حاضرٌ عربيٌّ سيّء.. فماذا عن المستقبل؟!/ صبحي غندور

ليس الجهل بمعناه العلمي، هو فقط مشكلة تتراكم في البلاد العربية ودول العالم الإسلامي عموماً، بل أيضاً هناك حال "الجاهلية" التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة منذ قرونٍ من الزمن حيث توقّف فيها الاجتهاد وسادت فيها قيودٌ فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر "الجاهلية"، وهي مسؤولة بشكل كبير عن حال العرب والعالم الإسلامي اليوم.
هنا تكون مسؤولية الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لا في تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط، بل بالمساهمة أيضاً في وضع أسسٍ لنهضة جديدة، ترفع الأمّة العربية من حال الانحطاط والانقسام والتخلّف إلى عصر ينتهج المنهج العلمي في أموره الحياتية ويعتمد العقل والمعرفة السليمة في فهم الماضي والحاضر وفي بناء المستقبل، وفي التعامل مع ما يُنشر من فتاوى ومسائل ترتبط بالعقائد الدينية.
ولقد أثبتت العقود الأربعة الماضية، أنّ بديل الهُويّة العربية، الحامل للتسميات «الدينية»، لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق وطوائف، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو حتّى من اتّجاهٍ سياسيٍّ آخر!
وكما فشل هذا البديل الموصوف بتسمياتٍ دينية، في توحيد شعوب الأمّة العربية، فقد عجز «البديل الوطني» وحده أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. إذ لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ تهميش الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين في هذه الأوطان، ولكيفية العلاقة مع الآخر أيّاً كان.
فتعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة، على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، لكي يتحقق مفهوم "المواطنة" في الوطن الواحد ولكي يتعزّز الولاء الوطني الصحيح.
إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة، تبني النموذج الجيّد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبلٍ أفضل يحرّر الأوطان من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً، عن قصدٍ أو عن غير قصد، لسياساتٍ أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.
نعم هو حاضرٌ عربيٌّ سيّء، لكن ماذا بعد وماذا عن المستقبل؟! وهل الحلُّ في السلبية وفي الإحباط وفي الابتعاد عن السياسة وعن أيِّ عملٍ عام؟!. وهل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل سيصلح الإحباطُ واليأس، الأوطانَ والمجتمعات ومستقبل الأجيال القادمة؟!
الحقيقة هي بشكلٍ معاكس، أي أنّ الابتعاد عن القضايا الوطنية وعن العمل العام سيزيد من تفاقم الأزمات ولن يحلّها، وسيصنع الفراغ المناسب لمنتفعين ولمتهوّرين ليملأونه بمزيدٍ من السلبيّات، وسيترك الأوطان والمجتمعات فريسةً سهلة للطامعين بها، وسيضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق إذا ما انحصر "العمل السياسي" فيها أو النشاط العام على أصحاب المفاهيم والأطر والأساليب الانشقاقية.
كذلك، فإنّ الحلّ ليس طبعاً في مزيدٍ من التهوّر، ولا هو في الانقياد للعنف المسلح، الذي يُدمّر الأوطان ووحدة الشعوب ويخدم دعاة التقسيم والتدويل لأزمات المنطقة. الحلّ أساسه وقف حال الانهيار الحاصل في وحدة المجتمعات وبناء البدائل الوطنية السليمة، على مستوى الحكومات والمجتمع المدني معاً. فشعوبٌ كثيرة مرَّت في ظروف مشابهة لكنّها رفضت "الموت السريري" البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها. 
وبمقدور الأوطان العربية أن تحقّق خطواتٍ على طريق الأمل بمستقبلٍ أفضل لو وضعت باعتبارها التمييز المطلوب في حركات المعارضة ما بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية، ثمّ التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه. كذلك التمييز مطلوبٌ بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر التكتّلات الكبرى. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له. الأمَّة العربية بحاجةٍ أيضاً للتمييز بين قدرة العرب على تصحيح انقساماتهم الجغرافية، وبين انقساماتهم التاريخية في الماضي التي ما زال البعض يحملها معه جيلاً بعد جيل، ولا قدرة له أصلاً على تغييرها!.
إنّ العودة العربية للتمسّك بالهُوية العربية المشتركة هي حاجةٌ قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاونٍ عربيٍّ مشترك وفعّال في المستقبل.
إنّ العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل هي عودةٌ إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية. ومن دون عروبةٍ جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة.
إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل. 
إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" مقابل "فكر ديني"، تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي. فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.
إنّ "الهويّة الثقافية العربية"، كلغة وثقافة، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرناً من الزمن، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، وبالأصول العرقية للقبائل، وبمواقع جغرافية محدّدة .. بينما العروبة – كهوية انتماء حضاري ثقافي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب. فهكذا أصبحت "العروبة الحضارية" هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها ل"العربي"، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من حيث اعتبار الأقليات الدينية في المنطقة العربية نفسها كجزء من الحضارة الإسلامية، ومن حيث تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق.

بالقلم السريع/ شاكر فريد حسن

الهجوم غير المسبوق على رئيس لجنة المتابعة العليا القائد والمناضل الصديق والأخ محمد بركة غير مبرر ، ويصب في خانة العداء الشخصي والحزبي والتصفية الفكرية ، فتاريخ هذا الرجل لا غبار عليه ، وزاخر بالكفاحات والمواقف الوطنية والتضحيات الجسام ، ويشهد له القاصي والداني ، الصديق والعدو، وهو أحد القيادات الحريصة على وحدة العمل الوطني الوحدوي الكفاحي المشترك ، والدفاع عن القضايا الوطنية والمصيرية لشعبنا الباقي في أرضه ووطنه ، وشتان بينه وبين سيسي مصر ، وبين النقد الايجابي البناء ، وبين التهجم والعداء الشخصي ، فكفى تهجمات على هذا الشخص الذي أثبت أنه اهل للثقة والقيادة والاكثر حرصًا على المتابعة والعمل الوطني المشترك ومستقبل جماهيرنا العربية وقضاياها الوطنية واليومية .
...........................
المطلوب اعادة بناء الحركة الوطنية في الداخل والنهوض بها ، وترتيب الأوراق من جديد ، وتجديد الخطاب السياسي والوطني برؤية معاصرة على ضوء التطورات والمتغيرات السياسية على الساحة المحلية والعربية والعالمية ، مع نقد ذاتي لكل الظواهر السلبية التي رافقت العمل السياسي والوطني خلال العقدين الأخيرين واستخلاص العبر من وأد القائمة المشتركة والاستفادة مما جرى وحدث خلال الانتخابات الأخيرة للانطلاق نحو المستقبل ، وتعميق الثقافة السياسية بين الشباب العرب الفلسطينيين ، وجذبهم نحو العمل السياسي والحزبي ، بديلًا عن ثقافات النرجيلة والسمارتفون والقبلية المقيتة ، وتعميق الفكر الايديولوجي الطبقي بين جمهور العاملين والكادحين بفعل الاستشراء الاستغلالي الوحشي ، ووضع خطة واقعية وتطبيقية لمواجهة سرطان العنف المتفشي في جسد مجتمعنا العربي .



أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا؟/ آمال عوّاد رضوان


مَا أُحَيْلَاهُ مُرّكِ .. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ
كَأَنَّ رَحِيقَكِ .. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا
يَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ
لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي
لِتَجْبِلَكِ عُيُونُ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ!
أَيَا صَانِعَةَ شِعْرِي
يَا أَرَقَّ مِنْ نَرْجَسَةٍ اشْتَمَّهَا شَاعِرٌ
فَغَدَا مَلَاكًا
وَيَا أَشْهَى.. مِنْ إِطْلَالَةِ صُبْحٍ
تَلْفَحِينَ بِعَبَقِكِ .. مَنْ يَمُرُّ بِوَهْجِكِ! 
لِإِشْعَاعِكِ .. سِمَةُ النَّفَاذِ مِنْ تَحْتِ الْمِكْيَالِ 
كَدَفْقَةِ ضَوْءٍ .. تَسْتَرْسِلِينَ مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِي!
هَـتَـفْـتُـكِ ذَاتَ لَهْفَةٍ .. أَيَا جَنَّةَ فُؤَادِي
اُبْذُرِي حُرُوفَ سَمَائِكِ .. فِي مَسَاكِبِ نُورِي 
وَعَلَى ضِفَّتِي الْأُخْرَى
اغْرِسِي سِحْرَكِ.. فِي وَاحَاتِ نَقَائِي!
أَيَا زَهْرَةً عَصِيًّةً عَلَى أَنْفَاسِ الْبَشَرِ إِلَّايَ 
وَلَا تَطَالُكِ .. إِلَّا عَيْنُ اللهِ!
أَنَا مَا اسْتَهْوَانِي.. إِلَّا أَرِيجُكِ
كَمْ مِنَ الزَّنَابِقِ تَتَعَشَّقِينَ .. لِتَخْتَصِرِينِي مَجْنُونُكِ؟
يَا مَنْ لِحُضُورِكِ الْبَذْخُ
كَحُضُورِ مَلِيكَةٍ كِنْعَانِيَّةٍ 
كَأُسْطُورَةٍ تَتَبَخْتَرُ فِي خَيَالِي
مِنْ حَوْلِكِ مَلَائِكَةٌ تَتَمَخْتَرُ.. فِي سُبْحَةِ تَرَاتِيلِكِ
وَرُوحُكِ تَتَجَلَّى.. فَوْقَ يَاقَةِ حُلُمِي!
أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟
أَتَحْرُسِينَكِ مِنِّي.. أَمْ تَحْرُسِينَنِي مِنْكِ؟
مُطْفَأٌ.. سِرَاجُ قَلْبِي .. فمَنْ يُنْفِقُ وَقْتَهُ 
يُوقِدُ فَانُوسًا فَقَدَ فَتِيلَهُ .. أَو أَتَى الْهَجِيرُ عَلَى وُقُودِهِ؟
أَيَا غَابَةَ ضَوْئِي 
مَنَافِذُكِ كُلُّهَا مُغْلَقَةٌ .. وَلَنْ يَكُونَ لِي أَوَانٌ آخَرُ
مُعْتِمًا يَصْحُو وَقْتِي .. يَشِيبُ بِعِنَادِكِ
لَيْلِي يَتَقَصَّفُ .. مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأَزَلِيِّ!
غَدي دُونَكِ.. بِتُّ أَسْتَقْبِلُهُ بِحُطَامِي
ومَجَّانِيًّا .. غَدَا تَفَاؤُلِي لَا يَنْبِضُ بِأَنْفَاسِ غَدِكِ
وَمُذْ مَضَيْتِ .. فَقَأَتْنِي عُيُونُ أَكْوَانِي
وَفَوَانِيسِي.. الْــ عَهِدْتُها تَلْتَقِطُ مِنْ مَحْجَرَيْكِ.. وَهْجَكِ
تَعَرَّتْ.. مِنْ أَهْدَابِ خُضْرَتِكِ
وَبَاتَتْ خَرَائِطي فَوْضَوِيَّةً
لَا تَعْرِفُ التَّمَرُّدَ إِلَّا.. عَلَى يَبَاسِ خَيْبَاتِي!
بِضِحْكَاتٍ قُرْمُزِيَّةٍ .. أَجْهَشَتْ رَقْصَةُ زُورْبَا 
تُحَاكِي أَطْلَالِي .. تُجَبِّرُ مَا بَطُنَ مِنْ كُسُوري
فِي هَوَامِشِ خَطوي!
ضِحْكَاتُكِ الْـــ .. تُقَدِّسُنِي .. بِعَبَثٍ تئِنُّ!
أَنَامِلُكِ..  تَرْعَى كُؤُوسِيَ الْمَخْمُورَةَ
فَيَغْفُو لُهَاثُ لَيْلِي .. عَلَى أَهْدِابِ غِيَابِكِ!
هَا زِئبَقِي راكِدٌ.. فِي قوارير عُزْلَتِي
يُومِضُكِ حَكَايَا جَامِحَةً .. في فَجْوَاتِ زَمَانِي!
وَهَا أَنَا 
لَا أَخْنَعُ لتَمَوُّجِ جِرَاحِي .. ولَا أَصْدَأُ بِمُرِّ صَمْتِكِ!
أَمَا مِنْ سُلْطَانٍ لَكِ .. يُفْضِي إِلَى خَرَائِبِ سَقْطَاتِي؟
لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ 
تَتَرَجْرَجُ.. تُلَامِسُ أَشِعَّتي .. وَتَتَوَغّلُ فِي فُيُوضِ تَقَرُّبِكِ
لكنَّ تهَرُّبَكِ 
يَفْتِكُ بِحَمَائِمِ أَعْشَاشِي .. يَقْضِمُ صَوْتِي الْمُتَعَسِّرَ فِي خَرَائِبِهِ
مُذْ فَطَمَتْنِي عَنَاقِيدُ نَارِكِ!
هَا نِصْفِي السَّمَاوِيُّ غَطَّ .. فِي تَفَحُّمِ ذَاكِرَتِي النَّيِّئَةِ
يَحْرِقُ هَوَائِيَ الْمُمَغْنَطَ .. بِقَبْضَةِ صَمْتِكِ الصَّاهِرِ
قَلْبِي بَاتَ يَرْتَعِشُ.. يَفُكُّ أَزْرَارَ بَحْرِكِ
يُلَوِّحَ لِي بِأَكْمَامِهِ الْمَبْتُورَةِ .. يَهْدُرُ: 
أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا.. فِي حَقَائِبِ الْهَجِيرِ؟

