الرسالة الثانية عشرة: تترائين طيفا شاحبا كلوحة أغضبت صانعها/ فراس حج محمد

الخميس: 30-8-2018 ـ

الحبيبة المحصورة بين قلبي وعقلي، تحية محمولة على الأبجدية في نهار مشبع باللغة، أما بعد:
أعود لأكتب لك بعد فترة من الانقطاع الطويل، كنت غارقا في ضباب رؤياي التي أخذتني كل مأخذ. كل الأيام بنهاراتها ولياليها بائسة، لا شيء فيها واضح، تترائين طيفا شاحبا كلوحة أغضبت صانعها، فلطخ وجهها بالغبار.
أكتب وأنا لا أدري ماذا سأقول، لا فكرة محددة لديّ. في اللقاء العابر الذي جمعنا قبل أيام، تحاشيت النظر إليك، أو محادثتك، كنت متوقعا رؤيتك بكل تأكيد، ولولا هذا الأمل، لم أكن أتيت لمناسبة لا ناقة لي فيها ولا بعير، فقط كانت الرغبة تشعل خاطري لأراك ولو من بعيد. ستقولين: "كم كنتَ قاسيا ولئيما، كنت على بعد خطوتين مني ولم تحرك يدا، ولم تشر لي حتى بطرفة عينك". رأيت على وجهك علامات الدهشة والسرور، كأنك تقولين: "ما علاقتك بالأمر؟ هل أصبحت يساريا مثلي؟" هل أنت يسارية؟ يا لها من فكرة عظيمة، يساري من أصول دينية، يحب شاعرة يسارية متوغلة في اليسار. على كل حال أنا لست يساريا حتى هذه اللحظة، فكريا على الأقل، ما زلت يمينيا متطرفا، أشد ما يكون التطرف. ولكن لماذا لم تبادري للسلام عليّ ومصافحتي وأنت التي دخلت بعدي ووجدتني هناك؟ كانت اللياقة تقتضي ذلك. هل أردت معاقبتي؟ كنت متوقعا أن يحدث مثل هذا، لعلك تقولين، ماذا لو حدث العكس، هل كنت ستسلم عليّ؟ ربما فعلتها، فأنا لم أخطط لهذا الموقف الهامشي صدقا.
قبل أن تأتي إلى ذلك المكان كنا قد سبقناك إليه أنا وصديق لي، له علاقة حزبية مع أبناء الفقيدة. ابتعدت عن صديقي وجلست وحدي كما رأيتني، حتى لا تحدث مفاجأة تخلط الأوراق وتربك المشهد برمته، كعادتي في اقتناصك جلست قبالة الباب الرئيسي لأتأكد من رؤيتك. رأيتني وحدقتِ فيّ، مع ابتسامتك الظريفة، رقص قلبي فرحا للوهلة الأولى، ولكن اهتاجت روحي حزنا، وامتلأت نفسي شغفا، تأكدت من حضورك، فلملمت نفسي، ورحلت، لم أنظر إلى الخلف، مودعا ومسلما، اكتفيت بهذه النظرة الماكرة التي ما زالت تخترق بمشهديتها كل أعصابي.
كيف غادرتُ القاعة دون أن أتحدث أو حتى أن أبتسم ردا على ابتسامتك، كنت حجرا بنتوء مدببة، أطلت شعر رأسي ولحيتي، لا رغبة لديّ بفعل أي شيء، أو أن أتعرف على أخبارك، ونشاطاتك التي أبلغتني عنها في آخر حديث هاتفي بيننا. أكتب إليك وأنا لا أريد أن أعرف وكيف سأعرف، وقد انقطعتِ عن الكتابة لي منذ مدة طويلة. عبث أن تكتب لامرأة رسالة وهي لا ترى حاجة في ردها، كأن رسالتها استطراد مملّ على هامش أكثر مللا.
عندما عدنا لم نتحدث كثيرا، بقيت صامتا، أسترجع شريطا طويلا من الذكريات، وتنهال عليّ صور شتى، أسأل نفسي: لماذا وصلت إلى هنا؟ لكنه سؤال عبثي جدا، عبث هذه العلاقة المعقدة، فقد وصلتُ وانتهى الأمر. أفكر بالخروج ولكن كيف؟ لست أدري.
في جلسة مع صديقي نتبادل أفكارا كثيرة، يلاحظ ما أنا فيه من حزن، يقترح عليّ سماع الموسيقى، لعلها تخفّف من كثافة اللحظة، يقول: "للموسيقى فعل السحر في تكسير صخرة الحزن وتفتتيها إلى حصوات يمكنك بعدها أن تدوسها بقدمك، وتضحك للحياة". هو لم يكن يدري أنني كلما سمعت مقطعا موسيقيا ذبت حنينا وشجنا، وأوشكت أن أصبح غيمة فائرة. صديقي يداوي أحزانه بقراءة شعر أدونيس، أما أنا فلا شفاء لي منك، مهما قرأت أو كتبت أو استمعت للموسيقى، حتى لو تحولت كل الموسيقى العالمية إلى نهر يصب في أحشائي، لن تغسل أحزان روحي. إنها ليست مبالغةُ كاتب، يشعر بالخيبة.
في اليومين السابقين انشغلت كثيرا بالسرد، كتبت آخر مشهد من كتاب "نسوة في المدينة"، أراجعه المراجعة النهائية قبل الزج به إلى المطبعة، هذا الكتاب الذي خصصت فصله الثاني للحديث عنا، أنا وأنت، أعيد قراءة هذا الفصل، إنه مؤلم جدا، كنت قد قرأت بعضه لابنتي، لم تستطع إلا أن تبكي، كنتُ غبيا عندما قرأت لها بعض ما جاء فيه، لقد استحضرتها بيننا في مواقف كثيرة. ابنتي تعرفك جيدا، ولكنها لا تسألني عنك إلا إذا حدثتها أنا. فكرتُ في العطلة الصيفية أن تتعلم على يديك، تراجعت كي لا أثقل عليك مهمة قد تبدو سيئة المآل لثلاثتنا. تعاتبني على أنني تراجعت عن هذا الأمر، لكنها تتفهم جيدا، أن الأمر ذو نتائج ليست جيدة على أقل تقدير. 
ابنتي عادت إلى المدرسة، وهي تستعد للثانوية العامة في هذه السنة، ونسيَتْ موضوع التدريب، ولكنها على ما يبدو لا ترغب في الدراسة الجامعية، أو أنها تلعب بأعصابي، على كل حال، سأنتظر حتى الربيع القادم، لعل الخير يرافقها. حماكما الله، ورعاكما. 
المشتاق لنظرة عينيك
فراس حج محمد

في أزمة فكر النخبة العربية.. خسوف المثقف العضوي/ حسن العاصي

أزمة الفكر العربي الحديث أنه ظل فكراُ نخبوياً طلائعياً تؤمن به -نسبياً- العقول المثقفة المعزولة عن الناس، هذا يشمل كافة التيارات والأفكار الاشتراكية اليسارية والليبرالية والقومية وتلك الاتجاهات التي تعبر الإسلام السياسي. بالرغم من المحاولات التي أظهرتها النخبة العربية في مواجهة أسئلة التحدي الحضاري الغربي، إلا أنها أجرت مقاربات خاطئة أفضت إلى نتائج كارثية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث اعتمدت النخبة -بمعظمها- فلسفة تؤمن بأن الإنجازات الحضارية الغربية العلمية والفكرية يعود سببها إلى الحضارة العربية الإسلامية القديمة فقط، وغاب عنها أن إعادة إحياء هذه الأفكار في الحاضنة العربية في مجتمعات ما زالت ذات صبغة عشائرية وقبلية سوف تولّد تطوراً مبتوراً وحداثة مشوهة. لقد انتكست الأفكار الماركسية بالرغم من إرثها المضيء نظرياً، ولم يستطيع "النعيم" الشيوعي النفاذ عبر أنظمة عربية متسلطة بتوجهات قبلية، يدعمها تحالف المصالح بين التجار ورأس المال وشيوخ القبائل والبيروقراطية الفاسدة، ويحميها الغرب الاستعماري، وانتهى الحال بالرفاق إما في المعتقلات أو مطاردين أمنياً، وبقيت الثروة بين أيدي قلة نخبوية التهمت كل شيء سياسي واقتصادي وثقافي، بل ابتلعت الحياة ذاتها.

وحظوظ الفكر القومي لم تكن أفضل، فوحدة الأرض واللغة والتاريخ، لم تشفع لشعارات الوحدة القومية التي أصبحت مفهوما يثير إشكالية معرفية بعد هزيمة جزيران العام 1967.

والأفكار الليبرالية ظلت نخبوية بعيدة عن الجماهير، بسبب انشغال الليبراليين بموضوع الحريات السياسية وإغفالهم المطالب الاجتماعية التي تمس الشرائح الشعبية من الناس. وكذلك الفكر الديني الذي يعاني من الركود وغياب الاجتهاد الفقهي منذ أكثر من قرن، ناهيك عن قيام الجماعات السياسية الإسلامية بتأويل النصوص الدينية لخدمة مشروعها، وفشلها في بلورة البديل المختلف القادر على إجراء مقاربات مغايرة لما هو قائم.

 في الخواص والعوام

وهي تقسيمات كانت موجودة في المجتمع البابلي، حيث قسّم قانون حمورابي المجتمع إلى ثلاث طبقات، "الخواص، العوام، الأرقاء". فكان يطلق على أعضاء الطبقة الأولى "الأويلوم" وهم الأولون السادة، وأفراد الطبقة الثانية يسمون "مشكينوم" وهم المساكين حقوقهم ليست كاملة رغم أنهم من الأحرار، والطبقة الثالثة هم "وردوم" الرقيق الذين ليس لهم أية حقوق.

لا يفاجئنا أن هذا التقسيم ما زال معمولا به في غالبية الدول العربية، فما زال هناك علية القوم، وهناك خدمهم. لا زالت قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة مجرد شعارات لا قيمة لها، في مجتمعات ماضية في تغوّل واستحواذ نخبة النخبة على الثروة.

في المشهد العربي تبرز علاقة ملتبسة مربكة هي ما جمع بين النخبة ودلالاتها الثقافية "الخواص" وبين الجمهور الواسع "العوام". هذا المفهوم منح النخبة مكان الصدارة المجتمعية، ومنحها تفويضاً لإدارة شؤون العباد، حيث استسلم "العوام" لهذا القدر بتربص ينتظر ساعة الخلاص.

سيطرت النخبة "الخواص" على الثروات العربية، وعلى كافة مفاصل الدولة، ووظفت القضاء والتعليم والقطاع الصحي لمصالحها، وقامت بتحويل الجيوش والأجهزة الأمنية إلى أذرعة لها تبطش باسمها. فيما أصبح العامة الذين يشكلون حوالي 80 في المائة من الناس، عبارة عن طوابير من الفقراء والمهمشين والجائعين.

