ونحن على اعتاب عام جديد علينا ان نستذكر اسباب الإنهزامية التي تشهدها غالبية المؤسسات العربية و الإسلامية في الغرب ، سواء كانت جمعيات دينية او وطنية او ثقافية او تعليمية و تعود اسباب الإنهزامية لعوامل كثيرة و وجب علينا تسليط الضوء عليها ، لعل القائمين على هذه المؤسسات يتخذوا استراتيجية جديدة للنهوض بالأقليات المسلمة و يعيدوا للمسلمين ثقتهم بانفسهم و اول هذه العوامل هو ضعف الإيمان بالله تعالى و و هو سبب لكل بلية نعيشها, ولضعف الإيمان مظاهر كثيرة جدًا؛ منها، عدم الغيرة والغضب إذا انتهكت محارم الله؛ لأن لهيب الغيرة في قلوب المسلمين قد انطفأ , فتعطلت الجوارح عن الإنكار , والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح عن حذيفة قال : [تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا (أي دخلت فيه دخولاً تامًا) نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ (أي نقط فيه نقطة) وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا (بياض يسير يخالطه السواد) كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا (مائلاً منكوسًا) لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ] أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد . للأسف الشديد غالبية المسلمين في الغرب قلوبهم مصابة بالضعف و لا يجدوا الشجاعة ليقولوا (لا) لمن يهينهم و يدوس على كرامتهم. و هناك ايضا عامل مهم جدا للإنهزامية يعود الى ضعف جانب العبادة عند المسلمين الذين هاجروا الى الغرب حيث تهاونوا في أداء الفرائض و السنن ، فلم تعد صلاة الجماعة في المساجد مهمة و يتقاعس عن تاديتها غالبية المسلمين و يكتفوا في حضور صلاة الجمعة و الأعياد و هذا تشبه بعقيدة النصارى الذين يمارسون طقوس عبادتهم ايام الآحد و الأعياد.
و من عوامل الإنهزامية لدى مسلمي الغرب هو عدم تصور غالبيتهم أضرار المعاصي على انفسهم و ابنائهم ، وبالتالي لا يتحرك قلب من يرى حدود الله تنتهك , فيقعده ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي احسن. و ايضا ظاهرة الانعزال عن المجتمع وعدم مخالطة الناس بحجة عدم تحمل رؤية المنكرات أو الخوف من الذوبان بقيم الآخر. و هذا الإنكماش على الذات اصاب الأقلية المسلمة في الغرب بمقتل ، حيث وجهت لهم كل الإتهامات برفض الإندماج و استغلال قوانين الرفاهية للعيش دون الحاجة للعمل و انهم يتكاثرون دون ضوابط. و انتشرت بالمقابل ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تستغلها الأحزاب اليمينية لتخويف المجتمعات الغربية من الإسلام.
و من عوامل الإنهزامية التي تعيشها مؤسساتنا في الغرب هي ظاهرة العيب و الحياء المذموم في الأسر المسلمة، فكثير من مسلمي الغرب يخلط بين الحياء المحمود والحياء المذموم، فحينما يرى منكرًا,فيعرض عن الإنكار بحجة الحياء , فيرى أن ذمته قد برئت؛ بل ربما حمد نفس على ذلك. و اذا شاهد مسلمة محجبة في طريقه ادار ظهره لها بحجة الحياء و في المقابل اذا اوقفته اعجمية سافرة تبسم لها وصافحها بحرارة و حجته ان لا يوصف بالتزمت و التشدد و ان موقفه هذا يعتبر دعوة لدين الله. و هناك الكثير من شباب المسلمين يترددوا على أماكن اللهو والعبث ليقال عنهم حضاريين و يتفاخرون بمجالسة أهل الفسق و الانغماس في ملذات الدنيا وشهواتها و يهابون زيارة المساجد ، بل يخشون الإقتراب منها ، و هم يعرفون في ضمائرهم انهم مخطؤون و لكن لا يوجد من ياخذ بايديهم نحو الصلاح و الفلاح.
و من عوامل الإنهزامية التي تعيشها مؤسساتنا، تراجع الأئمة و الدعاة عن قول الحق و الصمت على الإنحراف الأخلاقي لدى الشباب المسلم والتحجج بمعرفة الناس للحق واليأس في صلاحهم و انهم لا يرجعوا للحق ؛ حتى ولو ولج الجمل في سم الخياط. و يساهم ضغط الأهل وإلحاحهم على جيل الأبناء لترك مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فييتذرع ذلك الشاب أن طاعة الوالدين واجبة , وقيامه بهذا الأمر مستحب , والواجب مقدم على السنة , فيتذرع بذلك فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. و من عوامل الإنهزامية الخوف من الرياء، حيث يمتنع المسلم عن الصلاة في الأماكن العامة حتى لا يقال مرائي و يقعد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتجاجًا بذلك , إن من فعل هذا لم يسلم , ولم تبرأ ذمته ؛ لأنه وقع فيما فر منه كما قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (ترك العمل من أجل الناس رياء , والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما).