لوحدنا لا نستطيع ولكن بدوننا لا يمكن أن يحدث التغيير/ جواد بولس


   شارك النائب أيمن عودة مساء السبت المنصرم ، 25/5/2019، في المظاهرة الضخمة التي دعت إليها أحزاب المعارضة اليهودية من أجل الديمقراطية وضد فساد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفائه الذين يخططون لتشريع قوانين من شأنها أن تعطّل مكانة المحكمة العليا ودور القضاء القضاء، وأخرى تضمن حصانته وحمايته من تقديم لوائح اتهام ضده قد تفضي إلى إدانته في المحاكم والحكم عليه بالسجن الفعلي.
لو لم يلبّ النائب عودة دعوة المنظمين للمشاركة في هذه المظاهرة الهامة ولو أصغى لمن حثّه على مقاطعتها، أو لمن ضغط عليه خلسةً، أو زايد عليه جهارًا، لأثبت أنه غير جدير بالموقع القيادي الذي يتبوّه ، ولا أهلًا  لآمال أولئك الذين يدعمون "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" وهي الاطار السياسي الأوسع جماهيريةً بين المصوّتين العرب للكنيست الاسرائيلي، والداعي إلى ضرورة الحفاظ على الشراكة السياسية المتكافئة والحقيقية بين المواطنين العرب والمواطنين اليهود في الدولة، وذلك كتجسيد للفكر الجبهوي الراسخ الذي يدمج، على طريقته ، بين مكانة مواطنتنا الاسرائيلية وانتمائنا القومي كجزء من أبناء الشعب الفلسطيني. 
لقد أتاحت لنا هذه المظاهرة فرصةً مبكّرة للتخيّل كيف سيكون الموقف ازاءها لو نجح الفرقاء في خوض انتخابات الكنيست بقائمة مشتركة واحدة؛ خاصةً بعد أن لاحظنا هذا الكم من الصمت المريب وهو "ينطق" في أفواه  بعض القياديين؛ وقرأنا عن الردود السياسية المغمغمة أو المعارضة حيث برز منها هجوم النائب امطانس شحادة ، أمين عام حزب التجمع الديمقراطي، واستهجانه الشديد لمشاركة زميله النائب عودة فيها ، فكيف "يمكن لأي قائد عربي أن يشارك في تلك المظاهرة وتحت هذا الشعار . ما هذا؟ هل الرغبة في مخاطبة الشارع الاسرائيلي تفوق أي شيء؟ ألا يمكن كبح هذ الخلل في فهم المجتمع والسياسة في اسرائيل...! " على حد تعبيره.
وقبل الحديث عن موقف حزب التجمع أو الحركة الاسلامية لا بد من الإشارة، بامتعاض، الى غياب موقف معلن وصريح من قبل  "الحزب الشيوعي الاسرائيلي" ومثله من قبل "الجبهة الديمقراطية" التي يقف النائب ايمن عودة في مقدمتها.
لا معنى لسكوتهم، ولا بتأتأتهم الخجولة، إلا بكونها أوضح الأعراض لسقمهم التنظيمي المزمن؛ فكيف لحزب/جبهة - آمنت مذ قامت بمبدأ النضال العربي اليهودي ونظّرت من البدايات لضرورة التلاقح والنضال من أجل نيل المواطنة الاسرائيلية الكاملة، وفي نفس الوقت العمل على بناء الهوية الفلسطينية المتوازنة - أن يترك قائده البارز في الساحة وحيدًا ليقارع سهام نتنياهو السامة وهي ترميه لكونه "مخرّبًا"  يُعيب بمشاركته تلك المظاهرة; ويواجه، في نفس الوقت، على جبهة أخرى، مقارعات "رفاقه"و "إخوته" بالحجة والاصرار.
لم يفاجئني موقف حزب التجمع الذي لم يتغيّر حتى خلال سنوات الشراكة في اطار القائمة المشتركة في الكنيست الماضية؛ فلطالما شهدنا خلافات بين مركباتها، لا سيما عندما واجهت وعالجت مواضيع لها علاقة بقضية الشراكة السياسية العربية-اليهودية، أو بمحاور علاقاتنا، كمواطنين وكأقلية قومية، مع الدولة ومؤسساتها السيادية.
 فما أعلنه النائب شحادة في تعقيبه على مشاركة النائب عودة يعكس بوضوح ويذكّرنا مجددًا بعمق الهوة السياسية الحقيقية التي تفصل بين "الندّين" وتكشف عن واحد من أهم الأسباب التي عطلت عمل القائمة في حينه، وحوّلتها ، مع أسباب  أخرى، إلى جسم سياسي كسيح، صار وجوده عالة على" أهله" أو وسيلة لتكسب أصحابه على حساب المصلحة الجماهيرية العليا.
للحقيقة فأمين عام حزب التجمع تحدث مدفوعًا بواجبه القاضي بالدفاع عن مفاهيم حزبه السياسية المعروفة وحسب منطقه المشروع ؛ ولا غضاضة في ذلك سوى أنني شعرت، كما في المرات السابقة، وجود تلك الاشكالية العضوية في عرى الخطاب وتماسكه والعسر في امكانيات صرفه جماهيريًا؛  
من يقرأ تصريح النائب شحادة يفهم أن حزب التجمع يعارض مشاركته في تلك المظاهرة ويعارض كذلك مشاركة غيره من الأحزاب العربية فيها ؛ ولكن لن يُفهم، من تصريحه، بشكل قاطع وواضح، ما هي أسباب تلك المعارضة، لا سيما إنها تأتي على لسان من يمثل حزبًا يختار، عن قناعة فكرية، خوض الانتخابات النيابية الاسرائيلية ويشارك فيها  كإبن شرعي للنظام السياسي القائم في الدولة، بينما يتنكر لما تمليه عليهم تلك "الولادة" من تبعات وواجبات تجاه من انتخبوهم، وأهمها النضال في سبيل بناء نظام حكم سليم وديمقراطي يقوم على أسس المساواة المدنية الحقيقية ويحترم سلطة القانون ويعمل بهدي قيم العدل الاجتماعي.
هذه هي الغاية من اللعبة السياسية البرلمانية، وهي تتيح في حالتنا لكل نائب أو تلزمه أن يعمل على إسقاط أو إفشال إقامة حكومة لا يختلف اثنان على انها كانت وستكون من أخطر  الحكومات علينا نحن الجماهير على الاطلاق.
فما الغلط إذا أرادت  "الأحزاب الإسرائيلية التي شاركت وتحدثت في المظاهرة تجنيد المجتمع الإسرائيلي ضد نتنياهو" بسبب سعيه "لسن قوانين تحميه من الخضوع للمحاكمه في تهم الفساد " ؟  وحتى اذا لم تكن تسعى كي "تبني نظامًا ديموقراطيًا حقيقيًا " بل لأن رعاتها "يعتقدون ان نتنياهو  يشكل خطرا على الديمقراطية الاسرائيلية أي اليهودية ولذلك يجب تغييره" ، كما صرّح ؛ فهل في هذه الحالة يجوز له كنائب عربي " أصلاني/ أقلاني" أن يستهين أو يلغي أهمية تلك الأهداف التي من أجلها  نظمت المظاهرة ؟  
ثم اذا كان النائب شحادة مقتنعًا بأن "الديمقراطية الاسرائيلية" تعني الآن وستبقى تعني في المستقبل "الديمقراطية اليهودية" فقط، فكيف سيسوّغ  أسباب مشاركة حزبه في عملية تعتبر ، بلا شك، واحدة من أهم تجليات المواطنة والديمقراطية الانتخابية ؟ واذا لم يكن اسقاط حكومة نتنياهو هدف هذه المرحلة؛ فماذا سيكون الهدف؟
على جميع الأحوال سيبقى ما قاله النائب عودة في المظاهرة وكيف استقبلته الحناجر هناك وتعقيب افتتاحيات الاعلام الاسرائيلي ومعظم قيادات الأحزاب المشاركة أكبر دليل على صحة قراره وأهميته؛ وحتى إذا استعان بعض المنتقدين بحقيقة تلكؤ الرعاة بدعوته، يبقى إضطرارهم لدعوته في النهاية هو المؤشر الأهم الجديد الذي يعكس تغييرًا، قد يكون طفيفًا، في داخل بعض الجيوب الصهيونية كما رأينا، مثلًا، في اعلان القيادية في حزب العمل، شيلي يحيموفيتش حين قالت "على أن مظاهرة خالية من العرب هي خضوع للعنصرية ولتحريض اليمين" . ومثلها جاء في تعقيب رئيسة حزب ميرتس ياعيل  زندبيرغ مؤكدة على أن "الشراكة العربية اليهودية، بالاخص في محاربة فساد نتنياهو وسعيه لهدم سلطة القانون، لا تعبر فقط عن العدل انما ايضًا عن الحكمة".
ستبقى صرخة أيمن عودة  أبرز ما قيل من على تلك المنصة وستتحول إلى  مفتاح للأمل في مستقبل مشرق "فوحدنا لا نستطيع التغيير ولكن بدوننا لا يمكن أن يحدث التغيير".
وأخيرًا ، علي أن أعترف على انني اخطأت حين توقعت بعد انتخابات الكنيست الماضية أن "الساحر" نتياهو سينجح، رغم جميع العثرات، باقامة حكومة يمينية متطرفة، فساعتها، عندما كتبت ذلك، لم أر أن في قنديل الجماهير ما زال بعض الزيت وفتيل من ارادة؛ واليوم لقد فشل نتنياهو وقد لا ينجح بالعودة الى صدارة المشهد لأن كل الاحتمالات فتحت من جديد.
 لم تكن لهذه المقالة صلة بقرار حل الكنيست، لكنها ولدت مع مفارقة لافتة، فلقد أشار ايمن عوده قبل تلك المظاهرة، وبعد ان هاجمه وهاجمها نتنياهو، قائلًا "إن نتنياهو مأزوم وخائف بسبب فهمه للمعادلة التي نطرحها بقوة في كل منصة. فحين نطرح نحن المواطنين العرب ثقلنا السياسي لن يبقى هو في الحكم".
ربما ساهمت تلك المظاهرة في إفشال نتنياهو وربما لم تساهم؛ لكنها شكّلت موديلًا للعمل السياسي المختلف يجب، كي يكون مؤثرًا، أن يعتمد عل وقوفنا على ساقين: مواطنتنا الاسرائيلية وهويتنا الفلسطينية، فالأولى حامية لنا والثانية بوصلة .
أمامنا ، كمواطنين عرب في اسرائيل، تحدّيات كبيرة وخطيرة فهل وكيف سنطرح ، بعد ثلاثة شهور ، قوتنا ؟ وهل سنعرف كيف نصعد ولو درجة واحدة من قعر الهاوية؟
يتبع ..    
            