إن الدول العربية تستحوذ على أكثر من 55 في المئة من احتياطي النفط العالمي. ومن بين الدول العشرة صاحبة أكبر احتياطي، هناك خمس دول عربية تمتلك ما مجموعه 713 مليار برميل نفط. هذه الدول هي المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات وليبيا. بلغت عائدات دول الشرق الأوسط سنة 2017 ما مجموعه 325 مليار دولار، أي 41.3 في المئة من عائدات النفط في العالم. كان نصيب السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، منها 133 مليار دولار.

فيما بلغت الثروات الشخصية في العالم ما مجموعه 202 تريليون دولار، بلغ نصيب العرب منها 3,2 تريليون دولار. هذه الثروات العربية تتركز بين أيادي النخبة "الخواص" التي حولت الأوطان إلى مزارع أهلية خاصة.

بينما بلغت نسبة الذين يعانون من فقر مدقع في العالم العربي 13.4 في المائة من السكان حسب آخر تقرير تنمية بشرية صادر عن الأمم المتحدة.

 النخبة العربية المثقفة

أظهرت الأحداث في العالم العربي أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجهاً حقيقياً. أو أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.

إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي متشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة ما يجري من خلف النوافذ. وهم في الواقع جوهر الإشكالية وأهم سبب لأزمة الفكر لاعتزالها واغترابها عن هموم الأمة، وانخراطها في معارك هامشية لا تمت بالأمراض الحقيقية التي استوطنت الجسد العربي المنهك.
فقد كشفت التطورات الملتهبة في المنطقة العربية عن جملة من الأسئلة والمفارقات المنهكة حول مكانة الجماهير الشعبية العربية وحقوقها في المواطنة والعدالة الاجتماعية، والتخلص من الاستبداد والفساد، في أولويات اهتمام النخبة العربية، في منطقة تغرق في مستنقع أزماتها التي لا تنتهي.

 صورة المثقف

منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.

نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.

 إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

 المثقف كما عهدناه

المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءً من العقد الثاني للألفية الثالثة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.

إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.

بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟

ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.

كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.

هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

سقوط المثقف

إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي

ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.

وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونون عبيداً للغرب.

إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحون ويموتون في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.

سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.

إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

في اشتباك المثقف

المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.

المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.

المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.

معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.

مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

التحدي المصيري

المقاربات الفلسفية النظرية التي تشكل واحدة من أدوات المثقف، إنما هي الحاضن للحراك الاجتماعي، لكن كل قيم العدالة والتحرر والمساواة لا يمكن إدراكها إلا في معترك الواقع المعاش، في ملامسة إشكاليات الشارع وتفهمها وتحليلها. إن المثقف الذي يؤمن بمطالب وحقوق الناس الاجتماعية والسياسية نظرياً فقط طبقاً للحتميات التاريخية ودون ممارسة فعلية، لا يكون بمقدوره القيام بالفعل النقدي الصائب للسياسي، ولن يكون نقده نقداً أخلاقياً تصحيحياً وهو بعيد عن دروب ودهاليز التجربة الميدانية، فمن دون الاشتباك لا يمكن أن ندرك ونفهم ونحلل وننقد أية تجارب اجتماعية تاريخية، وكذلك لا يمكن التحقق من أي أفكار مهما كانت سامية وجذابة دون خضوعها للامتحان الحقيقي في الواقع.

من المفارقات المضحكة المبكية في المثقف العربي، أن شهدت البلدان المتقدمة كما المتخلفة نماذج إما عكست الانحياز العضوي التام من المثقف إلى جانب الجمهور، حتى أولئك المثقفين النقديين اللا منتمين إلى شرائح اجتماعية محددة وقفوا مع كافة القيم الأخلاقية والإنسانية، ودافعوا عن حقوق البشر الأساسية وحرياتهم العامة. أو أبانت تحالف بعض المثقفين الغربيين مع السلطة، تحالف أفضى إلى بناء الدولة الغربية الحديثة بشكلها الحالي، وهو ما أدى إلى انتهاء دور المثقف العضوي في الغرب، أو أصبح دوره هامشياً، بسبب التطور الهائل التقني في مختلف القطاعات.

 بيد أن المثقفون العرب ما زالوا يرزحون تحت أعباء تخلف الواقع التي تتراكم، ولا زالوا يعانون من عجزهم عن إجراء مقاربات لأسئلة النهضة والإصلاح من جهة، وتوحش الآخر الغربي من جهة أخرى. فلا هم استطاعوا الوقوف التام مع شعوبهم، حتى أولئك الذين زعموا في يوم من الأيام أنهم مثقفو الجماهير، رفضهم الشعب ولم يقبل وصايتهم. ولا هم تمكنوا من ابتداع اختراق للعلاقة مع السلطة لمصلحة قيم المواطنة وبناء دولة المؤسسات.

أزمتنا يسببها المثقف العربي -بمعظمهم- الذي يؤمن أن دوره هو تقبيل اقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصاً إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبباً لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، كيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحدي مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.

حِكم، أقوال وأمثال في كل مجال (ق)/ إعداد أ. .د‮. ‬حسيب شحادة

جامعة هلسنكي ـ

استوقفتْني‮ ‬خلال مطالعاتي الدؤوبة حِكم وأقوال وأمثال وآراء وطرائفُ كثيرة جدّا، وارتأيت أن أنشرها، علّها تعود ببعض الفائدة الفكرية والروحية، إضافة إلى ما في‮ ‬بعضها، على الأقلّ‮، ‬من التسلية وروح الدُّعابة ومدعاة لشحذ الذهن‮. ‬إذ أننا نعتقد أن إشاعة الثقافة الجادّة وتقديمَ كلّ‮ ‬جديد ومفيد وممتع، هما مَهمّة شِبه مقدّسة ملقاة عـلى كاهل كلّ‮ ‬مثقّف‮ ملتزم. ‬كنت قد نشرت نتفًا من هذه الجُمل في منابرَ مختلفة على الشبكة العنكبوتية، كما أن زهاء  عشرين حلقةً منها كانت قد أُذيعت عبرَ مذياع صوت ابن فضلان في هلسنكي، في ركن الثقافة والفكر، في أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحالي.

❊ ‬الحضارةُ‮ ‬وَحْدة متكاملة، لا تتجزّأُ‮.‬
‮❊ ‬تعلّمُ الراحةِ أمرٌ مهمٌّ، تمامًا كتعلُّم العمَل.
❊ أن تُعَلِّمَ، لا يعني أن تملأ إناءً، بل أن تُشعِل نارًا.
❊ كلُّ وِعاء يَضيق بما جُعل فيه، إلا وِعاء العِلم فإنّه يتَّسع. 
❊ العِلمُ شيءٌ رائع، إذا لم تكنْ تعتاش منه.
❊ ‬العِلمُ خزائنُ، ومِفتاحُه السؤال.
‮❊ ‬قال نِهرو‮: "‬أيّها المواطنونَ، اتَّجِهوا إلى العِلم بنفْس حماسكم للدين، إنّه وحدَه الذي‮ ‬يُخلّصُكم من ظلام عشَرات القرون‮. ‬
‮❊ ‬بما علمتَ؟ فقال‮: ‬بلسانٍ سَئول وعقلٍ عَقول.
❊ قالتِ العرب: كلّ شيء كثُر رخُص ما خلا العِلم، فإنه كلّما كثُر غلا.
❊ ‬إنَّ العِلْمَ لا‮ ‬يتِمّ‮ُ ‬إلا بالعمل.
❊ فيما يخُصُّ المسائلَ العلميّة، سُلطةُ ألْفِ شخْصٍ، لا تُساوي المنطقَ المتواضع لفرْد واحد.
❊ لا تخَفْ من قولِ ”لا أعلم“، أو مِنَ ”الاعتذار“.
❊ لا إجابات نهائيةً لأيّ شيء.
❊ مَن لا يستطيعُ أن يُغيّر عقلَه، لا يستطيعُ أن يغيّر شيئا.
❊ أعمقُ موضوعٍ في تاريخ الإنسان، هو صِراعُ الشكِّ واليقين.
‮❊ ‬ما كلُّ‮ ‬ما‮ ‬يُعلم‮ ‬يُقال، بل صدورُ الأحرار قبورُ الأسرار.
‮❊ ‬تعلّمَ الناسُ‮ ‬العملَ،‮ ‬لكنّهم لم‮ ‬يتعلّموا الحياة‮.‬
❊ ‬لا‮ ‬يُمكِنُ للصيّاد والعُصفور أن‮ ‬يتحالفا.
‮❊ ‬حِبر العلماء كدمِ الشُّهداء.
‮❊ ‬أهمُّ‮ ‬دورٍ‮ ‬للإغريق في‮ ‬الحضارة الإنسانية، هو تقديسُهمُ‮ ‬العقلَ‮.‬
❊ الحُريّةُ هي حريّةُ العقْل والقلْب.
‮❊ الحريّة غيرُ ذاتِ قيمة، إذا لم تشمُلْ حريّةَ ارتكاب الأخطاء.
❊ ‬الحريّة حقٌّ، لا مِنْحة.
‮❊ ‬الحريّة كلٌّ لا‮ ‬يتجزّأ.
‮❊ ‬لا أحدَ‮ ‬يولَدُ، كما‮ ‬يُريد أن‮ ‬يولَد.
❊ العبوديةُ الفكْرية، أسوأُ نَمَط منَ العبودية.
❊ السعادة صّحّة جيّدة وذاكرة ضعيفة.  
❊ لا آمُلُ في شيءٍ؛ لا أخافُ من شيء؛ أنا حُرّ.
❊ لا يريدُ معظمُ الناسِِ الحريّةَ حقًّا، لأنّ الحريّةَ تتطلّبُ مسؤوليّةً، ومعظم الناس يخافون  من المسوؤلية. 
❊ مَن يُضحّي بالحريّة من أجل الأمْن، لا يستحقُّ أيًّا منهما. 
❊ الحريّة لا تُمنَحُ، بل تُنتزَعُ انتزاعا.
‮❊ ‬إنَّ أُمّةً تَستعبِدُ أُخرى، لا‮ ‬يُمكِنُ أن تكونَ حُرّة.
‮❊ ‬كلُّ‮ ‬الكميّةِ‮ ‬المُعطاةِ‮ ‬منَ‮ ‬الحريّة في‮ ‬الوطن العربي‮، ‬لا تكفي‮ ‬كاتبًا واحِدا‮.‬
❊ إنّ العالَم العربيَّ يحتاج إلى مَلْيون شاعر، حتى يكتشفوا في رِمال الصحراء إبرةَ الحريّة.
❊ إنعدامُ الحريّة بمعناها الحقيقيّ، هو السببُ الأوّلُ لأمراضِنا الفكرية جميعا.
‮❊ ‬ومن نَكد الدنيا على الحرّ‮ ‬أن‮ ‬يرى‮ ‬ عَدُوّا له ما من صداقته بدّ
❊ ‬يقولون لي‮: ‬إذا رأيتَ‮ ‬عبدًا ‬نائمًا فلا تُوقظه لئلا‮ ‬يحلُم بالحريّة،‮ ‬وأقول لهم‮: ‬إذا رأيتُ عبدًا نائمًا أيقظتُه، وحدّثته عنِ الحرية‮.‬
❊ إنّ الحريّةَ، لا يُمكِنُ أن تكون شيئًا يأتي منَ الخارج. 
‮❊ ‬قد أختلفُ معك في‮ ‬الرأي،‮ ‬ولكنّني‮ ‬أُقاتلُ من أجل أن تكونَ لك حريّة التعبير عن رأيك‮.‬
❊  لا توجدُ الحريّةُ إلا مع القُوّة. 
❊ ‬ليستِ الحياةُ إناءً نُفرِغُه، إنّما هي‮ ‬كأسٌ نملأُها.
❊ لا شيءَ أبْقى من المحبّة.
❊ هل تعرِفُ ما معنى أنْ يعيشَ الإنسانُ؟ معناهُ أن يُشمِّرَ عن ساعديْه ويبحثَ عن المتاعب. 
❊ أنت لا تستطيعُ أن تقهَرَ الموتَ، ولكنّك تستطيع أن تقهرَ خوفَك منه. 
‮❊ ‬تكونُ الحياةُ أصعبَ، إذا عِشنا في سبيل الآخرينَ، لكنّها تكون أيضًا أغنى وأسعدَ. 
‮❊ ‬مأساةُ الحياة هي ما يموتُ داخلَ المرء، أثناءَ حياته.
❊ قد تُصبحُ الحياةُ رائعةً، إذا تركَك الناسُ وشأنك.
❊ الأحلامُ هي أجوبةُ اليوم، على أسئلة الغد. 
❊ الحبُّ الحقيقيّ، هو أن تُحبّ الشخصَ الوحيدَ القادرَ على أن يجْعلَك تعيسا.
❊ ما يصنعُ من الشهيد شهيدًا، هو القضيةُ لا الموت.
❊ إنّ الموتَ ليس هو الخَسارة الكُبرى، الخسارة الأكبرُ هو ما يموت فينا ونحن أحْياء.
❊ الحبُّ كالمَعِدةِ القويّة، يهضِمُ أيَّ طعامٍ وأيَّ كلام. 
❊ لم أنتظرْ شيئًا منَ الحياة، ولم أتوقّع شيئًا من أحد، فالحياةُ، في حدّ ذاتها، تكفيني. 
‮❊ ‬الدُّنْيا بدون أحلام،‮ ‬جافّةٌ مملّة.
❊ هدفُ الحياة الأسمى، ليس المعرفةَ بلِ الفعْل.
‮❊ ‬الحبُّ جُنونٌ مؤقّت، علاجُه الزواج. 
❊ ‬المحبّةُ والشكُّ‮ ‬لا‮ ‬يجْتمعان.

❊ عندما تُصبحُ القوانينُ ضَروريّةً للبشر، فهم عندَها غيرُ صالحين لأن يكونوا أحرارا.

في فيينا أو في كريات حاييم ، الفاشية واحدة لا تلين/ جواد بولس

عدنا إلى البلاد من رحلة مختلفة، كانت أقرب إلى صدفة قادتنا للنبش في عظام التاريخ وحماقاته.  
عندما هاتفتني ابنتي دانة كنا نطوف في شوارع مدينة فيينا من على متن حافلة سياحية يسمونها في عدة دول أوروبية "هوب آند أوف"، وهو في الواقع "باص" من طابقين، يتيح لمستعمليه زيارة معظم معالم المكان، مثل عاصمة "الهبسبرغيين"، والنزول في كل محطة والعودة منها، حسب الرغبة، على مدار أربع وعشرين ساعة.
سألتها برسالة خطية قصيرة تأجيل المحادثة، إلا إذا كان الأمر طارئاً، فلقد كنت أعلم أنها في مدينة العقبة الأردنية، تشارك في الجولة الثانية من ورشة عمل دراسية رعتها وترعاها كلية " كينغز" البريطانية وجامعة لندن.
كنا، في مطلع شبابنا، نترقب، كشحاذين للحب والجمال، زيارة مدينة الڤالس؛وأتذكّر كيف أتيناها أول مرّة ، قبل سنين، بصحبة "أسمهان" النادرة، التي خلّانا صوتها نحلم بطيور الجنة وهي تبكي وتغني في ليل مدينة يسكنها القمر.
كانت ڤيينا بالنسبة لي، لأسباب سرمدية، مثارًا لمتعة متمناة ولخيال مستفز . ولن أنسى كيف قابلتنا، في ذلك الخريف، ببرود وتكبّر ؛ حين جئناها، محملين بجيناتِنا، لنحاول تفكيك عقدنا الشرقية على عتبات "شونبرونوها"، ونستذكر غيث الحضارة في حدائقها، ونلهو على سلالم موسيقى دانوبها الشقي.   
"بابا، وصلنا أنا ودورون مطار ايلات لنطير عائدين إلى تل أبيب" ، كتبت لي دانه في رسالتها الأولى التي بدت قلقة، وأردفتها متألمة "غلّبونا كتير وعاملونا بطريقة حيوانية" .
 أخفيت ما وصلني عن عيني أمها وصديقينا، وتابعت قراءة ما كان يردني منها خلسةً ؛ فهمت أنها عادت من العقبة برفقة زميل يهودي يشاركها في الورشه اسمه دورون. وبعد أن "اكتشفت" موظفة الأمن في المطار  "عروبة" دانه و"يهودية"  دورون استنفرت وقامت بالتفريق بينهما على الفور ؛ فأدخلت دانة وحقائبها الى غرفة، وأبعد عنها دورون في غرفة أخرى.
مررنا في شوارع المدينة المليئة بتحف عمرانية تشهد كيف كان صولجان التاريخ ينتصب من حلق هذا المكان. كنائس بهندسات قوطية ورومانية وأخرى مبتكرة وحديثة، وكلها يحمل بصمات مَن بنوها، وتعكس تعاقب الدول وعقائد من حكمها وتجبّر ؛ وبجانبها، على ضفة الدانوب يستقر جامعها الكبير بمئذنتة التي ترتفع الى علو 32 مترًا .
بدأ يقلقني كلام دانه، فقد تركنا البلاد وأخبار اعتداءات الفاشيين اليهود على العرب تنتشر يومًا بعد يوم، وتصلنا تباعًا لتعكر صفو اجازتنا. 
قرأنا عن خبر اعتداء رجل أمن في مطار بن غوريون على مواطنين عرب دروز من قرية دالية الكرمل ورشّهم بالغاز ؛ وتابعنا صور  اصابات الشبان الثلاثة أبناء مدينة شفاعمرو وقصة نجاتهم بالصدفة من موت محقق بأيادي زمرة من الفاشيين هاجموهم في "كريات حاييم"  قرب حيفا. 
لقد تركنا وطنًا صارت فيه "الدانات" فرائس سانحة لكل متطرف وفاشي قد ينقض عليهن بلا رادع ولا تردد ولا وجل؛  خاصة بعد أن أفلت معظم المعتدين في الحوادث السابقة من العقاب ومن المحاسبة.
حاولت أن أشغل ذهني بجمال ما نشاهد، وبقساوة الطقس في ذلك النهار؛ فلقد وصلنا فيينا هذه المرة، ومعناها مدينة النسيم العليل، في منتصف آب ، ويقيني، هكذا تندّرت مع صديقي نبيل، الذي عانى من الحر  مثلي، أن "رامي" لم يزر المدينة في آب ؛ ولو فعل لأيقن أنها مدينة من نار وتراب ومن ماء وشراب، وأنها ليست من مدن الجنة كما تخيّلها في أغنية أسمهان الساحرة. فهي بقصورها ومتاحفها وجامعتها ومسارحها وأوبراها قد تكون شاهدة على نبوغ العظام، بيد أنها كانت مرارًا أخت الحماقة والهوان. ثم وإن كانت ولّادة للرقة ولجميع الفنون، فإنها كانت كذلك أمّا للطاعون وحصّادة للموت وللأسى ؛ تماما كسائر بنات التاريخ الكبير والأحمق، وكضحية لنزق مَن تصرّفوا كآلهة وعاشوا كخالدين لا يُقهرون.
"لقد حاولوا اذلالي وقهري. استمروا لأكثر  من ساعتين بالضغط عليّ بأسئلة شخصية ومهينة أحيانًا. اخذوا هاتفي وحاسوبي. لقد أخروا ميعاد اقلاع طائرتنا لأكثر من ساعة بسببنا" .
كان باصنا يسير ويقطع موقع الحي/الجيتو اليهودي ببطء، ليتوقف بعده مقابل بيت "زيغموند فرويد" في شارع بيرغاسي ١٩. قطع القاريء تقريره لينقل إلينا تسجيلًا نادرًا أجرته، في العام 1938 ، محطة الاذاعة البريطانية ( bbc) مع زيغموند فرويد بعد شهرين من وصوله إلى لندن هاربًا من فيينا ، التي ضُمّت إلى ألمانية النازية في ذلك العام.
كان فرويد هرِمًا قد تخطى عقده الثامن، وكان صوته حزينًا ومتعبًا لكنه استطاع أن يعبّر عن أمله في النجاة ؛ فلقد أطبق الوحش النازي فكيه على النمسا وقد كان يعيش فيها حوالي مائتي الف يهودي، معظمهم في فيينا. 
ازدادت الاعتداءات على جميع المعارضين السياسيين، ومن ضمنهم على الأقلية النمساوية اليهودية؛ وأعلنت الحكومة النمساوية سحب الحقوق المدنية من اليهود وقامت بتضييق الخناق عليهم. صارت حياتهم لا تطاق وسلامتهم غير مكفوله. 
قبل نهاية ذلك العام اضطرّ مائة وخمسة وثلاثون ألف يهودي للهرب من فيينا؛ وكان فرويد بينهم. وبقي فيها نحوٌ من خمسة وستين ألف يهودي، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى ثلاثة آلاف فقط. 
أُمطرت فيينا بالقذائف التي هدمت أكثر من ربع مبانيها؛ وحُررت في نيسان ١٩٤٥ بأيدي طلائع الجيش الأحمر الروسي، وأعلن استقلال النمسا الذي أصبح حقيقيًا في العام ١٩٥٥ فقط.
كنا نتناول فطورنا وقد امتزجت في احاديثنا اخبار الفاشيين، واختلط التاريخ بالحاضر وتداخلت تفاصيل الاعتداءات. قرأت رسائل دانه بنبضها المقلق وأنينها الموجع؛ وعلى الرغم من وصولها إلى البيت "سالمة"، شعرنا بالجرح الذي في صدرها، وعرفنا أن أخبار البلاد تشبه أخبار ذلك الخريف النمساوي.
كنا نتخيّل روائح الحرائق في أزقة حارات فيينا ونستعيد بحة فرويد اليهودي وهي تؤكد فوز العاجزين في الهرب ومجازات البطولة في البقاء ونصر الموت في المواجهة. 
ربما يعرف كثيرون أين بواطن القوة، لكننا نكون أحيانًا بحاجة الى نبش عظام التاريخ كيما نتذكر أن الحكمة في تصدي جميع الضعفاء والمستهدفين للفاشيين قبل أن يوثقوا أنشوطاتهم على الرقاب، فهذا هو هو قانون النصر الوحيد، لأن دين الفاشية واحد وقرابينها من الجثث والنازحين واحدة.
 مع وصولي إلى البيت شاهدت تسجيلا يتحدث فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، ايهود براك، يتّهم فيه حكومة نتنياهو بالفاشية ويعزز رأيه بإصابة حكومة أسرائيل باثني عشر عارضًا من أصل أربعة عشر، كان قد عدّدها صاحب رواية "اسم الوردة" الكاتب الايطالي أومبيرتو إيكو،  لتشخيص مرض النظام السياسي بالفاشية. 
أعرف ما سيقوله الكثيرون عن باراك وتاريخه، وهذا صحيح، ولكن سيبقى رأيه  مهمًا وتأكيدًا على ما ينتظرنا في نهاية المنزلق.
 لقد أجابت دانه محقيقها كما يليق بفتاة حرّة وبمحامية تعرّفت على السراب في دهاليز المحاكم والقوانين؛ لكنّها ستبقى إبنة لجيل يكبر في حضن أمل كسير.
ولقد غنت أسمهان لليالي الانس في فيينا عام ١٩٤٤ وكانت سماؤها تمطر حممًا، ورقصت على أبواب جنتها وكانت شوارعها من بارود ودم؛ إنه الفارق بين الحلم والألم أو ربما مجرد جموح للخيال في سماء المشرق. 
 فمتى سنصغي إلى صدى التاريخ  ونتعلم من دروس الهزيمة؟  عسانا نعرف ونوفق في انقاذ أولاد الريح وروّاد مستقبل وهم يمضون في دروب الكرامة والمستحيل ويتأرجحون بين  "رنين الكاس ورنة الألحان "  .