و من عوامل الإنهزامية هو عدم وضع برامج تربيوية للشباب العربي و المسلم، حيث اصابهم الترهل الثقافي و الفكري و تم القاء ذلك على مشاغل العمل و معاركة الحياة ، و كل ذلك يؤثر سلبا على الذين يبدؤون مشوار الدعوة في شبابهم، ثم لا يلبث الصف إلا أن يتناقض شيئًا فشيئًا حتى يصبح الكثير منهم صرعى على جنبات الطريق ؛ منهم من توسع في تجارته أو تزوج و انشغل بزوجه وغير ذلك و منهم من وقع في مصيدة المنظمات الإرهابية بحجة الجهاد و منهم من ابتلي بشرب الكحول و تعاطي المخدرات . ومن عوامل الإنهزامية هو عدم الشعور بالمسؤولية الفردية و الجماعية واعتقاد الكل أن هذا الأمر مقصور على الإمام او الداعية و هذا ديدن اهل الكنيسة حيث يلقوا كل شيئ على راعيها , فتبدأ مرحلة اللوم حال رؤية المنكر , ويظن أن ذمته قد برئت بذلك، اذا حصل على فتوى تطهره من المفاسد، و هناك من يلقي اللوم على الأئمة , وتحميلهم المسئولية عن المنكرات التي اجتاحت بيوت الكثير من المسلمين .
وقوع المسلم بالمعاصي و قساوة قلبه يشعره بعد ذلك ليس بترك مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسب؛ بل ربما يرى عدم جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دول الغرب. و هذا مبني على الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية : فهم بعض الناس فهماً خاطئاً لقوله تعالى: ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(105)[ سورة المائدة ، فكثير من الناس يتصور أنه ليس مسؤولاً عن المنكرات ما دام قد ألزم نفسه بلزام الشرع , وألجمها بلجام الحق.
ومن عوامل الإنهزامية هو انتشار الحسد والغيرة والقال و القيل بين المسلمين و هذا سبب القطيعة و التباغظ بين الناس و تراجع العلاقات الإجتماعية ولم يعد الشاب المسلم يجد فتاة يتزوجها رغم وجود المئات منهن ، بسبب غياب العلاقات الإجتماعية بين العائلات المسلمة. و المسلم الناجح دائرًا بين مؤمن يحسده , وبين منافق يبغضه , وبين عنصري يكرهه , وبين شيطان يضله , وبين نفسه تنازعه , ولكن مما يؤلم أن يكون الحسد من شخص يسير معه في نفس الطريق. و من عوامل الإنهزامية هو تحقير الذات وقدراتها و عدم اتخاذ الأسباب للنجاج فيتقادم بالشخص الزمن وهو يتذرع بالزهد و ان طالب الولاية لا يولى و بتافف على طلب المناصب , وتعظم المصيبة إذا تبين من حاله للناس إنه من افضل الناس قدرة على القيادة ,لكن لم يعطى فرصة و قد يحارب من المتشبثين بالمناصب و تشوه صورته و يقال: انظروا يفعل المنكر بحضرته ولا ينكر , و يفضل الإنعزال و عدم تنمية قدراته و يعيش في الظل.. و النتيجة يعتقد الجيل الجديد بأن أهل المعاصي راضون بوضعهم و انهم راضون بواقعهم، ولم يشعروا بأنهم يعيشون في ضنك من العيش , وان حالتهم النفسية صعبة جدا ، وودوا لو تخلصوا من ذلك ، لكنهم يكابرون و يزين لهم الشيطان اعمالهم.
و من عوامل الإنهزامية التي نعيشها في الغرب هي ازدواجية الخطاب و الحدة في الطبع وعدم التحمل وهذا يوسمنا بالجلافة و التخلف وعدم التحضر، وهذا في الغالب يؤدي بالمسلم إلى اعتزال المجتمع؛ لأنه لا يستطيع الصبر، و بدل ان يغير طبعه تزداد حدته و حقده على الآخر. و يبتعد عن الرفقة الصالحة و طريق المسلم شاق يحتاج معه إلى الجليس الصالح لذي يؤنس له وحشة الطريق؛ يصبّره إذا ابتلي، ويقوِّمه إذا أخطأ، ويشجعه إذا أصاب، وإن لم يكن كذلك دب إليه داء الانهزامية عند أول عارض يعرض له.
و ابتليت المؤسسات الإسلامية و الثقافية والوطنية و التعليمية للمسلمين في الغرب بالقدوات الانهزامية التي فرضت نفسها على الإقليات المسلمة و الأصل إن الناس ينظرون إلى القدوة.. ينظرون إلى أعماله وتصرفاته؛ بل وينظرون إلى أهل بيته، ويتأملون تصرفاتهم؛ فعلى القدوة أن ينتبه إلى مثل ذلك، ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صعد المنبر , فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: (إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدًا فيكم فعله إلا أضعفت فيه العقوبة). لكن للأسف لدينا قدوات امام الناس ملائكة يمشون على الأرض و في بيوتهم شياطين حمر لا يراعون في المؤمن إلا و لا ذمة ، و يختفون حلف تزكيات علماء الأمة الذين منحوهم مفاتيح الجنان و فتحوا لهم الأبواب المؤصدة.
و تخشى القدوات الإنهزامية القيام بأدنى درجات الإنكار مع القدرة على ما هو أعلى من ذلك، فيستخدم بعضهم أدنى درجات الإنكار بالقلب مع استطاعتهم الإنكار باللسان، فكم من مسؤول استخدم الإنكار بالقلب مع قدرته على غيره، وهكذا كان دأبه ؛ حتى أصبح بعد برهة من الزمن يتمنى أدنى درجات الإنكار , ولكن هيهات هيهات. ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام او المسؤول قد يكون يستعمل التقية من اجل السلامة و لذلك ابتلي في ازدواجية الخطاب و الفتيا ، و يعود ذلك الى خوفه من أذية مؤذي أو خشيته من ان تطوله اليد الأمنية ، و يقتصر على الإنكار بالقلب ليبدأ من هذه النقطة مسلسل الهزيمة. و نجده حذر جدا من قول الحق خوفا من السخرية والاستهزاء ؛ و يتذوّق طعمها مرًا في أول الأمر، ثم لا يعود إلى ذلك مرة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق