبادئكَ التي كتبتها ونطقتها وعلّمتها، كانت كحد السيف. بل نار محرقةٌ يتلظى فيها كلّ حاكم ظن الديكتاتوريّة عقيدة، لا يرى في مرآة الوطن سوى صورته الوحيدة.

        "أبونا" حبّي، يا زينة  المآذن والنواقيسَ والكنائسَ والمنابر، يا وردة العراق الفوّاحة، يَا علم كنيسة المسيح في كُلِّ الأرجاء يا مَن زَيَّنتَ أيامنا بورودِ الحروف البنّاءة، وزرعت في طرقاتنا بذار الكلمات الجميلة. أُهديكَ كلماتٌ مِنَ الورد، أفرشُها على شاهد قبركَ، فيه الأسمُ حيٌّ لا يموت، وكيف يموت؟!. وكتاباتكَ شمعة مضيئة نعود إليها كُلّمَا حَلِكَ ليلنا سوادًا وتبعثرت  آمالنا سدى!. لقدَ رحلتَ وبقي آثركَ خالدًا لا يضاهييه خلودَ كلكامشَ...

  


في الواقعِ أنَّ أستاذنا و حبيبنا حَبّي، أَشتعِلَ كبيدرٍ مِنَ القشِّ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ بعد أن ماتَ.

لقد غلبَ الخلود بخلوده... ربع قرن قد مضى ولم  ولن ينُسى!.

أرقد بِسلامٍ.... عليكَ رحمة الله.

 [1] سبق وأن نشرتُ مقتطفاتٌ مِن هذه الكلمة بعد رحيل الأب حَبّي في مجلة الحكمة التابعة لكليّة بابل، والتي كنتُ أشغل منصب سكرتير رئيس تحريرها وقتذاكَ، وقمت بإعادة نشرها في المواقع الالكترونيّة بعد عام 2003 ، وكذلكَ في الذكرى العاشرة والرابعة عشر لرحيل الأب حَبّي، وقد نشرتها بعد تعديلات كثيرة في كتابي ( مبدعون عرفتهم عن قربٍ- نخيلٌ في بُستانِ الذّاكرة) سيدني  2016

بطبعتيه سيدني وبيروت الصادر عن دار سطور والرافدين.

ويطيبُ لي اليوم نشرها بمناسبة 25 عامًا على رحيلِ علاّمتنا الأب يوسف حبّي عليه كُلّ المراحم.

[2] سبق وأن كان الأب حدّاد قد أطلعني على نص وصيته بخط يد الأب حَبّي، ثمَّ نَشَرَ مقتطفات منها في مجلة نجم المشرق سنة 2000 بعنوان الأب حَبّي وداعًا. وكانَ الفقيد قد أدرج فقرة في وصيته تنص على تخصيص  جزءًا مِن أمواله لطباعة مؤلفاته ولمساعدة للفقراء..

[3] هذا ما جاء في كراسٍ صدر في يوم تأبينه بمناسبة الأربعين

[4]  تيمنًا بالأب يوسف حَبّي ابدلت اسمي إلى يوسف قبيل سيامتي الإنجيليّة، آملا أن اقدم شيئًا يسيرًا ممّا قدمه، فحسنًا للتلميذ أن يكون مثل معلمه.

[5]  المرحلة الثانية في قسم الفلسفة.

[6]  أنظر مجلة بين النهرين، العدد 111- 112، ص 202، بغداد 2000.