طُرُقُ أخرى إليها/ د. عدنان الظاهر


الطُرقُ الأخرى لا تُفضي
تحفُرُ أخدودا 
وتشقُّ الجُلمُودَ طريقا
في طينِ اللوحِ المختومِ رقيما
أجهدُ أنْ ألقاها
تصفّرُّ وتبتلُّ فتنشقُّ برازيخُ الخِلجانِ
النوءُ العالي فوّهةٌ يخمدُها بِركانُ
....
تتبدّلُ أزمانُ بروجِ جِداءِ العنزِ الخالي
تحملُ جِلْدَ الأفعى سُمّا
تنقُلُني من حدِّ المدِّ لأقصى أبوابِ الصدِّ
الطُرُقُ الأخرى تمكينُ أصابيعِ البلوى والحُمّى
تقلبُ ترفعُ تَمرضُ تشفى
تتفشى رَعْداً برقا
تتشفّى ... تتبعثرُ أفلاكا 
....
أسألُها عمّا في الزئبقِ من زنبقِ عينيها
أسألُ مِرآةَ الشَغَفِ المتحلّقِ فِنجاناً في شمسِ
حاورتُ الشمعةَ في عزِّ مُناخِ الظُلمةِ في الظلِّ
ناورتُ الدُرّةَ في نور تباشيرِالفجرِ
 صدّتْ عنّي ضاعتْ منّي
 أبحثُ عنها ظهْراً ـ بَطنا
فيما بي أو حولي
قالتْ دَعْني ... 
إني سِرُّالطينِ المختومِ رقيما .

العبرة/ بسكال بلان النشار


شقاوة في الحسن
نشاط في الحركة
هبة من الله، بركة
ساعية غاوية
للابتكار للفن
للبعد والتان...
ما الفكرة ...ما العبرة
ما هو السر الذي يسكنني!
أولدت ... لأجل قضية
أم أني ابتدعت لنفسي البلية؟
ها انا في حيرة؛
وضياع الهدف يلبكني...
لا تنضب ارادتي
فعشق الحياة رسالتي...
قلبي لا يجزع،
يبحث... يتوق الى الاسمى...
خوض المعارك هوايتي
صناعة الوفق والمحبة التزاماتي!
أتلقى... يمينا وشمالا، غدق الضربات
ويحي ويحي لا أتعلم... لن ارضخ...
لا تجذبني ثقافة الاستسلام
ان كان التطبع لها مبدأ...
تتبع قوانين المصالح والغدر
أيام بغيرالخبث لا تمر
والطعن وسيلة لكسر
العزيمة والعزيمة 
لا ولن تخضع...
ولدت.... وقد علمت
أن ولدت لدرب الهداية
ولن يحد الخوف بي ارادة،
أو يردع
إقدامي أنام بشر...
فأنا البساطة
استقي من فيض المحبة عناية،
أحلق الى كون لا يشبه 
ما في عيون الجشع، يتزاحم...
انا ريح هائمة - امواج عاتية
أنا نار لا يخمد فيها الجمر...
أنا قلب مسكون بالرأفة
عقل يرى ما تحجبه 
الأجساد المتماثلة...
أنا السمو والعزة
روح الروح بالخفة
أنا كل كلمة 
للفخر ...بالفخر تتراكم....! 

الخيانه/ روميو عويس

مهداة للشاعر الرائع زياد عقيقي

لو ما الحكي حبر القلم بيخون!..
ما بتلمع قوافي
وبيصير عالورقه شعر مجنون
ناعم.. حلو.. دافي
وعني اذا قالو: الجنون فنون ؟
شو هَمّ..لا تخافي
مجنون فيكي.. وبالحلا مفتون
وكلما كتبت شعر الغزل بيكون
عا مفاتنك لافي
وعَم مَرِّق شفافي


حينَ يشيخُ قلب اللّيل/ صالح أحمد

الفَجرُ لا يَدنو كَيانًا باتَ يَستَجدي الضّجَر
والنّورُ لا يَحلو لِعينٍ ضيّعت بالوَهمِ سِرَّ الإنعِتاق
يبقى الضّبابُ سِتارَ مَن ألِفوا دَهاليزَ الحَياة
وانبَتَّ عَنهُم ذلك الخيطُ المُمَوِّهُ بينَ مَوتٍ أو ضُمور
مَن يُهدِ جرحَ الأرضِ إن عَطِشَت نَداكِ أيا ينابيعَ الصّهيل؟
فِعلُ النّدى فينا تغرّبَ عن مَواسمِهِ...
                          تسلّلَ خلفَ غُربَتِهِ، تميَّزَ، واحتَرَق...
في خَندَق النّزَواتِ تَستَعطي بَراءَتَها عُيونٌ خانَها لونُ الوجودِ...
                                                        مَضَت تُعرّيها الرّؤى

دعني أصيرُ نِداكَ يا صوتَ الرّضا
وتَشرّبي نجوايَ أسرارَ الدّجى...
                  ليَشيخَ قلبُ اللّيلِ... يشرَبُني السّحَر
كم أعشَقُ النّغَمَ الصّبيَّ يصيرُ صوتَ السّالكين
وهَواتِفَ النّفسِ النّقيّةِ ترتَجي في بَثقَةِ النّور المَراقي
فَتَطَهَّري بالنّورِ يا نَفسي وذوبي في مَراقي الوَصلِ، في أفُقِ الحُبور
تَتَعَملَقُ الغاياتُ راعِشَةً على لَهَبِ انصِهارِك
مِن حرقَةِ القَلبِ المؤمَّلِ تَستَقي الرّوحُ السّكينة
تَهمي على وَعيي نَدى فِكرٍ سَما طُهرًا بِعُذرِيِّ الملامِح
ليموتَ ذَيّاكَ البريقُ المنطوي في كهفِ نزوتِنا الحَرون
لو أنّ لونَ الحبّ لوني... 
                              كيفَ يُنكرُني الطّريق؟
لو كانَ لونُ الفجرِ لونُكِ يا عُيون... 
                                ما كانَ يَسبيني البَريق!
لو أنّ روحي من ندى الأسحارِ تَقبِسُ شَدوَها... 
                                                ما صارَ عنواني الشّرود!
لو مُهجَتي من صَفوِ قلبِ الفجرِ يدفُقُ نبضُها..
                                                 ما عشتُ يُشقيني الصّدود !

هيّا سواقي الرّوح... مُدّيني بدِفئِكِ، 
حَرِّري قَلبي مِنَ الأملِ العَزوف!
أنا في مَهاوي الحزنِ أقبعُ تحرقُ الأشواقُ أيامي ويصدَعُني النِّدا
يا طائِرَ الأنسِ ادْنُ مني...
أنا مِن صَهيلِ الرّوحِ أنسجُ صَرخَتي... وصدى اللِّهاثِ الثّاكِلَة
قد أسلَمَتني غُربتي لليُتمِ... 
                      يُتمُ الرّوحِ في دنيا التّرّدّي
والشّوقُ يحرِقُ لَهفَتي..
ظمآنُ... يُدنيني، ويُقصيني... 
كؤوسُ الصَّبرِ مُفرَغَةٌ...
ومَوقِدُ مُهجَتي دوني...
ويُدنيني، ويُشقيني...
أظلُّ على مَشارِفِ صَحوَتي أعدو... لِظلّ سَكينتي  
ظمآنُ.. يُتمُ الرّوحِ يُهديني شَفافِيَةَ السَّراب
فألوبُ، يصدّعُني فَراغُ النّفسِ، يُثقِلُهُ فَراغي
ويموتُ طَيفي... كُلُّ خَمرِ الحُبِّ لا يُروي ظَمايْ
وأظنّني عالجتُ شَوقي ... تَستَفيضُ سَذاجَتي:
يا نابِضَ الحُزنِ ارتَشِف نَزفَ الرَّجا...
يَدعوكَ غَيثُ الحُبِّ كُن خَصبي... 
يسعى إليكَ الحُبُّ مِن عُمقِ المدى
دِفئًا إذا ارتَحَلَ الشّتا تَسقيكَ دافِئَةُ الدّموع...