عز الدين المناصرة: (يتوهَّجُ كنعان) بين الخليل وبيروت/ طلال سلمان

اختلفت الأزمنة علينا، فافترقنا، وتباعدت المسافات ما بيننا، وغامت الأسماء وسط افتقاد العناوين، لا سيّما بالنسبة إلى المخلوق الفلسطيني، الذي يُراد له أن يكون خارج الزمان، وخارج المكان، إلاّ إذا صارت الأرض، (دار حرب). 
-عز الدين المناصرة... ما زال للاسم رنينُه، وما زالت في الذاكرة بعض الملامح، والكثير من الأبيات، والمقاطع المتحدّرة من قصائده، التي حفظت بيروت، بعضها، أو تلك التي جاءت أصداؤها من دمشق، وعمّان، والجزائر، وكلها تأتينا بفلسطين، وتأخذنا إليها. 
-شعَّ الاسم (عز الدين المناصرة) على الغلاف الذي تحتلُّ صدره لوحة الصنوبر، حارس البحر للفنّان مصطفى فَرُّوخ. وأما عنوان الديوان (يتوهَّج كنعان)، فهو جديد – قديم، لأنه عبارة عن (مختارات شعرية)، من مجلَّدي أعماله الشعرية، ومع أنّ بعض قصائده تنتمي زمنياً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مطلع الألفية الجديدة، فقد وجدتُ فيه الكثير من ملامح الغد. و (بشيء من التسامح، يمكن أن يُعدَّ عز الدين المناصرة، رائداً من روّاد الحركة الشعرية الحديثة)، كما وصفه حارس الذائقة الشعرية العربية، (إحسان عباس، 1993). أو كما قال محمود شريح: (بعد نزار قباني، وأدونيس، جاء إلى بيروت، ثلاثة شعراء، كانوا يساهمون في تشكيل ملامح بيروت الشعرية في السبعينات هم: محمود درويش (العكّاوي)، وعز الدين المناصرة (الخليلي)، وسعدي يوسف (البصري)، ممّا ساهم في تحوّل جذري في خريطة الحداثة الشعريّة).
-وبشيء من التسامح، وجَّه عز الدين المناصرة إهداء ديوانه الجديد- القديم إلى (الصديق العتيق المُعتَّق)، فاتحاً أمامه، مرّةً أخرى، أبواب (سنوات النهوض)، التي كادت تكون ثورة، بشعر أقرب إلى (الحُداء)، مُتدرجاً عبر النزول المتسارع سقوطاً مع الزمن الفلسطيني إلى بكائيات، هي أقرب إلى (التحريض)، وليس الرثاء: ينهض (محمود درويش، وعز الدين المناصرة)، أمام أسوار عكّا، وجبال الخليل. فكلاهما أعطانا عبر فلسطين، ملحمة النضال العربي في هذا العصر. (والأخطر) أنّ كليهما، رسم لنا (طريق الغد)، يقول المناصرة: 
(حين تكون الجُملةُ مخفيَّةْ / بدهاليز الفتنةِ، أو في قلب الريحْ/ وتكون الجملةُ ضوءاً يجهل زيتَ القنديلْ/ لا تشرحْ أسرار المنديلْ/ بل يكفي أنْ تتركَ شيئاً للقال وللقيلْ/ يكفي أنْ تترك للقارئِ، فَسْحةَ صمتٍ بيضاءْ/ من أجل التأويل). وما أكثر التأويلات، وما أحوج القارئ العربي إلى فسحة صمت بيضاء، بعدما ازدحمت فوق صدره الخيبات، التي التهمت الآمال العريضة، والتي كانت لا تلبث أن تجدد نفسها بدم الشهداء، فتزهر ربيعاً جديداً. 
-(خليليٌّ حتى العظم، هو عز الدين المناصرة)، وهو لشدّة عشقه للخليل، يوزّعَها على كل شيء بفلسطين: 
(مَنْ مُجيري إذا طاردوني، وكانت شعاراتُهم واحدةْ./ آخر الليل، حتماً تجيء الخليلُ إليَّ على شكل طفلٍ يُفجّرُ فيَّ شقاوته، وأنا ساهمٌ، والمقاهي هنا علَّمتني السَهَرْ./ صِحْتُ: إنَّ الخليل، رمادٌ، ترون، ولكنَّها عندما يبلغُ النهر أعلى الجبال، تكون الخليلُ رعوداً مُجلجلةً، ثمَّ برقا، تكون الخليل شَرَرْ). وفي مقطع آخر من قصيدة (القبائل): (قَدَمٌ في الريح وفي التابوت/ قَدَمٌ أخرى في بيروت/ قلبي في المنفى يا (باجسُ)، يخضرُّ قليلاً، ويموتْ). 
-بيروت، بيروت، بيروت... المدينة التي توهمها (بعض الفلسطينيين) وطناً، لم تكن الوطن، قدَّمت نفسها معبراً، ولم تكن تريد، أو تهيئ نفسها لتكون (مقبرة)، لكن البريق مخادع، ووهم السلطة قاتلٌ للأوطان: 
(يا هِلي، إنَّ بيروت في دمنا، إنْ سكنتُمْ بها/ قبِّلوا نحو باب الخليلْ... يا هِلي.../ شمِّلوا باتجاه بحار الجليلْ، يا هِلي، يا هِلي، يا هِلي).
-حتى (جفرا)، تستحضر بيروت، التي غدت تميمةً فلسطينية، يُعلّقها الشاعر في رقبتها، لعلّها تدرأ عنه (خطرها)، ثمَّ يقبّلها باشتهاءٍ، لأنه يتمنى أن تعود جفرا إلى وطنها، حتى لا يتخذ من بيروت، (وطناً بديلاً!!): 
(منديلكِ في جيبي تذكار/ لم أرفع صاريةً إلاّ قلتُ: فِدى جفرا/ جفرا ظلَّت تبكي في الكرمل، ظلَّت تركض في بيروتْ/ وأبو الليل الأخضر من أجلِكِ يا جفرا/ يقذف من قهرٍ طلقته.. ويموتْ).
-عز الدين المناصرة، لم يكن في يوم من الأيام (شاعر سُلطة). كتب جورج ناصيف (جريدة السفير، 28/1/1981)، ما يلي: (الثورة، أملُنا... والسلطة الثورية، مأساتنا.. هذا التوقيع لعزالدين المناصرة، أستأذنه، لأضع توقيعي إلى جانب توقيعه، تماماً)، لكن قيادة الثورة الفلسطينية، لم تكن تقدر، ولم تكن تريد، ولعلّها لم تكن تستطيع أن ترفض (السلطة)، حتى لو وعت السلطة مقتلها وتابوت الأحلام:
(اذبحوا الخوف فينا، يُشرِّشُ، حتى يثور الذليلْ/ واركلوا جُثَّة الخوف في حُفرةٍ، وبلا أثرٍ، أو دليلْ/ خَرَسٌ وارفٌ كالنخيلْ/ من خليج المحيط/ من محيط الخليج/ بكاءٌ يزلزل أركانَ هذي البيوتْ/ نحاول مُلْكاً، وقد لا نموتْ/ بثوب السُموم الذي أرسلته لنا الرومْ/ خلفك رومٌ، حواليك رومٌ، وفي الماء رومْ/ وفي الشاي رومْ/ في الصحافةِ رومٌ، وفي كتب الجامعاتْ/ في أَسرَّةِ زوجاتنا والبيوتْ).
-أما حين وقعت جريمة اغتيال المبدع (ناجي العلي)، فقد تفجَّر غضب عز الدين المناصرة، واندفع يطارد (الريح السوداء)، التي قتلت فلسطين مرّة أخرى: 
(رَجُلٌ من عنبٍ، قهوائيُّ السِحْنةِ، لا فرق إذا كان المطرُ الصيفيُّ، يحاصرنا بخليط الألوانْ/ رجلٌ يحمل أسئلةً، ويطوف بها فوق الأمواجْ: / خُذ سيفاً يا بوشكينْ، خُذ وتراً يا ناجي، خذ حِذْرك يا حلاّجْ./ رجلٌ من جسدٍ مهترئٍ مكسورْ، لكنْ ما طأطأ أبداً لهدير الاضواء/ أين إذنْ حنظلةُ، وكنعانْ: / الأوَّل قبرٌ في لندنَ، الأوَّل رسمٌ في صُحُفٍ، والقاتلُ أوَّلُ من يرثيه/ الثاني شعرٌ ممنوعٌ يركض في التيهْ/والثالث يشرب قهوته في البار، ويعنيهِ الأمرُ، ولا يعنيهْ./ يا كنعانيَّ الطوب الأحمر يا ناجي، وحدك عوسجةٌ ومديحْ/ يا سيف الدولة في تطوانْ/ يا شجر الدولة في وهرانْ/ مَنْ يوقف هذي الريح السوداءْ، مَنْ يشفطُ من قلبي هذا الشيحْ.).
-تتهاوى الحماسة تحت ضغوطات اجتياحات اليأس، ثمَّ لا تلبث أن تجدد نفسها بقرار واع: على الفلسطيني أن يستمر في المقاومة، وإلاّ انتهى: يقاتل العدوّ، يقاتل اليأس، يقاتل العالم، يقاتل ضدَّ نفسه أحياناً، لكنه، إن توقَّف عن القتال، خرج من فلسطين، ولم يعد: 
(سنخترعُ البحرَ، ثمَّ نرشُّ البهار عليهِ، ونجلبُ من جبل الشام أقمار غوطتها، ومن القدس صخرتها، مِنْ ضلوعك، بيروت، رَوْشتكِ القرمزية، نَشْوي على الفحم، فوق التلال المحيطة، قلْبكَ يا بحرُ، أحجاركَ  المرمريّة، ننشرها فوق حبل النهارْ/ جهِّز جوادَكَ للرعي في مرج ذاكرة الغيم قبل المساءْ/ كعاصفةٍ من صباح كروم اليقينْ/ بطيءٌ بريدُكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصل العاشقينْ.).
-عز الدين المناصرة، شكراً أنك ما زلت حيّاً، تقول فلسطين شعراً، وتغني (الخليل، وجفرا، وكنعان، وعكا، وبيت لحم، وأريحا والناصرة، والبحر الميّت)، وتواصل (المقاومة حتى الشهادة)، ونحن مثلك، نردّد: 
(ما الذي سوف أُعطي لطفلة هذا الشهيدْ: ناشفٌ غَضَبي/ جارحٌ عَتَبي/ ناحلٌ قَصَبي/ فاردٌ حُجُبي/ غامضٌ طربي/ واضحٌ عجبي/ مُسْدلٌ كُتُبي/ مُشرعٌ تعبي/ مازجٌ خَبَـبي/ فاعلنْ، فعلنْ...وفعولن سأحشرها في المحيط الذي طوَّق الدائرةْ/ القصيدةُ زعلانةٌ مثل أسوارها الناطرةْ.).

- طلال سلمان: مؤسس (جريدة السفير) اللبنانية.


عرض لكتاب شحادة الغاوي الأسباب والعوامل الداخلية في تاريخ استشهاد سعادة…وما بعده/ عباس علي مراد

شحادة الغاوي الباحث عن الحقيقة لا يكل ولا يمل ولا يترك حجراً الا ويقلبه او ملف الا ويغوص فيه، يقدم الوثيقة حيث وجدت، ويقارب الموضوع بأسلوب علمي منطقي حتى لا يظلم ولا يُظلم ويقول في:( ص 30 ان رفقاءه طالبوه وهو حرص بأن تكون فيه وثائق وألا تكون استنتاجات دون أساس).
 يحلل بأسلوب ومقاربة علمية مكثفة، ولا يتردد في إبداء رأيه اعتمادأ على أدلة، ويحرص على عدم الإدانة الا اذا كان يملك هذا الدليل ويترك لقارئه ان يطرح الأسئلة. وكتابه ليس كتاباً عادياً لأنه يلقي الأحجار في المياه الساكنة من أجل استعادة الحزب  السوري القومي الإجتماعي لدوره والحفاظ على العقيدة والإلتزام بالقيم القومية الإجتماعية التي وضعها سعادة والتي تقوم على أربع دعائم : الحرية، الواجب، النظام والقوة التي ترمز اليها أربعة أطراف الزوبعة القومية الإجتماعية الممثلة في علم الحزب.
 يدرك الكاتب وهو الحزبي الملتزم  بالعقيدة ان كتابه قد يلقى الترحيب من البعض والإعتراض من البعض الآخر من رفقائه في الحزب، وهذا لم يثنه عن وضع هذا الكتاب عله يشكل لبداية جديدة وإعادة النظر بمحطات تاريخية مرّ بها الحزب منذ التآمر على سعادة واغتياله واستمرار الحملة على الحزب لحرفه عن دوره القومي في محطات تاريخية مهمة من تاريخ الأمة السورية. ولا يتردد الكاتب عن ذكر أسماء حزبية بارزة ودورها سواء الإيجابي او السلبي.
الكتاب الصادر عام 2019 عن دار ابعاد في بيروت يقع في 559 صفحة ويـتألف من خمسة فصول بالإضافة إلى الاهداء وكلمة شكر ومقدمة عامة وقسم مخصص للملاحق وفهرس الإعلام ولائحة المراجع.  
حرص الكاتب شحادة الغاوي على انه يكتب في التاريخ ولا يكتب تاريخاً، ففي الفصل الأول يتصدى للبدايات الصعبة من الـتأسيس الإول إلى السجن من (1932 إلى 1938) وينقل عن سعادة ص 42 ( ليس الحزب السوري القومي الإجتماعي، إذاً جمعية أو حلقة، كما قد لا يزال عالقا ً في أذهان بعض الأعضاء،…إن الحزب السوري القومي الإجتماعي لهو أكثر بكثير من جمعية تضم عدداً من الأعضاء أو حلقة وُجدت لفئة من الناس أو من الشباب انه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها….) إن مبدأ " سورية للسوريين والسوريون أمة تـامة" أخذ في تحرير نفسيتنا من قيود الخوف وفقدان الثقة بالنفس والتسليم للإرادات الخارجية.(ص45)
في هذا الفصل يعرض الكاتب لمحطات مهمة في حياة سعادة والحزب ودور المنافقين والخونة والسجن الأول والثاني وخذلان المجلس الأعلى لسعادة ومحاولة قتل سعادة في السجن ومعاناة سعادة مع معاونيه.
أما الفصل الثاني فيتحدث عن السجن الطويل سجون وتشرد في الأرجنتين وفي الوطن ( من 1938 إلى 1947) من اوروبا إلى البرازيل وصولاً إلى الأرجنتين، وما واجهه سعادة من عذاب ومعاناة من عدم تعاون وعدم تلبية معاونيه، ومكافحة سعادة للجاسوسية، ولا ينسى الكاتب قصة سعادة وجريدة سورية الجديدة وجريدة الزوبعة، ويعرض الكاتب لموقف سعادة من الحرب العالمية الثانية والتي يجب ان تتماشى مع مصالح الأمة والمطالب السورية بالإستقلال والسيادة أولاً. وعما كان يحصل في الوطن يعرض الكاتب للسياسات الإنحرافية والنفعية لبعض أركان الحزب طلباً للسلامة الشخصية (ص100) وفي الصفحة 104  يتساءل الكاتب عن دور جورج عبد المسيح :أين عبد المسيح وماذا كان يفعل؟ ويبرر الكاتب تساؤلاته وبحثه عن هذا الدور لأن عبد المسيح ومريدوه كانوا يقدمونه على أنه ضمانة عقائدية. ويتحدث الكاتب عن تلك الفترة بالتفصيل  حول قضايا أخرى لا تقل أهمية وكيفية مقاربة سعادة للأمور ويعنون ص115 سعادة يداري نعمة ويستوعبه.
الفصل الثالث  يعرض لتجديد الروح والحصاد الوفير (من آذار 1947 إلى حزيران 1949) يقول الكاتب أن السلطة أرادت إبعاد سعادة عن الحزب ليتسنى لها ترويض هذا الحزب، لكن سعادة عاد عنوة ضد إرادة السلطة التي كانت تعتمد على نعمة ثابت في استيعابه (ص130) ويتحدث عن بعض أوجه المعركة الداخلية ومعاونون لا يعاونون، ويكمل  إلى حسم سعادة الموقف داخل الحزب وكيف ربح سعادة المعركة العقائدية حتى قرار قتل سعادة فيقول: إن من يريد فهم الأسباب الحقيقية والمقدمات التي أدت إلى استشهاد سعادة يجب عليه قبل كل شيئ رصد حركته وأعماله وأقواله سنة على الأقل قبل الأستشهاد….(ص147) ليصل إلى إنقلاب حسني الزعيم في سوريا ورأي سعادة الحقيقي بالإنقلاب وشعار السيادة اللبنانية في وجه الشام فقط  وذروة التحدي في خطاب برج البراجنة ويعنون الكاتب في ص169 عن التحريض المزدوج  من حكومتي دمشق وبيروت لسعادة كي يقوم بإنقلاب مسلح في لبنان.
الفصل الرابع المطاردة والتوريط والإستشهاد (من 9 حزيران إلى تموز1949) في ص 177 وحول نظرية المؤامرة كما تعهد في أول الكتاب بعدم إلقاء التهم جزافا،ً  يقول الكاتب فإنه من الصواب فحص الأمور جيداً  ودرس الإحتمالات والتشدد في اعتماد الحقائق والوقائع في كل أمر وقضية، فإذا وجد دليل على مؤامرة يجب أن نقدم الدليل ونبني عليه، وإذا لم يكن هناك من دليل فيجب البحث عن العوامل وأسباب أخرى في غير نظرية المؤامرة. ويتابع بعنونة سعادة والمؤامرة وكيف تعامل الحزب مع خطة تصفية وقتل زعيمه؟ وعن الدور البريطاني، الأميركي والصهيوني لهذا الفصل أهميته لأنه كما الكتاب غني بالوقائع والتساؤلات والتحليلات المنطقية التي برأي الكاتب تقود إلى معرفة الحقيقة والأدوار التي قامت بها  كافة الأطراف الخارجية والإقليمية والمحلية والحزبية، ويشير الكاتب إلى دلائل أربعة ابتدءاً من ص 203 إلى ص 208 وبعد ذلك يعود لبروز دور عبد المسيح وعدم استجابته لسعادة، ولا يهمل الكاتب ما قاله عبد المسيح نفسه ص214 ونصل إلى ص 242 لنرى كيف حارب سعادة حتى الرمق الأخير ليصل في ص 255 إلى السبب في سرعة المحاكمة وتجاوز أصولها وشروطها القانونية، وفي ص258  يستنتج لا بل يذهب  الكاتب لحد الإتهام لعبد المسيح ويقول: ان سعادة كان ضحية مؤامرة خارجية استندت إلى سلبيات الأوضاع الحزبية الداخلية واستفادت منها. إن من كان يجب أن يلعب دوراً رئيساً في انقاذ سعادة هو جورج عبد المسيح ويعدد 3 أسباب لذلك وبعدها تكر سبحة الاسئلة عن ادوار الحزبيين وغيرهم وعن سبب إخفاء عبد المسيح لرفات سعادة.
الفصل الخامس  السيطرة على الحزب بعد استشهاد الزعيم كوارث وانشقاقات وصراع على السلطة.  
يستهّل الكاتب هذا الفصل ببدء مرحلة استيعاب الحزب والسيطرة عليه وانتقال عبد المسيح إلى دمشق، ويقول (ص 268) لا بد لنا من ملاحظة  أن سعادة قبل اسشهاده لم يعطِ عبد المسيح أية مسؤولية مركزية في الحزب، وذلك بعد استقالته من عمدة الدفاع سنة 47 … ويمضي بمساءلة عبد المسيح عن "الاستشهاد الرائع" حسب تعبير عبد المسيح هل استشهاد سعادة كان رائعاً؟ (ص 278)   ويتساءل ص 269 السؤال الكبير هنا هو كيف كان اي عبد المسيح سيقدم على ما رفضه لسعادة؟ ويبدأ الكاتب بعرض لسلسلة من المواقف والأحداث  والأدوار كالموقف من حسني الزعيم، إلى محاكمة القوميين في لبنان، ويحرص الغاوي على الا يظلم أحداً ويشكك في البعض الأخر حيث يقول ص 282 حتى لا نظلم ابراهيم يموت،  وص 284 يتساءل عن دور غسان التويني المشبوه،  وص 288 يضع عنوان تحصين العملاء، وعدم التزام عبد المسيح بقوانين الحزب عند طرد الحزبيين علما ان سعادة كان كان قد ترك مرسوماً بإنشاء "المحكمة المركزية للحزب السوري القومي الاجتماعي " ويُذكر بوصية سعادة :" في الحزب شرع يضمن لكل فرد حقه في النظام والعمل والرأي…"ص 290
ويستطرد الكاتب في عرض بروز السوابق الإدارية غير المنطقية، ونشوء الأزمات والتسويات والتدخلات الخارجية وأسماء لشخصيات حزبية لعبت دوراً مهماً في تلك المرحلة  من عصام محايري لعبدالله سعادة، وسامي خوري  وهشام  شرابي على سبيل المثال لا الحصر، ويخصص الكاتب جزءاً من هذا الفصل لمصدر السلطات ومن ينتخب ص309 سواء في حياة سعادة أو بعد استشهاده، وكيف صار الإستثنائي المؤقت دائماً ولاحقاً يتحث عن الخطأ الأفدح في كيفية منح رتبة الأمانة متسائلاً من هوالصادق؟ ص323، ويقارن الكاتب بين الديمقراطية التمثلية التي انتقدها سعادة والديمقراطية التعبيرية الجديدة التي جاء بها سعادة ص319. 
ويعود الكاتب إلى الوضع السياسي في سورية  ويطرح السؤال من هو أديب الشيشكلي؟(ص333) الذي يصفه بالطائفي ويحظى بدعم الإسرائليين (ص338)، ليصل بعد ذلك إلى انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم 14 آب 1949، وإلى انقلاب أديب الشيشكلي على الحناوي في 18/12/1949 لينتقل للحديث عن الحزب في ظل الشيشكلي وموقف الحزب الشاذة كما سماه من قضية الإنفصال الجمركي بين سوريا ولبنان، والإتحاد مع العراق (ص348)، وموقف الحزب المؤيد للشيشكلي الذي كان معه "على طول" (ص 357) حيث يقول الكاتب عن ان عبد المسيح في خدمة أديب (ص 356)  ورغم ذلك كيف خذل الشيشكلي الحزب واسقطه في الإنتخابات إلى ان يصل إلى مرحلة ما بعد الشيشكلي، وفي  ص 370 يصف الكاتب  سياسية الحزب سنة 1955 بأنها سياسية حمقاء خرقاء غبية مراوغة متورطة فيما لا يمكن تبريره والدفاع عنه والتي اتبعها عبد المسيح وخصومه في المجلس الأعلى التي وصفها بالخلاف على السلطة لا أكثر ولا أقل وليس لها بعد عقائدي ويضيف (ص372) ان الحزب وبعد نصف قرن يقف نفس الموقف ويقدم نفس التبريرات.
وفي ص 380 ينتقل بنا الكاتب إلى مرحلة مهمة وهي مقتل الضابط عدنان المالكي ودوره وعلاقته بالحزب والإيقاع بين الحزب وأركان الجيش والمالكي، وفي ص 391 يكتب الغاوي عن كيفية بدء التوتر والخلاف مع عبد الناصر، وفي ص 422 يعنون في المصيدة الأميركية  وقول لقد ضرب الأميركان  ضربتهم المزدوجة قتل المالكي وضرب الحزب خلال أسبوع واحد من تلكؤ الحزب في قبول العرض الأميركي عليه لإعتماده ركيزة ووسيلة لهم لتوجيه السياسة الرسمية في الشام…ليخلص إلى أن السذّج وحدهم لا يعرفون طريقة عمل المخابرات الأجنبية وكيفية مباشرتها في تجنيد عملائها. ص 422 يتحدث الكاتب عن حصاد المتآمرين والمستفيدين. وفي الكتاب أجزاء مخصصة للوحدة بين مصر وسوريا وموقف الحزب منها ووصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا وما رافق ذلك من أحداث.
ويعرج على قضية الإنشقاقات الحزبية سنة 1957 وسنة 1974 وسنة 1987 وثم سنة 2012 (ص 437-438)  ويصفها بأنها صفحات سود ليست من تاريخ حزب سعادة، بل من تاريخ من ارتكبوها وقاموا بها وشاركوا فيها وتبعوها ودافعوا عنها وقبلوها، وان حزب سعادة وحركته ونهضته وقضيته هي براء منها وضحية من ضحاياها. ويصف وضع حزب سعادة اليوم بأنه مخطوف ومرهون… ليعود ص 443 ليؤكد على ان الخطأ الكبير القاتل الذي وقع فيه من شقوا الحزب هو خطأ، بل مرض، النزعة الفردية القاتلة وعدم الإقتداء بسعادة في طريقة معالجة الإنحراف العقائدي والسياسي.
وفي ص 477 يفصل بين القوميين الجنود الأوفياء لسعادة ولعقيدته ونظامه ويعنون "الأسئلة الكبيرة والجواب الضائع" ويسأل ما هي الأسباب الحقيقية التي تجعل الوصوليين والفاسدين وأصحاب النزعة الفردية يصلون إلى قيادة الحزب مع أن نظام الحزب يحارب الوصولية والفساد والنزعة الفردية ويكافحها؟
وفي قسم الملاحق لا يتوقف الكاتب عن إعطاء المزيد من المعلومات  واتخاذ المواقف من قضايا عقادية وسياسية،  ويتحدث عن عبد المسيح العقائدي وعصام محايري العروبي وانعام رعد الثوري ويفند مواقفهم من قضايا مهمة وفهمهم للعقيدة كالمدرحية  والإنسان والمجتمع، الجماهيرية والجماهير، عيد العمال- عيد العمل، بين الحياة والعيش، الموقف من اليهود، الإشتراكية العلمية .
ويتحدث ص 514 عن الضعف المثلث الأضلاع حيث يقول الكاتب أن القيادات الحزبية التي أتت بعد سعادة لم تستطع إكمال نهجه الصراعي الهجومي بسبب ضعفها المثلث الأضلاع علمياً وعقائدياً ومعنوياً والتي يشرحها بالتفصيل.
أخيراً، ان ما تقدم وما عُرض من كتاب شحادة الغاوي قد لا يفيه حقه ولا يغني عن قراءة الكتاب، حتى يطلع القارىء على المزيد من التفاصيل والحقائق التي عرضها الكاتب وان كان بعضها ليس على علاقة مباشرة مع الاسباب والعوامل الحزبية الداخلية وهذا ما يشير اليه الكاتب لكنه يرى أهمية عدم إهمالها كل ذلك  من اجل ان يأخذ الحزب السوري القومي الاجتماعي دوره الطليعي كما يرى الغاوي في تقرير مصير الامة حسب المفاهيم والعقيدة التي وضعها سعادة ورسم خريطة طريقها الفكرية والعقائدية والتي توجت بالشهادة.