سيميائية اللون وتاثيراته النفسية في لوحة الفنانة التشكيلية خيرة مباركي: مرآيا النفس/ كريم عبدالله

سيبقى الانسان يطمح دائما ان يرى ذاته وما مرّ في حياته من تداعيات واحدث , وسيبقى يلاحظ ملامحه كيف تشيخ بمرور الزمن وكيف تترك اخاديها على مسيرة حياته وكم من الحنين سينتابه كلما رجع الى الماضي بكل ما فيه من الام واحزان وافراح ونكبات تركت بصماتها واضحة في حياته . ربما البعض يمرّ عليه العمر مسرعا وهو لا يلتفت الى محطات حياته وكيف تسارعت فيها الاحداث وغمرها النسيان وتراكمت عليها هموم الايام وتعاقب السنين , ولكن هناك اناس دائما يسترجعون ويراجعون ايامهم ويكتشفون فيها اشياء جديدة ودلالات مستحدثة يراقبونها عن كثب ويحاولون تدوينها وتصحيح ما مرّ فيها من اخطاء ونكبات وهموم وتقييم لكل ما عاشه ويعيشه .

ان استخدام المرآة قديم جدا وان استخدامها جعل الانسان يندهش من صورته وملامحها وهو يتابع ملامحه كيف تتغير بمرور الزمن , فاصبحت المرآة مهمة في حياة الانسان سواء الرجل او المرأة , فهي محاولة يومية او شبه يوميّة تمارس لاكتشاف الذات وقراءة سطوة الاحداث علينا وفي اي اتجاه تسير حياتنا .

مرآيا النفس : هذه اللوحة المحيّرة والمستفزّة لمن يتعمّق في قراءتها بتجرّد والوقوف امامها ليفكّك دلالاتها الابداعية والنفسية , بالرجوع الى دلالتيها اللغوية نجد بان المرآيا هي جمع مرآة والاخيرة عبارة عن سطع عاكس لصورة الاشياء بالامكان ملاحظة انعكاساتها وقراءة ملامح كلما انعكس من خلالها , اما ( النفس  فتعرّف الروح البشرية بكونها جزءاً لا يتجزّأ من الإنسان، غير ماديّة أو محسوسة، أُطلق عليها مفاهيم عديدة من قبل الأديان المختلفة، ومن هذه المفاهيم: الروح، والعقل، واللاوعي )  . اذا نحن امام مرآيا عديدة حاولت الفنانة ( خيرة مباركي ) ان تشاهد من خلالها وتراقب النفس الانسانية بطريقة الرسم . نحن نعلم بان الشاعر عن طريق المفردة يستطيع ان يرسم لنا عوالمه بينما الرسّام عن طريق الالوان يرسم لنا عوالمه الخاصة به ويتركنا نبحث عن الجمال والابداع . الرسم كما الشعر هي محاولة اسقاط الذات على اللوحة يمارسها الفنان كلما داهمته الحياة بكل ما فيها من معانات يومية فيحاول تصوير ذلك ليعكس ما في داخله في محاولة تفريغ نفسي نتيجة الضغوط التي يمرّ فيها .

اللوحة عبارة عن شقّين يفصل بينهما نهر قادم من البعيد , الشقّ الاول اشجارها باسقة رشيقة تتعالى نحو الشمس , الشقّ الثاني اشجارها مائلة الاغصان متشابكة تكاد تلامس سطح الماء , هناك ظلال اشجار تخلّت عن طبيعتها المتشامخة فتركت ظلالها منحنية على سطح الماء وهناك اشجار خجولة مدّت اغصانها من اسفل اللوحة أبت الاّ ان تترك صورتها في اسفل اللوحة . النهر يأتي من بعيد يقسم اللوحة الى نصفين احدهما احتل المساحة الاكبر فيها بينما النصف الاخر كان متردد الحضور وتنزّ اشجاره على استحياء او هي كانت تصرّ الاّ ان تظهر ملامحها داخل اللوحة ( نفس الفنانة )او كانت مترددة في حضورها لكنها حضرت بقوّة وشاركت في هذا المهرجان اللوني .

 ان الرسم من الفنون القديمة استخدمها الانسان منذ فجر التاريخ ليعبّر عن طريقها على ممارساته اليوميّة ويصوّر انا خلجات نفسه ومايعتريها امام سلطة الكون وما فيه .

لو تأملنا اللوحة جيدا وحاولنا تفكيك دلالاتها الكثيرة فلابدّ من الوقوف امام اشجارها الكثيرة وطريقة رسمها , اشجار تتشامخ عاليا وجذور تمتدّ عميقا في باطن الارض وتقف على ارض صلبة . وبالرجوع الى الدلالات النفسية لألوان هذه الاشجار سنجد الوانا مختلفة تتدرج ما بين اللون الاحمر والاخضر الفاتح والاخضر الغامق والودري والبنفسجي والاصفر , اما اللون الازرق فشغل مساحة تكاد قليلة قياسا لالوان الاشجار . حيث اللون الاحمر يدلّ على الشجاعة والقوة والدفء والطاقة وغريزة البقاء على قيد الحياة هذا ايجابيا اما سلبيا فهو يدلّ على التحدي والعدوانية والتوتر . اما اللون الاخضر فهو يدلّ على التوازن والانسجام والانتعاش ومحبة الكون والراحة والتجديد والطمأنينة والسلام , اما سلبيا فهو يدلّ على الملل والركود والنمطية والضعف . اللون الوردي يدلّ على السكينة وراحة البال والرعاية والدفء والانوثة والحب والجنس وغريزة البقاء , وسلبيا يدلّ على الكبح والرهاب والاحتجاز العاطفي والعجز والضعف البدني . واللون البنفسجي يدلّ على السمو الروحي والاحتواء والرؤية والرفاهية والاصالة والصدق , اما سلبيا فهو يدلّ على الانطواء والكتمان والكبت والدونية . اما اللون الاصفر فهو يدلّ على التفاؤل والثقة وتقدير الذات والانشراح والقوة العاطفية واللطف والابداع , اما سلبيا فهو يدلّ على اللاعقلانية والخوف والضعف العاطفي والاكتئاب والقلق ومحاولة الانتحار . اما اللون الازرق فهو يدلّ على الذكاء والتواصل والثقة والكفاءة والطمانينة والواجب والمنطق والحكمة والتأمل والهدوء , بينما يدلّ سلبيا على البرود والعزلة وقلّة العواطف والجفاء .بينما نجد اللون الابيض دليلا على الصحة والنظافة والوضوح والنقاء والبساطة والحنكة والكفاءة , وسلبيا يدلّ على البرود والحواجز والبُعد والجفاء والتكبّر .

التأويل :

بالامكان تأويل النهر على انه الحياة المتدفقة منذ بدايتها حيث بدأ النهر ( الحياة ) ضيّقا واستمر في جريانه يتوسّع شيئا فشيئا , وكأن الحياة ابتدأت من مرحلة عمرية معينة والدليل ان النهر ابتدأ من مكان معين حدّدته الفنانة اي لم تبدا الحياة الحقيقة عندها من مرحلة الطفولة ( من نقطة البداية ) واستمرت في جريانها الى اجل غير مسمّى بدليل ان للنهر طريقا اخر لم ترسمه لنا وكأنها تركته للاقدار ترسم ملامحه وترسم نهاياته .ومن خلال اللون الابيض الذي لوّن ( النهر – الحياة ) نستشفّ كم كانت نقيّة وواضحة وكفوءة رغم ما تعرّضت له من اعتلال في الصحة حيث تراكمت فوق سطحه ظلال الاشجار ( مصاعب الحياة ) وصبغت مياهه بألوانها . النهر في اللوحة ( الحياة ) على جانبيه نجد مرحلتين عمريتين , فالجهة اليمني من اللوحة تعبّر عن فترة حياة غير محدد زمنها انتهت الى فترة المراهقة بدليل ان اشجارها لم تكن قوية وباسقة وتتطلع الى السماء ولم تحاول معانقة الشمس وان اغصانها متدلّية ومتشابكة لا تجيد لعبة السمو والارتفاع , ومن استقراءنا للالوان نجد ندرتها وغلبة اللون الاخضر حيث الطمأنينة والانسجام ومحبة الكون والسلام رغم فترة الحرمان وما رافقها . اما الجهة اليسرى ( حيث يوجد القلب لدى الانسان مصدر الحب والحنان – ربما هي مقصودة او عفوية ان يكون الجانب الايسر من اللوحة يحمل كل هذه الدلالات والجمالية والرموز) فنجد الاشجار قوية واضحة الملامح سيقانها مستقيمة مستمرة بارتفاعها نحو السماء , ربما هي سنوات العمر حيث النضوج الفكري والمعرفي وربما هي الافكار والاراء حين تستقيم وتصبح أشدّ بأسا تقف صامدة قوية لا تعبأ بالريح تقول لنا : انني هنا باقية وساحاول البقاء , استمع اليّ جيدا ستعرفني اكثر . هناك ارض صلبة تقف عليها الاشجار لونها بنفسجي تمتدّ بشكل مائل تخترق اكثر من نصف اللوحة وترتفع عن النهر دلالة على السمو الروحي والرؤية الواضحة والرفاهية والاصالة والصدق والجودة , تقول لنا الفنانة هكذا انا اقف على هذه الارض وانتمي اليها جذوري تجد راحتها في عمقها البعيد تصارع وتناضل من اجل البقاء .

هذه اللوحة اوحت لي بالكثير من الدلالات والافكار , ومنها محاولة رؤية النفس ( الافكار ) والبحث عنها بعد هذا العمر ومرجعتها , هي عملية رصد من خلال مخيلة ابداعية والغوص في اعماقها والبوح عن المسكوت عنه من خلال هذه الدلالات الكثيرة والمثيرة في هذه اللوحة . في هذه اللوحة نجد صورا متحركة وموسيقية تشعرنا بالراحة والطمأنينة والاستكانة لهذه الطبيعة نستشفّها من خلال صوت تدفق النهر وحركة الاغصان  . او هي محاولة تماهي ما بين النفس والطبيعة وطبعنة الانسان وأنسنة الطبيعة انتصارا لها ولجماليتها والبوح بمكنوناتهما والافصاح عمّا يستشعران به والانصهار والبوح والمكاشفة فيما بينهما واستلهام القوة والجمال والنقاء . انها عالم الفنانة ( خيرة مباركي ) لايمكننا تخيّل حياتها ( الطبيعة – الافكار ) من دون الوان , لانها حين ذاك ستكون جامدة باهتة لا حياة فيها ولا نتاج فكري او انساني وجمالي , ولتغيّرت اللوحة ( الحياة – الافكار – الطبيعة ) الى كابوس مرعب تعطينا شعورا بالخوف والرهبة .

الشيء الجميل حينما عرضت اللوحة على احد المرضى العقليين في مستشفى الامراض النفسية والعقلية التي اعمل فيها ( عبد الكريم رشيد – مريض لديه رقود لسنوات طويلة في المستشفى ويكتب الشعر العمودي ) قال لي : (( هذه اللوحة عبارة عن انثى / ساحرة الجمال / جنّة مبهجة / وعشق دائم ودماثة / وكم هائل من الجمال والاناقة / والشيء الجميل جدا طالبني بمنحه نسخة من هذه اللوحة وتزجيجها وتعليقها في غرفته لانها تبعث على البهجة ) .

واخيرا الذي اثارني في هذه اللوحة كمتلقي اربعة رموز / المرآة / النفس / السكّين , واللون الاحمر , لا ادري لماذا  تبادر الى ذهني قصة زليخة ونساء مصر منذ ان وقعت عيني على اللوحة وذكرت السكّين في طريقة الرسم و لماذا انتابني شعور غريب من هذا اللون الذي احتل مساحة كبيرة في اللوحة وفي نفسي وفي مخيلتي  ..! . وتساءلت بصمت : هل هي عملية جلد النفس او الاحساس بالحزن والخسارة بقصدية او بعفوية ما أوحى للفنانة ان ترسم هذه اللوحة المحيّرة ..؟ . سيبقى هذا السؤال وستبقى اللوحة تحتمل الكثير من التأويلات المختلفة حسب ذائقة المتلقي وصاحب الاختصاص واحساسه بالجمال وتفاعله الايجابي معها .

كانت هذه سياحة ممتعة جدا في رحاب الابداع سافرت معها بعيدا وعدت اليها , ولا ادري هل كنت قريبا ام ابتعدت كثيرا ..؟؟ .
           

كلمة في ”قُُبْلة بكامل شهرزادها“/ حسيب شحادة

جامعة هلسنكي ـ


إياس يوسف ناصر، قُبلةٌ بكامل شهرزادها. حيفا: منشورات مؤسسة الأفق للثقافة والفنون ج. م. ط. ١، ٢٠١٥، ١٦٤ ص. 

ولد الدكتور إياس يوسف نعمان  ناصر في قرية كفرسميع في الجليل الأعلى عام ١٩٨٤وأنهى المرحلة الثانوية في ترشيحا. حصل على الشهادات (ولا أقول الألقاب) الجامعية الثلاث بامتياز في الأدب العربي من الجامعة العبرية في القدس وعالجت أطروحة دكتوراته عام ٢٠١٧ سرد النسيب في الشعر العربي القديم، وأشرف عليها الأستاذان ألبير أرازي لبناني الأصل ومئير بار أشير مغربي الأصل. أما رسالة الماجستير فعالجت موضوع القضاء والقدر ومذهب المتعة في أدب الخمريات العربي القديم. 

ديوانه الأوّل ”قمح في كفّ أنثى“ صدر في بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام ٢٠١٢، أمّا الديوان الثاني أو المولود الثاني للشاعر فقد رأى النور بعد عمل جادّ دام تسعة أشهر،  وبين دفّتيه ثلاث وخمسون قصيدة قصيرة مكثّفة موزّعة  على مائة وأربع وستّين صفحة. من عناوين تلك القصائد: عين كارم، قانون پراڤر، شاعر عربي في ڤينّا، مرور، لست يوسف يا أبي، عيب، العشاء الأخير، أشتاقها، رحم، خارج عن المألوف، قلبي محبس، سافر معي، خرافة، حبق، يا حامل العود، صباح، سنبلة، ما بعد القصيدة. ويُهدي إياس ديوانه قائلًا ”إلى إخوتي الأحبّاء، مَن مثلي يعيش بخمسة قلوب...“.

تمتاز هذه القصائد بحسّ مرهف ثاقب، عاطفة متفجّرة، رؤيا معمّقة، لغة سليمة سلسة لا تحتاج لأيّ جواز سفر لدى قرّاء العربية وعاشقيها، بالرغم من كسر القواعد أحيانًا في الممنوع من الصرف إذ نقول: يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره؛ منها مثلا: لسنا عصافيرًا، ٢٣، عصافيرٌ ١٣٦، غنائما، ٣٣، أحمرًا، ٣٨، آخرٌ، ٣٨، ترانيمًا، ٦٣، تصاويرًا، ٦٩، بأصابعٍ، ٧٣، مكاتيبٌ، ٨٤، مشاعرٌ، ٩٥، آخرًا، ٩٨، حوّاءً، ١٢٠،بأساورٍ ١٣٠، قناديلٌ ١٣٦، مراسيلًا، ١٤٨، قصائدٍ، ١٥٦. 

تنصبّ مواضيع هذا الديوان في إطار الوطنية والحبّ بل والوله (استحسان فمودّة فمحبّة فخلّة فهوى فعشق فتتيّم فوَلَه) والمرأة ومناهضة القتل، قتل المرأة للحفاظ على ما يسمّى  بشرف العائلة. إنّ الأبيات المنتقاة لاحقًا هي خير دليل لما ذهبنا إليه.  وهذا الديوان كسابقه يعكس لبّ مخزون فكري وثقافي ثري وديناميكي، متعدّد الروافد فالشاعر قارىء نهم للأدب العربي والأدب الغربي ويعشَق لغتنا القومية، اللغة العربية المعيارية (Modern Standard Arabic, MSA) التي رضِع حبّها بل عشقها منذ نعومة أظفاره في البيت، فوالده شاعر ومدرّس مخضرم للغة العربية في ثانوية ترشيحا. وورد في الشعر:
ينبُتُ الصغيرُ على ما كان والِدُهُ                   إنّ الأُصولَ عليها ينبُتُ الشجرُ

ويدرّس الدكتور إياس ناصر العربية لغة وأدبًا في الجامعة العبرية وفي كلية داڤيد يلين للتربية في القدس الغربية. ولا تخفى على أحد ظاهرة تدهور مكانة العربية المتواترة بشقّيها المحكية والمكتوبة في البلاد منذ سبعة عقود والآن هبطت عليها ضربة قاضية متمثّلة بقانون الأساس، قانون القومية الذي صودق عليه في الكنيست مؤخّرًا والذي ”يمنح“ العربية مكانة خاصّة بعد أن كانت منذ سبعة عقود لغة رسمية ثانية بعد العبرية، على الورق تقريبًا فقط. جاء البند الرابع من هذا القانون فنسف كليًّا ما تبقّى من رسمية صورية للعربية في البلاد.
يتبوّأ الجليل مكانة مرموقة في هذا الديوان كما تُبيّن العينة الآتية من أسماء الأماكن في البلاد مع الإحالة لرقم الصفحة:
الجليل: ٢، ٤، ٦، ١٢، ٢٢، ٣٤، ٣٦، ٤٥، ١٠٦، ١٥١، حيفا، ٢٢، طنوطورا؟، ناصرة، عيلبون، سحماتا، ترشيحا، ٢، ٥،  عكا، يافا، ٥ يافا ١٠٦، القدس، ٨، ٩، صفد، ٩، كفر برعم، ١٢، ١٣، عين كارم، ١٦، ١٧، ٢٠، عين مريم، ١٨، النقب، ٢٢، ٢٣، ٢٥، ٢٦، بئر السبع، ٢٢، الشاغور، ٢، سخنين، ٢٢، فلسطين، ٢٢، ١٣٦، غزة ٣٢، ٣٣، الزيتون والتين والعنب، ١٦.

الوطن:

قلبي شراعٌ ببحرِ الحُبِّ يا وطني
فهل تخافُ عليَّ الموجَ والريحا!؟

إنّي الجليليُّ... عنقودٌ بداليةٍ  (لا أرى أيّ مسوّغ لوضع هذه النقاط الثلاث  مرّة والاثنتين مرّة أُخرى).
ووردةٌ فتّحتْ في الصخرِ تفتيحا، ص. ٢

دعني أُغنّي ...فلي في القدس مِئْذنةٌ
تُعانقُ الشمعَ في ترتيلة الأحَدِ، ص. ٨

طعمُ الحياة... هنا في القدس مختلفٌ
مثلُ الكتابةِ فوقَ الرَّمْلِ بالزّبَدِ ، ص. ٩

(أي أن الأوضاع متقلّبة غير مستقرّة، وقد يفهم من هذا أنّ ما يجري من تغييرات في معالم مدينة السلام لن تكتب لها الحياة).

أسيرُ في السوقِ كي ينسلَّ من لغتي
خيطُ الكلام... فأكوي قلبَ مُضطَهِدي، ص. ٩

 (العربية سلاح في وجه المضطهد الذي يتأنّف منها، إنّها عِماد الهوية والكيان).

هنا وُلدتُ ..هنا أطلَقتُ زقزقتي
هنا رفيقي.. هنا جدّي... هنا ولدي، ص. ١٠

هنا وُلِدْنا.. هنا عِشْنا... بموطِننا
هنا الجليلُ... حديثُ الدهرِ والأزلِ
هنا سنبقى... فلا كَفٌّ سَتَقْلَعُنا
ماذا انتفاعُكَ مِنْ هدْمٍ ومُعْتَقَلِ؟!!، ص. ١٢

ذُقْنا الأمرَّيْنِ...من أوْجاعِ نَكْبَتِنا
والمُرُّ يبقى لأجلِ الأرض كالعسلِ!، ص. ١٣
(في مثل هذه الومضات الشعرية يصدق القول: تفسيرُ الأشياء الجميلة‮ ‬يقتلُها).

حتّى غَدَوْتُ غريبًا فيكَ يا وَطَني
بيتي قريبٌ ...ولكنْ لسْتُ مقتَرِبا!
فيا لَحَجْمِ مآسينا ونَكْبَتِنا
حتّى بأرضي أعيشُ العُمْرَ مغْتربا!، ص. ١٨ 

(لا أمرّ من الشعور بالغُربة في مسْقط الرأس، وهذه هي الغربة الحقيقية ويُنظر لاحقًا).