المونوفيجن الفكري.. أزمة العقل العربي/ حسن العاصي

احدى أبرز إشكاليات العقل العربي تكمن في وضعية الانسداد التام والاستعصاء التي لم تمكنه من التطور وإدراك المعاصرة والحداثة، نتيجة عجزه المزمن عن إجراء تغيير في ثقافته الموروثة منذ قرون خلت. ثقافة تجعل معتنقيها مؤمنين أنهم أخير الناس، أصحاب الرُشد والأخلاق والحق، لذلك فإن الثواب والخير يعود لهم، وإن الرذيلة والضلالة والبؤس للأخرين الأقل مكانة. إن هذا القصور الاستدلالي حول التنوع الفكري والتعدد الثقافي، جعل العقل العربي غير فطن للتطور الهائل الذي قطعته العلوم وأنهت معه عصور التقسيم جيو-ثقافي للأمم بسبب الجغرافيا، ولم يلاحظ النتائج الكارثية التي أحدثتها الصراعات والحروب والكراهية بين البشر لأسباب ترتبط بالاختلافات الثقافية، ولهذا فإن العقل العربي ظل مكبلاً غير طليق ولم يدرك منظومة القيم الإنسانية التي شكلت أساس قيام العالم الحديث.
التطور التقني الذي حققته العلوم في قطاع الاتصالات قد أسقط الجدران الجغرافية والدينية والعرقية، فبدأت تتأسس ثقافة جديدة مكونة من قيم العدالة والمساواة والحريات العامة، تحترم الفردية والخصوصية، ثقافة بلا هويات دينية أو مذهبية أو قومية، وتتجنب كافة مفاعيلها وإفرازاتها الاجتماعية والفكرية، بل تعتمد التفاعل الإنساني والهوية الأممية.
علاقة العقل العربي بالعلم مركبة وشائكة وطفولية وغالباً تبدو استعلائية تكشف عمق الجهل والتخلف، حيث تسود أفكار أن العرب سبّاقون في كل مضمار، ولديهم كل شيء خصهم الله فيه دون سواهم، في مجتمعات يسيطر عليها الفكر الغيبي والموروث الثقافي الذي يعكس سعة الفجوة العلمية والحضارية بيننا وبين الأمم التي حققت التقدم.
تفشّي الخرافات وتأصلها في عمق العقل العربي والإرث الذي يعتبره مقدساً حال دون تمكن الأدمغة العربية من أن تجد لها مكاناً في نادي الاكتشافات العلمية. كيف يتطور العقل العربي ومازال الكثيرين يؤمنون بالقدرة الخارقة لبول البعير على الشفاء من مختلف الأمراض، ويعتقدون بالسحر والحجب وإقامة الطقوس الدينية. ما زالت علاقة العقل العربي مع الآخرين ومع الحضارة العالمية، مختلطة وملتبسة يطغى عليها التوحش والسلوك الصحراوي القبلي، بالرغم من امتلاك العرب أحدث السلع التي ينتجها العلم. 

فلسفة الاقصاء
الاقصاء تربوياً هو أسلوب للعقاب يتضمن إلغاء التعزيز الإيجابي لفرد أو جماعة، لفترة محددة أو بصورة نهائية. وفي اللغة فإنه الإبعاد والغاية البعيدة. والاقصاء اجتماعياً ويعرف أيضاً باسم التهميش هو الحرمان الاجتماعي والإبعاد إلى حافة المجتمع، وهو مصطلح يستخدم على نطاق واسع في أوروبا في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتم تعريفه على أنه منع الأفراد بشكل منهجي من الوصول لكافة أو بعض الحقوق والفرص والموارد المجتمعية أسوة بالآخرين. 
يقول الكاتب الأمريكي "فرانك هربرت" لم يخلق الناس سواسية، وهذا أصل فساد المجتمع. ويظهر الاقصاء والتهميش في قلب كافة قضايا الصراع الاجتماعي باختلاف تسمياتها ومظاهرها وتمثلاتها.
إن العقل الاقصائي هو الذي لا يرى سوى ذاته، لا يعترف بغيره، ويتخذ مواقفه بناء على حساباته وحده، لا يهتم بالآخرين ولا يراهم. الاقصائية هي منظومة من الأفكار والسلوكيات تم تصميمها لتخدم مصالح من تمثلهم، وتعمل على إزاحة الآخرين وحرمانهم دون أي اعتبار. ولهذه الأسباب فإن العقل الاقصائي عامل طارد لكافة الجهود الجمعية، عقل ينفي حق الآخرين في الوجود، وحق الأفكار في أن يتم نقدها، وحق الممارسات في أن تخطئ أو تصيب، ولهذا فإن الاقصاء هو الشريان الخفي الذي يغذي كافة الأفكار المتطرفة والأعمال العنيفة. وبهذا يكون التشدد والتعصب هما انعكاس للأفكار الاقصائية التي تبررهما. العقل الاقصائي يمكن أن يكون عقلاً دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو عرقياً، كما قد تجد العقل الاقصائي في التيار اليساري أو اليميني أو القومي أو الليبرالي لا فرق بين عباءة وأخرى، فالاقصاء منتشر كالفطر السام.
الثقافة الاقصائية هي السبب الرئيسي خلف هذا النكوص الأخلاقي والعجز الحضاري، والاخفاق الحداثي والهزائم التي تصيب الأمتين العربية والإسلامية. العقل الاقصائي تسبب في حالة انسداد فكري واستعصاء علمي وجمود حضاري، تسبب في أسر الأمة بسجون تاريخها، فيما الأمم جميعاً كسرت قيدها وانطلقت نحو التقدم والازدهار.
لا يمكن إجراء مقاربة للعقل الاقصائي في الحالة العربية دون الإلمام بكافة الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والتاريخية لهذه الظاهرة، لأننا كما نعلم فإن الواقع لا يمكن أن يتشكل بمعزل عن الأفكار السائدة، كما أن الفكر ذاته لا يمكن فصل منبته عن واقعه. تبدو الحقائق في سياقها التاريخي تشير إلى أن الفكر العربي بصورة عامة كان ولايزال-بمعظمه- فكراً اقصائياً بمختلف مراحل التاريخ، حيث كان فكراً حاملاً ومحملاً ايديولوجيات تدفع بطبيعتها للاقصاء، ولأنه لم يكن يقبل بوجود فكر آخر، لم يتاح لفكرين أن يتعايشا في تاريخ الفكر العربي، إذ أن وجود فكر وايديولوجية ما كان ليكون إلا بزوال الفكر الآخر، وهذا يظهر في صراع الحنابلة والمعتزلة في التاريخ الإسلامي على سبيل الذكر، هذا يعني ببساطة أن التعددية الفكرية والتنوع الثقافي صفات غائبة في تاريخ الفكر العربي.
وذلك يعود لأسباب منها أن الدولة الإسلامية العربية ثم الدولة السلطانية، فالدولة الشمولية الحديثة لم تسمح بالتعددية الفكرية لأنه ينتج عنها تنوع سياسي رأت فيه الدولة العربية الاستبدادية خطراً عليها، فلم يعرف التاريخ العربي الدولة الجامعة، دوماُ كانت الدولة قديما وحديثاً إما لهذه الفئة أو لتلك. من جهة مختلفة فإن غياب التعددية السياسية أنتج غياب التعدد الفكري، وهيمنة الفكر الأحادي والسياسة الأحادية، والحزب الواحد والزعيم الأوحد، وهكذا في دائرة مغلقة تسببت بالبؤس والشقاء للأمة العربية.
خضع العقل والفكر العربيان تاريخياً لهيمنة نمط محدد وحيد، كان ولا يزال الخروج عنه بمثابة خروج عن الجماعة يستوجب العقاب لإعادة الطاعة، لذلك نمى العقل العربي على أحادية فكرية وفلسفية وثقافية ودينية لا ثانية لها، وهنا تماماً تكمن بذور الاقصاء بوصفه سلاحاً استعمل من قبل فئات محددة للحفاظ على مصالحها التي سوف تكون مهددة فيما لو سادت التعددية بدلاً عن الأحادية.