لا عدْلَ في الأرضِ إلّا حينَ نُوجِدُهُ (أي أنّ العدل لا يهبُط من السماء كالمنّ والسلوى ولا يُمنح بل يُنتزع انتزاعا بالكدّ والتصميم).
ولا كرامةَ للإنْسان ما اغتُصبا، ص. ١٩

إنّ البيوتَ، وإنْ أصْحابُها رَحَلوا
تَبْقى الحِجارةُ عنْهُمْ خَيْرَ ما كُتِبا

ونحن نبقى كوجهِ الشمسِ في وطني
من جاء يَطْرُدُنا فَلْيحْتَرقْ غَضَبا!، ص. ٢٠

وللجليل بخاصّة والوطن ومحبته بعامّة والتشبّث به نصيب وافر وكذلك الغزل والدفاع عن الأنثى العربية والتنديد بجرائم ما يُدعى بشرف العائلة فالمرأة ليست بعورة، أنظر قصيدة ”عيب“، ص. ٥٢-٥٥، ففيها يقول الشاعر مثلا:

بل عيبُنا الشرقيُّ عيبٌ واحدٌ
أنّا نُجيد على الأنوثة قهرَها
شرفُ العروبة من قديمٍ ضائعٌ
وفلانٌ في ”عفراءَ“ يطلُبُ طُهرَها
فتناسلٌ وتكاثرٌ وتزاوجٌ
والعقلُ أعزبُ لم يُزاوجْ فكْرَها

(يا ليت يكون هذا العيب الوحيد! معنى ”عفراء“ في اللغة: أرض بيضاء لم تطأها قدم؛ الليلة الثالثة عشرة من  الشهر القمري؛ نوع من الغزلان، قارن ”عوفر“ بالعبرية. قد يكون المقصود هنا الشاعرة عفراء بنت مهاصر العذرية التي اشتهرت بحبّها لابن عمّها الشاعر عروة بن حِزام الذي أراد الزواج منها إلا أنّ أباها زوّجها لآخرَ فمات كمدا، إذن أين الطهر والعذرية وعفراء تزوّجت. علاقة جسدية جنسية بهيمية تفتقر لتزاوج الفكر والروح بين الطرفين).

وذكرياتي غيومٌ حين تُمْطرني
تبني العصافيرُ أعشاشًا على جسدي، ٨

طعم الحياةِ ...هنا في القدس مُخْتلفٌ
مثلُ الكتابةِ فوقَ الرملِ بالزّبَد،
أسير في السوق، كي ينسلّ من لغتي
خيطُ الكلام...فأكوي قلبَ مضطهِدي، ٩

(شبّه طعم الحياة في مدينة السلام التي يعيش ويعمل فيها الشاعر بالكتابة برغوة الماء على الرمل، أي لا يبقى لها أي أثر، شيء عابر، متقلّب لا ديمومة له، وهذا قد يعني أنّ كلّ ما يتبدّل ويُخلق في القدس من محسوس ومجرّد ما هو إلا إلى درب الزوال ذاهب فالحق يعلو ولا يعلى عليه).

هنا وُلدتُ..هنا أطلقتُ زقزقتي
هنا رفيقي.. هنا جدّي ...هنا ولدي، ١٠

هنا سنبقى... فلا كفٌّ ستَقلَعُنا، ١٢


ذُقنا الأمرّيْن ...من أوجاع نكبتنا
والمرُّ يبقى لأجل الأرضِ كالعسل!، ١٣

فيا لَحجم مآسينا ونكبتنا
حتّى بأرضي أعيشُ العُمرَ مغتربا!، ١٨

ونحن نبقى كوجهِ الشمس في وطني
من جاء يطردُنا، فليحترقْ غضبا!، ٢٠

كلُّ الدروب إلى أرضي مؤدّية
باقون فيها ...نلمّ الدهر والحِقبا...، ٢٠

وقيدكم على أيادينا
لأجل حقّنا
أساورٌ أساورُ...
ولن يمرّ براڤرُ، ٢٤

(مخطّط أو مشروع إيهود پراڤر وزير التخطيط يعود إلى صيف العام ٢٠١٣، كان يرمي إلى تهجير قرابة الأربعين ألف عربي في النقب وزجّهم في ”بلديات التركيز، أي الاستيلاء على أكثرَ من ثمانمائة دونم وتدمير ثمان وثلاثين قرية. نضال الجماهير العربية في البلاد أسقط هذا المشروع/المخطّط في أواخر العام ٢٠١٣). 

ولتفْحصوا عُمرَ التراب بأرضنا
نحن الثواني.. والدقائق والحِقَبْ...، ٢٦

وطني الحبيبُ على جبيني ساطعُ!، ٣٦

إنّي حزينٌ... أن تكونَ عروبتي
في الشام أو في مصرَ بحرَ مدامعِ، ٣٨
الحبّ بل أكثر:

إنْ كان من شفتيكِ حِبرُ قصائدي
فعلامَ أخشى أنْ تجفَّ دَواتي؟! ، ص. ٦٠

واسمعه يقول العكس في هذه الأبيات:

أنا لا أُجيدُ الشعْرَ يا عُصْفورتي
إنّي أمامَك دونَ بيتٍ واحدِ!

لا يستطيعُ الشعْرُ أن يبقى معي
إنْ قُبلةٌ هتفتْ وضمَّكِ ساعدي، ص. ٦٨

ويتابع الشاعر في قصيدته هذه ”حبيبتي والقصيدة“ فيقول إنّ القصيدة هي في الواقع ضمّ الشاعر لحبيبته ولو للحظة وحينها يرى البراعم حتّى في الصقيع البارد، وهل من صقيع غير قارس؟ الشعر يعني حبّ الشاعر الدائم لمحبوبته ففؤادها مسكنه ووسائده، ص. ٦٩-٧٠، وفي موضع آخر يذكر أن ”أحداق“ المحبوبة هي مسكنه ومأواه، ص. ٧٢، وفي سياق آخر يقول إنّ ”عيني الحبيبة“ هما مِخدّته، ص. ٧٦، ”زهرتا الياسمين“ هما النهدان، ص. ١٠٨،  و”العيون“ بيدر أشواق، ١١٨، وأرى أنّ التشابيه والاستعارات في شعر إياس ناصر تستحقّ بحثًا خاصّا. 

وتُحرّرينَ ...بقُبْلةٍ أعبائي، ص. ٧٦

عيناك...نهْرٌ أستحمُّ بنورهِ
فأنا عَشِقْتُكِ مُذْ بدأْنا نلتقي

أبْحرتُ في بحْرِ الهوى فوجدتُهُ
من غيْرِ شَطٍّ...كيْ أعودَ بزَوْرقي!، ص. ٩٢

آمَنْتُ أنَّ اللهَ أثبتَ نفسَهُ
بجمالِكِ الصدّاح لا التوْراةِ 

(جراءة نادرة، جمال حبيبته المزقزق بصوت عالٍ ومستمرّ برهان لوجود الباري وليس الكتاب المقدّس، ص. ١٠٣، ويبدو أن أحلى الكلام ما لا يُفسّر، ص. ١٢٢).

إنّي أُحبُّكِ.. ليس حُبّي خاتَمًا
بَلْ إنّ قلبي قبلَ كفّي محبسي!، ص. ١٠٦.

أنْ أرى ثَغْرَكَ المُعتَّقَ فوقي
قَلَمًا في الهوى...وجسْميَ دفترْ...، ص. ١٢٢.

فطَعْمُ أُنوثتي ملْقاكْ
وموْطِنُ قُبْلتي شفَتاكْ، ص. ١٢٧.
هذي فلسطينُ... لكنْ بعدَ موعِدِنا
قد صرتُ أَعرِفُ أنّي فيكَ يا وطني!، ص. ١٣٦.

لقد استمتعت بقراءة هذا الديوان وأظنّ أن الكثيرين سيشاطرونني الرأي ذاته.

عذوبة وصلاة وقناديل/ مادونا عسكر

(1)
ارمِ نفسك داخل القنديل
واخترق لظى النّور واحترق
غِب وأنت حاضر 
واحضر وأنت غائب
تمثّل بالجسد حين ينغمس في أبعاد التّراب
واحذُ حذو الرّوح الغارق في الجهات السّبع
الحقيقة أن تعشى 
لا أن ترى
أن تتجاهل الرّماد وتتسلّق حبال الصّلى
تبلغ قمماً يشعلها الماء
(2)
أَطفئ الشّمس لنرحل
ونلتقي 
قبل أن تتمرّدَ الطّرقات وتثور الأمكنة 
قبل أن يعيَ الزّمن قسوة الجمال، فيهجر ذاته ويلحق بنا
اللّيل ملاذ الرّاحلين
الظّلمة سراج الخطى نحو النّور حيث لا 
نرى، نبصر. نهتدي. نعاين. نقرع حتّى يُفتح لنا. 
وإذا بالوجه الّذي لا نعرف المجد لولاه
يبتسم ويعانق يقظة الكمال
(3)
إذا رأيتَ حسنَهُ مع الفجر بازغاً
تأدّبَ الحسُّ، تنقّى النّظر
وإذا هَمَّت روحُك تطرقُ أبواب الجمال
رَتَّلَ جبينُه ترانيم تسنيمٍ
يجري فوق يديه
يوقظُ في ضمير العشقِ
غبطةً
تكشفُ اللّغةُ بعضها
وتموت.
(4)
بين بحر وسماء
يلتفّ على نفسه
يتكوّر في ركن الحلم
ويفيض
كنور الصّباح الخجول
عذوبته صباح آخر
ذاك الّذي يليه مساء أنشودة الخلق الأولى، قبل أن مسّت يد الله التّراب، بعد أن
امتزجت أنفاسه بالحَسَنِ جدّاً
أُصغي إلى تطوافه حول النّجوم
أُنصتُ إلى قلبه المتجذّر في الأثير
المعلّق
بين بحر وسماء

ممنون يا الله/ روميو عويس

خود الدني كلاّ
وعيش الحياة عمار
لا مرَض لا آلآم لا أخطار
وشهد العسل انهار
عا كَيفَك تحَلّى
واشجار فيها اطيب الاثمار
حَولك بتدَلّى..
تْنَعَّم بنغمة اجمل الاطيار
وبْصَيدها تسَلّى
بس!.. في شجره من الاشجار
عن قربها تْخَلّى
لا تدوقها.. وحزار!..
طاعتي ولاّ!..
الموت.. وجحيم النار