كل فكر وعقل أحادي هو بالضرورة اقصائي في تكوينه وتمثله ومفاعيله، تنتج الأزمة حين لا يواكب الفكر التغيرات التي تحدث في البنية الاجتماعية، وبهذا حين نكون أمام بعض التعدد والتنوع الاجتماعي والعرقي والمذهبي في البلدان العربية، ويظل الفكر أحادياً، تكف قضية الاقصاء عن كونها قضية فكرية ونظرية، لتتحول وتصبح إشكالية اجتماعية حياتية تتسبب بإلحاق الضرر بكل من هو خارج المركز، وتعيق الاستفادة من مقدرات الآخرين المبعدين المهمشين المقصيين، وتؤدي بهم للانكفاء لشعورهم بالوصاية عليهم من قبل المركز، وهذا يكبح تطور المجتمع وتقدمه.

المونوفيجن العقلي
كما المونوفيجن البصري الذي يصيب عيون بعض الكبار في السن من الناس ويسميه الأطباء قصور البصر الشيخوخي، هناك مونوفيحن يصيب العقل البشري دون تحديد العمر، وهو الأحادية في النظرة وفي التفكير والرؤية، وغياب سعة الإدراك لتقبل التعدد والتنوع في الأفكار والآراء ورفض الاختلاف، وهو مرض خطير يحدث تفاعلات غير توافقية تكون نتيجتها ظهور التشدد والتطرف والتعصب والعنصرية ورفض الآخر والجمود الفكري. وهي باتت أكثر ما يعيق تقدم المجتمعات، خاصة التطرف الديني والسياسي والاجتماعي. ولم يقتصر المونوفيجن على الأفكار والايديولوجيات، بل امتد وطال العلاقات البشرية وتسبب في عدم التوافق الإنساني، وهو أشد حالات أحادية الرؤية خطراً على الأفراد والمجتمعات.
يرتبط العقل الاقصائي بنزعة عدوانية مترسبة عبر السيرورة التاريخية. وبقدر ما تكون الأفكار اقصائية وتمييزية بقدر ما تظهر تسلطها وعنفها. ويظهر التطرف الديني أعمق أشكال أحادية الرؤية وأشدها استعصاء على التغيير. فالتراتبية الاجتماعية والصراع الطبقي وتدني المستوى الاقتصادي والفقر والجهل، وكذلك الاستبداد السياسي وغياب الحريات العامة، هي أيضاً أهم أسباب التشدد والاقصاء.
التطرف الديني لا يمكن فصله في الحقيقة عن التطرف الفكري والاجتماعي، ولا يرتبط بالجنس أو العرق أو المذهب. لأن الرؤية الاقصائية واحدة نابعة من موروث متأصل في الثقافة البدائية للبشر، نظرة ميتافيزيقية تكشف ضحالة العمق المعرفي في منظومة الوعي الاجتماعي. وفكر موحش ينزع لمصادرة حقوق الآخرين المخالفين، لا يرى تحقيق ذاته إلا بنفي الآخر وعدم الاعتراف به. هو العقل المركب المبني على عدم التسليم أنه بالنسبة للأخرين أيضاً هو أخر مختلف. تتحول هذه الأفكار والسلوكيات وتصبح ثقافة تأخذ أبعاداً دينية أو عرقية أو مذهبية أو اجتماعية، ثم مع الوقت تتحول إلى هوية.

المخيال العربي والاقليات
المقاربات الثقافية العربية لقضية الأقليات العرقية والدينية والثقافية أخفقت كونها معالجات مبنية على الأولويات العربية، ولأن غالبية السياسيين والمثقفين العرب يقرأون الواقع العربي بتنوعه وتعدده بصورة سطحية عابرة، لا تصل إلى عمق البنية الثقافية والاجتماعية للأقليات. حيث تعامل العقل العربي- غالباً- بصورة دوغمائية واستعلائية مع المجموعات العرقية والإثنية، منطلقاً من مركزية الثقافة العربية وهامشية وتبعية الثقافات الأخرى.
يسقط المثقف العربي من حيث لا يعلم في العنصرية حين يهاجم مركزية الثقافة والفلسفة الغربيتين، وبذات الوقت يتبنى مركزية ثقافته ضد الآخر الموجود تاريخياً، وهو بهذا يضع أولى اللبنات في جدار الإقصاء القاتل كونه يعتمد أحادية الثقافة. يجب الاعتراف أن العديد من المفكرين والمثقفين العرب ومنهم الدكتور محمد عابد الجابري، مؤمنين بأن ما يسمى الثقافة العربية هي نتيجة إسهامات شعوب الوطن العربي الإسلامي منذ عصر التدوين. وبالتالي فكل ثقافات الوطن العربي هي ثقافات متفرعة من الثقافة الأم وهي الثقافة العربية، وهذا رأي فيه القول الكثير لأنه يتنكر لثقافة الأقليات ومساهماتهم في الإنتاج الثقافي والحضاري للمنطقة.
إن المخيال الثقافي المعرفي الاجتماعي التاريخي العربي الذي يعتمد الرموز السياسية والدينية والفكرية والفلسفية والعلمية كمعيار لتميزه عن الآخرين وتفوق العقل والثقافة العربية، هو تماماً ما يسترشد به العقل السياسي العربي في بناء علاقته الفوقية مع الأقليات. وتصبح هذه المخيلة وأدواتها فعلاً طارداً للآخر وليس جامعاً وموحداً على مستوى البنية والدلالات. فالرموز والقيم في المخيلة العربية قد لا تعني أبناء الأقليات بشيء بالضرورة، كما أن رموز وقيم ومخيلة الأقليات لا تشكل اهتمام معرفي بالنسبة للعرب، ومن هنا تنبع الأزمة.

الاقصاء الديني
 التكفير كمنظومة ورؤية نظرية وسلوكية لا يتعلق فقط بالحركات الدينية، بل امتدت عصبيات هذا التشدد إلى كافة المشارب الفكرية والفلسفية والثقافية والاجتماعية، وأصبح يمارسها الجميع من علمانيين ويساريين وقوميين وليبراليين، حيث سقط الجميع في قعر الإقصاء وإلغاء غيرهم والاستعلاء عليه، وتجريده من حقوقه البديهية، وحرمانه من مصادر المنفعة العامة أسوة بغيره، بل ربما قتله أيضاً. وبهذا فإن التكفير والاقصاء باتا أزمتان إشكاليتان للكثير من المجتمعات البشرية. وهي ظاهرة تستوجب البحث في جذورها وتحليلها لفهمها، وعدم الاكتفاء بالقراءات السطحية.
 تعود المنابت الأولى لهذا الفكر في التاريخ الإسلامي إلى بروز تيار الخوارج كحركة احتجاجية على الواقع السياسي، ظهرت في نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبداية عهد الخليفة الرابع علي بن ابي طالب "رضي الله عنهما"، في النصف الأول من القرن الأول الهجري. وقد خرجوا عن جماعة المسلمين أثناء عودة أمير المؤمنين "علي ابن أبي طالب" من صفين إلى الكوفة بعد التحكيم الذي حصل في القصة الشهيرة.  وكان الخوارج يتصفون بأنهم أكثر الفرق الإسلامية دفاعاً عن مواقفهم وتعصباً لمعتقدهم وآراءهم. كانوا يدعون بالبراءة والرفض للخلفاء ولحكام بني أمية، وتمسكوا بالاختيار والبيعة في الحكم. قامت الحركة بصياغة خطاب ديني سياسي، اعتمد على مفهومهم للحاكمية "إن الحكم إلا لله" لتبرير الأفعال الشنيعة.
تراجعت تيارات الإباضية والنجدات والأزارفة وسواها من فرق الخوارج، وظل العقل الاقصائي المذهبي والسياسي حاضراً بقوة في التاريخ الإسلامي والعربي.
نشوء حركات التكفير والهجرة في بعض البلدان العربية يؤكد ما سبق في أن أسباب ظهور هذه الحركات هو الاحتجاج على الواقع السياسي المأزوم، ثم نتيجة الاستبداد الفكري والسياسي وغياب الحريات الأساسية والاقصاء في العالم العربي، تشددت هذه الحركات في أفكارها وسلوكها للتعبير عن نفسها بشكل عنفي، بعد أن عانت من القهر والطرد المنظم.
لعل واحداً من أسوأ صفات الفكر الديني المتشدد الاقصائي هو الإساءة التي يتسبب بها للإسلام ذاته قبل كل شيء، نتيجة للقراءات والاجتهادات والتفسيرات الخاطئة لأصحاب هذا الفكر. فهذا الفكر لا يقدم أية مقاربات للأزمات التي تعاني منها الأمة، بل يدفع لترسيخ الانشقاقات والانقسامات والاصطفاف والطرد بذرائع دينية لا تقبل النقاش. وعليه فإن الاقصاء الديني هو أخطر أشكال الاقصاء لأنه يعتمد النصوص المقدسة ويداعب مشاعر الناس، ويعمل على إيقاظ العصبية المذهبية لديهم، ويقوم بشيطنة الآخر المختلف، ويجعل من كراهيته ومحاربته وطرده فعلاً صالحاً يُؤجر الفرد عليه. وهي ثقافة تشكل المخزون الفكري للتطرف والعنف والتهجم على أتباع المذاهب المخالفة، قائمة على التفرد بالحقيقة والرأي وتهويل النزعات الاختلافية.
لا يمكن مواجهة هذا الفكر دون بناء مجتمعات مدنية حديثة قائمة على مبادئ احترام الحقوق الرئيسية للمواطنين وحرياتهم العامة، مجتمعات قادرة على صناعة إنسان منتج فاعل ويسهم في بناء حضارة أمته عبر العقل والتفكير الابداع والعمل والإنتاج والتميز، وليس بواسطة التكفير والاقصاء.

الاقصاء الثقافي
الاقصائية صفة ملاصقة للفكر في الثقافة العربية الحافل تاريخها بقمع الحريات، وممارسة الاضطهاد والترهيب والتعذيب لكل من خرج عن الأيديولوجية وخالف الضوابط الدينية والعرفية. حيث ذاق الفلاسفة والمفكرين والمثقفين الذين أخرجوا عقلهم من الصندوق الأمرين في التاريخ العربي والإنساني. فمنذ أن تحولت الرسالة السمحة التي جاء بها الإسلام من كونها حامل للمحبة والتعايش الإنساني، إلى مركّب معقد للساعين الوصول للسلطة السياسية، أصبحت الحقائق مكونات يحتكرها أتباع طائفة دون الأخرى، وبدأت معها الانقسامات التي سببتها ثقافة الاقصاء التي لا زالت أنيابها حادة ممتدة في بنية الفكر العربي والإسلامي غالباً بذرائع متعددة.
اتسعت دوائر هذا الفكر في الراهن العربي، فأصبح المثقفين جماعات وطوائف متناحرة، والمؤسسات والأطر السياسية والثقافية والحزبية والدينية تحولت إلى مراكز استقطابية، وظهر المتشددين المتزمتين في شتى الميادين. هذا خلق صراعاً بين التيارات واصطداماً غير توافقياً بين الأفكار، أدى إلى اقصاء البعض غير المنسجم. هذا الحال أربك المشهد الثقافي برمته.
سياسة عدم وجود تكافئ الفرص، والمحسوبية والتهليل، ومحاربة كل عمل وفعل إبداعي يعتمد إعلاء سلطة العقل، ينتج عنه الاقصاء للفكر الحقيقي وأصحابه. تطور حركة الفكر العربي تتطلب الانعتاق من قيود ثقافة الاقصاء التي تكبل العقل العربي. إن الفكر التنويري الحداثي الغربي لم يكن يوماُ كتلة واحدة صماء، بل هو تعبير عن اتجاهات فكرية متعددة ومشارب فلسفية متنوعة بلغت مستوى عال من الرقي، لم تكن تصله لو اعتمدت الفكر الأحادي.