آدم الموت ختار
وساب الدني كلاّ
وممنون يا الله

منظمة التحرير الفلسطينيه - م ت ف - ماض ساطع، حاضر مؤلم ومستقبل مجهول!/ رائف حسين

كثرت في الاونه الاخيرة المقالات والدراسات التي تتنبأ بنهاية منظمة التحرير الفلسطينيه وانطفاء شمعتها التي أضاءت طريق النضال الفلسطيني منذ تأسيسها بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الاول بالقدس عام 1964. 
هذه التنبئات لا تأتي من فراغ، بل هي نتاج استخلاصات ما مرت به م ت ف من عمليات تهميش داخلي وخارجي وحرب ضارسه على مؤسساتها كانت أطراف فلسطينية مختلفه مشاركة بهما وما زالت حتى الان… 
في ربع القرن الماضي تعرضت م ت ف لضغوطات خارجيه اجبرت قيادة ألمنظمه على الاعتراف بدولة اسرائيل قبل ان تعترف الاخيرة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته على ما تبقى من فلسطين التاريخية التي احتلتها هذه الدوله عام 1967 وقبل ان تحدد حدودها الجغرافيه وتُعَّرِف من هو شعبها… واستدرجت هذه الضغوطات، العربيه والغربيه، قيادة م ت ف لتغيير الميثاق الوطني الفلسطيني قبل إنهاء الاحتلال وفِي ضَل مشروع ضخم هائل في زيادة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتله ودون اَي ثمن يذكر من قبل دولة الاحتلال!
في الفترة الزمنية ذاتها زاد تهميش م ت ف ومؤسساتها بتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينيه عام 1994، التي أصبحت في عيون وتصرفات الفصيل المهيمن على هذه السلطة البديل العملي للمنظمة وتداخلت مسؤوليات مؤسسات السلطة الوطنيه بمؤسسات م ت ف ولَم يعد بإمكان المراقب العادي ان يرى الفرق بين السلطة والمنظمة…هذا كان برأيي الإنجاز الأعظم لمهندسي مسار اوسلو الذي ادخل الحالة الفلسطينيه بجميع مكوناتها البشرية والمؤسساتية في صراع بقاء لم ينتهي بعد… 
في هذه الفترة ايضاً تشرذمت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية… فتح كبرى الفصائل، وقعت في فخ السلطة والدولة ولَم تستطع ان ترسم لها استراتيجية مسك العصا بالوسط بين كونها حزب السلطة التي تمثل فقط جزء بسيط من أبناء الشعب الفلسطيني والفصيل الأهم في م ت ف التي تمثل عموم الشعب الفلسطيني بكل أماكن تواجده، وأدى هذا الانفصام الى انشقاقات وابعاد في صفوف حركة فتح واضعافها وتحولت من حركة عتيدة متماسكة الى مول سياسي يتكون من دكاكين لرموز الحركة أو كما اسميه ( shop in shop) … 
فصائل اليسار الوطني واليسار اللبرالي تحولت من شريك الى تابع ولَم تفلح بالخروج من المأزق الذي وجدت نفسها به بعد تأسيس السلطة الفلسطينيه وأصبحت كتلة تجاذب بين حركة فتح والسلطة وبين تيار الاسلام السياسي بقيادة حماس. وبعد الانقسام السياسي والجغرافي والاجتماعي نتيجة الانقلاب المسلح الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزه وتأكل الشرعيه للرئيس محمود عباس وسلطته تفاقمت أزمة اليسار الفلسطيني وأصبح طابه في ملعب الطرفين المهيمنين على الحالة الفلسطينيه. 
حركة حماس لعبت دوراً أساسياً في أضعاف م ت ف وتأكل هيبتها بالداخل والخارج…حماس وضعت منذ تأسيسها عام 1988 صوب أعينها احتمالين: اما الاستيلاء على منظمة التحرير واسلمتها بما يتناسق مع أيدلوجيتها الاخوانية، أو إيجاد بديل للمنظمة تقوده هي وينضم لها بعض الفصائل الوطنيه والاسلاميه من خارج ومن داخل م ت ف… كلا الاستراتيجيتان لم يتكللا، رغم محاولات عديدة، حتى الان بالنجاح …حماس تعمل ومنذ سنوات وفق استراتيجية توفيقية جديدة مفادها الإبقاء على السجال حول انضمامها لمنظمة التحرير مفتوحاً مقدمة نفسها "صِمَام أمان لوحدة الصف الفلسطيني ورافعة راية النضال ضد الاحتلال" وبالوقت نفسه تبني حماس في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بالعالم مؤسسات واتحادات وجاليات وأطر موازية لتلك التي بنتها م ت ف وفصائلها… حماس لم تُبْقي فقط على تشككها بوحدانيه التمثيل للشعب الفلسطيني الذي احتلته م ت ف منذ تأسيسها وثبتتها بنضال فصائلها العسكري والسياسي على مدار أربعة عقود ونيف، بل انتقلت الى وضع علامة سؤال على شرعية المنظمة وقيادتها للشعب الفلسطيني. 
هذا الواقع المؤلم للحالة الفلسطينيه بشكل عام والوضع المزري الذي وصلت اليه م ت ف هو نتاج اخفاق فلسطيني داخلي كامل قبل ان يكون نتيجة حتميه لتغيرات عالميه واقليميه كما قراها البعض…
هذا الواقع ليس تطور جدلي لماضي منظمة التحرير …صحيح بان ماضي م ت ف لم يكن دائماً نبراس للقياده الحكيمة ولا منارة لديمقراطية المؤسسات، لكنه كان ماضي حافل بالنجاحات التراكمية … في الماضي استطاعت م ت ف انتزاع اعتراف عالمي بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وثبتت قضية فلسطين في المحافل الاقليميه والعالميه وأوصلت القضية الفلسطينيه الى كل بيت في العالم وثبتتها كمفتاح لأي حل مستقبلي في الشرق الاوسط واستطاعت انتزاع حق تمثيل شعب فلسطين من الوصايه العربيه التي تأمرت عليه طويلاً… وأصبح النضال الفلسطيني من اجل حق تقرير المصير محطة الهام لحركات التحرر في جميع أنحاء العالم. 
رغم الإخفاقات العديدة التي سجلها تاريخ م ت ف وقيادتها الا ان ماضيها الساطع ونجاحاتها العديدة جعلت منها في عيون ووجدان الشعب الفلسطيني ليس فقط ممثلاً سياسياً شرعياً لا يمكن تجاوزه من احد، بل أصبحت منظمة التحرير الفلسطينيه تمثل عموداً فقرياً اساسياً في الهوية الوطنية الفلسطينيه… وهنا يكمن الخطر عندما يتنبأ البعض عن نهاية م ت ف! وهنا تكمن ايضاً مسؤولية المحافظة على م ت ف وتجديدها برنامجاً وبنيوياً …
مستقبل منظمة التحرير الفلسطينيه التي نعرفها اصبح مجهولاً ولا احد يستطيع بمساعدة ذكريات الماضي وحقائق الواقع ان يقرأ في الفنجان أين سترسي علية مسيرة م ت ف… النداءات التي تطلقها بعض الفصائل الفلسطينيه وبعض الشخصيات الوطنيه والتي نسمعها منذ ربع قرن مطالبة بإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير وإعادة الاعتبار لها، رغم مصداقيتها واهميتها، الا انني أضعها انا شخصياً في خانة الأمنيات وليس في خانة الإمكانيات وذلك للاسباب التاليه: 
اولا يفتقد الخطاب الاصلاحي الذي تتبناه وتتداوله كل الفصائل الفلسطينيه الى المصداقيه… ليس من باب القناعه الذاتية عند الفصائل باهمية إصلاح م ت ف ومؤسساتها…انا على قناعة تامة بان جميع الفصائل، اعضاءاً وقيادات، تؤمن باهمية الإصلاح وتطوير المرجعية الفلسطينيه، لكن هذا الايمان لا يتم ترسيخه عبر عمليه اصلاحية تطويرية داخلية في الفصائل لاقناع الجماهير بان نداءات الإصلاح ليست فقط شعارات رنانه، بل برنامج يمكن تحقيقه! جميع الفصائل الفلسطينيه وبدون استثناء تسمح لأعضائها ان "يمارسو لعبة الديمقراطية" لكنها في واقع الحال تعيش حالة دكتاتورية المؤسسين وتَمَسُك اقليه من المعمرين بمراكز القرار بجميع الفصائل الفلسطينيه المنتميه الى منظمة التحرير… ونرى الدكتاتوريه والتمسك بالكرسي في هذه الفصائل رغم إخفاقاتها المتتالية …إخفاقات بالسياسه وإخفاقات بحضور ومكانة الحزب أو الحركة وإخفاقات بالانتخابات البرلمانية والبلدية وبدل ان يتحملوا هؤلاء مسؤولية هذه الإخفاقات ويضعون مصلحة التنظيم فوق مصلحتهم الشخصية تراهم يتشبثون بمواقعهم ويزيدوا من قوة تأثيرهم داخل مؤسسات الحزب عبر المحسوبية والولاء الأعمى لهم من قبل أبناء وبنات التنظيم… فكيف يستطيع هذا القيادي ومعه تنظيمه ان يقنع المواطن العادي انه يطمح بدمقرطة مؤسسات م ت ف وترميمها ان يضع المصلحه الوطنيه فوق المصلحتين التنظيميه والشخصية؟ باختصار أصبحت مصداقيه القيادات الفلسطينيه في فصائل م ت ف عند الجماهير تقارب الصفر. 
ثانياً نداءات اعادة الاعتبار لمنظمة التحرير وأعاده بناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية وأسس سياسيه جامعه، رغم صداقتها، الا انها نداءات رفع عتب ليس الا كونها لا ترتكز على تقديم برنامج سياسي جديد لمنظمة التحرير يأخذ بعين الاعتبار كل المستجدات التي حصلت بالوطن وبالاقليم وعلى الساحة الدولية. 
البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية فقد مفعوله وهنا لا اقصد الثوابت الفلسطينيه والخطوط الحمراء بل البرنامج السياسي الذي يتعاطى مع الواقع الحالي للبشر والحالة السياسيه الجديده بالوطن والإقليم…البرنامج السياسي لم يعد القاسم المشترك العريض لعموم الفصائل الفلسطينيه؛ فنحن الان نرى ان فصائل مهمه اصبح النضال الفلسطيني بأشكاله المختلفة عبئاً عليها وأصبحت ترى في التنسيق الأمني مع الاحتلال ملاذ لها وهنالك فصائل ما زالت تسمي طخطخة فشة الخلق كفاح مسلح ولا تجرىء على رسم استراتيجية جديده لهذا النضال تتماشى مع الوقع الجديد في الوطن… واُخرى نراها تتمسك بالنستالجية الثوريه خوفاً من الإعلان عن افلاسها السياسي والنضالي… وهناك قسم اخر يستعمل استراتيجية التكلم بلسانين أو كما اسميها علمياً inside outside strategy، لنتابع كيف يتكلم ويخاطب هذا الفصيل السياسي الغرب ودولة الاحتلال وكيف يخاطب جماهير الشعب بلغتين مختلفتين خوفاً من يعرى سياسياً كونه لا يملك برنامج سياسي واقعي واضح. 
قبل الحديث عن اعادة بناء م ت ف علينا ان نضع الأسس السياسيه لإعادة البناء وان نشتق منها استراتجيات نضال تأخذ بعين الاعتبار المستجدات بالوطن والإقليم وإلا بقيت نداءات التنظيمات الفلسطينيه رفع عتب ليس الا.
الحالة الفلسطينيه تمر الان بمرحلة تكلس قيادي مخلوط بضياع استراتيجي سياسي محاط بتكتيكات نضالية ترسمها غريزة ردة الفعل بدل العمل النضالي المبرمج الدؤوب والمدعوم بإستراتيجيته سياسية واضحة متفق عليها من الأكثرية السياسيه.
منظمة التحرير الفلسطينيه ليست فقط الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بل هي العمود الفقري للهوية الوطنيه الفلسطينيه قبل كل شيء.