الاقصاء في الإسلام
تكاد أن تصبح ثقافة الاقصاء ورفض الآخر وعدم قبول رأيه، هوية للإنسان العربي الذي يستعدي كل من يختلف معه في الفكر. فالاقصاء احتل حيزاً واسعاً من الثقافة العربية البدوية، كان العرب تتقاتل لاختلافات غير هامة، وتتصارع القبائل لأسباب تافهة لفرض رأيها، حتى بات القتل والغزو أمراً عادياً وضرورياً في الثقافة البدوية. قتل العرب بعضهم بعضاً لعدم التوافق في الموقف وللتعارض في التفسير، ولتصرفات عادية لا تروق لبعضهم، ولأي قول أو سلوك تعتبره عقليتهم البدوية الاقصائية أنه إهانة لهم ومساس بكرامتهم وانتقاص من كبريائهم، فكان السيف والقتال لا العقل والحوار هو السبيل الوحيد لحسم الخلافات. حتى أن شهر صفر سمي بهذا الاسم لثلاث روايات أحدهما أنه يعود إلى أصفار مكة من أهلها لخروجهم والقبائل الأخرى للغزو. كما جاء في الجزء الرابع من كتاب لسان العرب لابن منظور. -قيل أيضاً أنه بسبب نهاية فصل الشتاء واصفرار أوراق الشجر، وقيل إنه إشارة إلى خلو مكة بعد موسم الحج.
جميعنا سمعنا بالحرب الشهيرة "داحس والغبراء" التي استمرت لأربعين عاماً متواصلة بين فخذين من قبيلة "غطفان" النجدية، هما "عبس" و"ذيبان" والسبب لم يكن سوى نزاع يتعلق بسباق خيل بين فرسين يسميا "داحس" التي امتلكها "قيس بن زهير" و"الغبراء" لصاحبها "حذيفة بن بدر". وهي واقعة تاريخية تعكس العقلية الخشبية الاستكبارية القاصرة عن لغة الحوار والعاجزة عن مواجهة عصبيتها. فقد كان العرب لا يؤمنون بالفكر ولا يعترفون بالثقافة، بل بصلة القربى والحسب والنسب، فحين يهب العربي لنجدة العربي فإنما بسبب الانتماء العائلي أو القبلي أو الطائفي والمذهبي، لا بسبب الوقوف مع الحق وقوة وحصافة الرأي وحكمة الموقف.
حتى بعد اعتناق الإسلام لم يطلّق العرب العقلية البدوية ولم يخرجوا من قعر الاقصاء والتعصب. كل ما حصل أنهم انتقلوا إلى نمط آخر من الاقصاء والتكفير لمن يختلف معهم في الفكر والرؤية. وهكذا كان يتم نفي أي جماعة أو أي فرد من القبيلة يكون له/م تفسير وقراءة مغايرة عما هو سائد. بحيث يتم طردهم للصحراء كي يموتوا وحدهم، اجتناباً لتمزق القبيلة. وقد يعود المخالف لحماية القبيلة إن أعلن توبته، وإلا قد يقتل لموقفه.
تبدو الثقافة التي تسببت في أزمة العقل العربي المعاصر تُغذيها موروثات تلك الحقبة البدائية، فما زال العرب يعتقدون أنهم أفضل الأمم، وكأنهم أصيبوا بالعماء جميعاً، لا أحد منهم قادر على رؤية هذا الخراب والبؤس الذي يعيشون في وسطه. ولا زال العربي المسلم غير قادر على التعامل مع الآخر المختلف إلا بوصفه عدواً أو في أفضل الأحوال غير صديق. واستمر في رفض الأفكار الأخرى التي ينظر لها على أنها طريقة لإضعاف الإسلام وهدمه. بل أن هناك بعض التيارات والجماعات الإسلامية تعتبر أن الاختلاف لا يجوز في الإسلام، وهو أمر باطل شرعاً وعقلا! 
إن أصحاب هذا النهج الفكري يقدمون الإسلام على أنه دين فاشي لا يحترم العقائد الأخرى، بينما الإسلام غير ذلك تماماً. هذه الأفكار هي التي أنتجت التشدد والتطرف ثم العنف والإرهاب.
هذه العقلية التي نحصد بعضاً من حنظلها اليوم، تسببت بالمصائب التي ابتليت بها الأقوام المتعاقبة التي عانت الأمرين من حكم وفكر وأسلوب بعض الحكام المسلمين، الذين عملوا على اضطهاد وتعذيب واقصاء وقتل كل من يخالفهم في الرأي أو العقيدة حتى من أبناء المسلمين أنفسهم.
الخليفة "المتوكل" سجن رئيس بيت الحكمة في بغداد الفيلسوف "أبي يوسف إسحاق الكندي" ثم طرده وحرق مكتبته، لأنه اعتبر أن العقل جوهر التقرب إلى الله وعارضه حينها رجال الدين. وفي عصر "المنصور" اضطُهد "أبي بكر الرازي" أشهر علماء المسلمين، وأول من ابتكر خيوط الجراحة، ومكتشف الدورة الدموية، هاجمه رجال الدين المتعصبين لمواقفه واتهموه في دينه حسداً منه لمكانته، فطرد من عمله وأتلفت مخطوطات هذا الفيلسوف وتم ضربه بكتبه على رأسه حتى أصابه العمى. ما فعله السلطان "المنصور بن أبي يعقوب" سلطان الموحدين، مع الفيلسوف والعالم "ابن رشد" لا يقل بشاعة، حيث أحرقت كتبه ورمي بالإلحاد ثم تم نفيه إلى المغرب. العالم والفيلسوف الصوفي "محي الدين بن عربي" تم اضطهاده واتهامه بالزندقة فعاش بقية أيامه وحيداً في خوف. "أبي نصر الفارابي" أشهر فلاسفة المسلمين، في سعيه لبحث العلاقة بين الفلسفة اليونانية وعقائد الشريعة الإسلامية، تم اعتباره أكثر العلماء كفراً وزندقة. أيضاً لاقى الإمام "أبي حنيفة النعمان" الاضطهاد والتعذيب على يد الخليفة "المنصور" لاختلافه في فهم الإسلام، ثم تم جلده وضربه على رأسه حتى الورم، وهو شيخ عجوز في السبعين من عمره. وسواهم الكثير من العلماء المسلمين الذين تم تعذيبهم وقتلهم لأسباب ترتبط بالموقف والرأي.
هكذا تعامل الخلفاء والسلاطين المسلمين من كافة الأعراق، عثمانيين أو مماليك أو سلاجقة أو عرباً، مع رعيتهم بعقلية اقصائية متشددة تقمع كل صوت يغرد خارج السرب، وتضرب رأس كل من يفكر خارج الصندوق، بذريعة أنهم حماة الإسلام. وما الحال التي وصلنا لها في الراهن العربي المعاصر إلا فصل جديد من تاريخ العقل الاقصائي العربي بكافة تمثلاته.

خاتمة
العقل الاقصائي يناقض مكونات الحياة ذاتها في تعددها وتنوعها وثراءها. ولا يرى الوقائع إلا من طرفه المطلق الأوحد. نحتاج إلى العقل التشاوري الاجتهادي التحليلي التشاركي التسامحي بديلاً عن العقل الاحتكاري الطارد للتعايش الجالب للبؤس.
في الحالة العربية الشقية فلا اعتراف بلغة الحوار، ولا رحمة لأي مخالف في الفكر والتفسير، بل التطويع والإخضاع للفكر النقدي المتمرد، والإدانة لكل من يرتفع صوت عقله، والقمع والسجن لكل من لا يستجيب، والإرهاب والقتل لكل من يحاول تغيير الثابت. فنحن أمة لا تقبل الاختلاف، لا اختلاف الدين، ولا الهوية، ولا الرأي، ولا المذهب، ولا الطائفة. وثقافتنا هي ثقافة هدم لا ثقافة بناء، ثقافة قتل لا ثقافة حياة، ثقافة تفريق لا ثقافة توحيد، ثقافة طاردة نافية لا ثقافة جاذبة. وما زلنا نشتم الغرب العنصري الذي يحاول تسميم ثقافتنا بالتنوير والحداثة.
لن يتمكن العقل العربي من التقدم ما لم يتخلص من التميز المزيف عن سواه. سوف تظل المفاهيم المتنوعة معكوسة في العقل العربي ما لم يغير من ثقافته الموروثة ويتبنى ثقافة جديدة إنسانية، تتمكن من بناء مجتمعات حضارية متطورة، وتقضي على كافة مظاهر التخلف الاجتماعي والظلم والفقر والأمية والجهل والاستبداد المهيمن على البشر. 
نحتاج إلى الكثير من المرونة الفكرية، والتمرس المعرفي، والسلاسة التواصلية، والتوازن والموضوعية، وكثير الكثير من الإنسانية.

جمالُ صوت المرأة في السرديّة التعبيريّة: الشاعرة المغربية : فوزية أحمد الفيلالي / كريم عبدالله


ملامح السردية التعبيرية في ديوان (( أوراق تنام مبللة .. حديث ليل ومداد .. للشاعرة المغربية : فوزية أحمد الفيلالي )) .

يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .

مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه ,  وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .

فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية ,  لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على  الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .

سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .

انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .

متى امتلك الشاعر ناصية اللغة وسخّرها كيفما يشاء من اجل إنضاج النسيج الشعري لديه والذي من خلاله يحاول ارسال رسالة معينة  من خلالها حتما سيكون نتاجه الشعري ثرّ ويستحق القراءة والمتابعة والاشادة , فالشاعر يستطيع ان يتعامل مع اللغة تعاملا منتجا ابداعيا , فهو بمقدوره ان يدخل منطقة الحلم في يقظته التي اشبه ما تكون بالحلم , ويستطيع اعادة صياغة الواقع بطريقة ابداعية جديدة تختلف اختلافا شديدا عما نعرفه في حياتنا اليومية , حينها تكون اللغة باشتغالاتها الجديدة في رسم علاقات ودلالات وامكانيات اخرى , وكأن الشاعر يقوم بانتاج قاموس لغوي جديد خاص به . هذه االغة يكون بامكانها ان تخلق عالما غريبا قادما مما وراء الحلم , تعبّر عن مواقف الذات الشاعرة في هذا العالم عن طريق صراع كائناتها التي تخلقها ورسم مصيرها واحتجاجها ورفضها لما يحدث في محاولة لرسم الجمال واعلاء شأنه أمام زحف هذا الظلام وخنق الازهار في ساعة الغبش . لقد وهبنا الحلم لنتمرّد على واقعية الحياة وقسوتها , فهو رفيقنا الطفولي الذي يرافقنا قبل ان تداهمنا الشيخوخة والسبات الطويل . لقد فتح لنا هذا الحلم الأبواب مشرعة لنلعب خارج الازمان والامكنة عن طريق كتابة الشعر , وبثّ الحياة في الجمادات واستنطاقها والاستبصار في حقيقة هذا الوجود وأنسنة الطبيعة وطبعنة الأنسان , هذا وغيره ما يقوم به الشاعر الحاذق والمتمكن من أدواته , كونه مخلوق عجيب يعمل كالساحر , يحتمي بالشعر من زمهرير الحياة العادية بامتلاكه خيالا جامحا منتجا به يستطيع اعادة تشكيل هذه الحياة بصورة غريبة مثيرة للريبة والشكّ والحيرة والتأمل .

منذ العام 2015 العام الذي أعلن فيه عن تأسيس والاعلان عن القصيدة السردية التعبيرية والمنبثقة عن قصيدة النثر بشكل الحالي اي القصيدة التي تكتب أفقياً على شكل فقرات نصيّة متتالية دون تشطير او فراغات او نقاط بين فقراتها , اي القصيدة التي تكتب على شكل كتلة واحدة أفقية تنثّر الشعر وتشعّر النثر , حيث ينبثق الشكر الكثير من النثر الكثير , ومن ملامحها انها تعتمد على السرد ولكن هذا السرد لا نقصد به السرد الحكائي القصصي وانما السرد الممانع للسرد حيث تتضخم طاقات اللغة وتعتمد على نقل الشعور العميق والاحاسيس المرهفة الجيّاشة والخيال الجامح الذي عن طريقه يمكننا اعادة صياغة الواقع وإلباسه صفة اللألفة ( وقعنة الخيال ) وكذلك تمتاز بالازياحات اللغوية العظيمة , فنحن اذا قرانا هذه القصيدة يتبادر الينا في البدأ اننا نقرأ قصة او حكاية لكن فجأة تنحرف اللغة فيها انحرافا شديدا  , منذ ذاك الحين وهذه القصيدة تحثّ الخطى بخطوات متسارعة واثقة تحاول ان تجد لها مكانا في عالم الادب , وهذا لم يحدث الا بسبب إخلاص كتّابها اليها والتمسّك بها والدفاع عنها , لقد ازداد عدد كتّابها وسيزداد مستقبلا بالتأكيد لجماليتها وعذوبة اللغة فيها وسحرها الذي يتنامى في نسيجها الشعري شيئا فشيئا . اليوم هناك المئات من القصائد السردية التعبيرية التي تمتاز باللغة العالية والمجاز والانزياح والخيال والاستعارة وغير ذلك , وايضا اليوم هناك العشرات من الدواوين التي تهتم بهذه القصيدة السردية التعبيرية عربيا وعالميا , وكذلك أصبحت هناك مواقع ألكترونية عربية واجنبية متعددة تهتم بهذه القصيدة .

واليوم سوف نقرأ ملامح القصيدة السردية التعبيرية في ديوان الشاعرة : فوزية احمد الفيلالي .. أوراق تنام مبللة .. حديث ليل ومداد . وبيان هذه الملامح وتعدادها حسبما جاءت في هذا الديوان الجميل .

1-   اللغة المتموّجة والتي تتناوب ما بين فقران وتراكيب توصيلية وأخرى انزياحية , كما في نصّ / عارية الروح .. / عارية الروح، أمشي نحو خطى عطشى الى طريق مسدود، بجوارح أصابها صم اللقاء ../ وكذلك في نصّ/ تكسرت أحذية الجدران بحرا .. / أدرت رأسي في كل اتجاهات البوصلة حيث يقبع ذلك الظل المنبوذ في مطية الورق، البورصة مرتفعة وصوت الكلاب صدّ أنفاسي كمن يحسب ذرات الثلج من خلف نافذة قطار سريع الوثب .. وكذلك في نصّ / فقاعات فراغ تتنكر لي ../ في عباب ذلك الليل كنت أنا وأنا وكنت ظلي المسجىّ على حافة السحاب المترامي لأطراف الدهشة النورانية وعصفور المدى يحملق في وجهي العبوس ../ وكذلك في نصّ / أرغفة من تراب ... / يبدو أن الصبح قد ولّى باكرا والأبراج نامت على حديث الجفون التي أرهقها شباك سحرة فرعون في مخفر التحنيط .

2-   التوافق النثروشعري اي الشعري الصوري المعتمد على الصورة الشعرية , ومن أوضح الاساليب التي تحقق حالة التوافق النثروشعري هي اللغة التي تتموّج ما بين القرب والتوصيل وبين الرمز والايحاء وبين التجلّي والتعبير ( وقعنة الخيال ) , اي إظهار الخيال بلباس واقعي مما يعطي النصّ عذوبة وقربا والفة ويزيل عنه حالة الجفاء او جفاف او اغتراب يطرأ عليه بفعل الرمزية والايحاء وكما في نصّ / ترانيم هوى / تجترني الهمهمات عبثا وتبوح في داخلي أشعار ميتة لم تثنيها قوافل الركب السحرية، كما تمثال الحرية ألوح بيديّ عاليا في الفضاء، أطل من شرفة الاوزون مبتسمة ولا أحد يسمع هتافاتي في خضم الضباب .. وكذلك في نصّ / سيجارة على خد أنثى / .. هي سويعات مجنونة تترصد وحدتي داخل سقوف التشظي ،ينسل سيف راحتي من بين أضراس الوقت الميت تتضارب حوادث أفكاري تعصرني حجرا .تقرض وجنتي دخانا ملوثا بأحمر شفاه .. وكذلك في نصّ / شاء القدر أن كان / .. وصلتني منه رسالة على أجنحة غمغمتي الثرثارة في علبة ليلي البهيم تجمد ضوء القمر في غرفتي انساب نجم معجب بروايتي، شذى لوعة العبرات حين انتهى من ارتداء ثوبه في لباس شوقي إليك الممتد عبر أفق الصدى.

3-   البوح التعبيري وهو وصف العالم وطلب الخلاص بطرح رؤية فردية عميقة للحياة وما هو واجب ومفترض , فتكون معاني الاشياء غير معانيها . كما في نصّ / في قبيلتي لا شيء يذكر / .. وحده الكلام يقول أشياء ثم يقبرها فجرا. ماتت قبيلتي على صخب خطوات عبدة شياطين الهيب هوب وأبي الهول منتصب القامة يصفق وعلى جبينه علامة!؟ / , وكما في نصّ / لماذا هذا الحرف يزعج آذاني؟ / .. بين الفينة والأخرى وجدتني أتقلب في فراش كوابيس تفاهات تدور بأم حواراتي النفسية ،تنغص ماء الليل الفاتر ،ترمي أشواك المعنى المعقد في كراساتي الفلسفية داخل نقط مجوفة لبقايا أفلاطون ،وهوس أرسطو.

4-   البوح الأقصى وهو طريقة كتابة تشتمل على تعابير شديدة البوح وتحمل أقصى أشكال ابراز المكنونات النفسية بكلمات وتعابير في أقصى درجات البوح , وكما في نصّ / عبث الحنين / .. أنشرخ صدر آهاتي في حضن الليل، لبست رداء الخوف وانا بأحضان العتمة، رتقت بعضا مني بخيوط من بقايا صور مركونة في ذاكرة زمن ضاع بين هجر وحنين، ابتل سرير الشوق دموعا على انتحار وسادتي ../ وكما في نصّ / ثلاث فقط / ..  اتعبتني ضفيرتي المعشوشبة بين لفات وسائدي , تنخر عواطف جسد أنهكه غياب سرب القطا، وتبك الرسالة التي جابت صحون السماء ثم أردفت مبتلة بدموع صغار ضفادع ميتة في جوف صدفيات ملغومة بزي اجنحة أشعة مريضة .

5-   الرسالية الاجتماعية : البوح التوصيلي : ونقصد به التوصيلية الأمينة والمخلصة والمحمّلة برسالة واضحة بغية الخلاص , وكما في نصّ / منفى خارج الجسد / .. دع بطاقتي في جيب روحك واضرب بعصاك عنواني عسى يوما تنشق لقلبي مآذن الوطن. وتصلي في محراب كنائسي سرب أبابيل بلا أجنحة ولا كفن الحنين.. وكما في نصّ / رسائل ميتة تتنفس / .. قبل أن أمت أريد أن أقف على قدمي وأدفن على شموع مفكرتي ورسائل لن تدفن معي فأنا طوال حياتي راكعة حافية أكتبها كوريثة شرعية لجدي السلام .

6-   الرسالية في السرد التعبيسري ومنها الفنية وهي الامتداد عميقا في تجربة الكتابة والأشتمال على الأصالة والتجديد بطريقة الكتابة وبصيغة الكتلة النثرية الواحدة , وكما في نصّ / وهل ينتحر الصمت في أحداق الظلم؟ / .. ركبت برج الليل ملتحفة أساور العتاب ،ممتطاة شعاب الدمع على ركب فنادق مرقمة بنجوم غيم قطبي على ساحل أيامي العرجاء ،فقدت أحد القوائم يوم النصر على غزو مغول بسيوف الكآبة و جمر المزاد في سوق نخاسة لأميرات ضيعن الحلق في علب الرقص على وتر طرب غجري وسهر أشقر , وكما في نصّ / من نوافذ مدينتي / .. حين تنام على جفني الحمامات، يتراقص ليلي على أسرّة النشوة في جوف الناي، افلاك الغواية تهدهد مخابراتها ترسل خيوط عنكبوت مريض كف عن حياكة حروف مبعثرة تستجدي لقاء مدائن ترقب رضعا ماتوا جوعا بعدما انقطع عنهم غيث حليب بزعتر البراري المنسية في قاموس مدينتي .

هذه بعض ملامح السرد التعبيري في هذا الديوان الذي يعتبر اضافة جديدة الى ما صدر فيما مضى وما سيصدر لاحقا من اصدارات تعزّز وتثبت صمود هذه القصيدة واستمراريتها . ربما لم تكن هذه الملامح واضحة بشكل جليّ ونموذجي هنا , لكنها تجربة أولى للشاعرة في كتابة القصيدة السردية التعبيرية , جهد يستحق التقدير والاحترام لابدّ من الاشادة به وبصاحبته , نحن متأكون بان الاصدارات القادمة للشاعرة ستكون أكثر نموذجية وذلك بعد ان تكتسب الثقة اولا وتلاقي التشجيع ثانيا وبعدما تنضج تجربتها ثالثا بالاطلاع على ما ينشر في موقع السردية التعبيرية .

التدخّل الأجنبي وضعف المناعة العربية/ صبحي غندور

هناك في الرسالات السماوية حكمةٌ هامّة من سيرة آدم عليه السلام، فإغواء الشيطان له ولحوّاء كان "مؤامرة خارجية"، لكن ذلك لم يشفع لهما بألا يكون عليهما تحمّل المسؤولية وتلقّي العقاب. العرب يعيشون على أرض الرسالات السماوية ولم يتعلّموا هذا الدرس الهام بعد، رغم وجود شياطين صغرى وكبرى داخلهم ومن حولهم!
صحيحٌ أنّ هناك قوًى وأجهزة أمنية لقوى إقليمية ودولية عديدة تتحرّك في بلدان المنطقة لخدمة غاياتٍ سياسية خاصّة، لكن من غير الإنصاف تجاهل مسؤولية الذات العربية عمّا حدث ويحدث في عدّة أوطان عربية. 
فهناك الآن حالة "تكيّف" عربي مع بعض المشاريع الأجنبية ومع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتقطِّع بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخّل الأجنبي، بل حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات "الأمّة" إلى خصوصيات "المذاهب"، كما انتقل بعض "التيّار الديني" في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
لكن رغم ما سبق ذكره من أهمّية عدم إعفاء النفس العربية عن أوضاعها الراهنة، فإنّ هناك خصوصية كبيرة للعامل الإسرائيلي في التأزيم الأمني والسياسي لعدّة دول عربية، وفي مراحل زمنية مختلفة.
فهل يعقل مثلاً تناسي ما قامت به إسرائيل في سنوات عمرها الأولى منذ سبعين عاماً من تفجير مؤسّسات أميركية وبريطانية في القاهرة ثمّ انكشاف ذلك لاحقاً فيما عُرف باسم فضيحة "لافون"، حيث استهدفت إسرائيل تحريض الأميركيين والبريطانيين على مصر آنذاك؟
وهل يجوز تناسي ظاهرة كوهين، العميل الإسرائيلي الذي استطاع الوصول إلى مواقع رسمية سوريّة مسؤولة في مطلع الستّينات من القرن الماضي؟
وهل نسي اللبنانيون والفلسطينيون الأعداد الكبيرة من العملاء الإسرائيليين الذين كشفوا عن أنفسهم مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبينهم من كان مرافقاً لياسر عرفات في مقرّه الأمني في بيروت، وآخر كان معروفاً باسم "أبو الريش" يتسكّع في شوارع بيروت ويتظاهر بأنّه إنسان مشرّد ومختلٌّ عقلياً فإذا به عقيد إسرائيلي قام بترشيد القوات الإسرائيلية في بيروت حينما دخلتها في أيلول/سبتمبر 1982، وكان دليلها لمنازل ومكاتب قيادات فلسطينية وسوريّة في منطقة رأس بيروت؟!، إضافةً لعشرات من العملاء الذين تبرّأت منهم أحزاب لبنانية ومنظمّات فلسطينية وجرى نشر أسمائهم في الصحف اللبنانية أواخر العام 1982.
فإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى، ومنها الحليف الأكبر لها أميركا، فلِمَ لا تفعل ذلك مع أعدائها الجيران لها؟!. فرغم كلّ العلاقات الخاصّة بين أميركا وإسرائيل، فإنّ واشنطن رفضت الإفراج عن جوناثان بولارد، الأميركي اليهودي الذي قضى عقوبة 30 سنة في السجن منذ منتصف الثمانينات بتهمة التجسّس لإسرائيل، ثمّ جرى الإفراج عنه في العام 2015، إضافةً إلى  الكشف عن عملاء آخرين كانوا يعملون لصالح إسرائيل في مواقع أمنية أميركية، ومن خلال علاقتهم مع منظمة "الإيباك"، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن.
ثمّ ماذا عن الدكتور ماركس وولف الذي كان مسؤولاً عن جهاز الاستخبارات العسكرية في ألمانيا الشرقية الشيوعية، لكن بعد انهيار النظام الشيوعي فيها تبيّن أنّه كان عميلاً لإسرائيل، وهو الذي كان يشرف في المعسكر الشيوعي على العلاقات الخاصّة مع منظمّات وأحزاب في دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية؟!.
فماذا يمنع أن تكون المخابرات الإسرائيلية قد جنَّدت أيضاً مجموعة من العملاء المزدوجين (مثل حالة ماركوس وولف) من الشيشان وصولاً إلى نيجيريا، مروراً بمعظم الدول العربية، وسط قيادات لمنظمّات تحمل أسماء "إسلامية"، لخدمة هدف "العدوّ الجديد" للغرب الذي جرى الحديث عنه في مطلع حقبة التسعينات بعد سقوط "العدو الشيوعي" ولتعزيز الصراع الجديد المصطنع بين الغرب و"العدو الإسلامي"؟!.
وهل كان باستطاعة إسرائيل أن تغتال خليل الوزير في تونس وكمال ناصر وكمال عدوان في بيروت وغيرهم من القيادات الفلسطينية في أماكن أخرى لو لم يكن لديها العديد من العملاء والمرشدين في هذه الدول؟.
من السذاجة طبعاً تجاهل كلّ ذلك واعتبار أنّ إسرائيل هي طرفٌ محايد ومراقب لما يحدث في جوارها المعادي لها، بل سيكون من السخف الاعتقاد بأنّ إسرائيل قبلت بروح رياضية هزيمتها العسكرية في لبنان وبأنّها سحبت قواتها من أراضيه عام 2000 دون أيّة نيّة لديها بالتدخّل بعد ذلك في الشؤون اللبنانية!. فإجبار إسرائيل للمرّة الأولى في تاريخها على الانسحاب من أرضٍ احتلتها، بلا أيّ مفاوضات أو اتفاق أو شروط، لا يمكن أن يمرّ بلا عقاب ولو بعد حين.  
إنّ إسرائيل، بلا شكّ، أحسنت توظيف الأخطاء الرسمية العربية والإقليمية، كما أحسنت توظيف الظروف الدولية والمشاريع الأميركية في المنطقة، لكن لإسرائيل مشاريعها الخاصّة التي تتجاوز أجندة الدول الكبرى، فإسرائيل لم ولن تتراجع عن مشروعها التفكيكي للبلاد العربية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية. ففي الحالة اللبنانية، نجد أنّ إسرائيل لعبت دوراً هاماً في إشعال الحرب الأهلية عام 1975، لكنّها فشلت في اجتياحها للبنان عام 1978 عندما فشل مشروعها في إقامة "دولة جنوب لبنان الحر" بقيادة عميلها الضابط في الجيش اللبناني سعد حداد. ولم ينهَر الكيان اللبناني آنذاك. ثمّ كان ذلك حافزاً لمشروع إسرائيلي أكبر باحتلال أوّل عاصمة عربية (بيروت) وحوالي ثلثي الأراضي اللبنانية عام 1982، وبارتكاب مجازر في مخيّمات صبرا وشاتيلا الفلسطينية، وبإثارة فتنة حرب الجبل عام 1983، ومحاولة تدمير مقوّمات الحياة اللبنانية. فلِمَ هذا الاستبعاد الآن لأيِّ دورٍ إسرائيلي فيما يحدث في المنطقة العربية، سياسياً وأمنياً، وبما يحدث من حروب وأزمات في المحيط العربي ومع جواره الإسلامي؟!.
نعم، هناك عرب ومسلمون يقومون الآن بخوض معارك لصالح "أهداف إسرائيليّة"، عن قصدٍ أو بغير قصد، فهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج في خانة "المشاريع الإسرائيليّة" للمنطقة من تقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة. أليس مشروعاً إسرائيلياً تفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلاتٍ متناحرة؟ أمَا هي بمصلحة إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى ويجري في العراق وسوريا من وجود جماعات "القاعدة" و"دويلة داعش" والسعي لهدم وحدة الأوطان والشعوب؟!، وما حدث قبل ذلك في الحرب الأهلية اللبنانية، ثمّ الحرب الأهلية في السودان التي انتهت بفصل جنوبه عن شماله، ثمّ ما حدث ويحدث الآن في بلدان عربية أخرى؟! 
في شباط/فبراير 1982، نشرت مجلة "اتجاهات -كيفونيم" التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات"، وجاء فيها: "إنّ العالم  العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات (...) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي". إنّ هذا "الوباء الإسرائيلي" التقسيمي لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها في العالم كلّه. 
إنّ نقد الواقع العربي ورفض سلبياته هو مدخل صحيح لبناء مستقبلٍ أفضل، لكنْ حين لا تحضر بمخيّلة الإنسان العربي صورة أحسن بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية عنده هي الشلل بالفكر وبالعمل وتسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذُّر وجود البديل!. وكذلك المشكلة هي كبرى حينما يكون هناك عمل، لكنّه عشوائي فقط من دون رؤية فكرية أو في غير الاتجاه الصحيح.
العرب هم ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخطّطات الصهيونية والأجنبية الشاملة. لكن يبقى السؤال الهام: أين هي عناصر قوّة المناعة في المجتمعات العربية؟!.

حديث الليل/ ماهر طلبه

.....
 - فمن هى؟!.. ومن هو؟!.. ولم اجتمعا فى هذا الليل يا شهرزاد؟.
-  إنهما أنا وأنتَ.
-  أنا وأنتِ.. كيف؟!.
-  لقد عبرنا باب الحكايات فصرت أنا هى وأنتَ هو.. هل تذكر  يا مولاى حديث الليل.
-  ماذا به يا شهرزاد؟!.
-  يومها دخلت حكاياتى.. صرت جزءا منها، تُحْدث ويَحْدُث لك، لكنك لم تر يا مولاى بسبب هذه الأسوار، لذلك حين دخلت السرداب وعبرت وجدتنى يا مولاى على صورتى تلك، ووجدتك يا مولاى كما فى صورتى هذه .
-  ما أصعبك على الفهم اليوم يا شهرزاد.. لكن ليكن.. أنا وأنتِ..  فلم الليل يا شهرزاد؟!.
-  لأنك مازلت فى القصر يا مولاى،  انظر إلى خارج أسوار الحديقة، هل ترى الشعاع الذى يندفع خارجها؟.. إنه الحياة يا مولاى.. هل تفعل؟.
-  أين مسرور؟.. أين مسرور؟.
-  أمر مولاى.
- هل ترى يا مولاى، ها هو مسرور مختبئ خلف الشجرة، حتى فى حلمك مسرور خلف الشجرة يحمل سيفا، قل لى يا مولاى.. ألم تسمع قصتى بعد؟.. ألم ترددها عليك جدران القصر؟.. 
(كنت سيدة فى قصر.. يوما ما دخل إلى القصر تاجر غريب يحمل سلة صغيرة.. تفاحة صغيرة أهداها لى.. "قطمة" صغيرة وغياب كبير.. حملنى فى سلته ووضعنى فوق عربة اليد وهتف فى الأسواق.. من يشترى هذه بتلك؟ وأشار إلى كيس نقوده.. وباعنى. اشترانى هو.. كم دفع ليس يهم، لكنه وضعنى فوق سرير رمادى اللون فى قصر خالى من الحياة وسألنى أن أحكى أو أفقد الرأس..).. فماذا أفعل يا مولاى؟ ماذا أقول؟!!.. أحكى؟.. إذن فاسمع يا مولاى.. كانت تحبه قبل أن تراه ولم يحبها حتى رأها، زرعا شجرة فى وسط أرض جرداء وانتظرا الصيف يليه شتاءا حتى جاء الربيع.. ماذا فى ربيعك يا مولاى؟.. هذا ابنى الأول منك.. هل تذكره؟.. 
(كان مسرور يراقب )
- كفِ عن المراوغة.. لما اجتمعا يا شهرزاد؟!.
- للحب يا مولاى.
- فى خارج القصر؟!
- هل ترى فى داخل القصر حبا يا مولاى ..هل وَلَدَتْ القصور حبا من قبل.
توجد إشارات غامضة فى القصة على أن سيفا ما كان يتحرك فى عشوائية مخططة مقتربا من رقبة فوقها رأس به فم ينطق.. فلأصحو... 
كوكو كوكو ...
مولاى...
 فإلى يوم آخر يا شهرزاد .

البروفسور فيليب سالم وسرطان الطائفية لجان دايه: لا تقوم الدولة المدنية دون فصل الدين عن الدولة/ أسعد الخوري

"حوار صحفي في كتاب" هكذا يصف جان دايه كتابه الجديد (البروفسور فيليب سالم وسرطان الطائفية). هذا الكتاب يتضمّن نصّ لقاءات دايه المتكرّرة خلال سنوات ثلاث (مرّتان في السنة، أي خلال وجود سالم في لبنان) والتي انحصرت بنقاش حيوي حول فصل الدين عن الدولة، وكل ما يتّصل الى هذا الموضوع الهام بصلة.
يكتب سالم عن فصل الدين عن الدولة منذ بداية السبعينات ويحاضر في جامعات كبرى داعيًا لتحقيق هذا الإنجاز الذي يعتبره الأساس الذي تُبنى عليه الدول العصرية المتقدمة، ويُبنى عليه الاجتماع السياسي. الأنظمة السياسية التي تطبّق فصل الدين عن الدولة هي التي تتقدّم إنسانيًا وحضاريًا وثقافيًا. ولكن سالم يؤكد باستمرار على أهمية الدين وقيمه الانسانية، ويرى بأن الدين ليس أمرًا عابرًا، بل هو أساس الإيمان لدى معظم الشعوب. 
أسئلة حول "سرطان الطائفية" يطرحها الباحث جان دايه على البروفسور سالم طبيب الأمراض السرطانية. أسئلة في فصل الدين عن الدولة، في السياسة والثقافة، في الاجتماع والدين، في التربية والفلسفة وسواها من المواضيع.
إذا كان كثيرون يعتقدون أن "الطائفية هي علّة وجود لبنان"، فان فيليب سالم يعطي - وهو الطبيب البارع - أجوبة شافية لحلّ هذه المعضلة وهي: الحرية، الديموقراطية، فصل التربية عن الدين، العدالة، المساواة بين اللبنانيين... هذه القيم الإنسانية الراقية والعالية هي أساس بناء الدولة العصرية الحديثة، حيث لا خضوع للدين في إدارة شؤون هذه الدولة، ولا في إدارة شؤون الناس.
يميّز سالم بين فصل الدين عن الدولة، والعلمانية. هو يرى أن العلمانية هي فلسفة تؤمن بما هو مرتبط بالعقل والأمور المادية المحسوسة. ويقول: "نحن الآن نطالب بالدولة المدنية بدل أن نطالب بالدولة المدنية العلمانية. كل ما لا يقبله العقل ترفضه العلمانية. وهذا ما يؤكد أن فيها انتقاصًا من قيمة الدين الي حدٍ ما. وبرأيي، الدينُ أمرٌ مهم ونحتاجه كي لا ندمّر ما تبقى من أخلاقياتنا. نحن في عصر التكنولوجيا التي تدمّر كل القيم، لذلك يفيدنا أن نمنع أي محاولة لتدمير الدين".
لهذا السبب ندرك دعوة سالم الى فصل الدين عن الدولة وتخلّيه عن الدعوة الى العلمانية، إيمانًا منه بأن العلمانية قد تصل في النهاية الى عدم احترام الأديان، أو عدم الإيمان بالدين كقيمة إنسانية وأخلاقية كبرى وأساسية لحياة وفلسفة الناس.

مثير للنقاش والتساؤل
يقول نصري الصايغ في مقدمة الكتاب أن "كتاب جان دايه يختلف عن سواه. إنه أسئلة يطرحها على الدكتور سالم حول سرطان الطائفية. إنه مثير للنقاش، ومثير للتساؤل. ولعل القاريء يجد متعة في معرفة مشكلات لبنان من رجل علم، وليس من رجل سياسة، من دون أن يعني ذلك أنه غير سياسي. بل أن سياسته إبداع فكره وثقافته وتربيته".
فيليب سالم رجل علم قبل أي شيء آخر، توصّل عبر تجاربه وأبحاثه في السياسة والاجتماع والفلسفة، الى أن الدين مع الدولة أدّى الى خراب الشرق، ودمّر العالم العربي. وأن لبنان مؤهل لفصل الدين عن الدولة طالما أن دستوره لا ينصّ على دين الدولة، خلافًا لما هو حال الدول العربية الأخرى، وخلافًا لما هو عليه الحال في اسرائيل التي تعتبر في دستورها ان "اليهودية" هي دين الدولة. بل أكثر من ذلك هي أكدت على عنصريتها عندما اعتبرت أن "اليهودية" هي شرط للجنسية الاسرائيلية، وهذا يعني أن كل سكان اسرائيل من غير اليهود هم مواطنون من الدرجة الثانية!
ويرى سالم بأنه حتى في الاسلام لا مشكلة بفصل الدين عن الدولة، وأن تجربة مصطفى أتاتورك في تركيا كانت رائدة في العالم الاسلامي. وهناك دول إسلامية عديدة لا مشكلة لديها في هذا الإطار من أندونيسيا الى دبي...
عند سالم فلسفة خاصة حول طرحه لفصل الدين عن الدولة، فهو من الناس المؤمنين بوجود الله، ولا يدخل في دعوته لفصل الدين عن الدولة من منطلق الإلحاد، بل على العكس، يدخله من منطلق الإيمان العميق المبني على المعرفة. هناك إيمانان: الإيمان المطلق المبني على التسليم، والإيمان المبني على المعرفة. وهو يشدّد على النقاط التي تركّز على قيام الدولة المدنية التي لا تقوم إلا إذا كان هناك فصل بين الدين والدولة. لأنه في الدولة المدنية الناس يتساوون في الحقوق والواجبات.
هناك نقطة أساسية وهامة يركّز عليها سالم وهي ترتبط بموضوع "تحرير الدين". ويعطي مثالاً على ذلك ما حصل في الدين الإسلامي حيث أن الترابط بين السياسية والدين أدّى الى نشؤ تنظيمات ارهابية (داعش مثلاً). ويؤكد أن تاريخ الاسلام لم يتعرض لمثل هذه "النكسة" ولم يشهد ظهور مثل هذه "العوارض" الإرهابية والتكفيرية. ويؤكد سالم بأن المسيحيين ليسوا الضحايا الحقيقيين لهذا الارهاب الذي أدّى الى إعطاء "صورة متوحشة" عن الإسلام. وبينما كان الرفض في السابق للإرهاب، تحوّل اليوم الى رفضٍ للاسلام في الغرب. بينما، في الحقيقة، فإن جوهر وقيم وحقيقة الدين الإسلامي رافضة لمثل هذه المفاهيم الإرهابية والتكفيرية، التي هي خارجة عن رسالة الإسلام الداعية الى المحبة والسلام. 
فصل الدين عن التربية
"عندما تفصل الدين عن الدولة، فانتَ تحرّر الدولة لناحية التعليم"... ينطلق سالم من هذا الاعتبار الهام ليؤكد على ضرورة تحرّر العلم من الدين، لأن كل شخص يعمل على إيصال الصورة التي تناسبه، ويفسّرها كما يشاء، حتى لو كانت متّصلة بالدين. ويرى أن التربية أهم ثورة في تاريخ الإنسانية. والتربية ليست تلقين المعرفة وحسب، بل هي نوع من تجديدٍ للعقل ليصبح الإنسان جديدًا وفاعلاً. ويتساءل سالم: لماذا لم تشهد المجتمعات العربية أي تغيير؟ ويجيب: ببساطة، لأن فلسفة التعليم فيها هي فلسفة نقل المعرفة من الاستاذ الى الطالب. لذلك فإن النخبة بحدّ ذاتها لا تقبل فكرة التغيير، لأن العلم في هذه المجتمعات عبارة عن طلاء خارجي. ويضيف سالم بأن المعرفة مهمة ولكن هناك شيئًا أهمّ منها، هو تحفيز العقل وتدريبه وخلق عقل جديد، والعقل يجب أن يكون القدوة.

الحراك المدني
يتفاءل البروفسور سالم بالدعوات المتكررة من مراجع دينية وسياسية بارزة في لبنان (آخرها دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري) لقيام دولة مدنية. وحول هذه النقطة يدعو سالم "المجتمع المدني" لأخذ المبادرة والعمل بشكل جماعي لا فردي دون تسرّع، والعمل عبر الوسائل الديموقراطية لاستبدال القيادات السياسية بقيادات من المجتمع المدني تكون موثوقة ومجرّبة وذات فاعلية. ومن الأمور التي يجب البدء بتغييرها هي فصل الدين عن الدولة. "لأن الدولة المدنية وحدها تعطيك حقوقك" كما يقول سالم الذي يضيف: أنا مثلاً أشعر بتمييز ضدي في لبنان. لأنني أرثوذوكسي لا أستطيع أن اكون رئيسًا للجمهورية أو الحكومة أو المجلس النيابي. في أميركا، مثلاً، الأمر مختلف: "أشعر أن كل حقوقي تصلني. ليس هناك من تمييز ضدّي". 
يقول سالم: أميركا تسأل: ما هو الإسهام (contribution) الذي تعمله لي وللعالم؟ هنا في لبنان هذا السؤال لا يُطرح... هنا النظام يهينك لأنه يحدّد لك الإنتماء الى القائد الديني أو الى الزعيم السياسي... هذه الجماعة القابضة على زمام السلطة لا يمكن أن تقوم بأي خطوة للتغيير، لأن التغيير لا يناسبها.

"فيروزية" الانتشار اللبناني
يصف سالم الانتشار اللبناني في العالم بأنه قوة هائلة كآبار النفط. وهي قوة لا يمكن أن تنال منها اسرائيل كما تفعل الآن في سرقة نفطنا. هذه الثروة التي نملكها لم نستعملها بعد في السياسة... "الانتشار" قادر على تغيير الواقع اللبناني إذا ما سنحت له الفرصة.
ويرى بأن علاقة المنتشرين بلبنان تشبه "العلاقة الفيروزية" أي الحنين الى الجذور. ولكن التواصل الحقيقي لم يتمّ بشكل فعلي ليتمّ استثمار النفط الإنساني الذي نملكه... هذا بالإضافة الى أنه لدى المنتشرين تجربة جيّدة تتمثل بتعرّفهم الى روحيّة فصل الدين عن الدولة.
من جبران خليل جبران، الى غسان تويني وكلوفيس مقصود (صديقا سالم)، وصولاً الى كمال جنبلاط ونجيب عازوري، وشارل مالك (نسيب سالم)، وسواهم من رجالات الفكر والسياسة والأدب الذين يتحدث عنهم فيليب سالم، بعضهم عن معرفة وثيقة وقربى عائلية، وبعضهم الآخر من خلال قراءات ودراسات معمّقة عنهم. وفي النهاية أعطى "طبيب الأبدان" كما سمّاه مؤلف الكتاب، رأيًا في كل حالٍ وحالة. لكن سالم يعترف بـ"فضل" شارل مالك إبن بلدته (بطرّام) في إقرار شرعة حقوق الإنسان. لكن سالم يؤكد مرة أُخرى، أنّه يطالب الأمم المتحدة إضافة فقرة على هذه الشرعة تنصّ على ضرورة إعطاء الإنسان (الحق في الصحة)، لأنه ماذا ينفع الإنسان إذا نال حقوقه كافة في الحرية والمساواة والديموقراطية وبقي عاجزًا عن مداواة أمراضه ونيل حقّه الطبيعي في المعالجة والصحّة والحياة...

****
في النهاية، إذا كانت الطائفية سرطانًا إجتماعيًا، فهل يكون علاجها مستعصيًا كبعض السرطانات الجسدية، خصوصًا بعد أن تأصّلت وتفشّت في جسم المجتمع اللبناني، كما يسأل جان دايه؟
فيليب سالم يؤكد لسائله، أن "سرطان الطائفية ليس مستعصيًا. هذه الكلمة خطأ علمي. المشترك بين الطائفية والسرطان أمران: الخطورة، وإمكانية الشفاء. الطائفية كالسرطان، يمكن الشفاء منها".
... نأمل ذلك ونتمنّاه في وطن الطوائف والطائفية... لبنان!